المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عولس ينتظر المعجزة - بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره

[إحسان عباس]

الفصل: ‌عولس ينتظر المعجزة

- 28 -

‌عولس ينتظر المعجزة

حين عاد السياب إلى البصرة عمل موظفا في مديرية الموانئ العامة بالمعقل (1) ، ويقول الأستاذ العبطة انه توظف محررا في مجلة حكومية بالبصرة (2) وهما وظيفتان متلازمتان أو وظيفة واحدة، إذ كان تحرير المجلة في مديرية الموانئ ابرز مهماته.

ولكن كيف يفر السياب من بغداد؟ وهل تصفح عنه هذه المدينة التي سماها من قبل " المبغى "؟ أنها تطارده حيثما اتجه لترده إليها لا ضنا به وإنما إمعانا في تعذيبه. لقد تقرر أن يعقد وزراء خارجية الدول العربية مؤتمرا لهم ووقع اختيارهم على بغداد لتكون مركزا لذلك المؤتمر، واستقبل بعضهم بالمظاهرات الصاخبة؟ وبعضها للحفاوة والترحيب - وتمت اجتماعات الوزراء بين 31 كانون الثاني (يناير) و5 شباط (فبراير) من عام 1961، ولكن الشرطة في بغداد لم تكن راضية عن تلك المواكب، ولهذا عمدت إلى اعتقال من قدرت انهم دبروها، وللشرطة تقدير لا يخطى فكل من دون اسمه في سجلاتها (وان

(1) انظر العبطة: 76 وهذا عنوان رسائله إلى سيمون جارجي (عام 1962) .

(2)

العبطة: 16 وانظر حوار العدد: 15 (ص: 128) .

ص: 339

غاب أو مات) محرض يتحتم اعتقاله. كذلك الحال قبل الثورة، يقول كاراكتاكوس:" وكانت إحدى الأرامل التي توفي ولدها تتلقى مثل هذه الزيارات من رجال الشرطة بعد كل مظاهرة بحثا عن ولدها المشبوه "(1) ، وكذلك كانت الحال بعد الثورة، " وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا "؟ فان الشرطة لم تقرأ مقالات بدر في التنصل من اشيوعية، ولا يهمها أن تقرأ ما دام اسمه في " كتاب مبين ". ثم لا يهمها أيضاً أن يكون في بغداد أو بعيدا عنها. بل هو في بغداد رغما عنه، وان ادعى انه هاجر منذ أسابيع إلى البصرة.

وسيق الرجل الذي حرق جميع سفنه الحمراء وهو ينادي " يا أعداء الشيوعية اتحدوا "، ونقل في قطار بضائع في شتاء العراق القارس القاسي إلى بغداد، وزج به في السجن مع الرفاق الشيوعيين. أية سخرية تراءت لبدر الساخر الفكه في تلك اللحظة؟ لا أحد يدري، ولكن المناكفات والتعبيرات ونكأ الحزازات تركته لقى على ارض السجن أو حطاما، فاضطرت دائرة الامن إلى نقله من بين الرفاق ووضعه مع البعثيين، ولا ريب في انه كان أقرب إليهم ميولا وروحا حتى قيل انه بعد خروجه من الحزب الشيوعي تحول بعثيا. ويقول الثقة الذي روى هذه القصة (وأنا اكتم اسمه متعمدا) ؟ وتلك قصة لم يشر إليها بدر بصراحة - أن البعثيين الذين دخل السجن معهم كانوا يقضون ليلهم وهم يداوون جراحهم وحروقهم لشدة ما يلقون من صنوف التعذيب حتى بلغ الأمر بأحدهم وقد تشوهت خلقته أن لف نفسه ببطانية واحرق نفسه على مرأى من السياب. وفزع الشاعر ذو الحس المرهف للموت يراه عيانا على بعد خطوة، فانهارت نفسه، وخرج من السجن معتلا، يظن ان سر الوهن في جسمه النحيل، لأنه

(1) ثورة العراق: 54.

ص: 340

لا يقوى على تحمل الآلام، ولكن الوهن في الواقع كان صدمة نفسية عميقة تزلزلت لها أركان جسمه، وكانت بداية النهاية في تلك الرحلة.

تلك رواية ترجح في نظري على ما حكاه الأستاذ علي السبتي، فقد ذهب إلى أن بداية الانحدار في صحة السياب إنما جاءت اثر مروره على مقهى يجلس فيه بعض أصحابه القدامى من الشيوعيين، فلما حياهم لم يردوا التحية بمثلها وإنما لاذوا بالصمت عامدين فأحس بجرح عميق وكآبة غالبة، وطوى النفس على ألم ومرارة، وفي صباح اليوم التالي حاول الوقوف على قدميه فلم تسعفه قوته.

وأكبر الظن أن هذه الرواية تحوير لما رواه هو عن نفسه في مقالاته التي هاجم الشيوعيين، فقد قال:" بالأمس كنت أسير في شارع أبي نواس مساء حين صادفني رفيقان من الرفاق الشرفاء جدا وقد عرفاني، قال أحدهما وهو يخاطب زميله بصوت عال يقصد منه اسماعي: " صاير قومي؟ انعل أبوك؟ " (1) على أنا لو مزجنا بين رواية الأستاذ السبتي وهذه الرواية لم يكن ثمة تناقض، ولكن ليس من المعقول ان يستكثر السياب تنكر رفاق الأمس له بعد تلك المقالات، وليس من الطبيعي ان تنجرح أحاسيسه من قوم لم يترك في اديمهم موضعا لسهم جديد.

ذلك الانهيار المبكر هو الذي يفسر لنا قول السياب في أتحدى قصائد ذلك العام (2) :

منطرحا أصيح أنهش الحجار

أريد أن أموت يا اله!

فمع أن الموت أصبح هو " المنقذ " في نظره قبل هذه الفترة إلا أن

(1) الحرية، العدد:1471.

(2)

المعبد الغريق: 29 وتاريخ القصيدة 26 - 8 - 1961.

ص: 341

هذه النغمة في استدعاء الموت الوحي موصولة بشعوره العام بالانهيار النفسي بعد إحساسه ببوادر الضعف الجسماني.

ولكن ان كانت مقالات السياب ضد الشيوعية غير كافية في إثبات " براءة الذمة " في نظر الشرطة العراقية، فان أقل منها بكثير كان يكفي لإدراج اسمه في فئة جديدة، لا ضير في ان تسمى فئة المقاومين للشيوعية، فقد أعلن هو نفسه انه عقد العزم على محاربتها حتى الرمق الأخير، ولهذا الإعلان قيمته وخطره، خصوصا حين يصدر عن شاعر لمع اسمه عنوانا على اتجاه حديث في الشعر، ولهذا دعي إلى مؤتمر يتناول الحديث في الأدب العربي المعاصر ويعقد في رومة (بتاريخ 16 - 20 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1961) ليكون أحد المحاضرين فيه حول موضوع " الالتزام واللا التزام في الأدب العربي الحديث ".

وسافر السياب إلى ذلك المؤتمر فمر ببيروت، ومنها أقلته الطائرة إلى رومة في صحبة صديقه أدونيس والأستاذ خليل رامز سركيس، وفي رومة نفسها التقى بعدد من أدباء العالم العربي شرقيه وغربيه وبعدد آخر من الأدباء الغربيين والمستشرقين، وجدد بدر العهد بلقاء صديقيه: الشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي والأديب جبرا إبراهيم جبرا، وتعرف إلى محيي الدين محمد ونشأت بينهما أسباب صداقة متينة (1) ، ولم يكن من المصادفة المحض ان يجتمع في مؤتمر واحد الشاعر ستيفن سبندر والروائي ايناسيو سيلونه وبدر شاكر السياب، وهم الذين تربطهم معا رابطة الثورة على النظام الشيوعي بعد انتماء، فقد حرصت منظمة حرية الثقافة ان يكون هذا الجانب ممثلا في ذلك المؤتمر، وهو

(1) شاهد بدر رغم ضعفه الجسماني - بعض معالم روما كالكوليزيوم والبلاتين وزار الفاتيكان وتجول في بعض الأحياء والمتاجر (أضواء 42، 46) .

ص: 342

جانب هام في نظرها؛ أما عن صلة العضوين الأجنبيين بالأدب العربي المعاصر وصلة أناس آخرين غيرهما من عرب وغير عرب بهذا الموضوع نفسه فأمر خارج عن مجال هذه الدراسة، وكذلك يقال في مناقشة كثير من الآراء الخاطئة والآراء الظالمة (أعني الخاطئة عن سبق إصرار وتعمد) التي قيلت في الأدب العربي وفي الحضارة العربية.

إنما الحديث هنا عن السياب، وكان المحاضر السابع (أي الأخير) في ذلك المؤتمر، وكانت محاضرته ذات شقين أحدهما كلمة موجزة؟ كالتي يقرأها الطلاب في كتب تاريخ الأدب للمدارس الثانوية؟ عن تطور الأدب العربي، والثاني الالتزام في الأدب الحديث وصلته بالشيوعية. ومما يثير الدهشة في هذا القسم من المحاضرة تردد بدر بين القضية العامة والأمثلة الساخرة الفردية التي لا تدل إلا على محاولة ادرج السخرية في غير موضعها. ومهما يكن من شيء، فان هذا القسم الثاني وهو موضوع المحاضرة يدور على فكرة محددة وهي أن الالتزام في الأدب العربي المعاصر يتجه في ثلاث وجهات: الالتزام كما يفهمه الشيوعيون، والالتزام القومي الحزبي وهو من نوع الأول ولا يختلف عنه إلا في بعض الألفاظ التي يرددها كل من الفريقين تبعا لاختلاف الشعارين، والالتزام الحق وهو مذهب الشعراء الذين بجأوا إلى الرموز يعبرون بواسطتها عن تذمرهم من أوضاع بلادهم السياسية والاجتماعية على السواء: " وتعرضت هذه الفئة من الشعراء الملتزمين التزاما حقا إلى هجوم من اليمين واليسار على السواء فهي في نظر اليسار فئة تخدم مصالح البرجوازية والإمبريالية ولا تفكر بالجماهيلار، وهي في نظر اليمين المتطرف فئة تحاول تحطيم الشعر العربي بالخروج هن أوزانه وطرائق نظمه المتوارثة مدفوعة إلى ذلك بدوافع شتى أعظمها ما يغدقه عليها الاستعمار من مال؟. (1) . ولم

(1) الأدب العربي المعاصر: 250 وأضواء: 123.

ص: 343

ينس بدر في هذه المحاضرة أن يقتبس رأي ستيفن سبندر في الواقعية، وأن يشيد بالشعراء التموزيين الذين أصيبوا بخيبة أمل فأقلعوا عن الالتزام (ترى متى كانوا ملتزمين؟) وانصرفوا إلى المشاكل الذاتية والشخصية بل وحتى (إلى) افتعالها:" ورأى ذلك في نفسي أنا شخصيا فكأنني أتخمت من الالتزام فأنا اتفلت منه؛ ولا أغالي إذا قلت ان نهاية الالتزام الحق في الشعر العربي المعاصر ستكون حين ينتهي هؤلاء الشعراء منه "(1) . ومن هنا نرى أن السياب سلك نفسه في عصبة من الشعراء أطلق عليهم اسم التموزيين، ولا ادري حظ هذه الكلمة من الصواب ولكنها ليست من ابتكاره. إلا أن صراحته بقوله: انه أتخم من الالتزام فهو يحاول أن يتفلت منه، ذات دلالة عميقة على الاتجاه الذي سار فيه قبيل مؤتمر رومة ومن بعده، ولا يعادلها صراحة إلا إيماؤه؟ على طريقته العفوية الساذجة - إلى الذين يتهمون بان المستعمر يغدق الأموال عليهم لكي يحطموا صلتهم بالتراث العربي وطرائقه في الشعر.

ومع ذلك فان الفنان في السياب كان أقوى من المفكر، إذ بينما كان المفكر يعلن عن تخمته من الالتزام وعن اقتراب النهاية للالتزام الحق، كان الفنان يقول وهو يحس بألم الغربة في رومة (2) :

من جوع صعارك يا وطني أشبعت الغرب وغربانه

صحراء من الدم تعوي، ترجف مقروره

ومرابط خيل مهجوره

ومنازل تلهث، أوارها

ومقابر ينتشج موتاها.

(1) الأدب العربي المعاصر: 251 وأضواء: 124.

(2)

المعبد الغريق: 56 وتريخ القصيدة 19 - 10 - 1961.

ص: 344

ولكن هذه اللفتة الحزينة كانت قد أخذت تصبح كالنغم الضائع بين صراخ اللهفة اللاهفة إلى الجسد البعيد، وحين كان السياب في بيروت عائدا من المؤتمر (26 - 10 - 1961) كان لهاث الشهوة يحجب عن سمعه كل صوت آخر (1) :

تمزق جسمك العاري

تمزق تحت سقف الليل نهدك بين أظفاري

تمزق كل شيء من لهيبي غير استار

تحجب فيك ما أهواه؟.

فخف عائدا إلى البصرة وجيكور، إلى التراب الذي لا يحس بالراحة في سواه. ولكن لا راحة مع المرض؟ ذلك الباب الواسع الشارع على عالم الأموات:

أهكذا السنون تذهب

أهكذا الحياة تنضب

أحس أنني أذوب، أتعب

أموت كالشجر (2)

كانت حالته الصحية قد ساءت، وقد شهد مؤتمر رومة وهو كما وصفه أحد المدعوين إلى ذلك المؤتمر " جلد على عظام؟ يمشي متأرجحا بخطوات يجرها على الأرض جرا ثقيلا يتعثر معه بقدميه فيكاد يسقط على الأرض مع كل خطوة "(3) .

وتلقته بيروت مرة أخرى بصحبة زوجته إلا انه في هذه المرة كان يمشي بعكازتين، ومنذ تلك اللحظات بدأ صراع بدر مع الموت الحقيقي

(1) المعبد الغريق: 146.

(2)

المعبد الغريق: 52.

(3)

أضواء: 46.

ص: 345

- لا الموت المتخيل ولا الآخر المرتجى - وطال به التردد بين التشبث الطبيعي بالحياة حينا وبين معانقة الموت أملأ في الخلاص من الآلم الجسدية. وسد عليه الإحساس بالموت أقطار الوجود فلم يعد يرى شيئا سواه، وإذا لاح شيء رآه في مرآة الموت أو من خلاله؟ وفي مثل هذه الحال يتلاشى الالتزام تلقائيا، ويصبح اللوم على كثرة التقلب والتردد واللحظات الخائرة، نوعا من ترف الأصحاء الذين لا يستطيعون ان يدركوا حقيقة الموت في نضارة العافية.

في بيروت دخل مستشفى بولس، ثم اسلم نفسه آلة طبيبة ألمانية مختصة بالأعصاب وحتى (19 - 6 - 62) كان يعتقد انه لمس بعض التحسن على يدها (1) ، ولكن هذا التحسن كان ضربا من التفاؤل، ولهذا كتب من بعد يقول:" أما أنا فقد ذهبت ضحية للأطباء اللبنانيين الذين كسروا ظهري فأصبحت عاجزا عن المشي دون عصا؛ وحتى مع العصا فان مشيي بطيء مضطرب؛ أهذا هو شبابي؟ (2) " وحين لقيه الأستاذ عيسى الناعوري ببيروت حدثه ان بيروت ومستشفياتها لم تستطع أن تمنحه غير اليأس من الشفاء (3) .

وكانت المشكلة الكبرى هي الناحية المادية، وقد قدر أن الإقامة في بيروت تكلفه يوميا ليرة أجرة فندق وممرضة وثمن أدوية..الخ ولم تكن النقود التي أخذها من ناشري كتبه لتسد ما يحتاج إليه، ولهذا كان لا بد من مصدر للأنفاق على علاجه، دع عنك الإنفاق على عائلته في العراق. وكتب إليه الأستاذ سيمون جارجي يخبره بأن منظمة حرية الثقافة تتبرع بتكاليف العلاج إذا هو حضر إلى لندن، فرد قائلا: " كيف

(1) أضواء: 131 (من رسالة إلى سيمون جارجي) .

(2)

أضواء: 132 (من رسالة غير مؤرخة إلى سيمون جارجي) .

(3)

أضواء: 46 وانظر ما كتبه الأستاذ خالد علي مصطفى مصورا حاله اثر عودته من بيروت (ملف مجلة الإذاعة: 27) .

ص: 346

السبيل إلى قبول عرضهم السخي وأنا منذ حوالي الشهر لست قادرا على المشي بل ولا حتى على الوقوف؟ ثم أنني موظف حكومي وإجازاتي محدودة، ولم يبق لي من حق في إجازة اكثر من شهرين: شهر يمضي حتى أستطيع المشي وشهر أقضيه في الراحة: في لبنان إذا حصل المال وإلا ففي قيظ العراق؟ وما دمتم قد تبرعتم لعلاجي فلتكن مساعدتكم لي وأنا في لبنان. قد روا المبلغ الذي أصرفه في لندن ثم حولوه لي هنا " (1) .

وأرسل أصدقاؤه من الأدباء ببيروت برقية إلى السيد عبد الكريم قاسم يوجهون فيها نظرة إلى ما يعانيه شاعر عراقي مرموق، ويطلبون إليه أن تقوم الدولة العراقية بالإنفاق على علاجه، وكان وزير الصحة آنذاك وهو السيد عبد اللطيف الشواف صديقا للسياب منذ فترة بعيدة، ولهذا تولى لقناع رئيس الوزراء بالأمر، ويقول الدكتور عبد الله السياب: أن عبد الكريم قاسم رفض تقديم له لأن بعض مقالات بدر كانت قد خلقت له بعض المتاعب (2) ، غير أن وزير الصحة لم ييأس، وتابع السعي حتى استطاع إقناع الزعيم بصرف معونة للشاعر، فصدر الأمر إلى الملحق العسكري في بيروت (الزعيم غانم إسماعيل) والى العقيد محسن الرفيعي مدير الاستخبارات العسكرية بأن يقدما للسياب مبلغا معينا وباقة من الزهر باسم رئيس الوزراء.

وهنا مسألة لا بد من أن نجلو غامضها في سبيل الحقيقة التاريخية،

(1) أضواء: 131.

(2)

يقول مصطفى أن أخاه فصل من وظيفته بمديرية الأموال المتوردة لأنه نظم قصيدة في عبد الكريم قاسم صور فيها شخصا يهدي إلى آخر قميصا مسموما (أي أن نوري السعيد أهدى ثيابه إلى عبد الكريم قاسم) وانه كان ينبز عبد الكريم بلقب " أبي اللقالق "، ولعل المقالات التي يشير إليها الدكتور عبد الله هي تلك التي هاجم فيها الشيوعيين.

ص: 347

فان هذه الهبة من رئيس الوزراء قد ارتبطت في الأذهان بمدح الشاعر له، وقيل في الشاعر من اجلها انه رجل متقلب سياسيا، وبخاصة وأنه هجا عبد الكريم قاسم يوم مصرعه. ويقول الأستاذ ناجي علوش في مقدمة ديوان إقبال " أما قصة هذا المدح فهي أن بدرا حين لم يجد معينا له في محنته طرق أبواب المسئولين في العراق ليساعدوه، فما كان منهم إلا أن ساوموه على قصيدة يمدح بها الزعيم مقابل المساعدة المرجوة، وفعل بدر ما طلبوا فحصل على مبلغ ضئيل من المال "(1) ؛ ويحتاج هذا القول إلى تصحيح في موضعين: أولهما أن بدر لم يطرق أبواب المسئولين في العراق، وقد حكيت قصة البرقية ودور وزير الصحة في هذا الصدد، والثاني أن العلاقة بين تلك المساعدة والمدح لم تكن " امدح وخذ " وإنما كانت ضربا من التخجيل، فقد دفع الرجلان المكلفان بالأمر ما قرره عبد الكريم قاسم، وفيما كانا في زيارة السياب في المستشفى قالا له بلهجة عتاب:" ألا تمدح رجلا أحسن إليك "، وأحس بدر بالحرج؟ بعد أن قبض الهبة المالية وهو في حاجة ماسة إليها - فكتب تلك المدحة؛ تلك هي رواية الدكتور عبد الله السياب، وأراها مقبولة من شتى النواحي؛ ولما انتقل بدر إلى لندن للعلاج كرر صديقه وزير الصحة سعيه لدى قاسم واستخرج له مساعدة أخرى؛ والسؤال الذي يذر قرنه في هذا المجال هو: ما مدى المثالية التي نريد أن يتحلى بها شخص على حافة القبر وهو لا يجد عونا من لائميه أنفسهم؟ أن " الاستشهاد " حقيقة لا يمكن أن تتطلبها من الآخرين ونحن نحجم عن تقديم ما هو دونها بكثير. وان من يطالب بدرا بذلك فهو أحد رجلين: أما امرؤ يرى فيه تميزا حقيقيا بنهاية بطولية، وأما امرؤ يختبئ وراء المثل الأعلى ليداوي ما يحس به من عجز وتقصير.

(1) ديوان إقبال: 15 - 16.

ص: 348

وربما اربت المدة التي قضاها السياب في بيروت على ثلاثة اشهر، وقد أكد كثير ممن رأوه حاله التداعي والضعف البالغ والإعياء والاضمحلال الذي يبلغ حد التلاشي؛ قال الأستاذ أميل يوسف عواد:" ذات يوم من سنة 1962 دعاني صديقي الدكتور جميل جبر ممثل المنظمة العالمية لحرية الثقافة إلى حفلة كوكتيل تقام في مكاتب هذه المنظمة في بيروت؛ وفي هذه الحفلة تعرفت على بدر شاكر السياب الشاعر العراقي وكانت هي المرة الأولى التي شاهدته فيها، ولن أنسى تلك اللحظة التي أطل بها بدر علي، فقد تمثلت أمامي مآسي الإنسانية كلها: الفقر والمرض، الظلم والحرمان، الاستعباد والاضظهاد، ذلك لانني رأيت بدرا ينوء تحت حمل ثقيل منها، ووجدته كتلة هزيلة من الجلد الأسمر الباهت والعظام المنهارة؟ "(1) وقال الأستاذ أنسي الحاج: " كان ينقل ويحمل ويقذف كالمربوط بالجنزير، كالملفوف بالأقماط، يضؤبه الهواء من ظهره فيدفعه إلى الأمام، وحين تكون الضربة ضعيفة لا تمشي قدماه فيقف ويظل واقفا حتى تأتي ضربة الهواء أقوى؟. كنت أمشي معه مرة في بيروت، ساحة رياض الصلح. خجلت أن أعطيه ذراعي فاستعمل الحيطان؛ لم يكن يمشي، كان يستسلم للفراغ فيشيله؟. وكان لا ينقطه عن الحكي الضائع، ليس هذيانا ولكنه إغماء على الكلام؟. وكان لا ينقطع عن إبداء الود والتعبير عن العواطف الجياشة وارتجال الشعر واستذكار الشعر ولوم الشعراء وفلش حرقة قلبه على أصدقائه الشيوعيين الذين رافقهم مدة ثم تخلى عنهم وكأني به وهو يبدي حرقة قلبه عليهم، يخفي حرقة قلبه من نفسه وعلى نفسه لأنه تخلى عنهم تاركا ما كان يؤمن به إلى ما لا حاجة للأيمان به "(2) .

وأحس بدر في بعض لحظاته في بيروت أن النهاية وشيكة فكتب

(1) أضواء: 43.

(2)

أضواء: 34 - 35.

ص: 349

وصيته (1) :

إقبال يا زوجتي الحبيبة

لا تعذليني ما المنايا بيدي

ولست؟ لو نجوت - بالمخلد

كوني لغيلان رضى وطيبه

كوني له أباً وأما وارحمي نحيبه

وعلميه أن يديل القلب لليتيم والفقير

وعلميه؟..

ورغم انه يغضب الكلمات، فتبقى الوصية مبتورة، كأن يستسلم أحيانا لجواذب الدنيا لان مادة الحياة فيه لم تمت؛ ومن المفارقات غير العجيبة أنه كان ما يزال يؤمن بقدرته على الحب، وبقدرته على أن يكون هدف حب، وذلك تشبث بالحياة بكلتا اليدين، ولولا قسوة التعبير لقلنا انه كان في حاجة إلى كل كلمة تنضح " بالحنو " ليحس انه ما يزال يتنفس هواء هذه الأرض، وهو يتحدث عن هوى في بيروت كاد يحقق المعجزة ويشفيه من دائه:" وكان ذلك الحب هو الذي شفاني لا أدوية الدكتورة؟. الألمانية الحقيرة، شفاني حبها كما شفى الشاعر روبرت براوننغ الشاعرة الإنكليزية من الكساح بعد أن ظلت تعانيه لمدة عشرين عاما؛ لم تدم فترة لقائنا سوى عشرين يوما أو أقل. ثم ساقتني زوجي كما يسوق الراعي الغنم أمامه إلى سلم الطائرة ثم العراق، فيا لي من تعيس بزواج وبلقاء قصير كهذا وبداء خبيث كهذا "(2) ، ولا ريب في أنه كان يبحث عن المعجزة، وسيبحث عنها فيما بقي من ايام، كلما أعياه أن يجد في الطب طريقا للشفاء.

(1) المعبد الغريق: 161.

(2)

من رسالة إلى أدونيس بتاريخ 17/9/1964.

ص: 350

وازدادت حاله سوءا بعد عودته إلى العراق: " ما زالت صحتي متردية، سقطت أخيرا فانفطر العظم في رجلي وانفسخت في موضعين، ورغم العلاج الطويل ما زالت رجلي غير جيدة، وما زلت عاجزا عن السير إلا بمعونة العصا؛ لكنني لست يائسا ولا متشائما. ما زلت في الحياة أشياء جميلة كثيرة: الشعر والقصص واستذكار حوادث من الماضي ودفء الصداقة "(1) . ويضيف في الرسالة نفسها: " لم أكتب شيئا منذ مجيئي من بيروت إلا قصيدة شكر لزعيمنا وسأنشرها في إحدى الصحف العراقية قريبا ".

وعاد الأستاذ سيمون جارجي ممثل المنطقة العالمية لحرية الثقافة يقدم له شيئا من العون، وكان هذه المرة في صورة " زمالة " Fellowship دراسية بانكلترة حيث يدرس ويعرض نفسه على أطباء متخصصين، ووعده بان تنفق المنظمة أيضاً على معالجته (2) ، وكتب بدر يستأذن الحكومة العراقية في ذلك فوافقت، وكتب إلى الأستاذ جارجي يقول:" أنا في انتظار بطاقة السفر بالطائرة التي ترسلونها ومصاريف الشهر الأول إذا تفضلتهم؛ انها فرصتي الوحيدة في الحياة، فأما أن أعود من لندن معافى أمشي كما يمشي بقية الناس وإما الشقاء الذي لا بد أن يؤدي إلى الانتحار، فالموت خير من حياة الكسيح؟. أما زلتم عند وعدكم بتحمل تكاليف معالجتي في لندن؟ نعم فليس من عادة المنطقة العالمية لحرية الثقافي أن تنكث بوعدها أو ان تسحب هباتها "(3) . وعرج على بغداد قبل سفره، وزار صديقه جبرا في منزله؛ قال جبرا: " غير

(1) من رسالة إلى أدونيس بتاريخ 13/10/1962.

(2)

يقول الأستاذ جبرا إبراهيم انه هو الذي سعى له في هذه الزمالة مع بعض الأصدقاء، ليدرس باكسفورد ويتفرع لكتابة مذكراته، غير أن مرضه أخره عن السفر في الوقت المقرر للدراسة فقبل في جامعة ضرم (درم - Durham) في شمالي انجلتره (حوار ص 128 العدد: 15) .

(3)

أضواء: 132 (من رسالة غير مؤرخة) .

ص: 351

انه في دارنا؟ وكان اليوم مشرقا جميلا - كان مرحا كثير الكلام كعادته، وبعد الغداء تجولنا في سيارتي في مدينة المنصور. لقد انتابني خاطر مظلم: رحت أتجول في الطريق الجديدة في المنصور، وشعرت كأنه يودع كل ما يراه من تراب وسماء وحجر، لم يرد أن ينتهي التجوال بنا، وكنا كدأبنا نتحدث عن الشعر، عن الشعراء، عن الحياة، عن المستقبل، عن السخط على السياسة " (1) .

وطار بدر إلى لندن (أواخر عام 1962) ووضع تحت إشراف أخصائي الأعصاب الدكتور ت. هـ. ادواردز، وأدخل مستشفى سانت ماري بلندن، وأجريت له التجارب التي أمر بها الطبيب، وأعطى في عموده الفقري إبرة لتلوين النخاع الشوكي، وقرر الطبيب ان لديه اضطرابا عصبيا في المنطقة القطنية من العمود الفقري هو الذي سبب له الشلل في ظهره وساقيه، ولعله صرح بأن داءه مما لم يهتد الطب فيه إلى علاج بعد، ولا يستطيع بدقة تعيين أسبابه. وفي لندن ودرم فقد بدر من يستمع إليه وهو يبث هذيانه وهواجسه، فتحولت تلك الهواجس الهلاسية كلها إلى شعر، حتى أنه في مدى ستة وأربعين يوما نظم ما يقارب أربعين قصيدة، أكثرها في تهوين الموت على نفسه وهو يستمع إلى صوت أمه تناديه، وفي الحديث عن الأمنية الأخيرة وحال الاحتضار وعبور البرزخ نحو الموت، ويقظات من الشهوة الملتهبة وأمل خافت بالشفاء وطرح العصا والعدو إلى الزوجة والأطفال والإحساس بجمال الوهم (2) :

هرم المغني فاسمعوه برغم ذلك تسعدوه

ولتوهموه بأن من أبد، شباب من لحون

(1) حوار، العدد 15 (ص:28) .

(2)

منزل الاقنان: 131.

ص: 352

وهوى ترقرق مقلتاه له وينضح منه فوه.

في هذه الشئون كلها تندفع كلماته كأنها قطرات دم تتساقط متتابعة من جرح فاغر. وفي لحظات كادت المعجزة تحقق ما عجز عنه العلم، لقد قتل قاسم (1) :

هرع الطبيب إلي؟ آه لعله عرف الدواء

للداء في جسمي فجاء

هرع الطبيب إلي وهو يقول: ماذا في العراق؟

الجيش ثار ومات قاسم؟ أي بشرى بالشفاء

ولكدت من فرحي أقوم، أسير، أعدو، دون داء.

ولكن المعجزة لم تتحقق، وسافر إلى باريس، فقضى فيها أياما تحت عناية الأستاذ جارحي الذي قدم له كل مساعدة ممكنة، فعرضه على طبيب أعصاب فرنسي، فكان ما قاله في تشخيص مرضه موافقا لما قاله الطبيب الإنكليزي، وطاف به في باريس بسيارته وأراه معالمها الكبرى، وفي الفندق الذي أقام فيه تعرف إلى الكاتبة البلجيكية " لوك نوران " وقرأ لها شيئا من قصائده، وحدثها عن سحر الطبيعة في جنوب العراق، وكانت الكاتبة تواسيه كل يوم بهدية من القرنفل، ومن اجلها كتب قصيدته " ليلة في باريس ":

لم يبق منك سوى عبير

يبكي وغير صدى الوداع " إلى اللقاء "

وتركت لي شفقا جمعها إناء.

وظل قلبه لهذا الحنان إلي غمرته به حتى سماها في بعض رسائله: " شاعرتي، صديقتي، اميرة خيالي وشعري "(2) . وقد

(1) منزل الاقنان: 137.

(2)

أضواء: 133.

ص: 353

صاحبه في رحلته هذه بين لندن وباريس صديقه مؤيد العبد الواحد، فكانت مرافقته له تخفف عنه آلام الوحدة، وتدخل التسلية على نفسه بقراءة أشعاره لذلك الصديق، ومرة أخذ يقرأ له " أنشودة المطر " على ضوء شمعة؟ بعد أن انطفأ ضوء الكهرباء في الفندق بباريس، وكان المطر اخذ يتساقط، فقال السياب لرفيقه: لقد أمطرت لكثرة ما رددت: مطر؟ مطر؟ مطر؟ فهل سأشفى إذا ما رددت: شفاء؟ شفاء؟ شفاء؟ " (1) لقد اصبح تعلقه بالقوة السحرية التي تفاجئه بما يرد لرجليه قدرتهما على المشي هو محور تفطيره واعيا أو دون وعي، ومن هذا القبيل قوله لصديقه المذكور وهما في لندن: " أنني أتوقع معجزة تأتيني من السماء على صورة ملاك صغير بيده سعفة نخيل خضراء (لعلها من تلك النخلة التي تظلل القبر عند بويب) يضربني بها ضربة واحدة اثناء نومي في الليل، وعندما يأتي الصباح تراني أسير على قدمي وكأن شيئا لم يحدث لي؟ " (2) .

وقبل أن يعود إلى العراق طمأنه صديقه الأستاذ جارجي بأن المسئولين في المنطقة قد وافقوا على أن يكون مراسلا لمجلة حوار التي تصدرها المنظمة في بيروت؛ وعندما نتأمل هذا العطف المتوالي على شاعر أهمله اهله، فهل من حقنا أن نسأل: أكانت المنظمة تعتني بالشاعر الكبير أم كانت تعتني بالشيوعي المنشق؟ أياً كان الأمر فان بدرا لم يكن في حالة نفسية أو جسمية تجعله يرفض ما يقدم إليه، وإذا علمنا انه لدى عودته إلى بلده وجد نفسه مفصولا من عمله لأنه غاب عن مركز وظيفته مدة تجاوزت ما يسمح به القانون، إذا علمنا ذلك تملكنا خزي شديد ليس من قبيل التلذذ بالتعذيب الذاتي، وإنما هو أسى على الإنسان

(1) أضواء: 54.

(2)

أضواء: 49.

ص: 354

العربي الذي يحيا دون ضمانات اجتماعية، فيعيش فريسة لتقلبات الظروف والسياسات ويموت ميتة الكلاب الضالة.

وليس من قبيل الثناء على السياب أن تقول انه استقبل أمر الفصل دون غضب، إذ كانت نفسه مرتاحة إلى الثورة التي ذهبت بقاسم وحكمه:" العهد الجديد في العراق منعش للروح مجدد للقوى، ولعله هو السبب المباشر في التحسن الذي طرأ على صحتي منذ وصولي إلى العراق "(1) . نعم أن كل ما يتصل بقطع رزقه وهو في تلك الحال يورثه صدمة: " ولولا الصدمة التي أصابتني نتيجة لفصلي من العمل لكنت الآن أحسن كثيرا "(2) ولكنها كانت هذه المرة خفيفة، وبعد فترة قصيرة الغي قرار الفصل.

ولم يكن السياب يطمع في دخل كبير، إذ كان يعلم ان حاله لا تسعف على شيء من ذلك، وقد صرح للأستاذ جارجي بأن ما يعادل أربعمائة ليرة لبنانية في الشهر يكفيه ليعيش وعائلته عيش الكفاف، وهذه مقدمة مكشوفة لسؤال تال: كم أتقاضى شهريا عن عملي مراسلا لمجلة حوار؟::أنني مدفوع لأن اتجه هذا الاتجاه المادي في التفكير نتيجة الظرف الذي أنا فيه " وبعد بضعة أسابيع يكتب قائلا: " استلمت مع الشكر صكا بمبلغ أربعين دولارا لقاء اشتغالي مراسلا أدبياً لمجلة حوار " (3) .

وكان منذ عاد من باريس يستعمل شيئا من الدهونات ودواء وصفه له الطبيب الفرنسي، ويحس ان نقطة الضعف لديه هي أن عموده الفقري لا يعينه على المشي بل يخذله مرات عديدة، حتى ليسقط على الأرض

(1) أضواء: 133 (من رسالة بتاريخ 30 - 3 - 63) .

(2)

أضواء: 137 (من رسالة بتاريخ 20 - 4 - 63) .

(3)

أضواء: 135 (من رسالة بتاريخ 11 - 6 - 63) .

ص: 355

رغم استعانته بالعصا. ولهذا تجيء لفظة " التحسن " أو " التحسن البطيء " في رسائله ضعيفة الدلالة. وقد كان يشكو اكثر الشكوى من موضع الإبرة التي زرقوه بها في العمود الفقري لتلوين النخاع، وهو يطلب نوعين من الدواء هما " المستينون "(Mestinon) والترنيورين (Terneurine) كما يلح دائما على صديقه جارجي ليراجع الطبيب الفرنسي في شأنه، فيصف له مزيدا من الدواء ويطلب إليه أن يقتطع ثمن ما يرسله من راتبه المخصص له عن مراسلة حوار (1) .

ولم يكن القائمون على حوار بحاجة إلى بينات جديدة عن مناوأته للشيوعيين ومذهبهم، بل لعلهم كانوا يعلمون أن ليس ثمة من تعادل في الفائدة المتبادلة، فهم قد استطاعوا أن يكسبوا شاعرا قوميا؟ في نظر القوميين - لقاء مبلغ زهيد يدفع اكثر منه أضعافا إلى من هم أقل منه شأنا بكثير، ولم يكن هو في الوقت نفسه يستديم المرتب الجديد حين يهاجم الشيوعيين، وإنما كان حنقه عليهم ما يزال متقدا، وكان ارتياحه إلى العهد الجديد جزءا من موقفه العام ضدهم، ولذلك لا تخفى نغمة السخرية بهم في رسالة إلى سيمون جارجي يقول فيها:" هل تسمع إخبار العراق؟ لقد انهار " الأبطال " الشيوعيون فراحوا يدلون بالاعترافات المفصلة المخزية؟. سوف تجمع هذه الاعترافات؟ كما أظن - في كتاب، وسأقتطف منه بعض الأجزاء لأضمنها كتابي عن التجربة الشيوعية في العراق "(2) . إذن كان ما يزال يأمل في أن يؤلف في أن يؤلف كتابا في تلك التجربة، يجمع فيه مقالاته التي نشرها في صحيفة " الحرية " ويضيف إليها أموراً أخرى صالحة لتكبير الصورة.

وكان الدفق الشعري الذي دفعت به الوحدة والمرض والاغتراب

(1) أضواء: 136، 138.

(2)

أضواء: 133.

ص: 356

وهو في لندن قد انحسر لدى عودته إلى بلده، إذ اصبح قادرا على الشكوى بغير الشعر، ولكنه كان شديد الرصد لهذا الذي حدث، يتلمس اسبابه، فحينا يرى أنها ركود طبيعي بعد الجهد الذي بذله في لندن وكانت حصيلته ديوانا سماه " منزل الاقنان " طبع اثر عودته لبيروت:" أنني أمر في فترة ركود بعد فترة النشاط المحموم في انجلتره حيث أنتجت منزل الاقنان؟ "(1) وحينا يرجح ان يكون الركود أو الجفاف ناشئا عن الجو العائلي الذي يعيش فيه (2) وحينا آخر لأنه يفتقر إلى تجارب جديدة (3) وكان كل ما نظمه منذ عودته حتى 20 - 4 - 1963 ثلاث قصائد، وارتفع العدد إلى أربع بعد ما يزيد على خمسة أسابيع، وبعد أسبوعين آخرين يتحدث عن ديوان جديد " لعله سيكون خير ما أنتجت حتى الآن " ويسأل صديقه أدونيس:" كم يدفع شريف الأنصاري في هذا الديوان "(4) وأغلب الظن ان قصائد ذلك الديوان لم تكن مما نظمه بعد عودته من باريس، وإنما ضم متفرقات من قصائد لم تنشر في الدواوين السابقة، نظمت من قبل، وهذا هو؟ فيما أقدر - ما سماه من بعد " شناشيل ابنة الجلبي " لأن اكثر قصائده مما نظم في لندن وباريس.

في تلك الأثناء حدث حادث له دلالته من بعض نواحيه على مفهوم السياب للعلاقات التي كان ينشئها بدافع الرغبة في الحصول على ما يكفل الكفاف، فقد انفصل أدونيس عن مجلة شعر وعصبة الشعراء الملتفين حولها وكتب قصيدة نشرت في صحيفة أخرى، فبادر السياب إلى تهنئة صديقه على القصيدة وإظهار الشماتة بمجلة شعر، بعد أن كفته " حوار " ما

(1) من رسالة إلى أدونيس بتاريخ 20 تموز 1963.

(2)

أضواء: 133.

(3)

أضواء: 136.

(4)

من الرسالة السابقة إلى أدونيس.

ص: 357

كانت تضطلع به المجلة الأولى من مدد مادي: " اكتب قصائد على مستواها، انك ابتدأت من حيث الشهرة خارج نطاق جماعة شعر منذ الآن، وسوف يخلو لك الميدان فلا منافس، منذ أول قصيدة تنشرها بعد انفكاكك من دار " شعر " وهنيئا لشعر بشعرائها الباقين؟ ماء إلى حصان العائلة، وهلم جرا "(1) .

ان ضروب ذلك النشاط وأنواع الاهتمام التي كان يبديها بدر تجاه أمور مختلفة متفاوتة تنبئ عن أن نسمة الحياة كانت ما تزال تتردد في بنيته النحيلة بقوة، وتشير أول رسالة من العراق بعث بها إلى حوار عن مدى انشغال نفسه بالموضوع الذي تحدث فيه إلى المؤتمرين برومة أعني موضوع الالتزام، ومع أنه لم يأت بشيء جديد حول تلك المشكلة نفسها، نجد لديه صورة جديدة يحاول أن يصوغ فيها رأيه في حقيقة الشعر:" أن الأثر الأدبي أو الفني يشبه اللؤلؤ وان عملية الخلق الأدبي تشبه إلى حد كبير عملية انبثاق اللؤلؤ وتولده داخل المحار؛ وحين يدخل إلى المحارة جسم غريب يحدث في أنسجتها الداخلية التهابا يجعلها تحيط ذلك الجسم الغريب بما نسميه فيما بعد لؤلؤة. وفي الإمكان إدخال جسم غريب إلى المحار بالإكراه لإحداث الالتهاب وتوليد اللؤلؤة، لكن مثل ذلك اللؤلؤ لن يكون إلا صناعيا لا يداني اللؤلؤ الأصيل في الجودة "(2) ، ومعنى هذا أن الجسم الغريب هو المؤثرات الخارجية كالتوجيه السياسي أو ما اشبه، مما يعده بدر إلزاما لا التزاما؛ أما الرسالة الآنية فأنها حافلة بأخبار الأدب في العراق، مما يدل على تتبع حي للحركة الأدبية هنالك، وإذا كان لنا أن نوجه الانتباه إلى شيء يتصل ببدر في تلك الرسالة فهو فهمه الدقيق لمعنى عمود الشعر ومخالفته للذين يطلقون هذا الاصطلاح على كل الشعر

(1) من رسالته السابقة إلى أدونيس.

(2)

حوار، العدد 6، ص:107.

ص: 358

القديم حتى ظهور الشعر الجديد، فهو يرى أن المقصود بعمود الشعر هو طريقة استعمال المجاز، (وحتى الصفات أحياناً) ، ومن أجل ذلك أتهم أبو تمم في القديم بالخروج على عمود الشعر مع انه لم ينظم على الطريقة الجديدة، ومع ذلك فان الذين يستعملون هذه اللفظة اليوم يقولون أن أبا تمام كان شاعرا " عموديا ".

ولكن هذه الطاقة الجديدة سرعان ما انحسرت، أثر برد شديد ألم به فأدخل مستشفى المواني بالمعقل، وطال به الرقود على سرير المستشفى، " ولم تتخذ احتياطات لوقاية ظهره من التعفن فحصل احتقان وجرح أخذ يتسع ويعمق حتى بدأ عموده الفقري فوصفت له بعض العلاجات كان أنجعها مرهم ينفق منه أنبوبا واحدا يداف بالبودر الطبي " (1) . ولذلك كتب يستصرخ صديقه رئيس تحرير مجلة حوار لعله يمده بالدواء اللازم:" شفيت من ذات الرئة لكن امتلأ ظهري من منتصفه حتى فخذي بجراح ناغرة فاغرة. لا تسأل عن العذاب والالم. دواء هذه الجراح الناجع في بيوت في صيدلياتها، واسمه درمنت بودر Dermont Powder أو هكذا اذكر؟. "(2) .

واجتمع عليه وهو في المستشفى الاقلال من الاهلين: البسر والأسرة؟ كما حكى المعري عن نفسه - فقد قطع عنه النصف الثاني من مرتبة؟ بعد فترة من قطع نصفه الاول، وفقد جدته التي كفلته بعد وفاة أمه (في 10 - 5 - 1964) وكتم الخبر عنه عشرين يوما (3) لئلا يصاب بنكسة، وأخيرا كان لا بد مما ليس منه بد، ولا ريب في أن الخبر كان

(1) جريدة الثورة العربية، بتاريخ 18 - 7 - 1965.

(2)

حوار، العدد: 15، وفي رسالة إلى جبرا بتاريخ 14 - 3 - 64 يذكر إصابته بذات الرئة وان هذا المرض قد كاد يزول إلا انه يشكو من سلوخ وكدمات في ظهره (ملف مجلة الإذاعة: 5) .

(3)

الثورة العربية 18 - 7 - 1965.

ص: 359

مؤلما، وان كان الانشغال بالآلام الذاتية يطغى على النفس ويقف كالدخان بين العين والمرئي أو بين البصيرة والتصور (1) .

وفي مطلع الربيع من عام 1964 تقرر نقله إلى الكويت، ومن الواضح ان الدافع إلى ذلك أمران: جودة العناية في مستشفياتها وقلة التكاليف المادية التي قد يتحملها معوز مثل بدر، وكان جرحه الناغر قد جف، وأصبح رحيله ممكنا، ولنستمع إلى رفيق طفولته وصباه الأستاذ محمد علي إسماعيل بقص قصة سفره إلى حاضرة البترول:" وصباح يوم سفره إلى الكويت كان الوجوم مخيما على زوجته وأطفاله وعمه وصهره وكنا في شرفة حديقة المطار وفوجئنا بامتناع ممل الخطوط عن السماح له بالسفر نظرا لحالته الصحية، وقبل إقلاع الطائرة أرسلت شخصا في المستشفى لجلب شهادة من الطبيب المختص، وكان بدر يلبس الكوفية والدشداشة ذات الجيب الجانبي فقلت له: عزيزي بدر، أنك في زي كويتي كامل فقال: لا، إن الزي ليس كاملا إذ ليس في الجيب دفتر صكوك. ثم اذن له بالسفر بعد ذلك فساروا به في عربته من الباب الرئيسي ووقفنا خلف السياج احمل طفلته الصغيرة آلاء التي كانت الوحيدة التي تلوح له فلا يراها، وحين صعوده سلم الطائرة محمولا حملت الرياح الكوفية من رأسه وطرحتها على جسم الطائرة من أعلى فتلطف بعض الركاب فجذبها وألبسه إياها على الدرج، وكان هذا آخر العهد به "(2) .

دخل بدر الجناح الرابع من المستشفى الأميري بالكويت في 6 - 7 - 1964 فقرر الطبيب الذي تولى فحصه انه يشكو من ضعف عام ومن عدم القدرة على المشي معتمدا على نفسه، وعند تشخيص

(1) كان بدر قد فقد أباه أيضاً في هذه المرحلة من مرضه.

(2)

الثورة العربية (التاريخ نفسه) .

ص: 360

مرضه وجد انه يعاني من Amytrophic Iateral Sclerosis أي " تطلب جانبي ضموري " وهو؟ كما يقول معجم شرف الطبي: " مرض جمع بين الالتهاب النخاعي الأمامي المزمن والتصلب الجانبي وأهم أعراضه ضمور العضلات مع تشنج الأطراف ومبالغة في المنعكسات وينتهي بالموت لانتشاره نحو النخاع المستطيل "(1) ومثل هذا التشخيص يتفق مع ما قاله الدكتور ادواردز بلندن وما قاله الطبيب الفرنسي، ويدل على أن إقامة بدر في المستشفى لم تكن في نظر الأطباء إلا انتظار للمصير المحتوم، ولكن هذا لا يمنع من بذل كل عناية لتخفيف الآلام عنه. وقد لازمه أثناء مرضه أخ كويتي كريم هو الأستاذ علي السبتي، فقد تعهده بالرعاية، وكانت صحبته تصله بالعالم الخارجي، وتهون عليه عذاب الوحدة، وتيسر له ما يحتاجه من شئون، هذا عدا عما بذله الأطباء والممرضون من عناية به. ويقول الأستاذ السبتي انه لطول الإقامة في السرير أصيب بتقرحات في الجلد، ولكن هذا لم يرد فيما قرره الأطباء. غيران السبتي يشهد؟ ويؤكد الطبيب شهادته - بان طول الإقامة كان مسئولا عن تدهور حاله النفسية. وفي رسالة إلى أدونيس يبدو عليها بعض الاضطراب في الخط والسهو في غير موضع (وهي تحمل تاريخ 17 - 9 - 1964) نجده ما يزال يتحدث في شيء من الهدوء عن صحته العامة وعن تدفق ينبوع الشعر:" صحتي العامة لا بأس بها، لكن ساقي الكسيحتين ما زالتا على وضعيهما، إن نفسي تتدفق بالشعر، لكنه يدفق من ينبوع ألم عظيم ويأس لا طرب. البارحة فحسب كتبت قصيدة ليس فيها حزن ولا يأس ولا ألم "، وكان الذي أثار هذه القصيدة أن السبتي سافر إلى لبنان وعاد يحمل إليه أنباء عن " أحبائه " في بيروت؟ أي عن " هواه " فيها - وشاع السرور في نفسه لأن

(1) انظر مادة Sclerosis ص: 806.

ص: 361

" الأحباء " وعدوا بأن يكتبوا إليه، ولعل السبتي إنما ألف قصة اللقاء والرسالة لينعش صديقه بشيء من الأمل، أما قصة الهوى نفسه فربما كانت مما حدثه به السياب في إحدى زياراته له.

ولكن هذه الخفقة لم تلبث أن ذابت كما يذوب الحبيب الطافي، وظل بدر فريسة لنوبات من الكآبة والاضطراب العصبي، وكان اشد ما يؤلمه قلقه على زوجه وأطفاله، وحين أصبحت نوباته " مرضية " أخذ يتردد عليه طبيب نفسي فقرر انه مصاب بما يسمى Reactive Anxiety أي " القلق الارتكاسي " أو " الانعكاسي "؟ وهو انعكاس للمرض الجسمي نفسه؛ وحين كانت النوبة تستبد به، فأنها كانت تتركه فريسة للوساوس والرؤى المزعجة، فينسرب في أحلام يقظة مخيفة ولا يكاد يستفيق من حلم راعب حتى يتردى في حلم آخر أشد هولا.

وفي أثناء تلك النوبات كان " الكابوس الشيوعي "؟ إن صحت التسمية - يضغط على نفسه ضغطا خانقا يسلمه إلى الرعب والهلع. دخل عليه صديقه السبتي في إحدى حالاته تلك، فلما استفسره عما يجد أخبره بأن أنباء موثوقة وصلته تؤكد ان جماعة من الشيوعيين تأتمر به لتقتله، قال السبتي:" فأخذت أطمئنه ثم رفعت وسادته ووضعت تحتها حافظة تقود خاوية وقلت له: هذا مسدس تستطيع استعماله ان دعت الحاجة إلى ذلك " ثم خرج ذلك الصديق وهو يوهمه أنه سيتصل بدوائر الأمن لتأخذ الحيطة اللازمة، وغاب عنه بعضا من الوقت وعاد إليه فبادره السياب قائلا أن أنباء أخرى وصلته تؤكد أنه قد تم القبض على تلك العصابة.

ومن الطبيعي أن يقال ان مثل هذه النوبة كانت تعني تضخم الوهم إلى درجة فاض فيها على منطقة التعقل الواعي وحطم السياج القائم بين المنطقتين، ولكن هذا التضخم لم يكن ليتم لولا أن السياب تقمص

ص: 362

صورة الطفل الذي صوره في قصائده من قبل ضحية للشيوعيين، فإذا هو ذلك الطفل نفسه يصرخ؟ دون صوت (1)

آه يا أمي

عرفت الجوع والآلام والرعبا

حين رأى الحبال والعصي تملأ الطريق لتسحب جسمه وتمزقه أي أن بدرا أصبحت تخايله صور الأحداث المرعبة التي رسمها بتهويل في وصفه لأحداث الموصل وكركوك وغيرهما.

وكان هنالك كابوس آخر يعتصر وعيه فلا ينفذه منه الا هربه التام إلى منطقة الرؤى: كانت الشهوة الجنسية التي عبر عنها تعبيرا احموما في قصائد الغربة في بيروت ولندن ما تزال تصب عليه سياطها، ولكنه لم يتحدث عنها في قصائده التي نظمها في الكويت، واكتفى بحديث الحب المتسامي، ولهذا تحولت لديه إلى رؤى كابوسية: دخل عليه السبتي ذات يوم فوجد ممرضة هندية تقف أمامه وهو يشتد في تقريعها وتوبيخها فلما سأله عن السبب في حدة: " ألا تخجل هذه المرأة من الدخول علي والنساء العاريات يحطن بي!! "

فإذا انجابت عنه هذه الرؤى عاد إلى طبيعته الأصلية يتحدث فيطيل أو يتوجه بالحنين إلى زوجه وأطفاله فيكتب الشعر والرسائل أو يتخذ من المناجاة والتوسل إلى الله بأن يمن عليه بالشفاء سفينة تبحر به من " بحران " المرض إلأى بر الهدوء والسكينة. لقد عجز العلم عن أن يحقق له الشفاء، وفي مثل هذه الحال تستسلم النفس إلى تعليق الرجاء بالغيب، ولهذا كان بدر يتمنى في تلك الحال لو كان لدى المسلمين شخصية شبيهة بالعذراء تجيب دعاء الزمنى والضعفاء؟ ونسي في مرضه

(1) شناشيل: 42.

ص: 363

قصة البوصيري وقصيدته المشهورة في مدح الرسول -؛ ولدى الأستاذ السبتي مسودة قصيدة بخط السياب يمدح فيها الإمام علي بن أبي طالب ويستعطفه على حاله ويتوسل بجاهه رجاء الشفاء.

وفي 15 - 11 - 1964 أخذ الممرض يدلك جسمه، فشعر فجأة بألم حاد في فخذه اليسرى، وكانت تلك بداية تحول خطير في مرضه فعندما صور موضع الألم بالأشعة أظهرت الصورة حقيقتين مرعبتين: الأولى أن هناك كسرا في عنق عظم الفخذ والثانية انه كان قد أصيب بمرض خبيث جعل العظم ينكسر كأنه قشة من حركة خفيفة كالتدليك. وزاده هذا الكسر كساحا وربطه بسرير مقعدا لا يروم مكانه، وحين حدث التطور التالي لم يستطع جسمه الهزيل مزيدا من المقاومة، فقد أصيب بنزلة رئوية شعبية Bronchopneumonia فارق على أثرها الحياة في الساعة الثانية والدقيقة الخمسين من بعد الظهر يوم 24 - 12 - 1964، وختمت تلك السلسلة الطويلة من الآلام الجسدية المبرحة والعذاب النفسي المؤرق ومعاناة الوحدة والغربة والفقر وغياب الرجاء وتوقع الموت في كل لحظة على مدى أربع سنوات.

وقد يقال في تعليل مرض السياب أشياء كثيرة: فمن الناس من يتحدث عن هزاله الموروث وضعف جسمه بعامة ويقرنه بالمصاعب التي واجهها مشردا وجائعا ومسجونا ومحروما أحياناً من مورد الرزق، ومنهم من يتحدث عن استعداد خاص في العائلة للسل لان خاله توفي بهذا المرض، ولأن عمة له أصبحت به، ومنهم من يتحدث عن شدة شبقه وإسرافه في الناحية الجنسية، ومنهم من يقرن بين الصدمة النفسية التي أصابته في السجن وبين الوهن العام الذي أصاب جسده من بعد، وقد تجد من يقرن المرض بالرعب استولى عليه اثر هجومه الحاد السافر على الشيوعيين، ولكن الطبيب إدوارد قد رد على هؤلاء جميعا حين قال ان العلم لم يتوصل بعد إلى سر ذلك المرض.

ص: 364

واراني هنا مضطرا للوقوف عند قول أحد الأدباء: " وكان بدر مع ذلك كله يزيد دائه بكثرة الشراب؛ لقد كان الشراب رفيقه الدائم في حالتي الصحة والمرض، وكثرة الشراب تسرع حتى بالأجسام السليمة إلى القبر "(1) ، وقد كان من الممكن أن أعيد هنا أيضاً قول الدكتور ادوادز، ولكن الأمر يتعلق بحقيقة هذا السؤال: هل كان بدر يكثر من الشراب حقا؟ وقد سألت بعض من عرفوه عن الكثب، فأكد أخوه مصطفى أنه مسرفا في الشراب قبل الزواج قم اصبح اقباله عليه قليلا من بعد. وشهد ثان كان يعمل معه في جريدة " الحرية " بأن صفة " الإسراف " هنا لا تنطبق عليه، ووضع الدكتور عبد الله السياب الجواب على هذه المسألة وضعا أدق حين قال:" لم يكن بدر يشرب كثيرا، وإذا جلس للشرب لم يتناول كمية كبيرة، ولكن لضعف صحته كان قليل من الشراب يتركه فاقد الوعي مدة ساعات ".

توفي بدر بعد ظهر يوم الخميس، وفي يوم الجمعة التالي نقل جثمانه إلى البصرة، ولرجح مرة أخرى إلى الأستاذ محمد علي إسماعيل ونستمع إلى ما يرويه: " وقفت سيارة كبيرة حمراء اللون فيها شخصان كويتيان، وقفت في محلة السيف بالبصرة، وسأل الكويتيان هل يوجد مسجد قريب، فأجاب شخصان آخران: أن جامع السيف مفتوح لصلاة العصر، وكانت السماء ممطرة وأدخلت الجنازة، وصلى عليها أربعة

(1) من مقال للأستاذ عيسى الناعوري بمجلة الإخاء العراقية (عدد أيلول 1965) ويشير الأستاذ رشدي العامل إلى إحدى الجلسات فيقول: " شرب بدر حتى ثمل تماما، كنت اذهب بع فأغسل وجهه وكان يعود ليطلب شرابا جديد " وقد ذكر أن الشراب هو " البيرة " وإذا دل هذا على إسرافه في ليلة فلا يستشهد به على الإسراف المتواصل، كما أن ضعفه أمام النوع المذكور من الشراب قد يعني أن القليل من الكحول كان يترك في جسمه أثراً قويا. (أنظر ملف مجلة الإذاعة:29) .

ص: 365

أشخاص كانوا بقية من بقي في المسجد " (1) . وقد قرن بعضهم بين وفاة بدر وبين " المطر " خامس المشيعين لتلك الجنازة، وهي التفاتة لا بأس بها، فان " المطر " في شعر بدر يمثل الحياة والموت معا، ولكنا حين نأخذ في إثارة هذه اللفتات، قد نقف عند لون السيارة أيضاً فنجد ان " اللون الأحمر " لم يتخل عن بدر وان حاول بدر التنصل منه، ولو أمعنا في الإثارة لربطنا بين الميت الذي لفظته أمواج الخليج في قصيدته " غريب على الخليج " وبين موت بدر نفسه غريبا على سيف الخليج نفسه، وإذا ذهبنا هذا المذهب لم نكد نحجم عن القول بأن مالية بدر الصحيح الجسم لم تسعفه على الرحلة، وتكفل المرض باطلاعه على دنيا لم يكن يعرفها فكأن تطاول المرض إنما أعطاه فرصة ليودع بيروت ورومة ولندن وباريس وهذا سياق متشعب والخوض فيه ضرب من التفسيرات الباطنية.

وأبين من كل ذلك دلالة على فداحة العبء الذي ينهض به الفرد العربي حيا وميتا أن نذكر حادثة أخرى لا تتحمل التفسير الباطني أبداً: كان أحد الأربعة الذين يرافقون الجنازة قد اتصل هاتفيا بدار الفقيد ليخبر زوجه أن الجنازة قد وصلت. ولكن ما الذي يجري في تلك الساعة؟ كانت الزوجة ومن يعاونها من أقربائها قد أخذوا يقومون بنقل الأثاث لإخلاء البيت الذي يسكنونه فقد أصرت مصلحة الموانئ على ضرورة إخلائه غير مصغية إلى التماس الشفعاء وتوسلات الضعفاء. مصلحة المواني آلة إلكترونية لا مجال فيها لغير الأرقام، والأرقام تقول: انه منذ كذا وكذا انقطعت صلة المسمى بدر شاكر السياب بتلك المصلحة، ومعنى ذلك ان البيت لم يعد بيته.

لن نقف عند هذه المفارقة أيضاً، فمن ذا الذي يجرؤ أن يلوم بدرا على ما كان يحس به من قلق تجاه الأيتام الثلاثة وامهم؟ ولكنه حينئذ

(1) الثورة العربية 18 - 7 - 1965.

ص: 366

كان قد استراح من كل هم وقلق، ووري التراب في مقبرة الحسن البصري، بقضاء الزبير، بينما كان صديقه علي السبتي يردد في دخيلة نفسه:" لا تبعد؟ لا تبعد "!!

ص: 367