المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

- 29 - ‌ ‌اضمحلال الرموز عاد السياب إلى أحضان " الروحية " - بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره

[إحسان عباس]

الفصل: - 29 - ‌ ‌اضمحلال الرموز عاد السياب إلى أحضان " الروحية "

- 29 -

‌اضمحلال الرموز

عاد السياب إلى أحضان " الروحية " ادعانا لصورة الأم، وتقبلا لإرادتها، فقد كان يحس أنه لا يستغني عن وجه من وجوه اللقاء بها، وهذا معناه أن يؤمن؟ على الأقل - بتلاقي الأرواح بعد الموت، أو أن يؤمن باتحاد النفوس الإنسانية في رحم الأم الكبرى (الأرض) مثلما آمن بالقوى لسارية التي تحرك مخاض تلك فتربو وتهتز وتلد، واتخذ لتلك القوى أسماء مثل تموز وعشتار وأتيس وغيرها، وقد أبعده كفاحه النضالي عن مجال " الروحية " حين جعله يتخذ من الحزب ومبادئه قوة يستند إليها فتغنيه عن السند الذي كان يحتاج إليه وهو متفرد منعزل في شبابه الباكر لا يجد إلا " النخلة الفرعاء " مستندا يحمل روحه وجسده، وحين خطأ بعد انهيار الركن الجماعي الأول ليعانق ركنا جماعيا جديدا في القومية المغلقة؟ حسب مفهومه - بنوع من الدين القومي استند إلى هذا الركن فترة من الزمن غير طويلة، ذلك أنه؟ لا شعوريا - اكتشف حقيقة موقفه الجديد من خلال رموز الأرض، فكأنه كان من خلال هذا الانتماء الجماعي يعود مرة أخرى إلى الام، إلى فرديته القديمة، ولذلك فانه سرعان ما تحول من تموز إلى المسيح أو وحد بينهما في القوة الرمزية، وسرعان ما وجد نفسه؟ في حومة مجلة " الشعر " - يبشر بقيم دينية في الفن؛ وإذا كان هذا هو الجانب

ص: 368

العفوي في تلك العودة فان وجهها الإرادي يتمثل في محاولته الإمعان في البعد عن اليساريين ويعد إقداما على التظرف إلى النقيض، لكي يثبت لنفسه أنه قد بلغ إلى حيث لا يرجو عودة اليهم، وألى حيث لا يستطيعون أن يمدوا إليه حبالهم أو عصيهم؛ ومن جراء هذا التحول نفسه أخذ الشك يساوره حول جدوى الالتزام، فحاول أولا أن يوسع من مفهوم هذا المصطلح، ثم أن يعلن عن ضجره من الموقف الالتزامي جملة، ثم أن يتخلى عنه تحت وطأة المرض وحدة الإحساس بالمشكلة الفردية التي تمثلت في مرضه وما جره من نتائج؛ ومن الإنصاف للسياب أن نلمح في سريرته نقاء لم تستطع أن تطمسه أنواع العذاب الجسدي الذي كان يعتصره، إذ نجده ما يزال معذب النفس والضمير أيضاً بين التخلي عن التزامه القديم وبين ضرورات المشكلة الفردية التي كانت تستحوذ على كل كوة يتسرب منها النور إلى عالمه، وحسبنا أن نجده يقول وهو مقيد بالعجز والمرض والحرمان:" مالي وما للعالم كيفما سار فليسر، رغم أن صوتا تحت ذلك الصوت يهمس: كلا، أنه عالمي ويهمني الاتجاه الذي يسير فيه "(1) ، فذلك الصوت الهامس الذي لم يلبث إلا قليلا حتى خفت؛ للضغط الشديد الذي يعانيه شاعر يتوقع الموت، هو الصوت الذي يعبر عن تألم الشاعر لتخليه عن المسئولية الجماعية؛ وقد يقول بعض الناس أن قصيدته التي حيا فيها الخلاص من قاسم إنما كانت تكفيرا عن موقف من النفاق الذي اضطرته إليه ظروف الحياة (أو على التحقيق ظروف الموت البطيء) ، وقد يرى فيها آخرون امتداد للنقمة على اليساريين الذين أيدوا قاسما وأيدهم بنفوذه وسلطانه، وهي كذلك دون ريب، ولكنها تدل على أن الشاعر صحا فيه إحساسه القديم بالرابطة بينه وبين قضية أمته، مهما يختلف

(1) من رسالة إلى أدونيس بتاريخ 5/3/62 صادرة من مصلحة الموانئ العراقية (البصرة) .

ص: 369

التقدير بيننا لتلك الرابطة (1) :

مرحى لجيش الأمة العربية انتزع الوثاق

يا اخوتي بالله بالدم بالعروبة بالرجاء

هبوا فقد صرع الطغاة وبدد الليل الضياء

فلتحرسوها ثورة عربية، صعق " الرفاق "

منها وخر الظالمون؟..

غير أننا يجب ألا نتوقع شيئا كثيرا في هذه الناحية، فمن المعروف أن إلحاح السقم يخلق في المريض مشاعر مريرة، ويجعل مزاجه منحرفا وتصوراته مئوفة، فالسياب الصحيح المعافى طالما مجد انتفاض الجزائر وروح التضحية والاستشهاد لدى أبنائها، وعير عرب المشرق بالركون إلى الكهوف والقبور؟ في استسلامهم الطويل - ولكن السياب المريض حين تحدث عن " ربيع الجزائر "(2) لم يستطع أن يرى إلا صورة الموت والأشلاء والخراب والقبور واليتامى، وكأنه يقول للجزاءر: ماذا نفعت كل تلك التضحيات؟ ويسخر على لسان المجاهد من الحصاد الذي أعطته الثورة في حوار بين الأطفال الجائعين وأبيهم المجاهد، إذ يقول الأطفال:

وماذا حملت لنا من هديه

فيرد أبوهم قائلا:

غدا ضاحكا أطلعته الدماء.

كان السياب حين كتب القصيدة، لا يستطيع أن يفهم معنى " الغد " عند الأحياء، ولذلك ركز نظره في الواقع، فرأى واقع الجزائر صورة

(1) منزل الاقنان: 137.

(2)

منزل الاقنان: 19.

ص: 370

في نفسه المحطمة الكسيحة:

وها أنت تدمع فيك العيون

وتبكين قتلاك. نامت وغى فاستفاق

بك الحزن؛ عاد اليتامى يتامى،

ردى عاد ما ظن يوما فراق؛

سلاما بلاد الثكالى بلاد الايامى

سلاما، سلاما؟

أن مثل هذه القصيدة يدل على أن السياب لم يتخل عن الالتزام وحسب بل انه كان عاجزا؟ حينئذ - عن التمسك به، رغم شيء من الحسرة على فراقه.

وحين ابتعد ظل الالتزام عن الشعر اخذ ظل الرموز ينحسر أيضا، ذلك لأن السياب ربط بين الرمز والنضال السياسي، فجعل الرمز طريقة للتعمية والتستر وملاذا من وجه التضريح الذي يلقي بصاحبه في أغلال الاضطهاد أو غيابات السجون، وقد عبر عن ذلك في محاضرته بروما حين قال:" وساعدت الظروف السياسية؟. حيث الإرهاب الفكري وانعدام الحرية على اللجوء إلى الرمز "(1) ، أي انه جعل الرمز مرادفا للحكاية الكنائية التي يوري فيها الشاعر عن غايته بمحمل تمثيلي، وهذا تحديد ضيق للرمز، وقصر له على مظهر واحد. وبسبب هذا التحديد نفسه فقد السياب صلته " الرمزية " بقصة تموز ولم يعد يلجأ إلى استغلال الأسطورة كما كان يفعل من قبل. ولست أعني أن الأسماء الأسطورية أو الرمزية قد اختفت من شعره بل ظل يذكر تموز وعشتار وقابيل والمسيه، ولكنه لم يتعد مرحلة التمثيل أو التشبه ليوضح بذكرها فكرة أو صورة، بل أن المرض جعله يضيف إليها أسماء أخرى

(1) انظر أضواء: 123.

ص: 371

أهمها: عولس والسندباد والحسن البصري، ثم لا يتجاوز في هذه أيضاً جانب التمثيل، وهذه الأسماء الثلاثة تشير إلى التجواب، وقد أراد أن يقرن نفسه بها حين كان يتنقل بين البلدان طلبا للاستشفاء، ولكن وردوها على خاطره ذو دلاله عكسية، فهي من ذلك النوع الذي يضرب تاها في الأرض دون كلل على التقيض من حالهن لأنه مقيد إلى سرير، لذلك كان يحس وهو يتمثلها بنعمة القدرة على المشي والرحلة الإرادية المغامرة المتصلة بقوة الجسد، وحين نتذكر وقوفه عند هرقل أيضا؟ ومعه تموز في صراعه للرب الأسطوري " موت " - فأننا ندرك تماما أي راحة كان يجدها في تمثل هذه الأسماء (1) :

بالعقل المفتول والسواعد المجدوله

هرقل صارع الردى في غاره المحجب

بظلمة من طلب

وقام تموز بجزح فاغر مخضب

يصك (موت) صكة، محجبا ذيوله

وخطوه الجليد بالشقيق والزنابق

كان يتشبث بالقوة ويريد ان يصرع الموت، فاستغل الشعر سلاحا:

رميت وجه الموت يهوي نحوي

كأنه الستار في رواية هزيلة

رميت وجه الموت ألف مرة

؟..

فأنتضي من سيفي المجرد

ويقطر الشعر ولا يغيض

(1) منزل الاقنان: 73.

ص: 372

ولكن الشعر لا يصلح سلاحا لدفع المنية، ولا بد من ساعدي هرقل وإرادة تموز. ثم أن بينه وبين " عولس " رابطة أخرى، لأنه مثله ترك زوجا وفيه تنتظره وتعد الساعات لعودته، ولهذا يعود إلى ذكره غير مرة في قصائد هذه الفترة.

على أن المرض ربط بينه؟ ربط تطابق - وبين أيوب، ويمثل استدعاؤه لصورة أيوب نهاية المرحلة التي بلغها في حمى " الروحية "، ولعله لولا المرض لم يبلغها، ولكن المرض هو الذي منح شكلا مثاليا للعلاقة بين الإنسان والإله؛ فأيوب يمثل فلسفة الاستسلام والرضى من جانب الانسان، كما يمثل حقيقة " لا يسأل عما يفعل " من جانب الله، لان حكمته اعمق من كل فكر إنساني. غير أن " رمز " ايوب؟ في ذهن السياب - لم يكن عميق الموقع. فهو لم يكن مثل أيوب في بدء المرض حين نسمعه يصرخ في وجه الإله (1) :

صائد الرجال

وساحق النساء أنت، يا مفجع

يا مهلك العباد بالرجوم والزلازل

يا موحش المنازل

منطرحا أمام بابك الكبير

أحسن بانكساره الظنون في الضمير

أثور؟ أغضب؟

وهل يثور في حماك مذنب؟

ثم يستكين استكانة أيوب (2) :

لك الحمد مهما استطال البلاء

(1) المعبد الغريق: 33.

(2)

منزل الاقنان: 36.

ص: 373

ومهما استبد الألم

لك الحمد إن الرزايا عطاء

وأن المصيبات بعض الكرم

ذلك لأنه رغم تجسيده للرضى بكل ما كتبته يد الله، يؤمن بأن الشفاء أمر قريب:

لك الحمد يا راميا بالقدر

ويا كاتبا بعد ذاك الشفاء

ويتمثل اتحاده مع أيوب في قصيدته " قالوا لأيوب "، دون أن يزايله أيضاً الأمل في الشفاء، فقد كان ذلك الأمل هو العامل الموجه لذلك الرضى المطلق (1) :

يا رب لا شكوى ولا من عتاب

ألست أنت الصانع الجسما

فمن يلوم الزارع التما

من حوله الزرع، فشاء الخراب

لزهرة والماء للثانية

هيهات تشكو نفسي الراضيه

أني لأدري أن يوم الشفاء

يلمح في الغيب

سينزع الأحزان من قلبي

وينزع الداء، فأرمي الدواء؟..

ولكنه؟ قبيل النهاية - حين ضاع كل أمل يتحدث في شيء من التبرم والنزق، وبدلا من " يا رب " التي تدل على الضراعة

(1) منزل الاقنان: 114.

ص: 374

الاستسلامية أخذ يستعمل " يا إله " أو " أيها الإله "؟ مبقيا مسافة بعيدة بين الإنسان والله، فيها ترتفع الشكوى الإنسانية وفيها تنطلق الرحمة ولكن على شكل " رصاصة " (1) :

أليس يكفي أيها الإله

أن الفناء غاية الحياة

فتصبغ الحياة بالقتام

تحيلني؟ بلا ردى - حطام

سفينة كسيرة تطفو على المياه

هات الردى، أريد أن أنام

بين قبور أهلي المبعثره

وراء ليل المقبره

رصاصة الرحمة يا إله!

والحق أن ألفته للرموز المتعلقة بأرباب الأساطير ثم برمز المسيح على مجه الخصوص، قد محت حينا المسافة القائمة بين الله والانسان، فهو حين أصيب بفزع بالغ من الموت لدى نبوءة عراف هندي تقول أن الحياة ستنتهي يوم 2 شباط 1962 وجد نفسه يحاسب الله في حنق بالغ لأنه يصرع الأطفال ويخيب الآمال (2) :

يكاد يهوي من صراخي عنده التاج

ويهدم عرشه ويخر، تطفأ حوله الآباد والآزال

ويقطر لابن آدم قلبه ألما وينفطر

فإذا كان للمرض من اثر في موقفه من الالوهية، فهو انه عاد به

(1) ديوان إقبال: 46.

(2)

المعبد الغريق: 80، وهذا يرد في معرض الحلم، ولكن ذلك لا ينقص شيئا من الحقيقة التي أتحدث عنها.

ص: 375

إلى معرفة الحد الذي لا يصح للإنسان أن يجاوزه في تصوره للإله، حتى وان كان ثائرا شاكيا. ولولا المرض لما تعرض هذا الجانب في السياب إلى مثل الاختبار العسير، فقد كانت راحته النفسية في عودته إلى " الروحية "، وكان من الممكن أن يظل مطمئنا في ذلك الحمى الآن، لان السكينة فيه هي السكينة فيه هي السكينة عينها التي تنبع من قلب الأم؛ وليس من المصادفات ان تصبح " النخلة " رمزا للإله؟ في بعض لحظات المزج بين السكينتين - كما كانت دائما رمزا للأم (1) :

وابصر الله على هيئة نخلة،

كتاج نخلة يبيض في الظلام

أحسسه أقول: " يا بني، يا غلام

وهبتك الحياة والحنان والنجوم؟.. ومن الأسماء الأسطورية التي عثر عليها في هذه الفترة " ايكار "(2) و " اورفيوس " وقد ذكر الأول في حديثه عن شباك وفيقة (3) :

إيكار يسمح بالشمس

ريشات النسر وينطلق

إيكار تلقفه الأفق

وزماه إلى اللجج الرمس

وتبدو الصورة بعيدة الصلة بما حولها إلا أن يعني أن شباك وفيقة هو نفسه إيكار وأنه قد نأى عن الأعين المنتظرة ثم سقط فوارته

(1) المعبد الغريق: 51 - 52.

(2)

ايكار ابن ديدالوس، جنح نفسه هو وأبوه بأجنحة من شمع وطارا من تيه مينوس في كريت، ولكن ايكار اقترب كثيرا من الشمس فذاب جناحاه وسقط في البحر ومات غرقا.

(3)

المعبد الغريق: 5 - 6.

ص: 376

اللجج، أي ضاع من دنياه إلى الأبد. وأما اورفيوس فانه يمثله لأنه شق طريقه بالحنين والغناء، وفتح بأنغامه مغالق الفناء، والسياب وقف عند دار جده في جيكور فرأى عالم الفناء نفسه، مع انه ظل طوال حياته يمنح جيكور الضياء ويكسوها الرواء بشعره (1) :

وبالغناء يا صباي يا عظام يا رميم

كسوتك الرداء والضياء

ومع ذلك انطبق من حولها فكا الفناء كما انطبقا على " يورديس " ولم يستطع إنقاذها.

(1) المعبد الغريق: 48.

ص: 377