الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
36 - بَابُ: خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ.
وَيُذْكَرُ عَنِ الحَسَنِ: مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ. وَمَا يُحْذَّرُ مِنَ الإِصْرَارِ عَلَى التَّقَاتُلِ وَالعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)} [آل عمران: 135].
قوله: (باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر).
هذا الباب معقود للرد عَلى المرجئة خاصة، وإن كَانَ أكثر ما مضى من الأبواب قد تضمن الرد عليهم، لكن قد يشركهم غيرهم من أهل البدع في شيء منها بخلاف هذا.
والمرجئة: -بضم الميم وكسر الجيم بعدها ياء مهموزة ويَجوز تشديدها بلا هَمز-، نُسبوا إلى الإرجاء: وهو التأخير؛ لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان، فقالوا:[90 / أ] الإيمان هو: التصديق بالقلب فقط، ولَم يشترط جمهورهم النطق، وجعلوا للعصاة اسم الإيمان عَلى الكمال، وقالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب أصلًا، ومقالاتهم مشهورة في كتب الأصول.
ومناسبة إيراد هذه الترجمة عقب الَّتِي قبلها من جهة أن اتباع الجنازة مظنة لأن يقصد بِها مراعاة أهلها أو مَجموع الأمرين، وسياق الحديث يقتضي أن الأجر الموعود به إنما يحصل لمن صنع ذلك احتسابًا أي: خالصًا، فعقبه بما يشير إلَى أنه قد يعرض للمرء ما يعكر عَلى قصده الخالص فيحرم به الثواب الموعود وهو لا يشعر.
قوله: (أن يحبط عمله) أي: يحرم ثواب عمله؛ لأنه لا يثاب إلا عَلى ما أخلص فيه، وبهذا التقرير يندفع اعتراض من اعترض عليه بأنه يقوي مذهب الإحباطية الذين يقولون: إن السيئات يبطلن الحسنات، وَقَالَ القاضي أبو بكر ابن العربي في الرد عليهم: القول الفصل في هذا أن الإحباط إحباطان:
أحدهما: إبطال الشيء للشيء وإذهابه جملة، كإحباط الكفر للإيمان والإيمان للكفر، وذلك في الجهتين إذهاب حقيقي.
ثانيهما: إحباط الموازنة إذا جُعلت الحسنات في كفة والسيئات في كفة، فمن رجحت حسناته نَجا، ومن رجحت سيئاته وقف في المشيئة، إما أن يُغفر له وإما أن يُعذب، فالتوقيف إبطالُ ما؛ لأن توقف المنفعة في وقت الحاجة إليها إبطال لَها، والتعذيب إبطال أشد منه إلَى حين الخروج من النار، ففي كل منهما إبطال نسبي، أطلق عليه اسم الإحباط مَجازًا، وليس هو إحباطًا حقيقة؛ لأنه إذا خرج من النار وأدخل الجنة عاد إليه ثواب عمله، وهذا بخلاف قول الإحباطية الَّذِين سووا بين الإحباطين، وحكموا عَلى العاصي بحكم الكافر، وهم معظم القدرية، والله الموفق.
قوله: (وَقَالَ إبراهيم التيمي) هو من فقهاء التابعين وعُبَّادهم.
قوله: (مُكَذَّبًا) يروى بفتح الذال، يعني: خشيت أن يكذبني من رأى عملي مُخالفًا لقولي فيقول: لو كنت صادقًا ما فعلت خلاف ما تقول، وإنما قَالَ ذلِكَ لأنه [90 / ب] كَانَ يعظ الناس.
[ويروى بكسر الذال](1) وهي رواية الأكثر، ومعناه: أنه مع وعظه الناس لَم يبلغ غاية العمل، وقد ذم الله من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقصَّر في العمل، فقال:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 3]. فخشي أن يكون مكذبًا أي: مشابهًا للمكذبين.
(1) سقطت من الأصل، وزدناها من "الفتح".
وهذا التعليق وصله المصنف في "تاريخه"(1) عن أبي نعيم، وَأَحْمَد بن حنبل في "الزهد"(2) عن ابن مهدي كلاهُما عن سُفْيَان الثوري عن أبي حيان التيمي عن إبراهيم المذكور.
قوله: (وَقَالَ ابن أبي مليكة. . . . إلَى آخره).
هذا التعليق وصله ابن أبي خيثمة في "تاريخه"(3)، لكن أبهم العدد، وكذا أخرجه مُحَمَّد بن نصر المروزي مطولًا في كتاب الإيمان له، وعينه أبو زُرْعَة الدمشقي في "تاريخه" من وجه آخر مُختصرًا كما هُنَا.
والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مُلَيْكَة من أجَلِّهم: عائشة، وأختها أسماء، وأم سلمة، والعبادلة الأربعة، وأبو هريرة، وعُقْبَة بن الحارث، والمِسْوَر بن مَخْرَمة، فهؤلاء ممن سمع منهم، وقد أدرك بالسن جماعة أجل من هؤلاء: كعلي بن أبي طالب، وسعد ابن أبي وَقَّاص.
وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولَم ينقل عن غيرهم خلاف ذَلِكَ، فكأنه إجماع؛ وذلك لأن المؤمن قد يعرض له في عمله ما يشوبه مما يخالف الإخلاص، ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم، بل ذَلِكَ عَلى سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى رضي الله عنهم.
وَقَالَ ابن بَطَّال: إنما خافوا لأنهم طالت أعمارهم حَتى رأوا من التغيير ما لَم يعهدوه ولَم يقدروا عَلى إنكار فخافوا أن يكونوا داهنوا بالسكوت.
قوله: (ما منهم أحد يقول: إنه عَلى إيمان جبريل) وفي هذا إشارة إلَى أن المذكورين كانوا قائلين بتفاوت درجات المؤمنين في الإيمان، خلافًا للمرجئة القائلين:
(1)"التاريخ الكبير" في ترجمة (إبراهيم بن يزيد بن شريك)(1/ 1/ 335).
(2)
"الزهد" لأحمد بن حنبل في (زهد عاصم بن هبيرة)(ص 363).
(3)
أخرجه ابن أبي خيثمة في "تاريخه" في (تسمية من نزل مكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) برقم (646) ولفظه: "أدركت أكثر من خَمسمائة. ."، وبرقم (651)، ولفظه: (أدركت ثلاثين من أصحاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم"، وليس في الروايتين جملة: "كلهم يخاف النفاق عَلى نفسه"، فالله أعلم.
بأن إيمان الصدِّيقين وغيرهم بمنزلة واحدة، وقد رُوي في معنى أثر ابن أبي مُلَيكَة حديث عن عائشة مرفوع رَوَاهُ الطبراني في "الأوسط"(1) لكن إسناده ضعيف.
قوله: (ويذكر عن الْحسن) هذا التعليق وصله جعفر الفريابي في كتاب "صفة المنافق" له [91 / أ] من طرق متعددة بألفاظ مُختلفة (2)، وقد يُسْتَشْكَل تَرْك البُخَاريّ الجزم به مع صحته عنه، وذلك مَحمولٌ عَلى قاعدة ذكرها لي شيخنا أبو الفضل بن الحسين الحافظ رحمه الله وهي: أن البُخَاريّ لا يخص صيغة التمريض بضعف الإسناد، بل إذا ذكر المتن بالمعنى واختصره أتى بِها أيضًا لما علم من الخلاف في ذَلِكَ، فهنا كذلك، وقد أوقع اختصاره له لبعضهم الاضطراب في فهمه، فقال النووي: قوله: "ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق" يعني: الله تعالى.
قَالَ الله تعالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46]. وَقَالَ: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: 99]. وكذا شرحه ابن التِّين وجماعة من المتأخرين، وقرره الكِرْمَاني هكذا فقال: ما خافه أي ما خاف من الله، فحذف الجار وأوصل الفعل إليه.
قُلْت: وهذا الكلام وإن كَانَ صحيحًا لكنه خلاف مراد المصنف ومَنْ نقل عنه، والَّذِي أوقعهم في هذا هو الاختصار وإلا فسياق كلام الحسن البصري يبين أنه إنما أراد النفاق، فلنذكره.
قَالَ جعفر الفريابي: حَدَّثنَا قُتَيْبَة: حَدَّثنَا جعفر بن سليمان، عن المُعَلَّى بن زياد: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الَّذِي لا إله إلا هو ما مضى مؤمن قطُّ ولا بقي إلا وهو من النفاق مُشْفق، ولا مضى منافق قطُّ ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن، وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق (3).
وَقَالَ أحْمَد بن حنبل في كتاب "الإيمان": ثنا رَوْح بن عُبَادة: "ثَنا هشام: سمعتُ الحسن يقول: والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق وما أمنه إلا منافق. انتهى
(1)"المعجم الأوسط" برقم (6538)، وهو من رواية ابن أبي مليكة عن عائشة.
(2)
"صفة المنافق" للفريابي برقم (83، 84، 85).
(3)
"صفة المنافق" للفريابي برقم (87).
وهذا موافق لأثر ابن أبي مُلَيْكَة الَّذِي قبله، وهو قوله:(كلهم يخاف النفاق عَلى نفسه)، والخوف من الله وإن كَانَ مطلوبًا مَحمودًا لكن سياق الباب في أمر آخر، والله أعلم.
قوله: (وما يُحَذَّر) هو بضم أوله وتشديد الذال، و (ما) مصدرية، والجملة في مَحل جر؛ لأنها معطوفة عَلى خوف، أي: باب ما يحذر، وفصل بين الترجمتين بالآثار الَّتِي ذكرها لتعلقها بالأولى عَلى ما سنوضحه، ففيه لف ونشر غير مرتب.
ومراده أيضًا [91 / ب]: الرد عَلى المرجئة، حيث قالوا: لا حذر من المعاصي مع حصول الإيمان، ومفهوم الآية الَّتِي ذكرها يرد عليهم بأنه تعالَى مدح من استغفر لذنبه ولم يصر عليه، فمفهومه ذم من لَم يفعل ذلِكَ، وكأن المصنف لَمَّح بحديث عبد الله بن عمرو المخرَّج عند أَحْمَد مرفوعًا قَالَ:"ويل للمُصِرين الذين يُصِرُّون عَلى ما فعلوا وهم يعلمون"(1). أي: يعلمون أن من تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ ثُمَّ لا يستغفرون، قاله مُجاهد وغيره، وللترمذي عن أبي بكر الصديق مرفوعًا:"ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة"(2). إسناد كل منهما حسن.
قوله: (عَلى التقاتل) كذا في أكثر الروايات، وهو المناسب لحديث الباب، وفِي بعضها "عَلى النفاق"، ومعناه صحيح وإن لَم تثبت به الرواية.
(1)"مسند أحْمَد"(2/ 165، 219).
(2)
"جامع التّرمِذيّ"(كتاب الدعوات، باب: في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم) برقم (3559).
48 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنْ المُرْجِئَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ".
قوله: (زُبَيْد) تقدم أنه بالزاي والموحدة مصغرًا، وهو ابن الحارث اليَامِي بياء تَحتانية وميم خفيفة، يكنى أبا عبد الرحمن، وقد رَوى هذا الحديث شُعْبَة أيضًا عن منصور بن المُعْتَمِر وهو عند المصنف في الأدب (1)، وعن الأَعْمَش وهو عند مُسْلِم (2).
وروى ابن حِبَّان من طريق سليمان بن حرب، عن شُعْبَة، عن الثلاثة جَميعًا عن أبي وائل (3)، وَقَالَ ابن مَنْدَه: لَم يختلف في رفعه عن زُبَيْد، واختلف عَلى الآخرين، وَرَوَاهُ عن زُبَيْد غير شُعْبَة أيضًا عند مُسْلِم وغيره (4).
قوله: (سألت أبا وائل عن المرجئة) أي: عن مقالة المرجئة، ولأبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن زُبَيْد قَالَ: لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل فذكرتُ ذلك له (5). فظهر من هذا أن سؤاله كَانَ عن معتقدهم، وأن ذَلِك كانَ حين ظهورهم، وكانت وفاة أبي وائل سَنة تسعِ وتسعين، وقيل: سَنة اثنين وثمانين، ففي ذَلكَ دليل عَلى أن بدعة الإرجاء قديمة.
(1)"صحيح البُخَاريّ"(كتاب الأدب، باب: ما ينهى عن السباب واللعن)، برقم (6044).
(2)
"صحيح مُسْلِم"(كتاب الإيمان، باب: بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) برقم (64).
(3)
"صحيح ابن حبان"(كتاب الرهن، باب: ما جاء في الفتن) برقم (5909).
(4)
"صحيح مُسْلِم"(كتاب الإيمان، باب: بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر") برقم (64)، وعنده عن زبيد من رواية مُحمَّد بن طلحة، وسفيان، وشعبة أيضًا، وَرَوَاهُ الترمِذي في "جامعه" من رواية سُفْيَان، عن زبيد في (كتاب البر والصلة، باب: الشتم) برقم (1983)، وفِي (كتاب الإيمان، باب: سباب المؤمن فسوق) برقم (2635)، وَرَوَاهُ النَسَائي أيضًا من رواية سُفيَان، عن زبيد في "السنن الكبرى"(كتاب تَحريم الدم، باب: قتال المسلم)(2/ 314)، وفي "المجتبى" في نفس الكتاب والباب (7/ 122).
(5)
"مسند أبي داود الطيالسي"(1/ 33) برقم (248).
وقد تابع أبا وائل في رواية هذا الحديث عَبْدُ الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، أخرجه الترمِذيّ مصححًا، ولفظه:"قتال المسلم أخاه كفر وسبابه فسوق"(1).
وَرَوَاهُ جماعة عن عبد الله بن مسعود موقوفًا (2)، وَرَوَاهُ النَّسَائي من حديث سعد بن أبي وقاص أيضًا (3).
قوله: (سباب)[92 / أ] هو بكسر السين وتَخفيف الموحدة وهو مصدر، يقال: سب يسب سبًّا وسبابًا.
وَقَالَ إبراهيم الحربي: السباب أشد من السب، وهو أن يقال في الرجل ما فيه وما ليس فيه، يريد بذلك عيبه. وَقَالَ غيره: السباب هنا مثل القتال فيقتضي المفاعلة.
قوله: (المسلم) كذا في معظم الروايات، ولأحمد عن غُنْدَر، عن شُعبة:"المؤمن"(4)، وكأنه رَوَاهُ بالمعنى.
قوله: (فسوق) الفسق في اللغة: الخروج.
وفِي الشرع: الخروج عن طاعة الله ورسوله.
وهو في عرف الشرع أشد من العصيان، قَالَ الله تعالَى:{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7].
ففي الحديث: تعظيم حق المسلم، والحكم عَلى من سبه بغير حق بالفسق، ومقتضاه الرد عَلى المرجئة، وعرف من هذا مطابقة جواب أبي وائل للسؤال عنهم، كأنه قَالَ: كيف تكون مقالتهم حقًّا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا.
(1)"جامع الترمِذيّ"(كتاب الإيمان، باب: سباب المؤمن فسوق) برقم (2634).
(2)
أخرجه النسَائي في "السنن الكبرى"(كتاب تَحريم الدم، باب: قتال المسلم)(2/ 313، 314)، وفي "المجتبى" في نفس الكتاب والباب (7/ 121، 122)، وَمُحَمَّد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(2/ 1020 - 1022).
(3)
"السنن الكبرى"(كتاب تَحريم الدم، باب: قتال المسلم)(2/ 313)، وفي "المجتبى" في نفس الكتاب والباب (7/ 121).
(4)
"مسند أَحْمَد"(1/ 439).
قوله: (وقتاله كفر) إن قيل: هذا وإن تضمن الرد عَلى المرجئة لكن ظاهره يقوي مذهب الخوارج الذين يكفِّرون بالمعاصي.
فالجواب: أن المبالغة في الرد عَلى المبتدع اقتضت ذَلكَ، ولا متمسك للخوارج فيه؛ لأن ظاهره غير مراد، لكن لما كَانَ القتال أشد من السباب؛ لأنه مفضٍ إلَى إزهاق الروح عبر عنه بلفظ أشد من لفظ الفسق وهو الكفر.
ولَم يُرِدْ حقيقة الكفر الَّتِي هِيَ الخروج عن الملة، بل أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير، معتمدًا عَلى ما تقرر من القواعد أن مثل ذَلِكَ لا يخرج عن الملة، مثل حديث الشفاعة، ومثل قوله تعالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116]. وقد أشرنا إلَى ذلِكَ في باب المعاصي من أمر الجاهلية، أو أطلق عليه الكفر لشبهه به؛ لأن قتال المؤمن من شأن الكافر.
وقيل: المراد الكفر اللغوي: وهو التغطية؛ لأن حق المسلم عَلى المسلم أن يعينه وينصره ويكف عنه أذاه، فلما قاتله كَانَ كأنه غطى عَلى هذا الحق، والأولان أليق بمراد المصنف، وأولى بالمقصود من التحذير من فعل ذلِكَ والزجر عنه بخلاف الثالث.
وقيل: أراد بقوله: "كفر" أي: قد يؤول هذا [92 / ب] الفعل بشؤمه إلَى الكفر، وهذا بعيد، وأبعد منه حمله عَلى المُسْتَحِلّ لذلك؛ لأنه لا يطابق الترجمة، ولو كَانَ مرادًا لَم يحصل التفريق بين السباب والقتال، فإن مُسْتَحِلّ لعن المسلم بغير تأويل يكفر أيضًا، ثم ذَلِكَ كله مَحمول عَلى من فعله بغير تأويل، وقد بوب المصنف عليه في كتاب المحاربين كما سيأتي إن شاء الله تعالَى.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم فيما رَوَاهُ مُسْلِم: "لعن المؤمن كقتله"(1). فلا يخالف هذا هذا الحديث؛ لأن المشبه به فوق المشبه، والقدر الَّذي اشتركا فيه بلوغ الغاية بالتأثير، هذا في العِرْض وهذا في النفس، والله أعلم.
(1)"صحيح مُسْلِم"(كتاب الإيمان، باب: غلظ تَحريم قتل الإنسان نفسه. . . .) برقم (110).
49 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنِي أَنَسٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالَ:"إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ؛ التَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالخَمْسِ".
قوله: (عن حُمَيد) هو الطويل.
(عن أنس) وللأصيلي: (ثنا أنس بن مالك) فأمِنا تدليس حميد، وهو من رواية صحابي عن صحابي: أنس، عن عُبَادة.
قوله: (خرج يُخبر بليلة القدر) أي: بتعيين ليلة القدر.
قوله: (فتلاحى) بفتح الحاء المهملة مشتق من التلاحي بكسرها: وهو التنازع والمخاصمة، والرجلان أفاد ابن دحية أنهما عبد الله بن أبي حَدْرَد بحاء مفتوحة ودال ساكنة مهملتين ثم راء مفتوحة ثم دال مهملة أيضًا، وكعب بن مالك.
وقوله: (فرفعت) أي: رفع تعيينها عن ذكري، هذا هو المعتمد هنا، والسبب فيه ما أوضحه مسلم من حديث أبي سعيد في هذه القصة قَالَ:"فجاء رجلان يَحْتَقَّان" بتشديد القاف أي: يدَّعي كل منهما أنه المحق "معهما الشيطان فنسيتها"(1).
قَالَ القاضي عِياض: فيه دليل عَلى [أن](2) المخاصمة مذمومة، وأنها سبب في العقوبة المعنوية، وفيه أن المكان الَّذِي يحضره الشيطان ترفع منه البركة والخير.
فإن قيل: كيف تكون المخاصمة في طلب الحق مذمومة؟
قلنا: إنَّما كانت كذلك لوقوعها في المسجد، وهو محل الذكر لا اللغو، ثم في الوقت المخصوص أيضًا بالذكر لا اللغو وهو شهر رمضان، ثم إنها مستلزمة لرفع الصوت، ورفعه بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم منهي عنه لقوله تعالَى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
(1)"صحيح مُسْلِم"(كتاب الصيام، باب: فضل ليلة القدر. . .) برقم (1167).
(2)
زيادة من "الفتح".
النَّبِيِّ}، إلَى قوله تعالَى:{أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 2]. ومن هنا [93 / أ] تتضح مناسبة هذا الحديث للترجمة ومطابقتها له، وقد خفيت عَلى كثير من المتكلمين عَلى هذا الباب.
فإن قيل: قوله: {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]. يقتضي المؤاخدة بالعمل الَّذِي لا قصد فيه.
فالجواب: أن المراد: {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} بالإحباط لاعتقادكم صغر الذنب، فقد يعلم المرء الذنب ولكن لا يعلم أنه كبير، كما قيل في قوله:"إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير" أي: عندهما، ثم قَالَ:"وإنه لكبير"(1)، أي: في نفس الأمر.
وأجاب القاضي أبو بكر ابن العربي: بأن المؤاخذة تحصل بما لَم يقصد في الثاني إذا قصد في الأول؛ لأن مراعاة القصد إنما هو في الأول ثم يسترسل حكم النية الأولى علَى مؤتنف العمل وإن عزب القصد خيرًا كَانَ أو شرًّا، والله أعلم.
قوله: (وعسى أن يكون خيرًا) أي: وإن كَانَ عدم الرفع أزيد خيرًا وأولى منه؛ لأنه متحقق فيه لكن في الرفع خير مرجو لاستلزامه مزيد الثواب؛ لكونه سببا لزيادة الاجتهاد في التماسها، وإنما حصل ذَلِكَ ببركة الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: (في السبع والتسع) كذا في معظم الروايات بتقديم السبع التِي أولها السين عَلى التسع، ففيه إشارة إلَى أن رجاءها في السبع أقوى للاهتمام بتقديمه، ووقع عند أبي نُعيم في "المستخرج"(2) بتقديم التسع عَلى ترتيب التدلي، واختلف في المراد بالتسع وغيرها، فقيل: لتسع يمضين من العشر، وقيل: لتسع يبقين من الشهر، وسنذكر بسط هذا في محله حيث ذكره المصنف في كتاب الاعتكاف إن شاء الله تعالَى.
(1) أخرجه البُخَاريّ في "صحيحه"(كتاب الوضوء، باب: ما جاء في غسل البول) برقم (218)، وكذا في (1361، 1378، 6052)، وأخرجه مُسْلِم في "صحيحه"(كتاب الطهارة، باب: الدليل عَلى نَجاسة البول ووجوب الاستبراء) برقم (292).
(2)
"مستخرج أبي نُعيم"(كتاب الصيام، باب: ما جاء في ليلة القدر)(3/ 256).