المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

- 12 - ‌ ‌فجر السلام ليس في قصائد بدر التي نشرت في - بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره

[إحسان عباس]

الفصل: - 12 - ‌ ‌فجر السلام ليس في قصائد بدر التي نشرت في

- 12 -

‌فجر السلام

ليس في قصائد بدر التي نشرت في دواوين أية قصيدة تحمل تاريخ السنوات 1949، 1950، 1951 ولكن على الورقة الأخيرة من ديوانه " أساطير " إعلان عن اقتراب صدور ديوان آخر عنوانه " زئير العاصفة "؟ ويوصف بأنه ديوان اجتماعي، وتحته إعلان آخر عن قصيدة " حفار القبور " وأنها " قصيدة طويلة شائقة ستصدر في كراس "؛ وقد نشرت هذه القصيدة سنة 1952، أما " زئير العاصفة " فلا نعرف ما حل به ولا أي قصائد يحتوي، ولكنه؟ حسب الإعلان - يمثل الكفة الثانية في ميزان السياب، فإن كان " أساطير " يصور الناحية الذاتية العاطفية في شعره فليكن " زئير العاصفة " ممثلا للناحية الاجتماعية، وقد كان يحس في قرارة نفسه أن صدور " أساطير " عن شاعر ذي رسالة إنسانية ضخمة سيقابل بشيء من الفتور في بعض المجالات، ولذلك قال في مقدمته:" لا تزال لدي مجموعة ضخمة من الشعر الاجتماعي الإنساني ستطبع في المستقبل ستطبع في المستقبل القريب "(1) ؛ وكل ما لدينا من قصائده في هذه الفترة قصيدتان طويلتان هما فجر السلام وحفار القبور، ويشير الأستاذ محمود العبطة إلى قصيدة طويلة ثالثة

(1) أساطير: 8.

ص: 149

بعنوان " القيامة الصغرى " نشر منها مقاطع في جرائد بغداد (1) ويقول أنها كانت أهم القصائد وأحبها إلى نفس الشاعر، وهو يعتمد في هذا الحكم على إجابة لبدر سجلها (عام 1951) عن أحب قصائده إليه فقال:" أحب شعري إلي ملحمتي الشعرية (القيامة الصغرى) التي بقيت مبتورة لم تتم والتي أحاول جهدي إكمالها، وأحب كذلك قصيدتي (فجر السلام) و (مقل الطغاة) ، وعلى كل فالإجابة بصورة صحيحة عن هذا السؤال متعذرة ولكن هذه القصائد آخر ما كتبت؟ الخ "(2) وقد كانت هذه الإجابة مرهونة بظروفها أولاً لأنها كانت تشير إلى أن الشاعر قد سار في نهج جديد وأن جدة هذا النهج كانت تحبب تلك القصائد إلى نفسه، لأنها؟ حد تعبيره - " آخر ما كتب "، ثم هو يعلم حق العلم أن الذي سأله عن أحب شعره إليه كان صديقا ذا ميول يسارية، ولذلك فان التنويه بهذه القصائد؟ دون سواها - يرضي ذلك الصديق مثلما يرضي بدرا نفسه وهو في غمرة الحماسة لنزعته اليسارية ولأثرها الموجه، في شعره.

ولكن الشاعر؟ بعد سنوات - أخذ ينظر إلى قصيدة " فجر السلام " بشيء من التردد، وقد يلمس القارئ في صيغة حديثه عنها؟ وان كانت تقريرية - جانبا من الندم المتزج بالسخرية، وذلك حين يقول: " أن تلك القصيدة كانت من الشعر الشيوعي النموذجي فقد شحنتها بأفكار حركة السلم: تحدثت عن أشكال السلام في البلدان الاشتراكية والبلدان الاستعمارية والرأسمالية والبلدان المستعمرة وشبه المستعمرة؟. ولم أنس أن أتحدث عن الأم الرءوم حصن السلام والاشتراكية فقلت:

(1) العبطة: 13.

(2)

العبطة: 88.

ص: 150

هناك يرين السلام

كأهداب طفل ينام

وحيث التقت ترنو

عيون الورى في وئام

برغم اللظى والحديد

(1) نمت زهرة للسلام " وقد نشرت قصيدة " فجر السلام " في ذلك الحين؟ أخذها بعض الرفاق ونشروها دون أن يذكروا اسم ناظمها، وكان ذلك اقتراحا من بدر نفسه (2) ، وقد عني المحامي عطا الشيخلي بتقديمها إلى القراء في كراس خاص، ثم طبعت مرة ثانية ضمن مجموعة عنوانها " هديل الحمام "؟ قام بجمعها ونشرها باقر الموسوي (دون أن يذكر تاريخ الطبعة) ؛ وصدرت هذه الطبعة الثانية بمقدمة لعل السياب هو الذي كتبها تصور غاية حركة السلام ثم تورد توضيحا لبعض أجزاء القصيدة.

وكانت خطة القصيدة ذهنية واعية تعتمد مبدأ التقابل بين جانبي الخير والشر، بين السلم والحرب، بين الإيجابية والسلبية: فالهول الذي تمثله الحرب يتطلب نغمة متفجرة، شديدة الوطأة، صخابة الجزالة، ثم تتلوها نغمة كالأغنية الرقراقة تمثل وداعة الحياة وهناءة العيش في ظل السلام، ولكن الشاعر لم يستطع أن يحتفظ دائما بهذا الشكل الصناعي على انسجام في التراوح بين الجانبين، ولم يبق لديه من الانسجام سوى النقلة من وزن البسيط (الذي يمثل جلبة الحرب والدمار) إلى أوزان اهدأ منه لتمثل سمات السلم في حياة بني الإنسان.

ففي الدورة الأولى صور تكالب تجار الموت على ان يقطعوا يد الشعب الخيرة البناءة بإثارة حرب جديدة، وسرعان ما ترك هؤلاء التجار يجمعون حطبهم لإضرام النار، والتفت إلى حمى السلم الآمن أو ما سماه " الأم الرءوم " فصور العيون التي يغازلها الرجاء، والعذارى

(1) جريدة الحرية من مقال بعنوان " شعاراتهم الجماهيرية ".

(2)

المصدر نفسه.

ص: 151

وهن يحملن السلال في مواسم الحصاد، وشيخا قد كسر حراب الطغاة ودفنها في الجليد واستنبت بدلها ضوء الصباح الجديد، وتأمل السلام وهو يضحك في الحقول والأغاني والمعامل والمدن الضاحيات ورأى زهرته ترف رفيفها الجميل.

وفي الدورة الثانية صور الحرب وقد فتحت شدقها الواسع تحاول ان تلتهم كل ما يقع في طريقها:

شدق يزيد اتساعا كلما رفعت

ستر الدجى خفقت من كوكب غربا

آلى على الأرض ان يجتث عاليها

سفلا ويصفع من يأتي بمن ذهبا

ولا يريق دما إلا وأضرمه

نارا وذرى رمادا منه أو لهبا

تسعى به الريح في الآفاق ناسجة

للشمس من جذوة أو من دم حجبا وفيما هو يصور ويلات الحرب وكيف أصبحت الأرض " كالأبرص المنبوذ " وتكدست الأجساد تنضح قيحا، علق نظرة بأجساد النساء الجميلات وقد انمط ثديا كل امرأة منهن كالعجين الرخو، فقطع الوصف، وأخذ يتذكر ما كانت تلك المرأة تمثله من جمال:

كم عاشق كانت أمانيه أن

يرتشف النور على جيدها وبهذه الالتفاتة، وهي تصور مبلغ حرص السياب على ما حرمه من حديث عن المرأة في مثل هذه القصيدة الغائية، فقد السياب ذلك التوازي الذي حققه في المقطع الأول بين هول الحرب ووداعة السلم في اتساق متعادل، وانحاز بنظرة إلى جزئية صغيرة من خيرات السلم.

وفي الدورة الثالثة تحدث عن القنبلة الذرية وفعلها في تشويه الآدميين، وحاول أن يوازي بين الهول في أثرها والتهويل التعبيري، وسماها " ظل قابيل ":

إذا تضرم فاندك الفضاء جذى

غضبي ونش الدم الفوار والعرق

ص: 152

وانقض من حيث تهوي الشمس غاربة

ليل من القاصفات أو شفق

جن الرضيع الذي يحبو وهب على

رجليه يعدو ويلوي جسمه العنق

من فرط ما طال واسترخى وقد صهرت

أعراقه الزرق نار فيه تختنق وحين أطبقت الظلمة إطباقاً أطلت من الأفق الذي يفتحه الشروق أيد تلوح بالسلام، وتوزع بين الناس نداء تتجمع حوله جميع رغباتهم هو نداء أنصار السلام في كل مكان. وهكذا جاءت هذه الدورة الثالثة منسجمة مع الأولى في رسم صورتي الظلام والنور.

وبدلا من أن يمضي الشاعر في رسم دورة جديدة ترجم فحوى النداء إلى شعر، فقدم صورتين متناقضتين إحداهما عن الأب والأم والزوجة والابن والجيران (ولكل واحد مقطع خاص) وهم يعانون أثر القنبلة الذرية والثانية عن صورة هؤلاء جميعا وهم يمارسون شئون الحياة في السلم، - وما أبعد الفرق بين الحالتين - ودعا من يستطيع رؤية الفرق الشاسع بينهما إلى التوقيع على نداء أنصار السلام، لأن هذا التوقيع يوقف الدم والدموع عن الانحدار، وعندئذ يتجلى الشاطئ الضحاك والقمر الطروب، وتتنفس الأضواء، وترفرف أجنحة حمامة السلام، والأطفال من ورائها يرمقونها بأعين ندية بالإخاء.

ولكن هذا كله لا يتحقق إلا بالثورة على العبودية وتحطيم الأغلال، ولهذا صور الشاعر في الدورة الختامية كيف بدأ ليل الاستعباد يزول، وثارت الأمم المستعمرة؟ والشرق في طليعتها - فحطمت الأغلال، ورفعت رءوسها أمم كانت مثل سيزيف مشدودة إلى الصخر، وكان يخدعها تجار الحروب فيعطونها الدراهم لتقتات باليسير، ويتحول القوت في عروقها إلى دماء تراق على مذابح الحروب، فهؤلاء العمال بئر من الدم سيغرق فيها الجيل المقبل وهكذا، وتبدو هذه الفكرة طريفة، ولكن تعبير الشاعر القاصر عن أدائها قد جعلها كالأحجية:

ص: 153

وابتاع بالدرهم المجبول من دمها

فيض الدم الثر فيها شر تجار

واستأجروها لصنع الموت منه لها

بالزاد يبقى دما فيها لجزار

أعمارها مثل بئر للدم ابتلعت

جيلا سواها بهن ابتاعه الشاري وهذا يعني أن نداء السلم قد عم الكون ولذلك عاد الشاعر فكرر في ختام قصيدته تلك المقاطع التي عبر فيها عن أصالة هذا النداء وعن حمامة السلام التي نشرت جناحيها فلكما ظلماء الحروب ومهدا لطلوع الفجر - فجر السلام.

فالقصيدة تتكون من أربع دورات، في كل دورة شقان متقابلان؟ وبين الثالثة والرابعة يقع نداء أنصار السلام (وهو قائم على التقابل أيضاً بين صورتين) ، وقد كان هذا الشكل صالحا لهذه القصيدة، لأن الوعي الذهني هو الذي يرسم لها كريقها، لو أن الشاعر أحسن الالتزام بصناعة البناء، وخاصة في فترات الارتداد من دنيا الأهوال والمخاوف إلى أحضان الهدوء، ولكنه لم يفعل، كذلك فان إيراد نداء أنصار السلام جاء دخيلا على هذا المبنى الواضح (وان التزم فيه الشاعر مبدأ التقابل) ، أن التعاقب بين الخير والشر في بناء القصيدة هو خير ما فيها لأنه يضع الذهن في موضع المفارقة والمقارنة، وعن طريق ترسيخ هذا التأثير في نفس القارئ حاول الشاعر؟ واعيا - أن يقول كل ما يجعل الحرب كريهة لديه وأن يجعل السلم جميلا في عينيه، أي أن القصيدة تراوح مستمر بين التقبيح والتزيين؛ وإذا استثنينا حرصه على التدرج في بناء الشق الأول؟ أي رسم صورة مخيفة للحرب - فانا نجد أن قصيدته تشكو من نقص أساسي وهو عدم التمايز بين الدورات في طبيعة الموضوع الذي يعالجه، كما أن فيها معالجة من يعييه التعبير، وهذا يظهر على أشده في فترات الهدوء، أما في تصوير الرعب والفزع فقد حاول أن يغطي بصوت الهدير اللفظي على قصور عباراته، فوفق إلى حد إلا إن المدقق في أبياته يلمح معاناة شاعر مبتدئ متفاوت

ص: 154

الصياغة مضطر إلى الحشو، يحلق ويسف في البيت الواحد، ويركب ألفاظا لا تؤدي ما يريده من معنى إلا بالتعسف في التأويل.

ان قصيدة " فجر السلام "؟ رغم ما يعتريها من سمات الضعف الفني - ومعها قصائد مثل " القيامة الصغرى " و " مقل الطغاة "، تومئ إلى تحول لدى السياب في الموضوع الشعري، بعد ان كان قد مارس التحول في الشكل في بعض قصائد ديوانه " أساطير "؛ لقد أدركه الشبع من ذلك الشعر الذاتي الذي يعرض فيه مواجده على الناس، واخذ يحاول التوفيق بين فنه ومبدأه الذي يعتنقه، حتى خيل إليه في لحظة انه لن يكتب من بعد بيتا واحدا من الشعر الذي يشبه ما تضمنه ديواناه " أزهار ذابلة " و " أساطير " (1) . ولذلك صرح للأستاذ العبطة (1951) بأنه يكره الشعر الذاتي بل انه يعتبر الشعراء الذاتيين عملاء للاستعمار حتى وان لم يشعروا هم بذلك قال:" واهم خطر يجب علينا أن نحاربه أولئك الذين ينشرون الأفكار الانحلالية ويحاولون ان يخدعوا الجماهير بأن لا فائدة من نضالها، لأن الحياة شيء تافه لا يستحق كل هذا الاهتمام وان البؤس مقدر على البشر "(2) ؛ وأضاف انه يرى ان الشعر السياسي؟ رغم قصوره - افضل من الشهر الذاتي لأنا لو " نظرنا إلى الأمر نظرة عميقة لوجدنا من يقول: متى تتحرر من المستعمرين موازيا من حيث الفن لمن يقول متى ارى حبيبتي، إضافة إلى انه أنبل شعورا وأوسع نظرة "(3) .

لهذا فان قصيدة " فجر السلام " ليست هامة في ذاتها، وإنما تكمن أهميتها في أنها خط فاصل بين عهدين، أو قل بداية عهد جديد يسميه الشاعر العهد الإنساني، ويؤكد فيه ضرورة الخروج من صدفة الذات

(1) العبطة: 88.

(2)

المصدر نفسه.

(3)

العبطة: 89؛ وسنجد من بعد أن السياب تخلى عن هذا الرأي.

ص: 155

لعرض المشكلات الإنسانية الكبرى. ومن الهام ان نتذكر بأن الموضوع الشعري رغم جدته وبعده عن الموضوع الذاتي القديم لم يتطلب شكلا جديدا أو قالبا خاصا من التعبير، وان السياب لم يجد خيرا من البحر القديم والتعبير الجزل الهادر ليعبر بهما عن آلام الحروب وبشاعتها. وقد رأينا ان اختيار هذا الشكل لم يكن مسئولا عن سمات الضعف الفني الذي لحق القصيدة؛ واذن فنحن أمام قضية هامة: في قصيدة " السوق القديم " استغل السياب شكلا جديدا لموضوع أزلي وأخفقت قصيدته، وفي " فجر السلام " ذات الموضوع الجديد استغل شكلا قديما وأخفقت قصيدته. وعلى هذا لا يحق لنا أن نقول أن الشكل هو الحقيق بإنجاح القصيدة ولا ان الموضوع هو الذي يستطيع أن يجعلها فنية، وإنما هو تلك الموهبة التي تستطيع ان تسخر أي شكل ملائم وتستغله لموضوع ملائم، وان الجدة في الشكل لا تصنع شعرا جديدا كما أن الجدة في الموضوع تعجز عن ذلك.

وقد يقال دون عناء إن السياب كان يجرب، فمرة يضع الموضوع القديم في شكل جديد ومرة يعكس الآية، حتى إذا استقامت التجربة وصلحت، ظهر نجاحه، وهذا أمر لست أناقشه لأن معناه ان الشاعر وجد طريقه الصحيح، ومن أبدى مثل هذا الرأي كان عليه ان يفسر لم يخفق موضوع جديد في شكل جديد فذلك أمر يدل بداهة على أن ممارسة الأمرين معا ليست كفيلة بالتميز الفني في كثير من الأحيان.

ولنعد إلى قصيدة " فجر السلام ": ان الطول الذي تتمتع به هذه القصيدة وأخواتها في الفترة نفسها يشير إلى ان الشاعر لم يحاول تحولا في الموضوع وحسب وإنما وجد نفسه ينتقل من دور القصيدة الأغنية ذات الطول المقتصد إلى القصيدة الطويلة، وقد شجعته قصيدة " السوق القديم " على هذه النقلة، فأضحت اكثر قصائده في هذه الفترة طويلة مسترسلة. حتى ليحس من يدرس نتاجه في هذا الدور

ص: 156

انه كان يريد أن يعرف بالقدرة على القصائد الطويلة: فجر السلام؟ القيامة الصغرى؟ حفار القبور؟ المومس العمياء؟ الأسلحة والأطفال؟ أنشودة المطر، وان هذا الإحساس تملك الشاعر حتى سنة 1953 ثم تحول عنه تحولا ظاهريا وحسب، لأن كثيرا من القصائد التي نظمها في أوقات لاحقة إذا جمعت حسب موضوعاتها كونت كل مجموعة منها قصيدة طويلة.

وسر ذلك كله متصل بطبيعة السياب: فان القصيدة لم تكن تتسع لآنفعاله، فهو انفعال مديد متشعب احيانا، ثم هو قد نشأ معجبا ببعض القصائد الأجنبية الطويلة التي يسترسل فيها الشعور بين علو وهبوط كقصيدة " البحيرة " للأمرين، أو قصيدة " ثورة الإسلام " لشللي وغيرهما، ولعله كان يعتقد أن قصيدة " الأرض اليباب " هي التي كسبت لصاحبها تلك الشهرة وهي من القصائد الطويلة في الأدب المعاصر. يضاف إلى ذلك ان القصيدة العربية التي احبها السياب لدى أبي تمام أو البحتري أو المتنبي لا تعد قصيرة، ولم يغب عن مخيلته أن الجزالة التي لمحها في القصيدة العربية امتحان عسير للشاعر كلما طالت القصيدة، وهو قد نشأ على ايثار هذه الجزالة وان أعيته بصعوبتها في كثير من المحاولات؛ ووجدها تصح لشاعر معاصر يطيل القصيد دون ان يفقد تلك الجزالة وذلك هو الجواهري، الذي وجده السياب يتقمص النغمة القديمة بحذق ومهارة. ولم يستطع السياب ان يدرك الفرق بين نغمة الجواهري؟ في مدى التعمل الذي تجره في أذيالها - وطواعية التعبير عند اشد القدماء احتفالا بالصياغة اعني أبا تمام، ولهذا كان بناء القصائد الطويلة هو المجال الذي يريد السياب ان يتفوق فيه على سواه من المعاصرين، سواء أكان نهجهم تقليديا أو تجديديا -؛ وقد تحدثت من قبل عن المقدمات الطويلة التي لم يكن يستطع أن يتحلل منها، وهي مقدمات تصلح أن يمهد بها للبناء الملحمي، ولم يكن السياب محروما من النفس

ص: 157

الملحمي، بل لعله هو الشيء الذي يميزه بين الشعراء المحدثين، والقصيدة الطويلة اقرب القصائد إلى الملحمة واشدها سماحا بالحشد الكثير، وتلك نزعة كانت تترك السياب طليقا في تحديد شكل القصيدة وفي نموها معا. وكان السياب في هذه المرحلة وربما في مراحل بعدها يحس ان انفعاله لا يستطيع ان يعيش في نطاق ضيق قصير، ولهذا أحس من بعد انه اخطأ حين كان يعمد إلى أن يقول كل سيئ، ولكنه قلما حاول النجاة من هذا الخطأ، لأنه لم يكن يملك إشباع ذلك الانفعال أو تسريبه في لمحات خاطفة أو ومضات سريعة تومئ إلى المحتوى بلباقة خفيفة اليد.

ص: 158