الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- 15 -
الأسلحة والأطفال
كان بدر يحمل في حقيبته عندما عاد من الكويت ثلاث قصائد، اثنتان منها طويلتان وهما:" الأسلحة والأطفال " و " المومس العمياء " وواحدة متوسطة الطول هي " غريب على الخليج " وهو يضيف إلى هذه الثلاث قصيدة رابعة يقول انه نظمها في الكويت: " أتعلم أن قصيدة أنشودة المطر التي كتبتها أثناء إقامتي في الكويت هاربا من العراق أيام نوري السعيد كانت قصيدة يغلب عليها طابع الالتزام ولكنني حذفت منها عدة مقاطع فصارت على ما هي عليه؟ "(1) فهذه تجعل القصائد الطوال ثلاثا، وتؤكد أن السياب وجد لديه في الكويت متسعا من الوقت ليحقق أمنيته الكبرى وهو أن يعرف بين الناس باسم " شاعر القصائد الطويلة "، ولكنه وجد عند عودته إلى العراق أن مثل هذه القصائد لا تتسع له صدور الجرائد والمجلات؟ بسبب الحجم -، وأن العثور على ناشر يضطلع بنشر كل قصيدة على حدة في كراسة خاصة أمر عسير، ولهذا اضطر أن يعود إلى الشكل المتوسط أو القصير، وكان ظهور القصائد التي تحمل اسمه على صفحات الجرائد اليومية أو المجلات وصلا لما انقطع أثناء غيابه، وتأكيدا لاستمراره في
(1) أضواء: 54.
الشعر، وذلك لأنه لم ينشر بيتا واحدا خلال الفترة التي قضاها في إيران والكويت، وحين عاد إلى العراق وجد أن غيابه قد كان مجالا لبروز شعراء آخرين ينافسونه في ميدان الشهرة، هذا إلى قلة صبر الناس على قراءة القصائد الطويلة، إذا تجاوزنا حلقات النقد الأدبي ومجالات الاهتمام الخاص بالشعر والحركة الشعرية الحديثة.
وكان نظمه لقصيدتي " الأسلحة والأطفال " و " المومس العمياء " في فترة واحدة يدل على أن الانقسام القديم الذي أثمر قصيدتين سابقتين وهما: " فجر السلام " و " حفار القبور " ما يزال يفعل فعله في نفسه، فبينا تعد " الأسلحة والأطفال " انطلاقا طبيعيا من قصيدة " فجر السلام " وتطورا فنيا على أصول الموضوع المشترك، تجيء قصيدة " المومس العمياء " تتمة لأختها السابقة " حفار القبور " أو صورة من روح الاستسلام للتعذيب في مقابل تلك الروح " السادية " الطاغية عند الحفار.
ومن الطبيعي أن يرحب " الرفاق " بقصيدة " الأسلحة والأطفال " وأن يبدوا شيئا من التردد في قبول القصيدة الثانية، لأن الأولى " تخدم السلام وتدعو إليه؟.. وان المعركة الرئيسية هي معركة السلام، وأما ما عداها؟ وخاصة المشاكل التي تناولتها المومس العمياء - فأشياء ثانوية "(1) ؛ وإذا كان هذا الموقف تعبيرا عن تعبيرا عن وجهة نظر سياسية، فأنه يتضمن أيضاً؟ سواء عرف الرفاق ذلك أو لم يعرفوه - حقيقة فنية، تتصل بطبيعة المهمة الشعرية: فقصيدة " الأسلحة والأطفال " صورة لحرية الإرادة الإنسانية والفعل الإنساني، وهي نغمة من الإيمان بقدرة الإنسان على التغيير والثورة، ولذلك فأنها تحمل ما يحمله الأمل المتفائل من ارتياح نفسي، بينما تمثل قصيدة " المومس العمياء " أقسى أنواع الجبرية، إذ لم يكتف الشاعر بأن يصور مومسا مسكينة جنت عليها
(1) الحرية، العدد:1443.
ظروف قاهرة، بل جعلها عمياء، ليجعل نبذها حتى عند طلاب الشهوة أشد، ويكدس فوق كاهلها المرهق عبء السنين وزحف الشيخوخة، وموت الطفلة، والعمى المقعد، دون أن يكون هناك بصيص من نور بين تلك الظلمات المتراكمة في ذلك البحر اللجي الذي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب؛ فالقصيدة من ثم تملأ النفس بنقمة على علة محتجبة، وتبهم الغاية، وتحيل التأمل في المصير إلى كآبة مرهقة. والتوفر على نظم القصيدتين في فترة واحدة يؤكد ان الجسر الذي يصل بين حرية الإرادة والجبرية المطلقة ما يزال مفقودا لدى الشاعر، وانه لم يستطع بعد أن يختار طريقه في النظرة إلى الإنسان. كان ما يزال يحس وهو في الجماعة الكادحة المكافحة أنه أحد أبنائها الذين يستطيعون أن يغيروا معالم الشقاء والويلات، فإذا خلا إلى نفسه وتحس آلامه الفردية؟ وهو ضائع في الكويت " ينفق ما يجود به الكرام على الطعام "(1) ، وجد الصورة السالبية الاستسلامية أقرب إلى تصوير ما يعانيه في قرارة نفسه ورأى صورة " المومس العمياء " مثالا فاجعا لذلك الاستسلام.
وفي أساطير اليونان أن أدونيس (وهو صورة أخرى لتموز) تنازعت حبه كل من برسفونة التي اختطفها (هيديز) القيم على العالم السفلي حين كانت تجمع الأزهار في المروج الصقلية، وأفروديت (وهي صورة أخرى من عشتاروت) ربة الحب، فقضي عليه أن يقسم السنة بينهما، لهذه شطر وللأخرى شطر. كذلك كان الشاعر في هذه الفترة وفي ما سبقها، ما يكاد يمشي خطوة حتى يحس بأنه موزع بين قوتين تشده كل منهما إليها ونريد أن تستأثر به، ولم يستطع أن يجمع بين قوتين إلا حين استكشف رمز " أدونيس " أو " تموز "، ولكن الحديث عن هذا
(1) من قصيدة " غريب على الخليج " في ديوان أنشودة المطر: 16.
الكشف سابق لأوانه، وان كانت حدة الانقسام في هذه الفترة إرهاصاً نفسيا بذلك الكشف.
ويتسلل الانقسام؟ أو الازدواج؟ إلى القصيدة الواحدة من قصائده، في مبناها الموضوعي والفني، ففي قصيدة " الأسلحة والأطفال " عاد الشاعر إلى ذلك المبنى السهل الازدواجي الذي اختاره في قصيدة " فجر السلام "، أعني موضوع التقابل بين " السلام والحرب " وبنى قصيدته على أساسه. ومع أن الموضوع مستوحى من طبيعة انتمائه السياسي والإنساني العام، فانه؟ فيما يبدو - اتكأ فيه على الشاعر الفرنسي أراغون، إذ لمح لديه ما يمكن أن يتطور إلى قصيدة طويلة، ومن المحقق انه كان قد عرف " عيون إلزا " لذلك الشاعر؟ وهي قصيدة ترجمها السياب ونشرها في كراسة ونشرها في كراسة مع قصيدة أخرى لأراغون بعنوان " الأيام الضائعة ". ولقصيدة " عيون إلزا " عنوان فرعي هو " الحب والحرب " وهذا هو الموضوع الذي اتجه إليه السياب في قصيدة " الأسلحة والأطفال "، وكان الجو في قصيدة أراغون يسيطر على نفسه، ولكنه تحول به تحولا قويا: كلا الشاعرين على سيف خليج وأحدهما ينظر إلى السفن التي أغرقتها المعارك الحربية والثاني ينظر إلى السفن المحملة بالبضائع؟ وربما بالركاب - وهي تهم بالأقلاع؛ والحنين إلى العراق يغمره، فيتصورها سفنا حربية نقل الجنود إلى المعركة وهم يلوحون لحبيباتهم الواقفات على رصيف الميناء ويودعونهن " وداع الذي لا يعود "، وبينما يتحدث أراغون عن " القبرة " ويرمز بها إلى الحبيبة، يتحدث بدر عن " القبرة " التي تصدح في الفضاء، لتضفي على صورة السلم طمأنينة وارتياحا، ويمزح بين القبرة وبين الفجر فيذكر أبياتا لشكسبير في مسرحية روميو وجوليت فيستعيرها على النحو التالي:
" دعيني فما تلك بالقبرة
…
دعيني أقل انه البلبل
…
وان الذي لاح ليس الصباح " (1)
…
ويتصور أرغوان أنه سيصرخ طالبا العودة إلى حبه كأنه شاحذ سكاكين ينادي في الصباح الباكر " سكاكين..سكاكين " ويستعير السياب هذا النداء ويحوله إلى نداء اخر - نداء امرىء يلم ما لدى الناس من أدوات معدنية عتيقة ليقدمها مادة لصناع الاسلحة، كي يصنعوا منها القتل والدمار، وهو في ندائه يصيح:" حديد عتيق..رصاص..حديد ". ويتحول الصراع بين الحب والحرب في قصيدة أراغون إلى الصراع بين حياة السلم جملة الخروب، وبذلك يتسع المجال أمام السياب ليكبر الصورة، ويتفنن في جزئياتها المفردة فالمنظر العام في القصيدة قروي الطابع يبدو فيه الأطفال رمزا للبراءة المطلقة في لعبهم ولهوهم، ويستعير فيه الشاعر صورة من طفولته، وهو يلقط المجار على ضفة النهر فيتصور أن أقدام الأطفال الأبرياء " محار يصلصل في ساقية " ويرسم حور طافحا بالنعومة حين يتصور أن أكفهم المصفقة " كخفق الفراشات مر النهار عليه بفانوسه الأزرق ". ثم يرسم من خلال الجو الذي يضفيه الأطفال على الحياة صورة للوداعة والسعادة والطمأنينة: فالأب ينسى التعب حين يعود فيتلقاه طفله " يكركر بالضحكة الصافية " والعجائز يجمعن من حولهن أولئك " الورود " - في الشتاء - لهم حكايات جميلة، ويتخيلن حين يرونهم أنهن عدن إلى عهد الطفولة الجميل؛ فإذا طلع الصباح نهض الأطفال يخفقون بخطاهم الصغيرة على السلالم ويدغدغون وجوه أهلهم النائمين، أو يرافقون أمهاتهم إلى الموقد لا ذكاء النار فيه؟.
(1) الأسلحة والأطفال: 5.
ولكن سرعان ما يتحول هؤلاء الأطفال إلى جنود يخوضون ساحات الموت بدلا من ساحات الطفولة وملاعبها وإذا هناك جثة دامية وخربة بالية؟.ان نذر الشر تحيط بالأطفال وهم يلهون ويغردون كالعصافير، ويغطي على أصواتهم الرقيقة صوت أجش يصيح في أرجاء القرية " حديد عتيق، رصاص، حديد " - صوت ينضح بالدم، صوت ذلك التاجر المشؤوم (1) الذي يشبه في حرفته " حفار القبور " فهو لا يستطيع ان يطعم أبناءه إلا بالاتجار فيما يصبح مادة لحصادهم، أو قبورا لهم.
وحين يتردد الصوت المنكر مرة ومرة تكبر الربوة التي يلعب عليها الأطفال، فإذا بها تشمل كل ربوات هذه الأرض - ولا تعود مقصورة على القرية - ففي كل بلد أطفال أبرياء يلعبون، والناس سعداء كالأطفال سيتخذ هذا الحديد أغلالا لهم ونصلا لقطع أوردتهم وقفلا دون حريتهم: يستوي في ذلك أطفال كورية وعمال مرسيلية وأبناء بغداد؛ ويتقابل الصوتان: صوت الأطفال وصوت التاجر، ولكن الصوت الثاني يفتح أمام عيني الشاعر صور الويل والخراب والدمار والأشلاء والانفجارات، وانهدام الجدران التي خط عليها الصغار لفظة " سلام " ويتغير وجه الأرض:
فمن يملأ الدار عند الغروب
…
بدفء الضحى واخضلال السهوب (2)
…
ويستمر التاجر في ندائه: فإذا أم تخرج من بيتها لتبيعه السرير العتيق " المهاد الذي التقى عليه عاشقان " ليصبح في المستقبل شظايا تفصل ذراعا عن ذراع، ولكن هكذا شاء أرباب " وول ستريت ":
(1) راجع صورة خضوري اليهودي الذي كان يجمع النحاس العتيق، فيما تقدم.
(2)
الأسلحة والأطفال:5.
وأرباب وول ستريت القساه
…
يحيلون حتى حديد السرير
…
جناحا عليها المنايا تغير
…
ويعود الصوتان إلى التقابل: وما أسرع ما يرى الشاعر آلام العذاب القاتل الذي يعانيه عمال المناجم ليبنوا حضارة سلمية من مركبة " يخف لها الصبية حين يسمعون أجراسها " وجسر وناعورة ومحراث يهز قلب التراب " وتخضل حتى الصخور الضنينة "؟ ولكن وسائل السلم قد تتحول في يسر إلى وسائل دمار فلا يسمع إلا " صوت الرصاص وآهات الثكلى والطفل الشريد ". ولكن كيف تكون حال الأرض إذا خلت من الأطفال؟ وعند هذا الحد ينتهي التقابل بين الصوتين، فيقسم الشاعر بأقدام الأطفال وبالخبز والعافية أن جباه الطغاة لا بد من أن تعفر، ولا بد من تحويل أدوات الحرب إلى حروف هادية.، ولا بد من تحرير آسية من المغيرين: ثم يأخذ في إهداء " السلام " إلى مناظر السلم الجميل من حقل ودار ومعمل وزهرة وصبية وشاعر، وقد انتشرت ملاءة ذلك السلم فوق الدون والصين " والحاصدين، وصياد أسماكها الأسمر " فلولا الحرب التي يثرها الطغاة لما بكت نساء الجنود ولا بكى الأب بنيه، ولا شبت نيران الحقد لتحصد حي الزنوج ولا عاش أبناء يافا - على مقربة من لألاء مدينتهم - يعانون الزمهرير القاتل؛ ويمضي الشاعر في نشر رايات السلام فوق مختلف البقاع: فوق مدفن شكسبير، وباريس روبسبير وايلوار وتونس والرباط وفينيسية والكرنفال والمسيبسي وأغاني الزنوج من حوله؟ ويعود منظر الصبية العصافير، والدواليب تدور في كل عيد:
فقد لاح فجر العبيد
…
وأنا رفعنا لواء السلام
…
رفعناه فليخسأن الظلام
…
فالرصاص والحديد لم يعودا يتخذان للحرب وإنما لبناء كون جديد.
تلك بإيجاز هي الصورة العامة للقصيدة، ويتضح منها أن المبنى الشعري أقيم على أساس المقابلة بين دنيا الأطفال في براءتها وحيويتها وما تضفيه من هناءة في القلوب، وما تعقده من علاقات سلمية في الحيات وبين الدعوة إلى الحديد والرصاص؟ وقد كان هذا التقابل يمثل الدورتين الأولى والثانية في القصيدة على نحو مسترسل ضاف، فيه طول النفس وفيه جمال التصوير لدينا الأطفال والصورة المضادة لها، ولكنه انقلن إلى تصوير جزئية صغيرة - منظر أم فقيرة تبيع سريرا كان ذات يوم مهدا للحب - ثم عاد يرسم التقابل بين تعب العمال في استخراج المعادن التي تبني الحضارات، وتحول هذه المعادن نفسها في خدمة الشر والطواغيت، ثم يجيء قسم بتحرير الأرض من أولئك الطغاة، وتمجيد عالم السلام وصانعيه في عدد كبير من الأمكنة، وتختم القصيدة بالأمل في فجر جديد؛ وقد أضطرب البناء على الشاعر، ولكنه في كل مرة لم يفلت الخيط العام الذي يربط أجزاء القصيدة، وذلك الخيط هو الالتفات دائما إلى الأطفال - والى سحر عالم الطفولة، فإذا أضطره المقام إلى الابتعاد عن تصوير هذه الناحية إيجابيا تساءل: كيف يكون العالم إذا خلا من الأطفال؟
فمن يتبع الغيمة الشاردة
…
ويلهو بلقط المحار؟
…
ويعدو على ضفة الجدول
…
ويسطو على العش والبلبل
…
ومن يتهجى طوال النهار
…
ومن يلثغ الراء في المكتب
…
ومن يرتمي فوق صدر الأب
…
إذا عاد من كده المتعب؟ (1)
…
ولهذا احتفظ بأجزاء قصيدته مرتبطة معا، وان كان اضطراب المبنى قد جعلها عرضة للتكرار غير الفني، وللاختلال في الصورة الكبرى. لماذا حدث ذلك؟ - أعني اضطراب المبنى - قد يكون هناك غير سبب واحد: أما أولا فأن الاحتفاظ بالازدواجية التي ظهر في الدورتين الأوليين لم يكن ممكنا، فقد وضع فيهما الشاعر الخطوط الأولى لكل ما يريد ان يقوله وثانيا ان الشاعر لا يكف قلمه عن الأسراب وراء أية جزئية في موضوعه، ولم كان ذلك خروجا على المبنا العام، وثالثا إن الموضوع الذي اختار الشاعر كبير يتسع للحياة الإنسانية كلها ومن ضعف التصور أن يظن أي شاعر انه قادر على الوفاء بمثل هذا الموضوع، وموقفه أدق حين يكون - كبدر - شاعرا يستهويه التفصيل؛ ورابعا لأن المبنى المزدوج يظل يتقبل مزيدا من الدورات دون أن يبلغ مرحلة الختام، ولهذا اضطر الشاعر ان يحول القصيدة إلى " شعارات "، يحيي فيها جميع العاملين من أجل السلام، وان يمنحها خاتمة تشبه أن تكون من قبيل التفاؤل المقرر سلفا.
ومع ذلك كله فان للقصيدة جمالا خاصا يفردها بين كل ما عرفناه من قصائد بدر، لانا إذا تجاوزنا الشكل السياسي المفروض على ذهن الشاعر من الخارج وجدناها قصيدة تنبض بشتى صور الطفولة العذبة، وتفيض بمشاعر إنسانية قوية وخاصة عند التصدي لغياب نجوم الطفولة عن عالم الإنسان - انها انتصار للحياة على الموت، وهذا شيء فذ في شعر السياب - أو في اكثر شعره، على وجه الدقة. وهي بهذا كله ترتفع كثير على قصيدة " فجر السلام " وان اشبهتها في بعض تفاؤلها
(1) الأسلحة والأطفال: 17.
الختامي. وهي إلى ذلك تعبير عن قدرة بدر على ان يصور الحياة ببساطة ودون حشد زاخر من الصور، مثلما حاول أن يفعل في " حفار القبور ". ومع ذلك كان بدر فيها - من حيث البناء الكلي - ضحية طموحه بأن ينقل قطاعات كثيرة من الحياة الإنسانية، ويضعها في إطار واحد، ولو اكتفى برسم صورة الأطفال اللاعبين، المنادي الذي يشتري المعادن العتيقة وما ينجم عن هذا التقابل من فزع في نفسه إزاء صورة ثالثة تمثل الدمار، وتقتل البراءة بقتل رموزها، ولكن ذلك أقدار على التأثير الفني، عن طريق الاكتمال الطبيعي في البناء. ومهما يكن من شيء فأن قارئ القصيدة يحس بنضج الحنين في نفس الشاعر إلى بيت وطفل، ولعل هذا الشعور العاتي هو الذي مكنه من أن يجعل الأطفال محور الجمال وقطب الترابط في قصيدته، غير ناس أن ينعش من خلال ذلك صور طفولته في جيكور.
وتتميز القصيدة باتساق الروافد الثقافية في حزمة واحدة، وقد ألمحت من قبل إلى الأثر الخفي الذي تركه فيها أعوان، وتلك الاقتباس الجميلة التي وقعت موقعا جميلا حين انتزعها عامدا من رواية روميو وجولييت؛ ولأول مرة نجد عنده اقتباسا من اديث سيتول (1) ، الشاعرة التي ستهبه في المستقبل دنيا من الصور والرموز؛ وتناسب في ثنايا القصيدة خفقات من قصيدة شوقي، التي يتحدث فيها عن الأطفال:
ألا حبذا صحبة المكتب
…
وأحبب بأيامه أحبب
ويا حبذا صبية يلعبون
…
رداء الحياة عليهم صبي بل ان المفارقة التي رسمها شوقي بين عالم الأطفال وعالم المستقبل الذي لعب بمقاديرهم ونثر تلك الباقة الجميلة بيد قاسية، هي المفارقة
(1) انظر ص: 16 وهو اقتباس مباشر، ولكن اثر اديث سيتول قد ظهر في قصيدة " فجر الإسلام " حيث تحدث عن " ظل قابيل ".
التي نقلها السياب بين عالم الوداعة وعالم الحديد والرصاص. ومن الطريف ان الشاعر عاد إلى جزء من قصيدة " نهاية " - وكان قد نشرها في ديوانه " أساطير " - فاقتبس ذلك الجزء الذي يصور فيه منظر أب غرق أبنه، فهو في لوعته وتفجعه يتردد هنا وهناك كالمذهول سائلا عنه المياه، وضمنه قصيدة " الأسلحة والأطفال " ليقول انه رأى هذا المنظر في الواقع عيانا وشهد صورة مجسمة التي يجلبها الموت (1) .
وحين أعاد الشاعر نشر هذه القصيدة في ديوانه أنشودة المطر (دار مجلة شعر - بيروت، 1960) أجرى فيها بعض التغيير والحذف، فهذا البيت:
سلام على (الدون) فاض النعيم
…
اصبح:
سلام على (الكنج) ؟
…
وحذف من القصيدة كل شيء يتحدث عن طواغيت " وول ستريت " كما اسقط هذا المقطع التالي الذي يتحدث عن حي الزنوج:
ولم تحصد النار حي الزنوج
…
ولا مج فيه الرصيف الدماء
…
ولا اجتاحه المجرمون العلوج
…
بما جرروا من غلاظ الحبال
…
وما صفدوا من رقاب الرجال
…
ولا أن مرضى بطاء الليال
…
وحذف مقطعا آخر طويلا يتحدث عن الزنوج وعن وسائل الفتك بهم (2) ؛ وتخلى أيضاً عن الخاتمة التي جاء فيها:
(1) انظر أساطير: 61 وقارن " الأسلحة والأطفال ": 18.
(2)
انظر ص 28 من الطبعة الأولى.
فقد لاح فجر انطلاق العبيد
…
وانا رفعنا لواء السلام
…
رفعناه فليخسان الظلام
…
وليس ما أخلت به الطبعة الثانية مما حذف لان الشاعر حاول أن يعدل في المبنى الفني؛ وقد يسأل سائل: هل أخل هذا الحذف ببناء القصيدة، وهل يستطع ان يدركه من كان لا يعرف الطبعة الأولى؟ وهذا سؤال لا يحتاج جوابا، فقد سبق أن أشرت إلى أن التفصيلات الجزئية في القصيدة كثيرة، ومعنى ذلك ان هناك جزئيات أخرى لو أسقطت منها لما أحس القارئ بأن هناك لبنة سقطت من موطنها الطبيعي. والسؤال الذي يحق ان يلقى هو: لم حذفت تلك الأجزاء دون سواها؟ إذ من الواضح ان المحذوف يتصل بموضوع واحد، وهو إخفاء الهجوم على طواغيت " وول ستريت " وإخراس الصوت الذي يتحدث عن قضية الزنوج، وطمس الخاتمة التي تتحدث عن رفع " لواء السلام ". ولا يحتاج القارئ إلى تأمل كثير كي يدرك سر الحذف، فان كان الذين تولوا نشر الكتاب هم الذين قاموا بذلك، فان طبيعة المحذوف تفضح ماهية الهدف، وان كان السياب هو الذي تولى ذلك فانه أمر قد يحمل على نزعة المراضاة والمجاملة للناشر، وهو أمر يقرر ان هذه النزعة لدى السياب؟ كما أشرت من قبل - كانت تصيب مبادئه ودفنه بخدوش، وأحيانا بجروح عميقة. أم ترى أن السياب راجع خطأه حين وجد ان الزنوج كانوا ينعمون بالحرية والمساواة وان عصا التفرقة العنصرية قد كسرت إلى الأبد؟ من العسير ان ننسب إلى الشاعر عرضه للمبادئ والمواقف؟ حسب متطلبات السوق الراهنة -، ولكن من العسير أيضاً أن تتصور مفكرا يتنازل عن نزعته الإنسانية في سبيل عرض هذا الأدنى؟ اعني المراضاة والمجاملة، والفوز لقاء ذلك بطبعة أنيقة لديوان شعر.