الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- 26 -
تموز - المسيح
لعل القارئ ما يزال يذكر كيف أن السياب اكتشف العراق في قصيدته " أنشودة المطر "، ووجد التطابق الكامل بين ذاته ووطنه، ولكنه ما كاد يتلمس روعة هذا الكشف حتى نقلته صلته بمجلة الآداب إلى استكشاف التطابق بين ذاته وبين البلاد العربية في المشرق والمغرب، فأخذ يحس فنيا بحقيقة الثورة الجزائرية وانتقاض المغرب، وبأبعاد المشكلة الفلسطينية والصمود في بور سعيد، وهو إلى جانب ذلك كله مثال الفنان الذي يؤمن بان طاقته قادرة على أن تذلل كل عقبة في الموضوع الفني؟ مهما تتباعد أقطاره - وأنها كفاء بألوان جديدة من البناء، تجمع بين الإرادة الواعية للتخطيط وبين الإلهام الزاخر بالحيوية.
وربما سارع المرء إلى الظن بأن " أنشودة المطر " نفسها كانت فاتحة عهد جديد من الاتكاء على رمز تموز أو أدونيس، إذ القصيدة لا تعدو أن تكون في سياقها ترجمة لتلك الأسطورة دون تصريح برمز الخصب، ولكن الأمر لم يكن كذلك على وجه الدقة، لان اكثر الموضوعات التي عالجها في " فترة الآداب " لم تكن ترحب صدرا بالأسطورة؛ فالقصائد العربية لا تخضع لرمز تموز والقصائد الإنسانية كقصيدة " مرثية الآلهة " اضطرت السياب أن يسخر من الرموز؟ فكريا - بدلا من أن يتقبلها في
نطاق شعوري. وكانت القصيدة الوحيدة التي نقبلت ذلك الرمز هي " أغنية في شهر آب "، وقد استوعبت من الأسطورة طرفا بسيطا منها لعله أقل أطرافها أهمية أعني شيوع الإحساس بالبرد الشهواني بعد مقتل تموز. ولست اعتقد أن إحجامه عن استعمال هذا الرمز حينئذ يرجع وحسب إلى التباعد بين موضوعاته وبين تلك الأسطورة أو يرجع إلى عدم تمثله الصحيح لها، بل أرى أن هناك عاملين هامين كانا يحاولان إبعاده عن تلك الأسطورة نفسها: أولهما تهيبه من استعمال الرمز على نحو يتجاوز الإشارات العابرة، في مرحلة إحساسه بالقومية العربية، إذ كان يرى أن الإسلام؟ وهو في رأيه مرتبط ارتباطا وثيقا بالقومية العربية - قد قضى على تلك الرموز الوثنية، فالعودة إليها تتطلب مسوغا قويا مقنعا، ولهذا نجده حتى سنة 1958؟ أي بعد أن وجد الأسطورة ضرورة لا غنى عنها - يحاول أن يحشد الأسباب التي تسوغ له الاتكاء عليها: ومن تلك الأسباب أن العرب عرفوا الرموز البابلية بين عهد إبراهيم والبعثة النبوية " فالعزى هي عشتار، واللات هي اللاتو، ومناة هي منات، وود هو تموز أو أدون (السيد) "(1) ، وإذ كان الإسلام قد جاء ليقتلع اللات والعزى وودا فمن الخير ألا نستعمل اليوم هذههههههه الإسلام فرارا من تهمة التحدي ونستعمل بدلها الأسماء البابلية؛ وقد يقال ان هذه عودة إلى الإقليمية فالذين يريدون انفكاك العراق من الرابطة العربية يحاولون أن يربطوه بالتاريخ البابلي، والذين يريدون للبنان التفلت مما يربطه بالتاريخ العربي ينتشبون بالدعوة الفينيقية؛ ويقول بدر: " لا أنكر أن هناك من يستعمل هذه الرموز لمجرد إنها بابلية أو فينيقية؟ بصورة خاصة - (ولكن) ليس بين العراقيين من يشعر بأن البابليين أقرب إليه من العرب بل ليس هناك من يشعر بأن هناك
(1) من رسالة إلى الدكتور إدريس بتاريخ 7 - 5 - 1958.
رابطة، غير رابطة المكان، بينه وبين البابليين " (1) ؛ ويوسع بدر من حدود الحرية في استعمال الأسطورة؟ متكئا على المنطق الشعري وحده لا على المنطق العقلي - فيقرر أنه ليس من الضروري أن تقتصر على استعمال أساطير تربطنا بها رابطة من البيئة أو التاريخ أو الدين، بل يمكن الاستعانة بأية أسطورة غربية عنا، ما دامت تخدم غاية شعرية.
أما العامل الثاني في إحجامه أول الأمر عن أسطورة تموز فربما أرجعناه إلى ظهور رمز آخر في نفسه ينازع الأسطورة مكانتها ويحاول أن يحل محلها، وأعني بذلك رمز المسيح وما يتصل بذلك الرمز من إشارات. فقد كان هذا الرمز إشارة عابرة في قصيدة " غريب على الخليج " ثم تقو في " مرثية جيكور " ووجد على نحو واضح في " قافلة الضياع " ومنذ ذلك الحين أصبح رمزا هاما في خيال الشاعر إلى جانب تموز.
ولست أجد حرجا في الإجابة عن سؤال يخطر للقارئ في هذا الموقف، وهو: كيف يستطيع شاعر مسلم أن يتخذ من " الفداء "؟ وهو أحد المعالم البارزة التي تفصل فصلا تاما بين الإسلام والمسيحية؟ رمزا في شعره؟ والجواب على هذا السؤال لا ينفك عن أحد الفروض الآتية: أما أن ذلك الشاعر لم يفهم فكرة " الفداء " في المسيحية، وأما انه فهمها وهو لا يعبأ بالموقف الديني الذي نشأ عليه منها، وأما أنه؟ في سياق الشعر - يعد " الفداء " أسطورة من الأساطير، فهو لا يراها حقيقة تاريخية، وفي هذا الموقف الأخير يضيع الحد بين الظاهر والحقيقة، أمام عيني قرائه، لان الحقيقة حينئذ ذاتية تتصل بضميره الفردي.
أما بالنسبة للسياب فقد كانت هناك حوافز معينة دفعته إلى التعلق بذلك الرمز: وفي مقدمة تلك الحوافز ذلك الضياع الذي أحس به في
(1) المصدر نفسه.
حومة الشعور الديني. فبعد انفصاله عن الحزب الشيوعي كان يحس بحاجة إلى تبني مشاعر جديدة تعوض اهتزاز المقاييس المادية في نفسه، فتعلق بالصفحة الإسلامية من القومية العربية، ولكن ماديته القديمة كانت تجعله جريئا في التعبير عن بعض " المقدسات " بحيث توحي عباراته بشيء من الاستخفاف، ويبدو انه لم يجد راحته فيما لا يزال يوحي بوطأة التفكير المادي، فأحس بالحاجة إلى الإمعان في الهرب، ووقع في تلك الأثناء بشدة تحت تأثير اديث سيتول وتكريرها الممل للصور المسيحية، ولكنه بدلا من أن يشعر بالملل من ذلك التكرار شعر بيسر الاستعارة لتلك الصور وبسهولة جريانها على سن قلمه، فاحتذاها دون تفكير عميق فيما قد تعنيه من الزاوية الدينية. ثم تم في سياق تلك الحال النفسية اتصاله بمجلة " شعر " البيروتيه، وقد كان بدر يحس عندما اقترب من تلك المجلة انه يدخل حومة " شعائر " جديد؟ ان صح التعبير - وأن عملية " الارتسام " هذه تتطلب قسطا من المشاركة في اللون والسمة والفكرة، وقد عرفنا فيه من قبل نماذج من هذا التكيف الذي يشير إلى ان " النواة " في شخصيته كانت مفقودة، وسمينا هذه النزعة ميلة إلى المراضاة، والميل إلى المراضاة حين يصيب الأعماق لا يعدو وحسب " حربائية " بغيضة، بل يتجاوز التلون الظاهري إلى أمور في صميم الفكر والعقيدة، وحينئذ يمس فيما يمسه حقيقة إيمانه الفني، وذلك هو ما يهمنا في هذا المقام، دون سواه. وحين تم ارتسام السياب في أسرة " شعر "، كانت لديه بوادر الإحساس بأسطورة تموز، وهذه سهلت عليه الانتقال إلى رمز المسيح، إذ كان ذلك نقلة من فكرة فداء إلى فكرة فداء، فتموز أيضاً يموت لينعش الأرض ببعث جديد، ولكن الفرق بين الفكرتين: ان انبعاث تموز يتجدد مع حركة الفصول فهو أقدر على تصوير التفاؤل القريب حين يكون الحديث متصلا بظلامات الشعوب وضرورة يقظتها، وليس كذلك رمز المسيح. ثم أن
رمز تموز لا يتصل بخطيئة اصلية، وإنما يمثل قوة خصب مستوحاة من التصور البدائي، وليس له أية علاقة بإطار أخلاقي.
ومن الدليل على هذا التكيف الطوعي للالتقاء مع مجلة شعر تلك المحاضرة التي ألقاها في أمسية دعته المجلة إليها ببيروت حيث طغى النغم الديني على تلك الكلمة، ولم يكن ذلك النغم الديني عاما حين أخذ السياب يتحدث عن تصوره للشاعر من خلال رؤيا القديس يوحنا، وغير بعيد عن هذا الجو نفسه أن تكون القصيدة الثانية التي نشرها في مجلة شعر بعنوان " المسيح بعد الصلب "(1) .
وإذا نظرنا في قصائد هذه الفترة (1957 - 1960) وحدناها فئتين تشيع في كل منهما سمات غالبة، فئة نظمها قبل أحداث العراق الدامية بعيد ثورة تموز، وفئة نظمها بعد تلك الأحداث (وعلى الأخص سنة 1960) ، وبين المرحلتين تقف قصيدة واحدة من نتاج عام (1959) تعد جسرا بينهما وهي " إلى جميلة بوحيرد ".
وقصائد الفئة الأولى خمس، وهي حسب الترتيب الزمني:
1 -
النهر والموت، 2 - المسيح بعد الصلب، 3 - جيكور والمدينة، 4 - قارئ الدم، 5 - مدينة بلا مطر.
وتتميز هذه الفترة من زاوية الشاعر نفسه بالإحساس الذاتي بالعقم، إذ لم يكن من طبيعته أن يقتصر طوال سنتين على خمس قصائد، وقد بلغ هذا العقم ذروته سنة 1959 حيث لم ينظم إلا قصيدة واحدة، ولهذه الظاهرة أسباب متعددة، منها انتشاله بطلب الرزق وانتهاكه في العمل الصحفي إلى جانب وظيفته، ومنها ضياع اثر الصدمة التي يحدثها الزواج أول وهلة حين يفتح عيني الشاعر على ألم عميق للتباين بين
(1) أنشودة المطر: 145 ومجلة شعر (العدد: 3) ص: 21.
طرفي الحلم والواقع، ثم يأخذ بالركون تدريجيا إلى حكم الواقع نفسه، حتى تتاح له ثورة جديدة تمثل السأم من ذلك الركون وأرضى. وقد عبر بدر عن هذا العقم بعد مضي سنة كاملة من محاولة العودة إلى خصب العطاء الشعري السابق فقال:" مر عام بأكمله لم اكتب فيه سوى قصيدتين، أنه العقم يتسرب إلى نفسين فإذا كتبت فعن هذا العقم اكتب؟. أنها لمعجزة حقا أنني أستطيع الكتابة، وأعني كتابة الشعر حقا، فأي عطاء تستطيع ان تقدمه النفس التي أيبسها الجفاف؟ "(1) . ولا ريب في أن العراق نفسه قبل الثورة كان يعاني شعورا عاما بالجفاف واليأس من تغير الأحوال، وهذا كله أثر في نفس بدر، وجعل تفاؤله باليقظة سرابا أو وهما، - ولكن ذلك لم يطمس على شعوره بحتمية التغير طمسا تاما، وإنما ظل رغم حلكة اليأس يحاول أن يفترض وجود نور. وتمثل القصيدتان " قارئ الدم " و " مدينة بلا مطر " هذا الشعور بضرورة الخروج من ذلك الجفاف الفردي والقومي ولا تعدو القصيدة الأولى منهما أن تكون تهديدا للطاغي المتجبر بأنه سيساق إلى الحساب ولا بد، وأن أي بصير يستطيع أن يقرأ مصيره في الدم الذي يسفكه كل يوم. وقد لخص بدر في القصيدة تجربة السجن والتعذيب في سجون العراق، وتجربة الفقر المرير والجوع بين الطبقات الفقيرة الجائعة وشقاء العاملين في الحقول والمستنقعات الآوين إلى الأكواخ التي تتشرب كل أمطار الشتاء، ولذلك كانت القصيدة أشبه بصرخة في وجه الظلم العام الطاغي - محض صرخة ليس فيها تكامل فني. وأما الثانية فأنها صورة من الجفاف العام بسبب غياب " تموز "، ويوشك الصحو أن يتم ولكن لا تلبث بسمات الناس ان تختفي فقد أدركوا أن تموز لم يصح بعد: فبابل يصفو الريح في أبراجها، وغرفات عشتار خاوية بلا نار، والناس يصحون شاكين الجوع:
(1) من رسالة إلى الدكتور إدريس بتاريخ 7/ 5 / 1958.
فيا أربابنا المتطلعين بغير ما رحمه
…
عيونكم الحجار نحسها تنداح في العتمة
…
لترجمنا بلا نقمة
…
والعذارى حزانى حول عشتار والكرمة آخذة في الذبول، وعينا الموت تلمعان كعيني الأسد في الظلام، والمطر محتبس، والناس قد أكلوا " حدائق تموز " (1) . ويسير صغار بابل يحملون سلالا فيها حجارةب دل الأثمار ليقدموها قرابين لعشتار ويأخذون في الإنشاد:
جياع نحن مرتجفون في الظلمه
…
ونبحث عن يد في الليل تطعمنا، تغطينا
…
؟.
ونبحث عنك في الظلماء عن ثديين عن حلمه
…
فيا من صدرها الأفق الكبير وثديها الغيمة
…
سمعت نشيجنا ورأيت كيف نموت؟ فاستقينا؟.
…
وعلى دعاء الصغار أبرقت السماء وأرعدت، وتلبد السحاب؛ وأخذت الأقدام تخفق والضحكات الصغيرة تكرر، وهمست النسمات بالقطر، فانفرجت أسارير الصغار:
لنعلم أن بابل سوف تغسل من خطاياها
…
فإذا تأملنا القصيدة وجدنا تلك الصورة التي برع السياب في رسمها في قصائده الكهفيات وهي تعتمد على مقدمة تصور الموت أو الجفاف أو ما أشبه، ثم كيف تنتهي هذه الحال في ختام القصيدة إلى
(1) هي سلال أو أصص كانت تملأ بالتراب وتزرع فيها بذور القمح والشعير والخس وألوان من الزهر وتعنى النساء بها دون غيرهن (أدونيس: 157) .
يقظة. فهنا تفتتح القصيدة بحال من تعسر الأمطار يشبه تعسر الولادة، فالمدينة " تحم دروبها والدور، ثم تزول حماها " ويصبغها الغروب بالسحب، ويوشك البرق أن يلتمع ولكن لا، فان طبول بابل لم تدق مؤذنة بالمطر، وبدلا من ذلك تصفر الريح ويئن المرضى. وبين الفاتحة والخاتمة موكبان: موكب الكبار الذين يصفون الحال متوجعين إلى " الأرباب "، بعد أن عانوا القحط أعواما متوالية " وكان نخيلنا الجرداء أنصاب أقمناها لنذبل تحتها ونموت " وموكب الصغار الذين تستجيب السماء لدعائهم فترعد وتمطر، وتشيع البسمات على أثر ذلك العطاء. ويستعير الشاعر اكثر الصور الوثنية التي تهيئها قصة تموز وعشتار، ويحسن؟ ببراعة فذة - استغلال تلك الصور في سياق متدرج، دون أن يخرج من ذلك الجو الوثني، ودون أن يخنل الرمز بين الظهور والاستكنان إلا مرة واحدة حين يخاطب العباد الأرباب بأن عيونهم " حجار تنداح في العتمة "، فمثل هذا القول لا يوجهه الضارعون إلى أربابهم، ولكن طغت الفكرة السياسية على الشاعر فانتقل الرمز عفوا إلى السطح ولم يعد كامنا وراء الصورة الخارجية. ولكن أين وجه التطابق بين القصيدة وحال العراق حينئذ؟ لا ريب في أن الجفاف العام يرمز إلى ما كان يعانيه العراق من قيود على كل ضروب الحرية، وأن انسكاب المطر يذل على انزياح ذلك الجفاف وانقشاعه، ولكن ما قيمة تلك الصور الوثنية المتلاحقة في موكبي الرجال والصغار؟ وهل يكون تغيير الجفاف بأدعية تلك الحلوق الجهيرة أو تلك الثغور الصغيرة؟ أو يكون بالثورة؟ هنا تصبح الصور الوثنية متممة للصور العامة بين التعسر والولادة، ولكنها لا تؤخذ حرفيا، ذلك أن العلاقة بين العباد والأرباب ليست علاقة ثورة وإنما هي علاقة ضراعة، ولهذا كاد الشاعر يطرح الرمز جانبا في بعض مراحل القصيدة ليكيل الاتهامات للأرباب؛ ومرة أخرى أقول ان الذي يهم الشاعر هو صورة الانبعاث أو نزول
المطر أما ما يؤدي إلى ذلك فيجيب ان ينسجم مع سياق الأسطورة وان لم يكن منسجما مع الوسائل العلمية لإنجاز الانبعاث. وعن مثل هذه القصيدة كان السياب يتحدث حين يتذكر الالتزام، حيث اضطر بعض الشعراء تحت ضغط الإرهاب الفكري وانعدام الحرية " إلى اللجوء إلى الرمز يعبرون بواسطته عن تذمرهم من أوضاع بلادهم السياسية والاجتماعية على السواء وعن أملهم في انبعاث جديد ينتشلها من موتها "(1) . والحقيقة أنني لم استعمل كلمة " الوثنية " والحقيقة أنني لم استعمل كلمة " الوثنية " أثناء عرض هذه القصيدة لأنفر القارئ المتدين منها، وخير من ذلك أن يقال أننا إذا حذفنا بعض الأسماء والمصطلحات التي تتصل بقصة تموز وعشتار وجدنا القصيدة صورة جميلة للبيئة الزراعية البدائية، وكناية عميقة عن الرابطة بين الإنسان والأرض أو بين الإنسان والحياة، وأننا لذلك نحس أنها تتدرج في نموها كما تتدرج الشجرة التي لم تتفلق الأرض بعد عن بذرتها حتى تغدو نبتة قوية تستطيع التماسك في وجه الرياح. ولا تزال مواكب الاستسقاء كلما احتبس المطر تتوجه بالضراعة إلى مرسل الغيث: فالحاجة الإنسانية لم تتغير وإنما الذي تغير هو الحقيقة التي يتوجه إليها الإنسان.
وقد جاءت هاتان القصيدتان بعد إحساس الشاعر بضرورة العودة إلى جيكور والى حرم الذات، فكانتا دليلا على أنه كان ما يزال يحس بأن له رسالة كبرى تتجاوز حدود الحديث عن أحلام النفس وآلامها الخاصة، وان مسئوليته إزاء بني وطنه ما تزال توجه فهمه لمهمة الشعر والشاعر؛ ويتجلى جانب من هذا الإحساس في القصائد الثلاث الأخرى، ففي قصيدة " النهر والموت " نجد الشاعر حائرا بين نوعين من الموت " الموت الذي يفتن الصغار " وبابه الخفي في نهر بويب، أي حيث ترقد
(1) الأدب العربي المعاصر: 250 وأضواء: 123.
الأم، فهو موت يحقق العودة إلى الطفولة، والموت الثاني هو " موت المواجهة في صفوف المكافحين " برصاصة تنقد المرء من حاضره، وهو موت في نطاق الجماعة فيه الجرأة والمشاركة معا وهو ليس موتا وإنما هو " انتصار " وتتركب القصيدة؟ بحسب هذين النوعين من الموت - تركبا ازدواجيا. فأجراس بويب والجرار التي تملأ من مائه تقابلها أجراس موتى ترن في عروق المناضل، وبويب حزين كالمطر، والعالم الحزين في الشق المقابل ينضج الدماء والدموع كالمطر، والطفل يعدو على شاطئ بويب حاملا الشوق كأنه يحمل قرابين من قمح وزهور، ثم هو في الوجه الثاني يعدو مع المكافحين؛ أن حرص الشاعر على المزاوجة المنطقة يبلغ غاية الإتقان التفنني، ولكنه حين يطيل القسم المتعلق بالموت في بويب يومئ دون ان يشعر إلى أن نفسه معلقة بالباب الخفي في ذلك النهر:
أود لو غرقت فيك، ألقط المحار
…
أشيد منه دار
…
يضيء فيها خضرة المياه والشجر
…
ما تنضج النجوم والقمر
…
وأغتدي فيك مع الجزر إلى البحر.
…
فهناك مثل هذه الصورة صور أخرى تشير إلى التلذذ بذكريات الطفولة وخاصة " التقاط المحار " من شاطئ النهر. وقد تحدثت في فصل سابق عن اثر لوركا في بعض صور هذه القصيدة (1) وربما صح أن أضيف هنا أن العلاقة بين الأجراس ومياه النهر، وهي التي تتمثل في هدير الماء أو في بقبقة الجرار لا تعتمد على لوركا وحده وإنما ترتبط بما
(1) يحسن بالقارئ أن يتذكر أن اثر كل من لوركا وسيتول ينبسط أيضاً على قصائد هذه الفترة، وان عرضت لذلك الأثر مجتمعا في ما تقدم في الفصل:21.
كان السياب قد قراه في قصيدة لماثيو آرنولد بعنوان " إنسان البحر المهجور " ففيها يصور الشاعر كيف ان المرأة الإنسية التي تزوجها إنسان البحر سمعت وهي في الأعماق أصداء الأجراس الفضية تدندن من برج الكنيسة القائمة على الساحل؟ (1) .
ان حنين الشاعر إلى الموت الفتان من خلال بويب كان يعني حنينه إلى جيكور، لآن الاسمين يتلازمان في ذهنه، وقد صده عن هذه العودة هنا شعوره بالمسئولية التي تهيب به أن يكون في صف المناضلين ولذلك نجده منقسم نفس بين الطفولة والموت الصامد البطولي، وهذه اشارة هامة تدل على أن إحساس السياب بالمفاضلة بين العودة إلى الطفولة والتضحية في سبيل المجتمع يبدأ من هذه النقطة؛ ومرة أخرى استبد به الحنين إلى جيكور، لأنه كان يحس إحساساً لا يقاوم بقوة جواذب هذه العودة، وفي قصيدة " جيكور والمدينة " يتمثل هذا الشعور على أشده. ألا ان جيكور قام من دونها " سور وبوابة واحتوتها سكينة "، والسبب في ذلك ان ابن جيكور قد اختطفته المدينة وأسرته، فأصبحت دروبها تلتف حوله كأنها حبال من نار تجلد كل ذكريات في نفسه عن جيكور وتحرق جيكور المستقرة في أعماق روحه، وتلك الدروب كالموت لم يعد منها أحد تاه في شعابها؛ ويصب الشاعر نقمته على المدينة: فهي بقعة غاب الله عنها، والليل؟ فردوسها الرحب - مبادءة للعهر، والإنسانية قد تحولت إلى وحوش ذات مخالب، ورب المدينة
(1) انظر قطعة بعنوان " عبد الماء في شط العرب "، مجلة الأسبوع من صحيفة الشعب، السبت 12 تموز 1958؛ وقد أصبحت صورة " الأجراس " ملازمة للسياب فهو لا يستعملها في تصوير بويب أو الموت وحسب وإنما يستعملها في تصوير إحساسه بتكور القصيدة " أحس بأجراس خافتة، أجراس مطر وزهر، تقرع في نفسي مبشرة بميلاد قصيدة "(من رسالة له بتاريخ 24/10/63 نشرت في ملف مجلة الإذاعة: 4) .
رحى صفراء تتبادلها اكف التجار وتلمع لمعان السمك في جيكور ويسميها أهل المدينة " النضار "، ولهذا الإله لهات امتد في كل دار وسجن ومقهى كأنه كرمة عساليجها من عروق تموز، وقد اطلعت هذه الكرمة ثمراتها في كل مستشفيات المجانين وفي كل مبغى لعشتار، وكانت هذه الثمرات " مصابيح لم يسرج الزيت فيها وتمسسه نار " وقد كتب عليها قول يشبه ما قاله المسيح:" هذا دمي وهذا لحمي ".
أما تموز نفسه فان لات تنوح عليه، تريده أن يرجع إلى جيكور:
وترسل النواح: " يا سنابل القمر
…
دم ابني الزجاج في عروقه انفجر
…
فكهرباء دارنا أصابت الحجر
…
وصكه الجدار، خضه، رماه لمحة البصر
…
أراد أن ينير، أن يبدد الظلام.. فاندحر "
…
فهذا تموز " المعاصر " يريد ان يبدد ما يكتنف المدينة من ظلمات بنور عقله وقلبه وشعلة إلهامه، فيموت موتا عصريا بقوة من قوى المدينة نفسها إذ تصعقه " كهرباؤها " ولهذا يحس الشاعر انه أسير وأن العودة مستحيلة " فمن حيث دار اشرأبت إليه المدينة ".
ونلحظ في هذه القصيدة اجتماع رمزي تموز والمسيح، وانتقال الشاعر من نغم إلى آخر حين أراد أن يصور نواح اللات، وهذا أمر قد ألفه الشاعر في قصائده، ويجب ألا يحكم عليه بقانون عام بل يدرس في كل قصيدة على حدة، وقد جاء في هذه القصيدة طبيعيا لأنه يمثل النقلة بين موقف الشاعر الوصفي من المدينة وموقف اللات وهي تبتهل لعلها تسترد أي جزء من ابنها الذي قتلته المدينة.
وتتدرج القصيدة من تصوير دروب المدينة وهي تيه متعشب متطاول إلى تصوير ليلها فتزداد فكرة الضياع بحلكة الصورة ماديا
(ومعنويا لفقدان الحب والروح والألوهية في ذلك الليل) ، ثم إلى تصوير اله المدينة وهو رحى من لظى لا تضيء وإنما تقتل، وشرايين تطلع مصابيح ليس فيها عنصر من النور الالاهي " لم يسرج الزيت فيها وتمسسه نار "، وفي هذا التيه الكبير يقتل ابن جيكور فتبكيه أمه، وبذلك يحال بينه وبين جيكور التي قام من دونها سور وبوابة مغبقة. وهذه هي القصيدة الثالثة من قصائد هذه الفترة حيث نجد السياب لا يعييه المبنى الفني الدقيق، فالتقابل بين ضربين من الموت رسم بدقة حتى في الصور التفصيلية في قصيدة " النهر والموت " والتدرج بين الاختناق بالجفاف والانبعاث بالمطر في قصيدة " مدينة بلا مطر " يكاد لا يشكو أي خلل، وكذلك كان الحال في قصيدة " جيكور والمدينة " بل إننا نلحظ أن الصنعة التفننية التي لا تكون عفوية قد أخذت تستأثر باهتمام الشاعر ليكفل لبناء القصيدة مزيدا من الإحكام، ولنأخذ قصيدة " جيكور والمدينة " مثالا لذلك، فالقصيدة تعتمد أولا على تطاول الدروب التي يشبهها الشاعر بالحبال، ولكنك تحس أن صورة الحبال المتمطية ستكون محورية في حركة القصيدة، فهي تمتد وتلتف اولا على هيئة دروب لا نهايء لها، وكل شيء سيمتد بامتدادها، فالصخر يرسل غصونا، والحجار تكسب عروقا، والطريق إلى جيكور يمتد عبر الدهاليز، عبر الدجى والقلاع الحصينة (طويل هو ذلك الطريق حتى ليكون طوله وحده سببا في الخرمان من الوصول) واله المدينة قد مد كرم عساليجه في أنحاء المدينة على شكل شرايين تغلغلت في كل دار وسجن ومستشفى ومبغى، ويكون موت ابن جيكور بانفجار الزجاج في عروقه الممتدة في جسمه، وهكذا يتم انفجار عرقه لأنه لا يستطيع أن يجد الخلاص من تلك العروق الطويلة الممتدة من حوله كالأخطبوط. ولو أننا أخذنا صورة أخرى لوجدنا أن هناك دقة متعمدة في الرسم، فصورة الضوء جملة ذات أهمية تضارع أهمية الحبال في القصيدة
فالحبال نفسها من نار، ورب المدينة هجير لافح من النضار، وشرايينه أنحائها تطلع مصابيح لا توقد بزيت، وابن جيكور يموت مصعوقا من شرارة الكهربائية، ولو شئت تفسر القصيدة كلها من خلال صور النور لوجدتها تقوم على وحدة فكرية دقيقة: الضوء في المدينة خادع، فهو ليس نورا على الحقيقة، وإنما هو لهاث (لمعان) النضار، فإذا جاء المدينة شاعر لا يخدعه الذهب وأراد ان يبدد الظلام " ان ينير " صعقته قوى المدينة الجديدة وحرمته من العودة، وكانت محاولته اندحارا؛ وهذه المدينة التي تتوهج بتفاحات نار كهربائية تقابل جيكور - الخضراء التي مست الشمس الحزينة ذرى النخل فيها، وهكذا يقابل ضوءان: ضوء الذهب وضوء الشمس الحزينة في الأصيل - حزينة على فقد ابنها الذي احتجزته المدينة في دروبها المتشعبة. والاحتفاظ بصور الحبال المتطاولة وصور الإضاءة قد منح القصيدة إحكاما فذا، وزاد من ذلك الإحكام اختياره نغمة تسير ببطء - هي بحر المتقارب - وتمثل ببطئها تلك المسافات الطويلة التي قطعها القروي الحيران في دروب المدينة وليلها.
وليس كذلك الخامس من قصائد المرحلة الأولى السابقة للأحداث الدرامية، أعني قصيدة " المسيح بعد الصلب " فأنها شديدة الاضطراب، تتعاقب فيها صور مستمدة من قصة المسيح على غير انتقام، والشاعر يتخذ المسيح رمزا للتعبير عن حالته النفسية، ولذلك فهو المطلوب الذي استطاع أن يقوم من بين الموتى وينعش الحياة في جيكور:
حين يخضر حتى دجاها
…
يلمس الدفء قلبي فيجري دمي في ثراها
…
قلبي الشمس إذ تنبض الشمس نورا
…
قلبي الأرض تنبض قمحا وزهرا وماء نميرا
…
قلبي الماء، قلبي هو السنبل
…
موته البعث: يحيا بمن يأكل
…
في العجين الذي يستدير
…
ويدحى كنهد صغير، كثدي الحياة
…
مت بالنار، أحرقت ظلماء طيني، فظل الإله
…
ومن الواضح أن هذه الأبيات قد جعلت من المسيح وتموز شخصا واحدا أو رمزا لشيء واحد، ومما جعل التطابق هنا ممكنا استعارة " الخبز والنبيذ " من العشاء الرباني ومزجها بعلاقة الحياة بين الأرض والشمس في قصة تموز، ولهذا نجد حين شوي بالنار مات الجزء الطيني فيه " وظل الإله "، وهذا البقاء للعنصر الالاهي وقف الشاعر عنده مرة أخرى حين قال:
حين دفأت يوما بلحمي عظام الصغار
…
حين عربت جرحي وضمت جرحا سواه
…
حطم السور بيني وبين الإله
…
وقد عكس الشاعر فكرة الفداء حين جعل الشعب يحمل العبء عن " المصلوب " فيندى صليبه؛ وختم قصيدته بقول:
كان شيء مدى ما ترى العين
…
كالغابة المزهرة
…
كان في مرمى صليب وأم حزينة
…
قدس الرب، هذا مخاض المدينة
…
وهذا قد يفهم منه أن كثيرة المصلوبين لا تدل على أن الحياة لن تتجدد، بل ان موت هؤلاء هو طريق البعث من جديد، كذلك عادت جيكور صلب ابنها، وكذلك ستعود المدينة إلى الحياة
حين كثر المصلوبون من أبنائها. وإذا تجاوزنا هذه الفكرة وهي أن الموت طريق البعث، والبعث متدفق بالعطاء حتى يحطم الحد الفاصل بين الإنسانية والالوهية، بحيث يصبح الموت صفيرا كبيرا في آن معا؟ أقول إذا تجاوزنا هذه الفكرة لم نجد في القصيدة شيئا آخر وراءها، هذا مع الاضطراب وضعف التدرج العام فيها، وعدم وجود مسوغ للانتقال فيها من وزن إلى وزن. ويصح لنا أن نميز هنا نوعا ثالثا من الموت إلى جانب الموت في حضن الطفولة (بويب) والموت في صف المناضلين؛ فهذا الموت الثالث هو " موت تموز " أو " صلب المسيح " أي مقدمة البعث والعودة بالخصب إلى الأرض. إذا كان السياب قد سمى النوع الثاني " انتصارا " فان الثالث يستحق أن يسمى استمرارا أو خلودا لأنه طريق إلى الولادة الجديدة، وهكذا تم انتحال السياب لكل من تموز والمسيح على السواء، وتطابق مع رمزيه الكبيرين، وأصبح ورودهما في شعره متلازمين أو متعاقبين أمراً مألوفا.
وبعد هذه القصائد الخمس جفت قدرة الرمز على الاستجابة له، فقد ألح في قصيدة " مدينة بلا مطر " على أسطورة تموز وما يتصل بها من شعائر حتى كاد أن يستنزفها، وألح في قصيدة " المسيح بعد الصلب " على ما يتصل بكثير من تفرعات القصة، وكان منذ القصائد الكهفيات قد أسرف في تصور الحركة المتدرجة بين الموت أو النوم في الكهف (أو القبر) وبين اليقظة النهائية، وكان كذلك قد انفق جهدا كبيرا في المدى المتطاول ليطله ببناء فني محكم، متدرجا في ذلك من الفيض الإيحائي الذي تبعثه لفظة إلى البناء المعقد الذي يتطلب حيلا فنية في كل دقائقه وهذا هو التعليل الفني لصمته، إلى جانب أسباب نفسيه ومعيشية سبقت الإشارة إليها. ولهذا فانه حين عاد إلى ميدان الشعر لم يستطع أن يقول إلا قصيدة واحدة هي " إلى جميلة بوحيرد " وقد عاد فيها يلفق بين مختلف الوسائل التي استغلها في مرحلة الآداب والمرحلة التالية لها، فعاد
إلى تقمص الشعور بخزي المشرق العربي إزاء ما يقدمه المغرب العربي من تضحيات، وزاده إحساساً بالخزي أن الذي يقوم بالتضحية فتاة اسمها جميلة بوحيرد، وهو خزي يصم الرجولة المشرقية عامة، ولهذا افتتح قصيدته بما يزيد تقلصا عن التواري في كهف أو قبر حين قال:
لا تسمعيها؟. أن أصواتنا
…
تخزي بها الريح التي تنقل
…
وتصور ان الشرقيين حبيسو رحم من دم مظلم وانهم في الظلماء لا يسألون عن دورهم في المعركة بل عن الذين قتلوا ومن يبيكيهم (لأنهم فيما يبدو لم تعد لديهم دموع للبكاء) :
باب علينا من دم مقفل
…
ونحن في ظلمائنا نسأل
…
من مات؟ من يبكيه؟ من يقتل؟
…
وبعد هذه الفاتحة ذهب في قصيدته مذهبا مختلفا عن الذي سلكه في القصائد الكهفية، فلم يجعل من جميلة " المشبوحة " شمسا إزاء ظلمات الكهف، وإنما صورها بمقارنتها مع الأم العظمى؟ الأرض، في مخاضها الأول:
ترتج قيعان المحيطات من أعماقها ينسح فيها حنين
…
والصخر منشد بأعصابه؟ حتى يراها - في انتظار الجنين
…
ومن خلال هذه الصورة المستعارة من اديث سيتول وجد أن جميلة تحمل من صنوف العذاب اشد مما حملته الارض في ذلك المخاض الأول، ثم قارن بينها وبين المسيح، فوجدها اكثر عطاء، وأسلمه هذا إلى فكرة الفداء فتحدث عن الفدية التي تقرب للإله كي ينزل المطر، ثم كيف زال عالم الألوهية، فأصبح الثائر؟ مثل جميلة - يقدم
دمه هدية؛ ثم قارن بينها وبين عشتار ربه الخصب فوجدها اكثر من عشتار عطاء، ثم عاد إلى المقارنة بينها وبين المسيح، فوجد أنها تستهين بكل ضروب العذاب من اجل طفل هتف بها:
؟. يا جميلة
…
يا أختي النبيلة
…
يا أختي القتيلة
…
لك الغد الزاهي كما تستهين.
…
فتعلو فوق الألم حتى تلحق بمحفل الآلهة. ويحاول ان يربط بين نهاية القصيدة وأولها فيتذكر الشعور بالخزي هؤلاء النائمين في " رحم الدم المظلم " بأنهم كوم من الأعظم، موتى حفاة عراة، ومع ذلك فان الدم في الأوراس إذا روى عروق الناس وعروق الصخور فلا بد يوما ان يثور هؤلاء الناس، ويرتفعوا من قبورهم المظلمة.
وواضح من هذا الإيجاز إنها " خطابية " تعتمد على مقارنة اثر أخرى، وأنها حين استندت إلى فكرة الفداء فقد ضاعت بين المد والجزر المتعاقبين من المفاضلة بين أي الفريقين اكثر عطاء، وقد أضفت عليها المبالغة؟ في تفضيل تضحية جميلة على كل تضحية أخرى - لونا بين التكلف، ذهني الطابع، وقد أبطلت فكرة الفداء فيها خاتمتها، لأن الذي يتصور أن جميلة فدت أمة كاملة؟ وهي مشبوحة - لا يستطيع أن يرسم لتلك الأمة دورا في الكفاح، ولا معنى لان تكون جميلة فدية عن عرب المشرق (وهم ميتون ومكومة من عظام) بل لا معنى للفدية إطلاقاً حين تكون الثورة مباراة شريفة في سبيل الوطن، أي حين يكون الاستشهاد هو الغاية التي لا يتقدم إليها واحد ليفدي الاخرين، بل يتقدم إليها المجاهدون جميعا؛ أرأيت كيف ضل السياب ضلالا بعيدا حين استعار مفهومات غريبة لا يفقه مداها ومدى ما ترمز إليه؟ هذا
عدا عن أن الحديث عن تقديم البشر ضحية من الحيوان للإله الوثني كي يرسل الغيث غير لائق في معرض الحديث عن فتاة مجاهدة تتحمل العذاب صابرة، هذا عدا عن أن الحديث عن عشتاروت ربة الجنس (بنوعيه) غير محمود في سياق الحديث عن فتاة تمجدها القصيدة بعطاء روحي فياض؛ ودع بعد ذلك كله تلك الصدمة التي يحس بها فريق من الناس حين يقرأون قول الشاعر:
تعلين حتى محفل الآلهة
…
كالربة الوالهة
…
وقوله:
ولترفعي أوراس حتى السماء
…
؟.
حتى نمس الله حتى نثور.
…
فان هذه الوثنية التي انتقلت من الرموز إلى التعبير المباشر قد تصبح غصة في كثير من الحلوق التي لا تستسيغ مثل هذا التهاون والاستخفاف. لهذا كله نجد أن قصيدة " إلى جميلة بوحيرد " أسطر مفتعلة ليس فيها إلا مقارنات ذهنية ومبالغات ممجوجة وتعبيرات نابية.