الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
11 - باب
18 -
حَدَّثنا ابو الْيَمانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أبو إِدْرِيس، عَائذُ الله بْنُ عَبْدِ الله، أَن عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رضي الله عنه -وَكانَ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبةِ- أَن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَة مِنْ أصْحَابِهِ:"بَايِعُونِي عَلَى أَلَّا تُشْرِكُوا بِالله شَيْئًا، وَلا تَسرقُوا، وَلا تَزنوا، وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ، وَلا تَأتوا بِبُهْتَانٍ تَفْترونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُم وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُوا في مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى الله، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ في الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ، فَهُوَ إِلَى اللهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ". فَبَايعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ.
قوله: (باب) كذا هو في روايتنا بلا ترجمة، وسقط من رواية الأصِيلي أصلًا، فحديثه عنده من جملة الترجمة الَّتِي قبله، وَعَلى روايتنا فهو متعلق بِها أَيضًا؛ لأن الباب إذا لم يذكر له ترجمة خاصة يكون بمنزلة الفَصْل مما قبله مع تعلقه به، كصنيع مصنفي الفقهاء.
ووجه التعلق: أنَّه لما ذَكر الْأَنصار في الحديث الأول أشار في هذا إلى ابتداء السبب في تلقيبهم بالأنصار؛ لأن أول ذَلِكَ كَانَ ليلة العقبة لَمَّا توافقوا مع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عند عقبة مِنى في الموسم؛ كما سيأتي شرح ذَلِكَ إن شاء الله تعالَى في "السيرة النبوية" من هذا الكتاب، وقد أخرج المصنف حديث هذا الباب في مواضع أخرى من "باب: من شهد بدرًا" (1) ، لقوله فيه: "وكان شهد بدرًا"، وفي "باب: وفود الْأَنصار" (2)؛ لقوله فيه: "وهو أحد النقباء"، وأورده هنا لتعلقه بما قبله كما بيناه.
(1)"صحيح البُخَاريّ"(كتاب المغازي، باب: من شهد بدرًا) برقم (3999).
(2)
"صحيح البُخَاريّ"(كتاب مناقب الْأَنصار، باب: وفود الْأَنصار إلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم بمكة وبيعة العقبة) برقم (3892).
ثم إن في متنه ما يتعلق بمباحث الإيمان من وجهين آخرين:
أحدهما: اجتناب المناهي من الإيمان كامتثال الأوامر.
وثانيهما: أنَّه تضمن الرد عَلى من يقول أن مرتكب الكبيرة كافر أو مُخلد في النَّار، كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالَى.
قوله: (عائذ الله) هو اسم علم، وأبوه عبد الله بن عمرو الخَوْلاني صحابي، وهو من حيث الرواية تابعي كبير، وقد ذكر في الصَّحَابَة؛ لأن له رُؤية، وكان مولده عام حُنين، والإسناد كله شاميون.
قوله: (وكان شهد بدرًا) يعني: حضر الوَقْعة المشهورة الكائنة بالمكان المعروف بِبَدْر، وهي أول واقعة قاتل النَّبِي صلى الله عليه وسلم فيها المشركين، وسيأتي ذكرها في [59/أ] المَغَازي، ويُحتمل أن يكون قائل ذلِكَ أبو إدريس، فيكون متصلًا إذا حُمل عَلى أنَّه سَمع ذلكَ من عُبَادة، أو الزُّهْرِيّ فيكون منقطعًا، وكذا قوله:"وهو أحد النقَبَاء".
قوله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) سقط قبلها من أصل الرواية لفظ: "قَالَ"، وهو خبر أنَّ؛
لأن قوله: "وكان" وما بعدها مُعْتَرَض، وقد جرت عادة كثير من أهل الحديث بحذف "قَالَ" خطأ، لكن حيث يتكرر في مثل:"قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولابد عندهم مع ذَلِكَ من النُّطق بِها، وقد ثبت في رواية المُصنف لهذا الحديث بإسناده هذا في "باب: مَنْ شَهِدَ بَدرًا" (1). فلعلها سقطت هنا ممن بعده. ولأحمد عن أبي اليَمَان بهذا الإسناد: "أن عُبَادة حدثه" (2).
قوله: (وحوله) بِفَتح اللام عَلَى الظَّرْفية.
و(العِصَابَة) بكسر العين: الجماعة من العشرة إلى الأربعين، ولا واحد لَها مِنْ لَفْظِها، وقد جمعت عَلى عَصَائب وعُصْب.
(1) لم يثبت لفظ قَالَ في الموضع الذِي أشار إليه الحافظ رحمه الله، ولعله يقصد ما ثبت في (كتاب الأحكام، باب: بيعة النساء) برقم (7213)، وفيه:(. . . . أخبرني أبو إدريس الخولاني أنَّه سمع عبادة بن الصامت يقول: قَالَ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. . .).
(2)
لم نقف عليه كما ذكره الحافظ، وانظر "مسند أحْمَد"(5/ 325).
قوله: (بايعوني) زاد في "باب: وُفُود الأنْصَار": "تَعَالوا بَايعوني"(1)، والمُبَايعة: عبارة عن المُعَاهدة، سُميت بذلك تشبيهًا بالمُعَاوضة المالية، كما في قوله تعالَى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة 111].
قوله: (ولا تقتلوا أولادكم) قَالَ مُحَمَّد بن إسماعيل التَّيمي وفيه: خُص القتل بالأولاد؛ لأنَّه قتل وقطيعة رَحِم، فالعناية بالنهي عنه آكد؛ ولأنَّهُ كَانَ شائعًا فيهم؛ وهو وَأد البنات أو قَتْل البنين خَشْية الإِمْلاق، أو خصهم بالذكر؛ لأنهم بصدد ألا يدفعوا عن أنفسهم.
قوله: (ولا تأتوا ببهتان) البُهْتَان: الكذب الَّذِي يُبهت سامعه، وخص الأيدي والأرجل بالإفتراء؛ لأن معظم الأفعال تقع بِهما؛ إذ كانت هِيَ العوامل والحوامل للمباشرة والسعي، وكذا يسمون الصَّنَائع: الأيادي، وقد يعاقب الرَّجل بجناية قولية، فيقال: هذا مما كسبت يداك.
ويُحتمل أن يكون المراد: لا تَبْهتوا النَّاس كِفاحًا وبعضكم يشاهد بعضًا، كما يُقال: قُلْتُ كذا بين يَدَي فلان، قَالَ الخطابي وفيه نظر لذكر الأرجل إن لم يكن مقتضيا وليس بمانع.
ويحتمل أن يكون المراد بما بين الأيدي والأرجل: القلب؛ لأنَّه هو الَّذِي يترجم اللسان عنه؛ فلذلك نسب إليه الافتراء، فإن المعنى: لا ترموا أحدًا بكذب تزَوِّرونه في أنفسكم ثم تبهتون صاحبه بألسنتكم.
وَقَالَ أبو مُحَمَّد بن أبي حَمزة: يحتمل [59/ب] أن يكون قوله: "بين أيديكم" أي: في الحال، وقوله:"وأرجلكم" أي: في المستقبل؛ لأن السعي من أفعال الأرجل.
وَقَالَ غيرِه: أصل هذا كَانَ في بيعة النساء وكُني بذلك، كما قاله الهَرَوي في "الغريبين" عن نِسْبة المرأة الولد الذِي تزني به أو تلتقطه إلى زوجها، ثم لَمَّا استعمل هذا اللفظ في بيعة الرجال احتيج إلَى حَمله عَلى غير ما ورد فيه أولًا، والله أعلم.
(1)"صحيح البُخَاري"(كتاب مناقب الْأَنصار، باب: وفود الْأَنصار إلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم بمكة وبيعة العقبة) برقم (3892).
قوله: (ولا تعصوا) للإسماعيلي في: "باب: وفود الْأَنصار"(1): "ولا تعصوني"، وهو مُطابق للآية.
و(المعروف): ما عُرف من الشارع حسنه نهيًا وأمرًا.
قوله: (فمن وَفى منكم) أي: ثَبَت بالعهد، و"وَفى" بالتخفيف، وفِي رواية بالتشديد وهُما بمعنى.
قوله: (فأجره عَلى الله) أَطلق هذا عَلى سبيل التفخيم؛ لأنَّه لما ذَكر المبايعة المقتضية لوجود العوضين أَثبت ذِكر الأجر في موضع أحدهما، وأفصح في رواية الصُّنَابحي عن عُبَادة في هذا الحديث في الصحيحين (2) بتعيين العوضين فقال:"بالجنة".
وعَبر هنا بلفظ: "عَلى" للمبالغة في تحقق وقوعه كالواجبات، ويتعين حَمله عَلى غير ظاهره للأدلة القاطعة عَلى أنَّه لا يجب عَلى الله شيء، وسيأتي في حديث مُعَاذ في حَق الله عَلى العباد (3) تَقرير هذا.
فإن قيل: لِمَ اقتصر عَلى المنهيات ولم يَذكر المأمورات؟
فالجواب: أنَّه لم يُهملها، بل ذكرها عَلى طريق الإجمال في قوله:"ولا تعصوا في معروف"؛ إذ العصيان مُخالفة الأمر، والحِكمة في التنصيص عَلى كثير من المنهيات دون المأمورات: أن الكَفَّ أَيْسر من إنشاء الفعل؛ لأن اجتناب المفاسد مُقدم عَلى اجْتِلاب المصالح، والتَّخَلي عن الرذائل قبل التَّحَلي بالفضائل.
قوله: (ومن أصاب من ذَلِكَ شيئًا فعوقب) زاد أحْمَد (4) في روايته: "به".
(1)"صحيح البخَاري"(كتاب مناقب الْأَنصار، باب: وفود الْأَنصار إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم بمكة وبيعة العقبة) برقم (3892).
(2)
"صحيح البُخَارِيّ"(كتاب مناقب الْأَنصار، باب: وفود الْأَنصار إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم بمكة وبيعة العقبة) برقم (3893)، وفِي "صحيح مُسلِم"(كتاب الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها) برقم (1709).
(3)
"صحيح البُخَارِيّ"(كتاب الجهاد والسير، باب: اسم الفرس والحمار) برقم (2856)، وكذلك في (5967، 6267 ، 6500، 7373).
(4)
"مسند أحْمَد"(5/ 314).
قوله: (فهو) أي: العقاب.
(كَفَّارة) زاد أَحْمَد: "له"(1)، وكذا هو للمصنف من وجه آخر في باب المَشيئة من كتاب التوحيد، وزاد "وطُهُور"(2).
قَالَ النووي: عموم هذا الحديث مخصوص بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48 - 116]. فالمرتد إذا قُتل عَلى ارتداده لا يكون القتل له كفارة.
قُلْتُ: وهذا بناء عَلى أن قوله: "من ذَلِكَ شيئًا" يتناول جَميع ما ذُكر وهو ظاهر.
وقد قيل: يُحتمل أن يكون المراد ما ذُكر بعد الشِّرك بقرينة أن المُخاطب بذلك المسلمون فلا يَدخل حَتَّى يحتاج إلى إخراجه، ويُؤيده رواية مُسْلِم من طريق [60/أ] أبي الأشْعَث، عن عُبَادة في هذا الحديث:"ومن أتى منكم حَدًّا"(3). إذ القتل عَلى الشرك لا يُسمى حَدًّا.
لكن يُعكر عَلى هذا القائل أن الفاء في قوله: "فَمَنْ" لترتيب ما بعدها عَلى ما قبلها، وخِطَاب المسلمين بذلك لا يَمنع تحريز وقوعه منهم، وما ذكر في الحَدِّ عُرْفي حادث، فالصواب ما قَالَ النووي.
وَقَالَ الطيبي: المراد بالشرك: الشِّرك الأصغر؛ وهو الرياء، ويدل عليه تنكير شيئًا، أي: شركًا أيا ما كَانَ.
وتُعقب: بأن عُرف الشارع إذا أَطلق الشِّرك إنما يريد به ما يُقابل التوحيد، وقد تكرر هذا اللفظ في الآيات والأحاديث حيث لا يُراد به إلَّا ذَلكَ.
ويُجاب: بأن طَلب الجمع يقتضي ارتكاب المجاز؛ فما قاله مُحتمل وإن كَانَ ضعيفا، ولكن يغلب عليه أَيضًا أنَّه عَقب الإصابة بالعقوبة في الدُّنْيَا، والرياء لا عقوبة فيه، فَوَضح أن المراد: الشرك، وأنه مَخصوص.
(1)"مسند أَحْمَد"(5/ 314).
(2)
"صحيح البُخَارِيّ"(كتاب التوحيد، باب: في المشيئة والإرادة) برقم (7468).
(3)
"صحيح مُسْلِم"(كتاب الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها) برقم (1709).
وَقَالَ القاضي عياض: ذهب أكثر العلماء إلى أن الحدود كفارات، فاستدلوا بهذا الحديث، ومنهم من وَقف لحديث أبي هريرة، أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لا أَدْري الحُدود كفارة لأهلها أم لا". لكن حديث عُبادة أصح إسنادًا، ويُمكن معنى عَلى طريق الجمع بينهما أن يكون حديث أبي هريرة ورد أولًا قبل أن يُعْلِمه الله ثم أعْلَمه بعد ذلكَ.
قُلْتُ: حديث أبي هُريرة أخرجه الحاكم في "المستدرك"، والبزار من رواية مَعْمَر، عن ابن أبي ذئب، عن سَعيد المَقْبري، عن أبي هُريرة، وهو صحيح عَلى شرط الشيخين (1)، وقد أخرجه أحْمَد، عن عبد الرزَّاق، عن مَعْمَر (2)، وذكر الدَّارقطني أن عبد الرَّزَّاق تفرد بوصله، وأن هشام بن يوسف رواه عن مَعْمَر فأرسله.
قُلْتُ: وقد وصله آدم بن أبي إياس، عن ابن أبي ذِئب أخرجه الحاكم (3) أَيضًا فقويت رواية مَعْمَر، وإذا كَانَ صحيحًا فالجمع الَّذِي جمع به القاضي حَسَن.
لكن القاضي ومن تبعه جازمون بأن حديث عبادة هذا كَانَ بمكة ليلة العَقَبة، بَايع الْأَنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة الأولى بمنى، وأبو هريرة إنما أسلم بعد ذلِكَ بسبع سنين عام خَيْبَر، فكيف يكون حديثه متقدمًا؟ !
وقالوا في الجواب عنه: يُمكن أن يكون أبو هريرة ما سَمعه من النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وإنما سمعه من صحابي آخر كَانَ سَمعه من النَّبِي صلى الله عليه وسلم قديمًا ولَم [60/ب] يسمع من النَّبِي صلى الله عليه وسلم بعد ذَلِكَ أن الحُدود كَفَّارة كما سمعه عبادة، وفِي هذا تعسف، ويُبطله أن أَبا هريرة صَرَّح بسماعه، وأن الحُدود لَم تكن نَزلت إذ ذَاك.
(1) أخرجه الحاكم في "المستدرك"(كتاب الإيمان)(1/ 36)، وفِي (كتاب البيوع)(2/ 14)، والبزار كما في "مجمع الزوائد"(6/ 265).
(2)
لم نجده في "المسند" المطبوع، ولكن أخرجه الحاكم عن القطيعي، عن عبد الله بن أحْمَد بن حنبل، عن أَبيه في "المستدرك"(كتاب الإيمان)(1/ 36). وهذا هو نفسه سند "مسند أحْمَد"، فالله أعلم.
(3)
لَم نَجده في نسخة "المستدرك" المطبوع، ولكن أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(كتاب الحدود، باب: الحدود كفارات)(8/ 329)، عن الحاكم بسنده، عن آدم بن أبي إياس، عن ابن أبي ذئب، فالله أعلم.
والحق عندي: أن حديث أبي هريرة صحيح وهو سابق عَلى حديث عُبَادة، والمُبَايعة المذكورة في حديث عبادة عَلى الصفَة المذكورة لَم تقع ليلة العَقبة، وإنما نَصُّ بيعة العَقَبة ما ذكر ابن إسحاق وغيره من أهل المَغَازي: أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لمن حَضَرَ من الْأَنصار: "أبايعكم عَلى أن تَمْنَعوني مِما تَمْنَعونَ منه نساءكم وأبناءكم". فبايعوه عَلى ذَلِكَ، وَعَلى أن يرحل إليهم هو وأصحابه، وسيأتي في هذا الكتاب من حديث عُبَادة أَيضًا قَالَ:"بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلى السمع والطاعة في العُسْر والْيُسْر والْمَنْشَط والْمَكْرَه". الحديث (1).
فهذه البيعة الأولَى، ثم صَدَرَت مُبايعات أخرى سَتُذْكَرُ في كتاب الأحكام -إن شاء الله- منها هذه البَيْعَة، وإنما وَقَعت بعد فتح مكة بعد أن نزلت الآية الَّتِي في المُمْتَحنة وهي قوله تعالَى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12].
ونزول هذه الآية متأخر بعد قصة الحُدَيْبَية بلا خلاف، والدَّليل عَلى ذَلِكَ عند البُخَاري في كتاب الحدود من طريق سُفيَان بن عُيَيْنَة، عن الزُّهْري في حديث عُبَادة هذا: أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَمَّا بايعهم قرأ الآية كلها (2)، وعنده في تفسير المُمْتَحَنة من هذا الوجه قَالَ:"قرأ آية النساء"(3).
ولمُسلم من طريق مَعْمَر، عن الزهري "فَتَلا علينا آية النساء:{أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12](4).
وللنسائي من طريق الحارث بن فُضَيْل، عن الزُّهْرِي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ألا تبايعوني عَلى مَا بَايَع عليه النِّسَاء: ألا تُشركوا باللهِ شيئًا" الحديث (5).
(1)"صحيح البُخَاريّ"(كتاب الأحكام، باب: كيف يبايع الإِمام النَّاس) برقم (7199).
(2)
"صحيح البُخَاري"(كتاب الحدود، باب: الحدود كفارة) برقم (6784).
(3)
"صحيح البُخَاري"(كتاب التفسير، سورة الممتحنة، باب: إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) برقم (4894).
(4)
"صحيح مُسْلِم"(كتاب الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها) برقم (1709).
(5)
"سنن النَسَائي" في "الكبرى"(كتاب البيعة، باب: البيعة على ترك عصيان الإِمام)(4/ 424)، وفي "المجتبى"(كتاب البيعة، باب: البيعة عَلى الجهاد)(7/ 142).
وللطبراني من وجه آخر، عن الزُّهْرِي بهذا الإسناد:"بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلى مَا بَايع عليه النساء يوم فتح مكة"(1).
ولمسلم من طريق أبي الأَشْعث، عن عُبَادة في هذا الحديث:"أخَذَ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كَما أَخَذَ عَلى النساء"(2). فهذه أدلة صَريحة في أن هذه البَيْعة إنما صَدرت بعد نزول الآية، بل بعد صُدور البَيْعة، بل بعد فتح مكة، وذلك بعد إسلام أبي هريرة بمدة.
ويُؤيد هذا ما رواه ابن أبي خَيْثَمة، عن أَبيه، عن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الطُّفَاوي، عن أَيُّوب، عن عَمرو بن شُعيب، عن أَبيه، عن جده قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم[61/أ]: "أبايعكم عَلى ألَّا تُشركوا باللهِ شيئًا"(3). فذكر نَحو حديث عُبَادة، ورجاله ثقات، وقد قَالَ إسحاق بن رَاهَويْه: إذا صح الإسناد إلى عَمرو بن شُعيب فهو كأيوب، عن نافع، عن ابن عمر. انتهى
وإذا كَانَ عبد الله بن عمرو أحد من حَضَر هذه البيعة، وليس هو من الْأَنصار، ولا ممن حصر بيعتهم بمنى، وصح تغاير البيعتين: بيعة الْأَنصار ليلة العقبة وهي قبل الهجرة إلى المدينة، وبَيْعة أخرى وقعت بعد فتح مكة وشهدها عبد الله بن عَمرو وكان إسلامه بعد الهجرة.
وإنما حَصَل الالتباس من جهة أن عُبَادة بن الصامِت حضر البيعتين معًا، وكانت بَيْعَة العَقَبة من أَجل ما يُمتدح به، فكان يذكرها إذا حدث تَنْويهًا بسابقته، فلما ذكر هذه البيعة التِي صَدرت عَلى مثل بيعة النساء عقب ذلِكَ تَوهم من لم يقف عَلى حقيقة الحال أن البَيْعة الأولى وقعت على ذلكَ.
ونَظِيره ما وقع في الصحيحين أَيضًا من طريق الصُّنَابحي، عَن عُبَادة قَالَ:"إنِّي من النقَبَاء الذين بَايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: "بَايعناه عَلى ألَّا نُشْرِكَ بالله شيئًا" (4). الحديث.
(1) مسند عبادة بن الصامت في الجزء المفقود من المعجم الكبير للطبراني.
(2)
"صحيح مُسْلم"(كتاب الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها) برقم (1709).
(3)
أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" بسنده عن محمّد بن عبد الرَّحْمَن الطفاوي برقم (923).
(4)
"صحيح البُخَاري" (كتاب مناقب الْأَنصار، باب: وفود الْأَنصار إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم بمكة وبيعة =
فظاهر هذا اتحاد البيعتين، ولكن المراد عَلى ما قَدَّرْتُه أن قوله:"إنِّي من النُّقَبَاء الذين بايعوا -أي: ليلة العقبة- عَلى الإيواء والنَّصْر"، وما يتعلق بذلك ثم قَالَ:"بَايعناه" إلى آخره؛ أي: في وقت آخر، ويُشير إلَى هذا الإتيان بالواو العاطفة في قوله:"وَقَالَ: بايعناه"، وعليك بِرَدِّ ما أتى مِن الروايات مُوهمًا بأن هذه البيعة كانت ليلة العَقَبة إلَى هذا التأويل الَّذِي نَهَجتُ طريقه فيرتفع بذلك الإشكال، ولا يبقى بين حديثي أبي هريرة وعُبَادة تعارض، ولا وجه بعد ذَلِكَ للتوقف في كون الحُدود كَفارة.
واعلم أن عُبَادة بن الصَّامِت لم ينفرد برواية هذا المعنى، بل رَوَى ذلك علي بن أبي طالب، وهو في الترمِذي وصححه الحاكم وفيه:"وَمَنْ أَصَابَ ذَنْبًا فَعُوقب به في الدُّنْيَا؛ فالله أكرَم من أن يُثَنِّي بالعُقُوبة عَلى عبده في الآخرة"(1).
وهو عند الطَّبَرانِيّ (2) بإسناد حسن من حديث أبي تَمِيمَة الهُجَيْمي.
ولأحمد من حديث خُزَيْمَة بن ثابت بإسناد حسن ولفظه: "مَن أصابَ ذنبًا أقيم عليه حَدُّ [61/ ب] ذَلِكَ الذنب فهو كَفَّارته"(3).
وللطبراني عن ابن عمر مرفوعًا: "مَا عُوقِبَ رجل عَلى ذنب إلَّا جَعله الله له كَفَّارة لما أَصَاب من ذَلِكَ الذنب"(4). وإنما أطلت في هذا الموضع؛ لأنني لم أر من أَزَال اللَّبس فيه عَلى الوجه المرضي، والله الهادي.
قوله: (فعوقب به) قَالَ ابن التين: يريد بالقطع في السرِقَة، والجلد أو الرجم في الزنا، قالَ: وأما قتل الولد فليس له عُقوبة معلومة، إلَّا أن يريد قتل النفس فكنى عنه.
= العقبة) برقم (3893)، وفِي "صحيح مُسْلِم"(كتاب الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها) برقم (1709).
(1)
"جامع التّرمِذي"(كتاب الإيمان، باب: ما جاء لا يزني الزاني وهو مؤمن) برقم (2626)، والحاكم في "المستدرك"(كتاب الإيمان)(1/ 7).
(2)
"المعجم الأوسط" برقم (5315).
(3)
"مسند أحْمَد"(5/ 214، 215).
(4)
"المعجم الأوسط" برقم (8443).
قُلْتُ: في رواية الصُّنَابحي، عن عُبَادة في هذا الحديث:"ولا تَقتلوا النفس الَّتِي حَرَّم الله إلَّا بالحقِّ"(1). ولكن قوله في حديث الباب "فعُوقب به" أعم من أن تكون العقوبة حدًّا أو تعزيزًا.
قَالَ ابن التين: وحكي عن القاضي إسماعيل وغيره أن قتل القاتل إنما هو إرداع لغيره، وأما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم؛ لأنَّه لم يصل إليه حق.
قُلْتُ: بل وصل إليه حق وأي حق، فإن المقتول ظُلمًا تُكفر عنه ذنوبه بالقتل، كما ورد في الخبر الذِي صححه ابن حِبَّان وغيره:"إن السيف مَحَّاءٌ للخطايا"(2)، وعن ابن مسعود قَالَ:"إذا جاء القتل مَحَا كل شيء" رواه الطَّبْرَانِي (3)، وله عن الحسن بن عليّ نَحوه (4)، وللبزار عن عائشة مرفوعًا:"لَّا يمر القتل بذنب إلَّا مَحاه، فلولا القتل [ما] (5) كفرت ذنوبه"(6). وأي حق يصل إليه أعظم من هذا، ولو كَانَ حد القتل إنما شُرع للإرداع فقط لم يشرع العفو عن القاتل.
قوله: (فهو إلَى الله) قَالَ المازري: فيه رد عَلى الخَوَارج الذين يُكفرون بالذنوب، ورد عَلى المعتزلة الذين يوجبونَ تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة لأن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه تحت المشيئة، ولم يقل: لابد أن يعذبه.
وَقَالَ الطيبي: فيه إشارة إلى الكف عن الشهادة بالنار عَلى أحد أو بالجنة لأحد إلا من ورد النص فيه بعينه.
(1)"صحيح البُخَاري"(كتاب مناقب الْأَنصار، باب: وفود الْأَنصار إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم بمكة وبيعة العقبة) برقم (3893)، وفِي صحيح مُسْلِم (كتاب الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها) برقم (1709).
(2)
"صحيح ابن حبان"(كتاب السير، باب: فضل الشهادة) برقم (4644).
(3)
"المعجم الكبير"(9/ 350).
(4)
"المعجم الكبير"(3/ 70)، وفيه:"فإن القتل كفارة".
(5)
سقط من الأصل.
(6)
وهو في "مجمع الزوائد"(كتاب الحدود والديات، باب: كفارات الذنوب بالقتل)، ولفظه:"قتل الصبر لا يمر بذنب إلَّا مَحاه".
قُلْتُ: أما الشق الأول فواضح، وأما الثاني: فالإشارة إليه إنما تُستفاد من الحمل عَلى غير ظاهر الحديث وهو متعين.
* تنبيه:
زاد في رواية الصُنَابحي، عن عُبَادة في هذا الحديث:"ولا ننتَهب"(1)، وهو مما يتمسك به في أن هذه البيعة متأخرة؛ لأن الجهاد عند بيعة العقبة لم يكن فُرِضَ، والمراد بالانتهاب: ما يقع بعد [62/أ] القتال في المغانِم.
وزاد في روايته أَيضًا: "ولا نعصي بالجنة إن فعلنا ذَلِكَ، فإن غَشَينا من ذَلِكَ شيئًا كَانَ قضاء ذَلِكَ إلَى الله"، أخرجه المصنف في باب وفود الْأَنصار عن قُتَيْبة، عن الليث، ووقع عنده:"ولا نقضي" -بقاف وضاد معجمة- وهو تصحيف، وقد تكلف بعض النَّاس في تخريجه وَقَالَ: نهاهم عن ولاية القضاء. ويبطله أن عُبَادة ولي قضاء فلسطين زمن عمر رضي الله عنهما.
وقيل: إن قوله: "بالجنة" متعلق بـ"نقضي"؛ أي: لا نقضي بالجنة لأحد معين.
قُلْتُ: لكن يبقى قوله: "إن فعلنا ذَلِكَ" بلا جواب، ويُكتفى في ثبوت دعوى التصحيف فيه رواية مُسْلِم (2)، عن قتيبة -بالعين والصاد المهملتين-، وكذا للإسماعيلي عن الحسن بن سُفيان، ولأبي نُعيم من طريق موسى بن هارون كلاهُمَا عن قتيبة، وكذا هو عند البُخَاري أيضًا في هذا الحديث في الديات عن عبد الله بن يوسف، عن الليث في معظم الروايات (3)، لكن عند الكشميهني بالقاف والضاد أَيضًا وهو تصحيف كما بيناه.
وقوله: "بالجنة" إنما هو متعلق بقوله في أوله: "بايعناه"، والله أعلم.
(1) أخرجها البُخَارِيّ في "صحيحه"(كتاب مناقب الْأَنصار، باب: وفود الْأَنصار إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم بمكة وبيعة العقبة) برقم (3893).
(2)
"صحيح مُسْلِم"(كتاب الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها) برقم (1709).
(3)
"صحيح البُخَاري"(كتاب الديات، باب: قول الله تعالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا. . .}) برقم (6873).