الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
33 - بابُ: زِيَادَةِ الإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ
وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} ، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} وَقَالَ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْكَمَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ
44 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَفي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَفي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَفي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ".
قَالَ أبُو عَبْدِ الله: قَالَ أَبَانُ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"مِنْ إِيمَانٍ". مَكَانَ: "مِنْ خَيْرٍ".
قوله: (باب زيادة الإيمان ونقصانه) تقدم له قبل بستة عشر بابًا: "باب: تفاضل أهل الإيمان في الأعمال"، وأورد فيه حديث أبي سعيد الخدري بمعنى حديث أنس الذي أورده هنا، وتُعقّب عليه بأنه تكرار.
وأجيب عنه: بأن الحديث لمَّا كَانت الزيادة والنقصان فيه باعتبار الأعمال أو باعتبار التصديق ترجم لكل من الاحتمالين، وخص حديث أبي سعيد بالأعمال؛ لأن سياقه ليس فيه تفاوت بين الموزونات، بخلاف حديث أنس ففيه التفاوت في الإيمان القائم بالقلب من وزن الشَّعِيرة والبُرَّة والذَّرَّة.
قَالَ ابن بَطَّال: التفاوت في التصديق عَلى قدر العلم والجهل، فمن قل علمه كانَ تصديقه مثلًا بمقدار ذرة، والذي فوقه في العلم تصديقه بمقدار بُرّة أو شَعِيرة، إلا أن أصل التصديق الحاصل في قلب كل واحد منهم لا يَجوز عليه النقصان، ويَجوز عليه الزيادة بزيادة العلم والمعاينة. انتهى
وقد تقدم كلام النووي في أول الكتاب بما يُشير إِلَى هذا المعنى.
فإن قيل: فَلِمَ أعاد في هذا الباب الآيتين المذكورتين فيه وقد تقدما في أول كتاب الإيمان؟
فالجواب: أنه أعادهما ليوطئ بِهما معنى الكمال المذكور في الآية التالية؛ لأن الاستدلال بهما نص في الزيادة وهو مستلزم للنقص، وأما الكمال فليس نصًّا في الزيادة بل هو مستلزم للنقص فقط، واستلزامه للنقص يستدعي قبوله للزيادة، ومن ثَمَّ قالَ المصنف:"فإذا ترك شيئًا من الكمال فهو ناقصٌ"، ولهذه [86 / أ] النكتة عدل في التعبير للآية الثالثة عن أسلوب الآيتين، حيث قَالَ أولًا:"وقول الله". وَقَالَ ثانيًا: "وَقَالَ".
وبهذا التقرير يندفع اعتراض من اعترض عليه بأن آية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ} [المائدة: 3]. لا دليل فيها عَلى مراده؛ لأن الإكمال إن كَانَ بمعنى إظهار الحجة عَلى المخالفين أو بمعنى إظهار أهل الدين عَلى المشركين فلا حجة للمصنف فيه، وإن كَانَ بمعنى إكمال الفرائض لزم عليه أنه كَانَ قبل ذلك ناقصًا، وأن من مات من الصحابة قبل نزول الآية كَانَ إيمانه ناقصًا، وليس الأمر كذلك؛ لأن الإيمان لم يزل تامًا.
ويوضح دفع هذا الاعتراض جواب القاضي أبو بكر ابن العربي: بأن النقص أمر نسبي، لكن منه ما يترتب عليه الذم، ومنه ما لا يترتب، فالأول ما نقصه بالاختيار كمن علم وظائف الدين ثم تركها، والثاني ما نقصه بغير اختيار كمن لَم يعلم أو لَم يكلف، فهذا لا يُذم بل يُحمد من جهة أنه إن كَانَ قلبه مطمئنا بأنه لو زيد لقبُل ولو كُلِّف لعمل، وهذا شأن الصحابة الذين ماتوا قبل نزول الفرائض، ومُحصله: أن النقص بالنسبة إليهم صُوري، ولَهم فيه رتبة الكمال من حيث المعنى.
قوله: (هشام) هو ابن أبي عبد الله الدَّسْتَوائي، يكنى أبا بكر، وَفِي طبقته هشام بن حَسَّان لكنه لم يرو هذا الحديث.
قوله: (يَخرج) بفتح أوله وضم الراء، ويروى بالعكس، ويؤيده قوله في الرواية الأخرى:"أخرجوا"(1).
(1) أخرجه الترمذيّ في "جامعه" (كتاب صفة جهنم، باب: أن للنار نفسين وما ذكر من يَخرج من =
قوله: (من قَالَ لا إله إلا الله وَفي قلبه) فيه دليل عَلى اشتراط النطق بالتوحيد، أو المراد بالقول هُنا: القول النفسي، فالمعنى: من أقر بالتوحيد وصدق فالإقرار لابد منه، فلهذا أعاده في كل مرة، والتفاوت يحصل في التصديق عَلى الوجه المتقدم.
فإن قيل: فكيف لَم يذكر الرسالة؟
فالجواب: أن المراد: المجموع، وصار الجزء الأول علما عليه، كما يقول: قرأت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أي: السورة كلها.
قوله: (بُرَّة) بضم الموحدة وتشديد الراء المفتوحة: وهي القمحة، ومقتضاه: أن وزن البُرَّة دون وزن الشَّعيرة؛ لأنه قدم الشعيرة وتلاها بالبُرَّة ثم الذرة، وكذلك هو في بعض البلاد.
فإن قيل: إن السياق بالواو وهي لا تُرَتِّب.
فالجواب: أن رواية مُسلم من هذا الوجه بلفظ: "ثم"(1)، وهي [86 / ب] للترتيب.
قوله: (ذَرَّة) بفتح المعجمة وتشديد الراء المفتوحة، وصحفها شُعبة فيما رَوَاهُ مسلم من طريق يزيد بن زُرَيْع عنه فقال:"ذرَة" -بضم المعجمة وتَخفيف الراء-، وكأن الحامل له عَلى ذلك كونها من الحبوب فناسبت الشعيرة والبرة، قَالَ مسلم في روايته: قَالَ يزيد: "صَحَّف فيها أبو بِسْطَام"(2)، يعنِي: شُعْبَة.
ومعنى الذَّرَّة: قيلَ: هي أقل الأشياء الموزونة، وقيل: هو الهباء الذي يظهر في شعاع الشمس مثل رءوس الإبر، وقيل: هي النَّملة الصغيرة، ويروى عن ابن عباس أنه قَالَ: إذا وضعت كفك في التراب ثم نفضتها فالساقط هو الذَّر، ويقال: إن أربع ذرات وزن خَرْدَلة، وللمصنف في أواخر التوحيد من طريق حُميد، عن أنس مرفوعًا: "أدخل
= النار من أهل التوحيد) برقم (2593)، وأحْمَد في "مسنده"(3/ 276).
(1)
"صحيح مسلم"(كتاب الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منْزلة فيها) برقم (193).
(2)
"صحيح مسلم"(كتاب الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منْزلة فيها) برقم (193).
الجنة من كانَ في قلبه خردلة ثم من كَانَ في قلبه أدنى شَيْء" (1). فهذا معنى الذرة.
قوله: (قَالَ أبان) هو ابن يزيد العطار، وهذا التعليق وصله الحاكم في كتاب "الأربعين" له من طريق أبي سَلَمة قَالَ: حَدَّثَنَا أَبان بن يزيد فذكر الحديث، وفائدة إيراد المصنف له من وجهين:
أحدهما: تصريح قتادة فيه بالتحديث عن أنس.
ثانيهما: تعبيره في المتن بقوله: "مِنْ إيمان" بدل قوله: "من خير"، فبيَّن أن المراد بالخير هُنا: الإيمان.
فإن قيل: عَلى الأولى لِمَ لَمْ يكتفِ بطريق أبان السالمة من التدليس ويسوقها موصولة؟
فالجواب: أن أبان وإن كَانَ مقبولًا لكن هشام أتقن منه وأضبط، فجمع المصنف بين المصلحتين، والله الموفق.
وسيأتي الكلام عَلى بقية هذا المتن في كتاب التوحيد حيث ذكر المصنف حديث الشفاعة الطويل من هذا الوجه، ورجال هذا الحديث موصولًا ومعلقًا كلهم بصريون.
(1)"صحيح البُخَاريّ"(كتاب التوحيد، باب: كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم) برقم (7509).
45 -
حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ، سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو العُمَيْسِ، أَخْبَرَنَا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ اليَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} . قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ.
قوله: (حَدَّثَنَا الحسن بن الصباح، سمع جعفر بن عون) مراده: "أنه سمع"، وجرت عادتهم بحذف "أنه" في مثل هذا خطًّا لا نطقًا.
قوله: (أن رجلًا من اليهود) هذا الرجل هو كعب الأحبار بَيَّن ذلك مُسَدَّد في مسنده، والطبري في تفسيره، والطبراني في الأوسط، كلهم من طريق رجاء بن أبي سَلَمة، عن عُبَادة بن نُسَي -بضم النون وفتح المهملة-، عن إسحاق بن قَبِيصة بن ذُؤَيْب، عن كعب (1)، وللمصنف في المغازي من طريق الثوري، عن قيس بن مسلم أن ناسًا من [87 / أ] اليهود (2)، وله في التفسير من هذا الوجه بلفظ:"قالت اليهود"(3)، فيحمل عَلى أنهم كانوا حين سؤال كعب عن ذلك جَماعة وتكلم كعب عَلى لسانهم.
(1) في "الفتح": "عن إسحاق بن خرشة، عن قبيصة بن ذؤيب، عن كعب"، وهو خطأ، وما ورد هنا هو الصواب، وقد رجع الحافظ في هذا الكتاب إلَى الصواب، والسبب في ذلك الخطأ: أنه وقع عِنْد الطبري في تفسيره (الآية الثالثة من سورةَ المائدة) منِ طريق ابن علية، عن رجاء بن أبي سَلمة، عن عبادة بنِ نسي، قَالَ: حَدَّثنا أميرنا إسحاق -قالَ أبو جعفر: إسحاق هو ابن خرشة-، عن قبيصة قَال: . . . فذكر الحديث. فذكر الحافظ الحديث كما وقع عِنْد ابن جرير، وكأنه تصحف الاسم عِنْد ابن جرير إلَى إسحاق، عن قبيصة، فتصحفت "ابن" إلَى "عن"، فاحتاج إِلَى تعيين إسحاق هذا، فعرفه بأنه ابن خرشة، وهو تعيين خطأ أيضًا؛ لأن ابن خرشة الذي يروي عن قبيصة بن ذؤيب هو عثْمَان بن إسحاق بن خرشة، وليس إسحاق والده، ويقال له أيضًا: عثْمَان بن خرشة، وهو راوي حديث أبي بكر في توريث الجدة.
أما إسحاق بن قبيصة فقد كَان عامل هشام بن عبد الملك عَلى الأردن، وقد أخرج الحديث عَلى الصواب: الطبراني في "الأوسط"(830، 3900)، وابن عساكر في "تاريخه" من طريق مسدد (8/ 271).
(2)
"صحيح البُخَاريّ"(كتاب المغازي، باب: حجة الوداع) برقم (4407)، وفيه:"أناسًا".
(3)
"صحيح البُخَاريّ"(كتاب التفسير، سورة المائدة، باب: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}) برقم (4606).
قوله: (لاتخذنا. . . إِلَى آخره) أي: لعظمناه وجعلناه عيدًا لنا في كل سنة لعظم ما حصل فيه من إكمال الدين، والعيد: فعل من العود، وإنما سمي به؛ لأنه يعود في كل عام.
قوله: (نزلت فيه عَلى النبي صلى الله عليه وسلم) زاد مسلم عن عبد بن حُميد، عن جَعفر بن عَوْن في هذا الحديث ولفظه:"إني لأعلمُ اليوم الذي أنزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه عَلى النبي صلى الله عليه وسلم"(1).
فإن قيل: كيف طابق الجواب السؤال لأنه قَالَ: "لاتخذناه عيدًا". وأجاب عُمر بمعرفة الوقت والمكان، ولم يقل: جعلناه عيدًا؟
والجواب عن هذا: أن هذه الرواية اكتفى فيها بالإشارة، وإلا فرواية إسحاق بن قبيصة (2) التي قدمناها قد نصت عَلى المراد، ولفظه:"نزلت يوم جمعة يوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيد"، لفظ الطبري والطبراني:"وهُما لنا عيدان"(3).
فإن قيل: كيف دلت هذه القصة عَلى ترجمة الباب؟
أجيب: من جهة أنها بينت أن نزولها كانَ بعرفة، وَكَان ذلك في حجة الوداع التي هي آخر عهد البعثة حين تمت الشريعة وأركانها، والله أعلم.
(1)"صحيح مسلم"(كتاب التفسير) برقم (3017).
(2)
في "الفتح": "إسحاق، عن قبيصة، وقد سبق الكلام عن الخطأ الَّذِي وقع في "الفتح"، فراجعه قبل قليل.
(3)
الرواية عند الطبري كالسابقة: "وكلاهما بحمد الله لنا عيد"، "تفسير الطبري"(سورة المائدة، آية: 3)(4/ 417)، وأما الطبراني فأخرجها بلفظ:"وهما لنا عيدان"، في "المعجم الأوسط" برقم (830).