المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

- 9 - ‌ ‌المنتظرة تلك صورة من نشاط بدر العملي والفني (عام - بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره

[إحسان عباس]

الفصل: - 9 - ‌ ‌المنتظرة تلك صورة من نشاط بدر العملي والفني (عام

- 9 -

‌المنتظرة

تلك صورة من نشاط بدر العملي والفني (عام 1948) في خارج دار المعلمين، ولكن الصورة لا تكتمل إلا إذا عرضنا إلى الجانب الآخر من سيرته في تلك السنة الدراسية الأخيرة.

كان قد ارتاح فنيا إلى شيء من الشهرة حين استطاع أن يطبع ديوانه " أزهار ذابلة " بمصر، حمله إخوانه البصريون إلى مطبعة الكرنك في القاهرة، وانفق عليه من المال القليل الذي كان يرسله إليه اهله، وكتب مقدمته الأستاذ الصحفي رفائيل بطي، وفي هذه المقدمة كلمات تركت أثراً عميقا في الوجهة الشعرية التي اختارها السياب من بعد، ولعل فيها من قوة التوجيه ما يسوغ ان نقتبس قوله فيها:" تجد الشاعر الطليق يحاول جديدا في إحدى قصائده، فيأتي بالوزن المختلف وينوع في القافية محاكيا الشعر الإفرنجي فعسى أن يمعن في جرأته في هذا المسلك المجدد لعله يوفق إلى أثر في شعر اليوم، فالشكوى صارخة على أن الشعر العربي قد احتفظ بجموده في الطريقة مدة أطول مما كان ينتظر من النهضة الحديثة "(1) ؛ وكان ظهور " أزهار ذابلة " في مطلع العام الدراسي الأخير بدار المعلمين، فتلقته الصحف بشيء

(1) العبطة: 10 - 11.

ص: 109

من التقريظ، ارتاح له الشاعر، واخذ يتردد على مقهى " حسن العجمي " حيث يجلس الأستاذ الجواهري وغيره من كبار الأدباء والكتاب (1) . وفي هذه الفترة توثقت صلته بالجواهري، وظل بدر يكن له شيئا كثيرا من التقدير والاحترام، دون ان يتغير فيه رأيه كثيرا من بعد؟ وان لم يتأثر بطريقته الشعرية تأثرا عميقا؛ وكان الجواهري من أقطاب حركة أنصار السلام، التي سيكون لبدر فيها دور أيضاً، سيجيء الحديث عنه في موضعه. وزادته الشهرة في المحافل العامة راحة نفسية، ولكنها لم تلهه عن شئون العواطف، ولا أغنى ضجيج الهتاف في أذنيه عن حاجة النفس بين جوانحه. فقد افتتح العام الدراسي باللهفة إلى المنتظرة (السمراء ذات الغلالة الزرقاء) وبالإلحاح على الليالي ان تقرب موعد الهوى، فلم يعد الريف مثوى جميلا، لان الغرام فيه مفقود (2) :

أيها الريف ما ذممت المقاما

في مغانيك لو وجدت الغراما

إنما جنة الهوى حيث حوا

ء وان كانت الجحيم اضطراما وهو يخشى ان يفاجئه الموت قبل ان يحقق له الحب، وهل من عجيب ان يعيد في القصيدة صورة الحلم الذي قصه قبل عام على صديقه خالد:

لقد سئمت الربى مللت الضفانا

احسب الموج أو اعد الخرافا مثلما عد انجم الليل عراف فأنبت بموته العرافا

أيها الشاطئان أوهى جليد الموت كفي فأرخت المجدافا

وكأني بعيني غورا قائما احتسي دجاه ارتجافا

أهبط الموج سلما بارد الألوان حتى أعانق الاصدافا

(1) المصدر السابق: 11.

(2)

أساطير: 52.

ص: 110

يا لمثواي اعظما قضقضتهن الأعاصير والعباب اجترافا

حيث لا نادب سوى اللج زخارا على أضلعي يعيد الهتافا

إلا انه في هذا الحلم يموت غرقا، ويكون قبره قاع البحر حيث يعانق الأصداف، ويعب الموج فوق مثواه نادبا.

وهنالك شبح آخر يؤرقه قبل تلوح المنتظرة، وذلك هو شبح الخيانة؟ تلك السمة التي واكبت حب المرأة في العصور؛ ها هو ألفرد دي موسيه وجورج صاند في البندقية وهي تقسم له بالحفاظ على العهد، فأين ذهب قسمها؟ حذار أن تنخدع بعهد امرأة!! ولكن من هو الذي يحذره من ذلك: أنها عيون تطل عليه من الثرى، أفبعد ذلك يخفى على القارئ سر تمزق هذا الفتى؟ وهذا أيضا فتلى آخر ينقل الخطى على الرمل ليلقى ليلاه، ولكن أين ليلاه؟ ومن الكلمات التي تحمل صورة المبوة ان يقول الشاعر في تلك السن:

نقلتها على الثرى أرجل حيرى طواهن داؤهن الزمين

غير ان صورة السائر الواقف الذي تعجز رجلاه عن النقلة ستواجهنا كثيرا في هذه المرحلة.

بهذه القصيدة استقبل عامه الدراسي الاخير في دار المعلمين، وهي تصور مدى تمزقه بين اللهفة إلى الحب والفرق من الموت. وبعد أقل من شهر على تاريخ هذه القصيدة، خيل إليه انه وجد المنتظرة في صورة فتاة ذات شعر مسترسل، وهم أن يهتف: هذه هي (1) :

أهم أن اهتف لولا خطى

عابرة في الخاطر المجهد

أطياف حسناواتي استيقظت

هاتفة بالذكريات اشهدي

ما نال غير أسمائنا

تسخر من آماله الشرد

مكتوبة بالنار في شعره

كالصورة الخرساء في معبد

(1) عبير (أساطير: 48) وتاريخها 10/12/1947.

ص: 111

ثم رأى عينين زرقاوين فاشتهى أن تكون هذه الزرقة هي التي تضيء أيامه وتقهر " أشباح الشتاء " فتفر هاربة.

إن رسم صورة كاملة لهذه المنتظرة التي كانت تداعب أحلامه ليس سهلا، ولكنه حين اخذ يتأمل الواقع وجدها سمراء ذات غلالة زرقاء وعينين زرقاوين وشعر اسود مسترسل (صورة لا تخلو من غرابة وربما كانت صورتين مجموعتين معا) ولا بد أن يكون فيها شبه من الحب الاول، لأنه كلما حاول الوقوع في حب جديد، استيقظت ذكرياته فوقعت حائلا دون ذلك، وتذكر الإخفاق المتوالي فارتجفت أوصاله بقشعريرة باردة. وهذه المنتظرة لا بد أن تكون هي نهاية المطاف، لا بد أن تكون زوجة لأن الحب لا معنى له إذا لم ينته بالزواج (1) :

الهوى بيت عاشقين اطمأنا

لا سؤال أأنت قبلت فاها يشرف الحب جامعا بين زوجين يصفو الحياة أو في شقاها

ينسجان الزمان من قبلة سكرى بكن الغد المرجى صداها

ولهذا اصبح لقاء المنتظرة يعني تحقيق الحلم الأكبر وهو بيت على ربوة (وليكن كوخا) يشرف على النهر، وتحيط به من هنا وهناك أشجار النخيل الظليلة. ولم يكن استشرافه إلى هذه المنتظرة ناجما عن إخفاقه المتوالي في الحب وحسب، فلو اقتصر الأمر ذلك الإخفاق فأنه ربما أدى إلى ثورته المرأة ورغبته في التشفي والانتقام، وإنما كان العامل الأقوى الذي طوح بآماله إلى مسافة بعيدة، أعني نقلها إلى صورة مثالية، هو تجربته الواقعية في دنيا الأجساد، ذلك ان بدرا بعد عودته إلى المعلمين أثر حادثة فصله لم يعد يقنعه أن يحلم بدفء الجسد، ويتخيل لذة القبلات، بل أصبحت رجلاه جريئتين على تخطي الحاجز العذري إلى حيث يشتري اللذة بدراهم معدودات، وقد منحته

(1) أساطير: 56.

ص: 112

الحانات والمواخير شعورا بالراحة من عبء الفورات وحالات الكبت، وعززت شعوره بالاستقلال الذاتي وأضعفت من التردد والخجل اللذين كانا يقعدان به عن مواجهة أية فتاة بحقيقة ما في نفسه. ولكن هذه التجربة الجديدة كانت في كل مرة تنتهي إلى اشمئزاز لا بد منه، وثار الريفي المستكن في اهابه على هذا الانحدار في المجاري الدنيا من حياة المدينة. أيمكن أن تكون هذه هي الحياة الصحيحة للعلاقة بين المرأة والرجل؟ كلا؛ بل لا بد من حياة ينظمها الحب وتسيطر فيها الألفة لا " الأجر " المدفوع؛ وإذا كانت هذه التجربة قد أعجزت بدرا عن أن يحب امرأة معينة فأنها شحذت لديه الإحساس بحاجته إلى المحتجبة خلف أستار الغيب (1) . ولم يستطع انتماؤه وهتافه بالحرية والرجاء في المستقبل وإيمانه بأن " المنتظرة " كالصباح، لا بد من ان ينبلج؟ بل هو قد انبلج حقا - لم يستطع هذه جميعا أن تطرد صورة الموت من نفسه، ولما مات خاله بداء السل في حدود هذه الفترة تصور انه هو الذي مات بالداء نفسه، حين كتب قصيدة:" رئة تتمزق ": (2) :

الداء يثلج راحتي ويطفئ الغد في خيالي

ويشل أنفاسي ويطلقها كأنفاس الذبال

تهتز في رئتين يرقص فيهما سبح الزوال

مشدودين إلى ظلام القبر بالدم والسعال

واحسرتاه! أكذا أموت كما يجف ندى الصباح

ما كاد يلمع بين افواف الزنابق والاقاحي

(1) يفهم من كلام الأستاذ العبطة (ص:75) أن بدرا كان يرتاد دور البغاء في وقت مبكر، ولكن الحكم الذي أوردته هنا مبني على تطوره الفني، فأن كانت تجربته في شئون الجسد قد تمت قبل ذلك فأنه كان يتلمس إخفاءها بحجاب صفيق من المثالية.

(2)

أساطير: 43.

ص: 113

فتضوع أنفاس الربيع تهز افياء الدوالي

حتى تلاشى في الهواء كأنه خفق الجناح

ولكنه لا يريد أن يموت؛ كان من قبل يتمنى الموت، كان يقول له: خذني بين ذراعيك، يوم كان الهوى وهما يعذبه الحنين إلى لقائه، أما اليوم، حين برزت السمراء كنجم تألق في مسائه، فليبتعد الموت عنه لينعم بحبها:

يا موت يا رب المخاوف والدماميس الضريرة

اليوم تأتي؟ من دعاك؟ ومن أرادك أن تزوره

انا ما دعوتك ايها القاسي فتحرمني هواها

دعني اعيش على ابتسامتها، وان كانت قصيره

كان في مطلع العام (1948) قد لقي المنتظرة، وقرأت؟ أو تخيل إنها قرأت - قصيدته " أهواء " التي سرد فيها تجاربه الأولى في الحب، فكتبت إليه؟ أو تخيل إنها كتبت إليه - تقول:" وها انا ذا ألقاك بعد بحث طويل (كانت هي أيضا تبحث عن المنتظر) ولكنني واحسرتاه لقيتك بعد فوات الأوان، لقد أحببت كثيرا من النساء حتى سئمت الحب، ووزعت قلبك بينهن، وسقيت التراب بالخمرة التي كانت في كأسك ولم تدخر لي منها قليلا "(1) . فذهب يؤكد لها انه نسي الماضي كله وليس في حياته سوى الحاضر:

وكان انتظارا لهذا الهوى

جلوسي على الشاطئ المقفر

وإرسال طرفي يجوب العباب

ويرتد عن افقه الأسمر

إلى أن أهل الشراع الضحوك

وقالت لك الأمنيات انظري ولكن هذا الحب كان كالقنبلة الموقوتة بين القلبين، فهو مرهون

(1) أساطير: 18 وتاريخ القصيدة 16/2/48.

ص: 114

بزمن، وهو إذا تفجر وأهلك ما حوله. ولهذا كان كل منهما يحس ان هذا الحب يحمل في ذاته عناصر دماره؛ أما هي فلم يكد يمضي أسبوع على إعلانه فرحة اللقاء حتى طالعته بقولها: انه لا جدوى في هذا الحب ما دام خيطه القصير سينتهي بفراق وشيك، وكانت وهي تتحدث إليه بذلك يرتجف الحزن في عينيها ويضطرب اليأس في شفتيها، وقد سرت البرودة في يديها، وشحبت الظلال فوق جبينها (1) :

ثم انثنيت مهيضة الجلد

تتنهدين وتعصرين يدي

وترددين وأنت ذاهلة:

" أني أخاف عليك حزن غد "

فتكاد تنتثر النجوم أسى

في جوهن كذائب البرد

لا تتركي لا تتركي لغدى

تعكير يومي، ما يكون غدي؟

وإذا ابتسمت اليوم من فرح

فلتعبسن ملامح الأبد

وكان عمري قبل موعدنا

إلا السنين تدب في جسد وأما هو: فأنه كان يتمنى دوام هذا الحب ويخشاه في آن معا، وحين كان يستبد به حنين العودة إلى الريف، كان يهتف بالخشية التي تحبب إليه الفرار من اسار ذلك الحب (2) :

سوف أمضي.. اسمع الريح تناديني بعيدا

؟؟؟؟..

سوف امضي فهي ما زالت هناك

في انتظاري

؟؟؟..

سوف أمضي، حولي عينيك لا ترني اليا

أن سحرا فيهما يأبى على رجلي مسيرا

(1) قصيدة " لن نفترق " في أساطير: 21 وتاريخها 21/2/48.

(2)

" سوف أمضي " في أساطير: 9 وتاريخها 30/2/48.

ص: 115

أن سرا فيهما يستوقف القلب الكسيرا

؟؟؟.

أتركني، ها هو الفجر تبدى، ورفاقي

في انتظاري.

وكان التباين في الدين من أقوى العوامل التي تجعل ذلك الحب ينحدر نحو يأس، ولهذا يضطرب هذا الشريط؟ على قصره - بشتى المواجد والانفعالات، فهو إذا استسلم للواقع ادرك ان حظه مما يعانيه سراب (1) :

سنمضي ويبقى السراب

وظل الشفاه الظماء

يهوم خلف النقاب

وتمشي الظلال البطاء

على وقع اقدامك العارية

إلى ظلمة الهاوية

وننسى على قمة السلم

هوانا؟ فلا تحلمي

بأنا نعود.

وإذا أخبرته أن آخر لقاء لهما، لان أهلها يمنعونها من لقائه اشتد به الذهول حتى ليعجز عن ان يحدثها حديثا مستويا لا يداخله التعبير الممزق المتردد؛ أنها التي انتظرها طويلا وفقدها ليس شيئا يسيرا يستقبله رواقي، لأنه يعني تحطيم الحلم الكبير، حلم الشباب (2) :

حدثني، حديثه عن ذلك الكوخ وراء النخيل بين الروابي

(1) أساطير: 24 (وتاريخها 27/3/48) .

(2)

أساطير: 38 - 39.

ص: 116

حلم أيامه الطوال الكثيبات فلا تحرميه حلم الشباب

أوهميه بأنه سوف يلقاك على النهر تحت ستر الضباب

واضيئي الشموع في ذلك الكوخ وان كان كله من سراب

ورغم إدراكه بأن اللقاء محال بعد ذلك، فأنه ينادينا " اتبعيني "؛ وقد تركت له من الذكريات الساخرة قولها له:" سأهواك حتى تجف الادمع في عيني وتنهار أضلعي الواهية "، ولكن ذلك حديث الأمس، إذ أن الهوى ما كاد يبرعم حتى دب الملال إلى قلبها؟ أو كذلك خيل إليه - ولذلك فهو يسخر من قولها " أهواك " (1) ؟.:

دب الملال إلى فؤادك مثل أوراق الخريف

أهواك! ماذا تهمسين؟ أتلك حشرجة الحفيف

في دوحة صفراء يقلق ظلها روح الشتاء!!

لا تنظري! في مقلتيك سحابتان من الجليد؟

ثم هو يسخر مرة أخرى من هذا الذي قالته، في قصيدته " نهاية " (2) :

اضيئي لغيري فكل الدروب سواء على المقلة الشباردة

سأمضي إلى مجهل؟؟..

ثم يأخذ في تقطيع جملتها بنغمة تقطر بالألم والسخرية معا:

سأهواك حتى؟.. نداء بعيد

تلاشت على قهقهات الزمان

بقايا، في ظلمة، في مكان،

وظل الصدى في خيالي يعيد

سأهواك حتى سأهوا؟ نواح

(1) أساطير: 58 (تاريخ 3/5/48) .

(2)

أساطير: 59 (تاريخ 26/5/48) .

ص: 117

كما أعولت في الظلام الرياح

سأهواك حتى؟. س؟ يا للصدى

أصيخي إلى الساعة النائية

سأهواك حتى؟ بقايا رنين

تحدين حتى الغدا؟!

سأهواك؟ ما اكذب العاشقين

سأهوا؟. نعم تصدقين!!!

وفي هذه القصيدة يتدحرج من قمة السلم الذي ارتقى درجاته نحو الأمل والحب إلى الهوة المريحة؟ إلى الموت. لقد ابتلع النهر الفتى (النهر هذه المرة لا البحر) وأخذ أبوه يجري هنا وهناك يسأل عنه المياه، ويصرخ في وجه النهر داعيا فتاه؟ وفي يده مصباح يرتعش ورعشاته ترسم هاتين الكلمتين:" محال يراه "، وفي أثناء هذا البحث الملتاع أطلت من الماء صورتها تقول للوالد المفجوع؟ " لا لن تراه "؛ هكذا يضطرب هذا الشريط اضطرابا شبيها بذبذبة المصباح المرتعش، وكأن الشاعر ما وجد المنتظرة إلا ليفقدها، فلو حاسبناه بحسب تسلسل قصائده لوجدنا ان حلاوة الوجدان لم تدم إلا أياما، ثم كانت آلام الفقد هي التي ترسم حروف هذا الشعر باللهيب والأنفاس المحترقة، ثم خلق الفقد معنى الملال بل معنى التغير والتلفت والخيانة والانطلاق إلى حبيب آخر.

وحين حمل الورقة التي جاهد في سبيل الحصول عليها خمس سنوات عائدا إلى قريته، كان يحمل معها أشلاء نفس هاوية، لا غذاء لها إلا الحسرة على ما كان؛ ليس الريف هو ذلك الريف الذي احبه، إنما هو خواء مقفر وخريف اصفر، يستيقظ الموتى فيه ليلا يتساءلون متى النشور؟ والردى يصيح في ضلوعه ليسمع التراب الذي كان " أمه "

ص: 118

ذات يوم، ويقول لها (1) :

غدا

سوف يأتي فلا تقلقي بالنحيب

عالم الموت حيث السكون الرهيب.

وإذا سمع أغنية في المقهى ثار به المجد وتساءل:

لم يسقط ظل القدر

بين القلبين؟ لم انتزع الزمن القاسي

من بين يدي وأنفاسي

يمناك؟ وكيف تركتك تبتعدين، كما

تترشى الغنوة في سمعي، نغما نغما!

وبهذه النفس الممزقة غادر الريف الجنوبي حين عين مدرسا في مدرسة الرمادي الثانوية، وتلك قصة أخرى، لم يحن حينها بعد.

تلك هي قصة هذا الحب كما يرويها الشعر، أما حظها من الواقعية فأمر محفوف بعلامات استفهام، ولكن مهما يكن حظها من الخيال، فأنها كانت؟ بعد الهوى الأول - أعمق العلاقات أثرا في نفس بدر، في حالتي الرجاء واليأس على التوالي، ولهذا خلدها في ديوان كامل هو ديوان " أساطير " وكانت آخر علاقة عاطفية قوية في حياته قبل الزواج.

وحين استيقظت ذكريات بدر بعد أعوام؟ وهو في الصحوة التي تسبق الموت - كانت " الشاعرة " هي الأخيرة؟ قبل الزوجة - في سلسلة اللواتي احبهن (2) :

وتلك؟ وتلك شاعرتي التي كانت لي الدنيا وما فيها

(1) أساطير: 68.

(2)

شناشيل: 61 - 62.

ص: 119

شربت الشعر من احداقها ونعست في افياء

تنشرها قصائدها علي، فكل ماضيها

وكل شبابها كان انتظارا لي علي شط يهوم فوقه القمر

وتنعس في حماه الطير رش نعاسها المطر

فنبهها فطارت تملأ الآفاق بالأصداء ناعسة

تؤج النور مرتعشا قوادمها، وتخفق في خوافيها

ظلال الليل. أين أصيلنا الصيفي في جيكور

وسار بنا يوسوس زورق في مائه البلور

وأقرأ وهي تصغي والربى والنخل والأعناب تحلم في دواليها

تفرقت الدروب بنا تسير لغير ما رجعه

وغيبها ظلام السجن تؤنس ليلها شمعه

فتذكرني وتبكي، غير أني لست ابكيها

كفرت بأمة الصحراء؟..

ويذكرها في قصيدة أخرى؟ وهو مريض بلندن - فيقول (1) :

ذكرت الطلعة السمراء

ذكرت يديك ترتجفان من فوق ومن برد

تنز به صحارى للفراق تسوطها الأنواء

ذكرت شحوب وجهك حين زمر بوق سيارة

ليؤذن بالوداع؛ ذكرت لذع الدمع في خدي

ورعشة خافقي وانين روحي يملأ الحارة

بأصداء المقابر، والدجى ثلج وأمطار.

وهنا وهناك تتأثر في هذه القصائد الأولى والأخيرة حقائق واقعية كبعض الصفات الحسية من طلعة سمراء وشعر اسود مسترسل، وزيارة

(1) منزل الاقنان: 71.

ص: 120

قامت بها " الشاعرة " إلى قرية السياب وركبت وإياه في زورق، ولهذا كانت صورة الشراع في ديوان " أساطير " هي احب الصور إلى نفسه. ولا ريب في أن بدرا صادق حين يقول:" واقرأ وهي تصغي "، صادق فيما يذكره عن حديث السجن، ومن قبل ذلك كان يحدد عنصرا واقعيا هاما حين قال في ديوان " أساطير ":" وقف اختلافهما في الدين حائلا بينهما وبين السعادة "؛ على انه بالغ حد السذاجة؟ وهو يحاول ان يؤكد واقعية ذلك الحب - في مقدمة الديوان: " وهناك شيء من الغموض في بعض القصائد ولكنني لست شاعرا رمزيا، وقد كنت مدفوعا إلى أن أغشي بعض قصائدي بضباب خفيف وذلك لانني كنت متكتما لا أريد ان يعرف الناس كل شيء عن حبي الذي كانت كل قصائد هذا الديوان صدى له، فقد كانت " موحية " هذا الديوان تغضب اشد الغضب إذا ذكرت شيئا عن قبلاتنا ومواعييدها، وكثيرا ما مزقت بعض القصائد التي كانت تشير إلى شيء تأبى هي ان يعرفه الناس، وقصيدة " أساطير " تكشف عن " العقدة " في هذا الحب ولكنها توحشت ببعض الغموض الذي تزيله المقدمة النثرية لهذه القصيدة (1) ، وكذلك الحال في قصيدة " اللقاء الأخير " ولولا أنها خانت هذا الذي كانت تسميه " النبي الوديع " لظلت هاتان القصيدتان غامضتين دون مقدمة يفهم منها القارئ ما اقصد "(2) .

وان من السذاجة التي تشبه سذاجة بدر أن نتسائل عن مدى صدق تلك العلاقة، فالقلوب كوى مغلقة مظلمة حافلة بالأسرار مفعمة بالعجائب، ولكن بعض الناس يعتقدون ان الهوى يعمي ويصم، وانهم من موقف الخلي يستطيعون ان يروا ما لا يراه الشجي، (وويل للثاني من الأول) إذ لا تنسدل فوق أبصارهم غشاوة من شهوة أو هوى؛

(1) يعني إشارته إلى الاختلاف في الدين.

(2)

أساطير: 7.

ص: 121

ولهذا زجر خالد صديقه؟ كما المحنا من قبل - لعله يرعوي عن الاسترسال في هواه ذات مرة لأنه فيه مخايل كاذبة؛ وقال مصطفى وهو يتشبث جاهدا بأهداب الموضوعية ليكون عادلا في حكمه عند الحديث عن حب بدر للشاعرة: " عاش أخي في قرية تنظر إلى المرأة نظرة محافظة، ولما هبط بغداد، لعله؟ أقول لعله - ظن الابتسامة تعني حبا؟. انني لا ادعي العلم بالمغيبات وأسرار الصدور، ولكن شواهد الحال كانت تقنعني انها تجامله أو أن شئت فقل: تعطف عليه ".

وقبل ان ينسدل الستار على هذه القصة كانت تجربة لقاء المنتظرة؟ ثم فقدها في سرعة - سبب خروج المرأة الواقعية من عالم بدر؛ لا اعني انه لم يعرف المرأة من بعد؟ عن طريق الحب قصيرا كان مداه أم طويلا - بل انه اصبح كلما خفق قلبه لطلعه جديدة هرب من بوادر الحب إلى فكرته الجميلة عن منتظرة تملأ الكوخ عند الروابي سعادة وهناءة، وأحيانا كان يتوهم ان هذه هي المنشودة ثم لا يلبث أن يدرك أنها ليست هي التي ينشدها. وقد لخص بدر هذا الصراع الطويل بينه وبين أحلامه بصراحة تامة فقال:" وكان عمري انتظارا للمرأة المنشودة وكان حلمي في الحياة أن يكون لي بيت أجد فيه الراحة والطمأنينة، وكنت اشعر أنني لن أعيش طويلا؟.. "(1) . ولكن الذي لم يقله بدر هنا هو ان هذا البحث عن المنشودة كان يحمل في ذاته عوامل الهرب منها ولهذا كان يسرع إلى تكذيب رائد قلبه أو يتعلل بتهمة التقلب والخيانة، وهو مشدود إلى وجه " الام " الذي يطل عليه متوعدا من تحت الثرى.

(1) أساطير: 8.

ص: 122