الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- 4 -
راع دون قطيع
نستطيع الآن أن نواجه طبيعة الاتجاه الشعري الذي عاشه السياب قبل ان ينتقل إلى دار المعلمين، فقد ألمحنا فيما مضى إلى بعض مظاهر ولكنا لم نجد معالمه الكبرى وخصائصه العامة. ولسنا بحاجة إلى أن نعيد الوقوف عند رثائه لجدته أو رثائه للشهداء الذين قاوموا الاستعمار الأنكليزي، ولكنا بحاجة إلى أن نكرر القول بأن الريف كان مجال هذا الشعر وموضوعه، ذلك لأن اتخاذ هذا المنطق يسهل علينا فهم التفريعات والدقائق التي قد تنجم عنه. وقد تحدد هذا الريف في خاطر بدر بأنه الطبيعة الجميلة الطاهرة الخيرة المعطاءة ولهذا تحدث عن ربيعه وخريفه، وصيفه وشتائه، محاولا أن يرسم لكل فصل من الفصول لوحة خاصة، ولم يكن همه في تلك اللوحات إلا إبراز قدرته على الرسم، فإذا استطاع ابتكار صورة جديدة أو وفق إلى تعليل حسن لصورة قديمة، أحس أنه مهمة الشاعر الكبرى، فهو يجهد الجهد كله ليقول شيئا لم يقله غيره في صورة قوس قزح من قصيدة الشتاء فيقول:
وكأنما قوس السحاب وقد بدا
…
أوتار قيثار مضت تتنادم
فتقاربت حتى يعاود عزفها
…
مرح الأنامل بالملاحن عالم وشبيه بهذا قوله في قصيدة الخريف يصف الأوراق الساقطة:
سقطت فكل وريقة قيثارة
…
مقطوعة الأوتار والأنعام
عبرت أغانيها الفناء وأصبحت
…
توحي إلى الفنان بالإبهام ولست تجد في هذه القصائد من روح الشعر سوى هذه المحاولة التصويرية، فهي تومئ إلى أن الشاب يتشبث بجدة الصورة، أما فيما عدا ذلك فأنها قصائد بليدة بطيئة لا تنبض فيها حياة. وأحيانا يحاول ان يطرح الصور العامة ثم ان ينكفئ على نفسه فيستخرج مواجده ويبسطها فوق مربعات الصورة الكبرى وإطارها العام، وكأنما يجمع بذلك بين شقي القصيدة، وهي طريقة اقتبسها من أنور العطار، وقصر عنه فيها تقصيرا واضحا، لأن العطار ذو أزميل حادة في التصوير واسثارة الدفائن النفسية معا، وذو قدرة على الصقل لا يحسنها بدر في تلك السن، فحتى ذلك الحين كان محصول بدر من الثروة اللغوية ضئيلا نسبيا، ولذلك كان إذا اختار بحرا يتطلب الجزالة أعيا قبل نهاية البيت وأصبحت قوافيه وجمله المكملة للمعنى مضحكة في مواقعها شاذة في صلتها بما قبلها، ومثال ذلك قوله في قصيدة " أصداء البعاد ":
أوام بقلبي للقا متزايد
…
وشوق لسلمى ذكره متوارد
صرعت جوى لما رنت لي بمقلة
…
يلم بها رسم الكرى ويعاود
ففتحت انخاء الفؤاد بناظر
…
إلي غدت الحاظه تتوارد
وما كنت ادري ان عينا كليلة
…
لتأسر قلبا في الهوى وتكايد فليس أشد إمعانا في الركاكة من " ذكره متوارد "" غدت الحاظه تتوارد "" وتكايد " في مواقعها حيث وقعت، ولهذا كتب بدر ملحوظة عند هذه القصيدة لعلها مما كتب من بعد:" تقليد للأقدمين لم يبلغ منزلة المقلد ولا يلائم روح العصر ". كان خالد؟ كما تقدم - يلح عليه ان يبني قصيدته على قافية واحدة، يريده ان يكون جزلا، ولكن الجزالة
تشترط قبل كل شيء السيطرة على اللغة، وأنى له ذلك؟ ولهذا كان أقدر على غنائيات علي محمود طه المهندس التي تبنى على عدد من القوافي، وتعتمد ألفاظاً سهلة وأوزانها خفيفة، وكان ينظم كثيرا من قصائده على النحو دون أن يطلع خالدا على هذا اللون من القصائد، قبل عام 1946، ولا تحس في هذه القصائد بأن التركيب متعب له كما في القصائد السابقة كقوله في قصيدة " يا قمر ":
كم غازلتك الأنجم الساهمة
…
وارتعشت في نورك السلسل
وكم غفت انوارك الحالمة
…
فوق مياه النهر والجدول
وزهرة في حجرها نائمة
…
مكبرة للخالق الأول
قد هددتها النسم الناعمة
…
ولم تزل في حلم معجل * * *
نجوى حسان الريف بين الربوع
…
ورنة المزهر فوق الاكم
والزورق الساجي مصل خشوع
…
محرابه الشط البليل النسيم
الكل مشتاق فجد بالطلوع
…
وامسح على الكون جراح الالم
لو استطاعت قبلتك الفروع
…
واسمعتك الريح عذب النغم وعندما احس بدر من نفسه القدرة على هذا اللون من الشعر اختاره لينقل مشاعره " الرعوية ".
ولكن كيف تأتى لبدر ان يهيم حبا بالرعاة وحياتهم وألحانهم وأغانيهم؟ من السهل التطابق بين حياة الريف وحياة الرعي، فالرعاة أيضاً جزء من الريف، وأغانيهم الحزينة وراء قطعانهم وألحان الشبابة التي تغزل الآفاق بحنينها الآسيان من السهل ان تجعل شابا حالما محبا للريف يتصوره " اركاديا " الساحرة ذات الحياة البسيطة البريئة والحب الطاهر والجمال الطبيعي، ولكن عاملا آخر دخل في حياة بدر هو الذي جعل الريف في عينيه مجتمعا للرعاء. ومفتاح هذا في قصيدة " مريضة "
التي أرسلها إلى صديقه خالد (1)، وقد صدر تلك القصيدة بقوله:" إلى التي لا تفهم الشعر ولا تسمع قصيدتي هذه ولن تسمعها، ارفع هذه الآهات لعلها تنوب عن زيارتها وهي على فراش المرض "؛ ومن تلك القصيدة:
مريضة؟ لك ربي يا (هويل) ولي
…
وللقلوب التي ضلت مقاصدها
مريضة؟ لم ينلك الداء واحدة
…
فالروح مثلك عاد الداء وافدها وكانت " هويل " هذه واسمها " هالة "(وتنطق محليا هيلة) بدوية من إحدى القبائل العربية التي تعيش في الحدود الايرانية، ثم انتقل أهلها فسكنوا في ارض لهم بأبي الخصيب وفي إحدى السنوات غطى الماء أراضيهم فأعطاهم السياب الجد قطعة من أرضه ليقطنوا فيها، وكانت هالة تراعي القطيع كل يوم، فتعرف إليها بدر وخفق لها قلبه، وهو في آخر عام دراسي بثانوية البصرة، فاصبح هو الراعي صاحب الناي والتلاحين الحزينة (2) :
لأجلك أطوي الربى شاردا
…
أردد أنغامي الضائعه
وأسكب في الناي قلبي الكئيب
…
فتغمره النشوة الخادعه
وكان لحونا دعتنا الربى
…
فقرت بأحلامها الرائعه
يسلسلها الليل في صمته
…
فتوقظ أشواقه الهاجعه ولكنه يحدثها انه ان يغني فلم يستطع: " خبا لحن قلبي ومات الصدى "؟.. ولذا فانه يكتفي بذكريات الأمس:
وفي ذكر أمس عزاء لنا
…
وما أعذب الأمس للذاكر
فكم قبلة ذاب فيها الغرام
…
تطوف على قلبي الحائر
فيا لمحة من شعاع الخلود
…
سرى الوجد في حملها العابر
(1) تاريخ القصيدة 15/1/1943.
(2)
من قصيدة مزمار الراعي " بتاريخ حزيران (يونيه)1942.
ويا بسمة في قلوب الرعاة
…
يفيض بأنغامها خاطري * * *
دعاك فؤاد طوى صفوة
…
وكفنه بدموع المقل
أقام الهوى منه محرابه
…
فرددت ثم صلاة القبل
ولكنك اليوم حطمته
…
وأطفأت فيه شعاع الأمل
أينشد من راودته الشجون
…
كمن أسكرته لحون الجذل؟ هل تغيرت " هيلة " عما كانت بالأمس، أو أن الشاب الواهم بنى قصة حب ثم وجدها تريد ان تنقض فبكى أحلامه؟ ان حقيقة العلاقة بين بدر وتلك الفتاة أمر محفوف بالغموض، وسنعود إلى هذا الموضوع مرة أخرى، ولكن يكفينا هنا ان نلمح قدرة الشاعر في هذا المجال " الرعوي " على أن يمنح قصيدته ما تتطلبه من انفعال عاطفي، وأن لا يشغله الرسم لأجزاء الصورة عما يريده من تعبير ينقل ذلك الانفعال. وفي ذات يوم عاد من المدرسة إلى قريته في إجازة قصيرة فصور " عودة الراعي " الذي رجع للمرعى القديم فرآه وقد غيرته الليالي وهجرته الراعية (1) :
لم تطل غيبتي عن الجدول الجاري وها إنني أراه يجف
…
لم تطل غيبتي عن الطائر الممعن شدوا فما له لا يدف
…
لم تطل غيبتي عن الزهر في الأكمام واليوم رنح الزهر قطف
…
لم يطل عن حبيبتي أيها الروض غيابي فما لها لا تخف
…
بل ربما صح ان نقول ان حدة الانفعال جعلت تجاربه في القصيد الجزل اكثر نجاحا، كما يتجلى ذلك في قصيدته " همسك الهاني " (2) :
(1) تاريخها 28/4/1943.
(2)
تاريخها 29/7/1943، ديوان إقبال:69.
خيالك أضحى لابسا من فؤاديا
…
رداء موشى بالرؤى البيض حاليا
وكنت كذاك الطائر الخادع الذي
…
يراه رعاة البهم في المرج هاديا
فيعدون بين العشب والزهر نحوه
…
وان قاربوه طار جذلان شاديا
فما زال في إسفافه وانطلاقه
…
فلا هو بالنائي ولا كان دانيا فهنا يتابع الصورة إلى نهايتها دون أن ينتابه ضعف في التعبير، ومن هذا القري قصيدة " ذكريات الريف " وفيها يقول (1) :
تذكرت سرب الراعيات على الربى
…
وبين المراعي في الرياض الزواهر
ورنات أجراس القطيع كأنها
…
تنهد أقداح على ثغر شاعر
أقود قطيعي خلفهن محاذرا
…
وانظر عن بعد فيحسر ناظري
وما كنت لو لم اتبع الحب راعيا
…
ولا انصرفت نحو المروج خواطري
إليها طويت الليل بالليل صابيا
…
وطارتها (مستهونا) بالمخاطر
وقبلت حتى البهم لما رأيتها
…
تقبل تلك البهم قبلة ثائر
فقد اهتدي في قبلة اثر قبلة
…
إلى اثر من ثغرها غير ظاهر وعلى الرغم من أن مستوى القوة في تعبيره قد ارتفع، فان لمسات الضعف منثورة هنا وهناك؛ وفي هذه القصائد الأولى بذور قوته وضعفه معا، قوته في الانفعال أو تصيد الصور، وضعفه في التعبير، أو لجوءه إلى التضمين كما في قوله (2) :
وسرى الغمام على الحقول فرجعت
…
أنهارها لحنا أهاج غرامه
وشجونه، فجرت هواطل دمعه
…
وغذا يريق على الفروع مدامه أن ضعف التعبير سيقنعه عن قريب بأن البناء المتساوي في إيقاعاته ونغماته يلجئ الشاعر الاضطرار فيوقعه في ضعف، وأن حاجته
(1) ديوان إقبال: 73.
(2)
من قصيدة أحلام الربيع - 1942.
إلى التضمين ستقنعه بعد قليل ان ليس من الضروري ان يكون البيت وحدة قائمة بذاتها، ولم لا يكمل المعنى في خمسة اسطر ما دمنا نطلب صورة كاملة (انظر صورة الطائر السابقة) . كل شيء ينبئ بأن الثورة على نصائح خالد آتيه لا ريب فيها، ولكن الصداقة ما تزال أغلى منها، كما أن مدى الاطلاع نفسه لا يسمح بكثير من الجرأة في مبارحة المألوف (1) .
(1) قد يسأل القارئ هنا هل نشر بدر شيئا من شعر هذه الفترة حينئذ. وبهذا الصدد اذكر ما ورده الأستاذ محمود العبطة حين تحدث عن تسليم السياب ذات مرة على الأستاذ ناجي العبيدي صاحب جريدة " الاتحاد " قال: وعندما سألت السياب عن كيفية التعارف مع العبيدي قال لي: إن أول قصيدة لي نشرتها عنده في سنة 1941 (العبطة: 8 - 9) .