المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

- 32 - ‌ ‌خاتمة حين سميت المرحلة الأولى من حياة السياب باسم - بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره

[إحسان عباس]

الفصل: - 32 - ‌ ‌خاتمة حين سميت المرحلة الأولى من حياة السياب باسم

- 32 -

‌خاتمة

حين سميت المرحلة الأولى من حياة السياب باسم " البحث عن النخلة " كنت اعلم ان ذلك البحث لا يقتصر على مرحلة واحدة من حياته بل يشتمل جميع تلك المراحل، فالنخلة كانت رمزا للأم وصورة للإله، وهي أيضاً تمثل نهر بويب وجيكور والحبيبة والريف والعراق وفي ظلها يقع المحار " ألهية الطفولة " والموت المريح، وبين سعفها الأخضر تطوف أحاديث الرعاة والهوى، أي أنها تصل بين طرفي الحياة والموت وتجمع شتى الأشواق والأحاسيس والرغبات المستعلنة منها والمتغلغلة في الكمون، وعليها تقاس الأشياء والأحداث وبوحي منها تفهم الفلسفات والمبادئ، فتصبح المدينة؟ مثلا - ظاهرة بغيضة لأنها تبعد الطفل عن النخلة، ويصبح " النضار " ربا ممقوتا لأنه يفقد صاحبه الحب الذي كانت توفره الظلال " الرعوية " الوارفة، وتستهجن بعض المبادئ لأنها تستبيح ان تصلب " عشتار "(الام القديمة والحبيبة) وتدق في رحمها مسمارا، وتطرد الإله من حومة المدينة. وحين سميت هذا السعي الدائب للعودة باسم " البحث عن النخلة " كنت المح ما يحمله هذا العنوان من مقارنة ساخرة، فالنخلة شاهرة فارعة تتطلب بحثا، ولكن السياب كان يبحث عن المعاني الباطنية فيها حينا وعن بديلاتها حينا آخر، ولهذا انفق عهد الصبا والشباب

ص: 405

وهو يبكي الحرمان من هذه " النخلة " أو يحاول ان يجد ما يعوضه عنها، فانتقل بخياله من حبيبة إلى أخرى، وانتمى إلى حزب ثوري، وتلمس؟ طويلا - طريقا تؤدي به إلى الفن الشعري الصحيح، واستطاع في الدور الأول من حياته أن يذيب قلبه أسى وتحرقا للحب وهو يحس بعد كل خطوة أن هذا الحب لن ينجو من تأنيب الام ولن ينال رضاها ولذلك كان يقول لنفسه دائما اثر كل وقفة عاطفية: لا ليست هذه هي المنتظرة أو هي التي انتظرتها طويلا ولكنها لا تختلف عن غيرها من بنات حواء مكرا وخيانة وغدرا. وفي ذلك الدور من حياته كان خرعا منخوب القلب يتمثل له الموت في كل خطوة - فيفر منه إليه، ولهذا كان انضمامه إلى حزب ثوري محاولة للهرب من الموت بالانغمار في تيار صاخب قوي. وكان فنه في هذه الفترة شديدة التردد والتفاوت يحاول التمسك بأذيال القصيدة القديمة فيحس بالعجز عن ذلك ويفتش عن طريقة يوارب بها ذلك العجز، وفجأة لاح له ان التخلص من ضعفه لا يتم إلا بالاعتماد على شعر متفاوت في تفعيلاته، فانتحى هذه الطريقة ليمعن في تحليل خلجاته الرومنطقية لا ليجعل منها وعاء لموضوعات جديدة، ولهذا كان منحاه الجديد شكليا خالصا، وقد بلغ أقصاه في قصيدة " في السوق القديم " التي تجمع بين التفاوت في التفعيلات والاستقصاء ولهذا أوحت إليه انه قادر على ان ينظم؟ في هذا الشكل الجديد - قصائد طويلة تميزه عن كثير من الشعراء المعاصرين؛ ولكن إصراره على التمسك برومنطقيته الحالمة جنبا إلى جنب مع ثوريته الحزبية خلق في نفسه ازدواجا بين الواقع والفن، وظل هذا الازدواج قائما حتى حطم لديه انتماءه الحزبي بعد محاولات بذلها في سبيل الربط بين طرفي تلك الثنائية.

وتتميز المرحلة الثانية بالبحث عن بديل فني للنخلة، ولذلك دعيت هذه الفترة باسم " البحث عن الملحمة "، أي عن قالب فني

ص: 406

بوازي النخلة طولا ورسوخا وجلالا. وكان السياب يظن ان كل قصيدة طويلة تستحق أن تسمى " ملحمة "، ومع أننا لا نستطيع ان ننكر عليه النفس الملحمي وبعض الوسائل التي تتطلبها الملحمة، لا نقره على أن قصائده الطوال كانت ملاحم بالمعنى الفني الدقيق. وقد بسطت القول في قصائد هذه الفترة تحليلا ونقدا لأنها الصورة الأولى لجهد يحاول التفرد في الشكل والموضوع، وهي فترة تتميز بالازدواج على غير صعيد: فهناك ازدواج على صعيد الحياة نفسها وازدواج في موضوعات القصائد وثنائية لا يتطابق طرفاها في بناء القصيدة الواحدة أحيانا. وقد انقسمت تلك القصائد الطويلة في مجموعتين: مجموعة القصائد " اليسارية " التي تقوم على الازدواج بين الحرب والسلم والعبودية والحرية والدمار والبناء مثل " فجر السلام " و " الأسلحة والأطفال " ومجموعة أخرى تمثل البناء القائم على التداعي مثل " حفار القبور " و " المومس العمياء ". ويبدو الموضوع في المجموعة الأولى مفروضا على الشاعر ابتداء من خارج نفسه ولذلك تميزت تلك القصائد بالافتعال والفتور العام ومن ثم بالإخفاق في المبنى الفني كما ان قصائد المجموعة الثانية تمثل نقمة غير واضحة على الذات الخانعة المستسلمة وعلى سلطة الأب الجائرة القاسية، ولهذا كانت الروح " الدرامية " فيها ضعيفة جدا، وكان بناؤها على التداعي الحر سببا في إخفاق مبناها الفني كذلك. ولكن البحث عن الملحمة كان حلما يساور السياب حتى بعد أن تجاوز هذه الفترة، ولم يتضح له عجزه عنها إلا حين أخفقت قصيدته عن قصة القنبلة الذرية ورؤيا فوكاي فلم يتحقق لها مبنى منتظم موحد؛ ورغم الإخفاق في المبنى الفني فان هذه القصائد جميعا تدل على إخلاص عميق في سبيل الكشف عن المقدرة الشعرية، وتحمل في جوانبها شيئا كثيرا من أروع ما نظمه السياب.

وجاءت مرحلة الكشف التي سميتها " تجلي ارم "؟ لأن تجليها

ص: 407

يعني أن الشاعر قد اهتدى إلى ما كان يبحث عنه، وكانت قصيدة " أنشودة المطر " فاتحة هذا التجلي لأنها تخلت عن الازدواجية القديمة واعتمدت الوحدة المظلمة في كل الجوانب، ولأول مرة يتحدث الشاعر عن العراق وعن نفسه حديثا متطابقا ويبني قصيدته على وحدة متكاملة تستدعي التفاؤل الختامي ضرورة ناجمة عن المبنى نفسه، لا كما كان هذا التفاؤل من قبل متصلا بالمبدأ الخارجي دون أن يكون نابعا من نفس الشاعر. كان السياب؟ عند هذا الحد - قد نضج فنيا، وساعدت على نضجه المحاولات المتكررة والينابيع الثقافية والمحاكاة الواعية، فنظم في هذه الفترة قصائده الكهفية، التي تمثل انصهار الشاعر في أمته وقهره للموت أو تقبله له لأنه موت " في الجماعة " كما نظم قصائد أخرى تعد فنية خالصة واعتمد فيها بناء محكما مثل " تعتيم " و " أغنية في شهر ". وتعد القصيدة الأخيرة من الوجهة الفنية الخالصة من أجمل ما نظمه الشاعر على طريقة لم يتح له ان يمارسها في شعره من بعد إلا قليلا، وفيها تتجلى قدرته على استغلال " الأسطورة " استغلالا اصبح سمة لقصائد هذه الفترة والتي تليها، فقد اكتشف ما يمكن ان تمده به أسطورة تموز، وما كاد يجد راحة نفسه فيها هاربا من " واقعيته الحديثة " حتى مزجها برمز " المسيخ "، وبذلك كان يبتعد رويدا رويدا عن حمى الجماعة إلى منطقة " الخلاص " الفردي الذاتي. وقد انشأ في هذه الفترة " فترة سلال الصبار في بابل " مزيدا من القصائد ذات المبنى الفني المحكم مثل " النهر والموت " و " مدينة بلا مطر " و " جيكور والمدينة ". وتعد قصيدة " النهر والموت " مفترق الطريق الذاهب إلى النهاية ففيها وقف يرجح بين الموت في الجماعة والعودة إلى بويب وظل النخلة أي الموت الفردي المريح بالعودة إلى أحضان الام. ولكن الأحداث الدامية في العراق أرجأت هذا الاختيار وإذا به يحول رمز تموز والمسيح إلى

ص: 408

إعلان النقمة الجارفة على تلك الأحداث ومن شارك فيها أو كان سببا في إذكاء نارها، وهذا هو القسم الذي سميته " سربروس في بابل "(الفصل 27) ؛ وسربروس كلب عقور يهاجم عشتار " رمز الحب والخصب "؟ ولكني عنيت أن هذا الكلب العقور كان ذا رأسين، فإذا كان أحد الرأسين هو هو الذي جرح الحياة وقتل بعض جوانبها فان الرأس الثاني هو تلك القصائد التي خلدت ذلك التناحر بين أخوين، وعمقت الجراح في النفوس، وجعلت الشاعر نفسه ضحية لها لا حين أصابت نفسه وشعره بالإرهاق وحسب بل حين رسخت صور الفظائع " فنيا " حتى أصبحت " كابوسا " يهاجمه في اليقظة والمنام، ويساعد على انحداره النفسي والجسدي نحو الفناء.

وحين أدركه الإرهاق وبلغ بغضه للمدينة أقصاه هاجر عائدا إلى جيكور فوجدها قد تغيرت عما عهده، وأحس أن صورته فيها قد هرمت وتحيفها الزمن، وواكب ذلك مرضه الجسدي وتنقله للاستشفاء، فأصبحت هذه المرحلة الأخيرة في حياته تسجيلا للماضي والحاضر، بصورة عفوية تلقائية، واضمحلت الأسطورة القديمة فأخذ يتلمس الاستعانة بأسماء جديدة يرمز بها إلى حاله وواقعه، وكانت قصائده جميعا " مذكرات " تدون تباعا؛ وقد احتفظ بهذه القصائد جميعا ولم يسقط منها؟ فيما يبدو - أي شيء، مع انه اسقط كثيرا من شعره في كل المراحل ولم يضمنه دواوينه. وبعد ان كان يعتمد في قصائده؟ فيما مضى - على تدافع الصور وحشدها، وعلى التفصيلات والتفريعات في المناظر، وعلى إيراد التشبيهات الطويلة، اصبح في قصائد هذه الفترة يتكئ على تتابع الحركة والخبر السردي وخاصة في قصائده التي أخذ يؤرخ فيها ذكريات الماضي. وبين المرحلتين اللتين تقومان على صنفين من الحشد والتكديس علت نغمة التساؤل الملح في قصائد فترة " سلال الصبار في بابل " لصلة التساؤل بالدهشة والنقمة والحيرة

ص: 409

والحنق إزاء " أيام الرعب ".

والحق أن حياة السياب تتضمن قوسين كبيرين هما مرحلتا البحث عن الأم؟ أو العلاقة بين الشاعر والموت - وبينهما خط قصير نحيل متعرج يمثل انسجامه الفني في الجماعة أو نقمته عليها وفي أثناء تلك الفترة القصيرة زمنيا وجد الشاعر نفسه ثم فقدها في سرعة.

وفي نهاية كل مرحلة ختم السياب آثاره بالشك في قيمتها، فإنه حين اتجه إلى اليسار في قصائده نذر انه لن يعود إلى مثل القصائد الذاتية التي نظمها في الفترة الأولي، لأن الشعراء الذاتيين؟ في نظره - يخونون قضية أمتهم، وكأنه كان يتبرأ من ديوانيه " أزهار ذابلة " و " أساطير "، وحين ثار على الشيوعيين نظر في ازدراء أو استخفاف إلى ما أنشأه؟ أو ترجمه - وهو منتم اليهم، وشكك الدارسين في سلامة الدوافع التي ألهمته، أو عد أعمال تلك الفترة ثمرة للتضليل، وحين زحف إلى دنيا الخلاص الفردي أنكر الالتزام أي " شجب " قصائده القومية الملتزمة، وعندما أخذ الموت يمتص ما تبقى من وجوده رثى الشعر الحديث جملة.

والسر كل السر في شخصية بدر؟ لا في إيمانه بشعره - تلك الشخصية التي يلتقي فيها البكاء بالضحك على صعيد، ويتردد صاحبها بين ذروة الانفعال وحضيضه دون تدرج، ولا يفيء إلى قاعدة فكرية صلبة، ولا يسعفه الإغراق في الحساسية على الانضواء طويلا في الجماعة، لأنه ينكر نفسه إذا هو لم يحس بها منفردة متفردة في آن؛ وهي شخصية المتلذذ بعذاب الحرمان من الحب والجاه والمال، الذي يرد هذا الحرمان إلى غير أسبابه الواقعية، ولهذا كان دائما يحس أنه مقهور مستذل يود المجتمع أن يقتله وتريد المدينة أن تصعقه بكهربائها، وكان إحساسه بالبؤس مناقضا لإيمانه بموهبته الفنية

ص: 410

فبينا يضعه الأول موضعا مهينا ويحيل حيويته إلى الزحف في سبيل اللقمة، كان يريد من الثاني ان يفرض له على المجتمع مكانة مرموقة، وكان يضيق؟ وحق له - بلنكران الجاهم الذي يلقاه، ولعل إشارة صغيرة ذكرتها الأديبة الراحلة سميرة عزام هذا كله حين قالت:" لعل السياب لم يحسن في حياته إلا أن يكون شاعرا، هكذا كان يتأكد لي في كل مرة يقف فيها موقف المتهم من أصحاب المجلة أو مدير إدارتها، فأشفق عليه من هذا الحساب واتساءل: ألا يشعر السياب بأن له ظلا يلف المجلة ومن فيها؟ "(1) وقد حدثتني سميرة؟ رحمها الله - بنماذج من تلك الوقفات التي كان يقفها السياب مواجها التقريع والتعنيف وهو مطأطئ الرأس لا يستطيع ان يرد أو يثور مخافة أن يفقد مصدر عيشه.

وكان هذا الشعور يتحول في نفسه إلى حنق بالغ فلا يجد لذلك الحنق متنفسا سوى الشعر، وقد واكب هذا الحنق شعر السياب فكان انفعالا مديدا يريد ان يتجاوز الحد الطبيعي للقصيدة فيحولها إلى ملحمة؛ وهذه السورة التي تطغى حتى تجاوز كل حد هي التي جعلته يمعن في تصوير عهد الرعب ويتلذذ بذلك الإمعان، إذ كان الحنق هو المحرك القوي لطاقته الشعرية، وحسب المرء ان يقارن بين قصائد فترة الرعب وقصائد الفترة اليسارية ليدرك ان الغضبة الجازفة النابعة من شعوره الفردي كانت أشد من كل نقمة تعلمها من مبادئه الثورية ضد الاستغلال والاحتكار والاستعمار وضد الفئات التي تغتصب حقوق الشعب وتأكل خير الوطن وتسلط الشرطة والجيش على قمع مظاهرات الجائعين والمظلومين. ولهذا الحنق نفسه اختار ان يصور شخصيات مسحوقة الكيان أو الضمير ويضع على ألسنتها تمنيات بالتدمير والهدم والعدم، فهذه صورة حفار القبور:

(1) أضواء: 44.

ص: 411

؟. وهز حفار القبور

يمناه في وجه السماء وصاح: رب أما تثور

فتبيد نسل العار، تحرق بالرجوم المهلكات

أحفاد عاد باعة الدم والخطايا والدموع

والمومس الهمياء تقول:

ليت النجوم تخر كالفحم المطفأ والسماء

ركام قار أو رماد، والعواصف والسيول

تدك راسية الجبال ولا تخلف في المدينة من دماء

والمخبر يقول:

سخطا لهذا الكون اجمع وليحل به الدمار

وهذه أمنيات يصوغها الشاعر معبرا عن نقمته العاتية، لأنه هو نفسه يقول في موضع آخر:

فيا قبضة الله يا عاصفات

ويا قاصفات ويا صاعقة

ألا زلزلي ما بناه الطغاة

بنيرانك الماحقة (1)

ومن ثم كانت الرغبة في المرأة حنقا مدمرا محطما:

يود القلب لو حطمته، لو حطمت خفقاته شفتيك

والكتفين والصدرا

ولو عراك لو ذراك لو أكلتك أشواقي

ولو أصبحت خفقا أو دماء فيه أو سرا

فان أحببتك الحب الذي أقسى من الموت

واعنف من لظى البركان؟.. (2)

(1) المعبد الغريق: 68.

(2)

منزل الاقنان: 14.

ص: 412

واتحد هذا الحنق مع سهوة حادة كانت في أول أمرها تحديا لذلك الجسد النحيل وإيمانا بقيمة الفحولة ثم أصبحت مسكنا للأعصاب المتوفزة المتحفزة، ولو وقفت عند ذلك الحد لتجاوزنا الحديث عنها إلى ما هو أهم شأنا ولكنها كانت عميقة الأثر في شعره، ذلك لأنها كانت تتدخل في طبيعة القصيدة فتفسدها، وحسبنا أن نذكر " حسناء القصر " في هذا المجال، فان رغبته الشهوانية في تلك الحسناء هي التي قتلت فيها الغاية الاجتماعية، وكذلك يقال في صورة " حفار القبور " و " المومس العمياء " وفي قصائد لا تتجاوز أن تكون صورا شهوانية خالصة نظمها في المرحلة الأخيرة من حياته. وفي حدة الحنق وحدة الشهوة يكون الشاعر كالحصان المشدود إلى عربة وقد حجبت عن عينيه رؤية شيء سوى ما تنفرج عنه الطريق أمامه، وذلك تحديد لمجالات الرؤية وتضييق للآفاق الواسعة. وقد عملت هذه الحدة بنوعيها على ان تحرم بدرا من النضج النفسي لأنه ظل محكوما بسورة اللحظات العابرة، وزاده ابتعادا عن هذا النضج تلذذه بالخداع الذاتي وتعلقه باستثارة العطف الذي تتيحه العقد النفسية؟ أعني ركونه إلى ان " المرض " يستدر الإشفاق ويستخرج العذر في آن معا. وبابتعاده عن النضج النفسي ابتعد عن التمرس بأزمة الشاعر المعاصر ومحاولته ان يتمثلها ويحدد أبعادها ويوجه إلى حلها، واخذ يهرب منها بتغيير الشعارات والرموز، لأنه لم يحسن أن يدرك أين يقف من نفسه ومن مجتمعه ومن الفن. نعم أن مشكلة الموت ظلت من البداية حتى النهاية محورا في شعره، ولكن مواجهته لهذه المشكلة تصور مجالات الهرب لديه منها والتبرم بالحلول التي وصلها واحدا بعد آخر اكثر مما تصور تأمله فيها واستعلاءه عليها.

ولكن بدرا يمثل أزمة من وجه آخر: فهو شاعر محدث يطير بجناح واحد؟ إن صح التعبير - إذ لا بد للشاعر المعاصر من جناح

ص: 413

تصويري وآخر ثقافي، أي لن ينجح الشاعر في عالمنا الحديث إلا حين يكون شاعرا مفكرا في آن، والمفكر امرؤ مثقف يرى الأمور من زاوية خاصة. ولكن بدرا كان ينهل من معين واحد، كان يكثر من قراءة الشعر، وكان محصوله الثقافي ضعيفا أو نزرا يسيرا، ومن ثم كان الصعيد الفكري لديه أيضاً مختلا أو واهيا؛ (ولنذكر في هذا المقام أن كل ما استفاده من الفكر اليساري في مدى أعوام هو أن ينهي قصيدته بالتفاؤل) . ولهذا كانت فترة الإبداع الصحيح في حياته قصيرة، وحتى في هذه الفترة يهوي الشاعر هويا سحيقا من الناحية الفكرية: ففي القصائد الكهفيات؟ وهي من اجمل ما نظمه من الناحية الفنية - لم يستطع ان يسمو عن النغمة الواعظة التي تصور أهل المشرق العربي قابعين في كهوف الكسل والبلادة والنوم، وفي قصائد الثورة على الخضارة الحديثة؟ وربيبتها المدينة - عاد إلى نغمة وعظية أخرى تتحدث عن أن " النضار " هو الرب الذي يحكم هذا العالم الحديث وحضارته؛ وحسب الشاعر الحديث خيبة ان يتحدث عن ضياع الحياة الروحية وعن سيطرة المادة على الروح وهو جائع إلى بلغة من طعام وأمته فقيرة إلى كل سلاح مادي ترد عن نفسها عدوان الصهيونية والاستعمار. ان فلسفة " النضار " هذه لا يتحدث بها إلا دهاقنة المال المتخمون تلهية للكثرة الجائعة التي ينتمي إليها السياب.

ومن ثم خلا شعر السياب من مواقف تأملية أو كاد ولا نجد عنده من هذا القبيل إلا وقفتين صغيرتين يتأمل فيهما ما صارت إليه جيكور، يقول في إحداهما:

جيكور ماذا؟ أنمشي نحن في الزمن

أم أنه الماشي؟. (1)

(1) المعبد الغريق: 110.

ص: 414

ويقول في الثانية:

ايه جيكور عندي سؤال أما تسمعينه

هل ترى أنت في ذكرياتي دفينه

أم ترى أنت قبر لها؟ فابعثيها (1)

ولست اعني أن على الشاعر استخراج فلسفة متافيزيقية، فتلك ظاهرة ضاعت منذ زمن، ولكن ما أريد أن أقوله هو أن بدرا ذهب مع حدة الانفعال مذهبا أبعده عن تصور الأشخاص الذين يتعمقون هذا الوجود ووضعهم الإنساني فيه، وعن تمثل المواقف التي تتيح ذلك.

ولكن هذا كله يجب ألا يكون مدعاة لان نغمط الشاعر ما أداه في المجال الشعري الخالص: تحسسا للشكل المناسب ومحاولة؟ وان كانت تخطى طريقها - للتعبير عن بعض القضايا الإنسانية والعربية، وسعيا وراء الجدة في الصور الشعرية واستخداما دقيقا لبعض الأساطير والرموز وتوفرا على التساوق بين المضمون والشكل في البناء الفني العام. وقد وقفت في هذه الدراسة عند عدد من قصائده التي تجعل منه شاعرا مقدما بين أقرانه أصحاب هذا اللون من الشعر.

ومن تتبع شعر السياب في صعوده وهبوطه لم يكد نظره يخطئ رؤية السمة الغالبة على شعره، أعني اتجاهه بكل طاقاته نحو الوضوح السافر في الكيان الكلي للقصيدة، فكل عناصر القصيدة كان يراد لها؟ بشكل واع - ان تخدم ذلك الوضوح، إلا ان بعض التعمية قد يقع في الصور الجزئية والاستعارات المجتلبة وفي العلاقة بين بعض تلك الاستعارات والصور، وقد يكون بعض الغموض ناشئا عن قصور التعبير أو الخطأ في إدراك مدلول اللفظة، كما ينشأ في اغلب الأحيان

(1) المعبد الغريق: 143.

ص: 415

من إيراد الجمل المعترضة، فبينما يظن الشاعر أن الجملة المعترضة توضيحية، إذا بها تؤدي غير ما جاءت له لأنها تنقل القارئ من السياق العام إلى التأمل في حقيقة جانبية استطرادية، والإكثار من الجمل المعترضة سمة ذهنية في واقع الأمر على التزاحم العبارة في الذهن بين تقديم وتأخير وفصل ووصل، وقد تصلح لتصوير الاضطراب النفسي ولكن كثرة المعترضات تصبح نوعا من المعاظلة التي كرهها نقاد العرب في القديم، ومن الأمثلة النموذجية على ذلك قول الشاعر (1) :

والآن عادوا ينقضون -

خيطا فخيطا من قرارة قلبها ومن الجراح

ما ليس بالحلم الذي نسجوه، ما لا يدركون

شيئا هو الحلم الذي نسجوا وما لا يعرفون

هو منه اكثر كالحفيف؟ من الخمائل والرياح

والشعر؟ من وزن وقافية ومعنى، والصباح

من شمسه الوضاء؟. وانصرفوا سكارى يضحكون

أما التعتيم الناشئ من اللمح السريع ومن رسم الخطوط الكبرى وترك التفصيلات في القصيدة فلا نجده كثيرا عند السياب، وقد كانت ابرز قصائده التي نحت هذا المنحى هي قصيدة " أغنية في شهر آب " ولم يحاول من بعد أن ينسج على منوالها، ولعل قصيدته " أغنية بنات الجن "(2) و " متى نلتقي "(2) يتمعنان بمسحة من التعتيم ولكنهما اقل مستوى من القصيدة السابقة، وربما كان سبب الانبهام فيهما عدم نضج التجربة في نفس الشاعر.

(1) المومس العمياء: 16.

(2)

الشناشيل: 73.

(2)

الشناشيل: 73.

ص: 416

وليس من التنكر للشعر الذاتي أن نقول أن بدرا كان على خير أحواله إجادة حين كان يستطيع أن يوحد بين أزمته الذاتية وأزمة أمته، أو حين يجعل التجربتين غير متباعدتين، ذلك أنه لم يكن قادرا على أن يخرج نفسه من الصورة في كل حين، ولهذا أجاد حين كان يتحدث مثلا عن الأطفال ودنياهم لأنه كان يصور نفسه من خلال ذلك، وكذلك كان حاله إذا تحدث عن أهوال الفقر والجوع والسجن، وإن من يسمع نشيد صغار بابل وهم يخاطبون عشتار في " مدينة بلا مطر " لا يستطيع أن يفصله عن لوعة السياب في حنينه إلى الأم (1) :

جياع نحن مرتجفون في الظلمه

ونبحث عن يد في الليل تطعمنا، تغطينا

نشد عيوننا المتلفتات بزندها العاري

ونبحث عنك في الظلماء عن ثديين، عن حلمه

فيا من صدرها الأفق الكبير وثديها الغيمه

سمعت نشيجنا ورأيت كيف نموت فاسقينا

ولا ريبفي أن صورة تموز مقتولا، كانت اكثر تعلقا بقلبه من صورة تموز منبعثا بالحياة والخصب، وصورة المصلوب كانت أشد تجاوبا مع نفسه من صورة باعث لعازر، وقل مثل ذلك في الجوانب السلبية من هاتين الصورتين وما يتصل بهما من رموز.

ومن الأمور التي لا يمر الدارس عنها عابرا محاولة السياب التنويع في النغمات الشعرية فهو لم يكتف بالأبحر ذات التفاعيل المتكررة كالكامل والرجز والرمل والمتقارب، وإنما عمد إلى بحور أخرى فحاول تجزئتها كالطويل والبسط، وحاول كذلك التنقل في القصيدة الواحدة من بحر إلى آخر، وقد قلت أن المحاولة يحكم عليها بقرائنها ولا

(1) ديوان أنشودة المطر: 175.

ص: 417

تخضع لقانون عام، ومن الحق أن أقول هنا أن كثيرا من تلك الانتقالات لا تجد مسوغا من طبيعة القصيدة نفسها. ولكن أبرز ما لدى السياب؟ وربما كان اكثر الشعراء احتفالا بذلك - انتقاله من المراوحة بين عدد التفعيلات إلى النظم على السياق الشعري القديم، وكان هذا يخدم الموضوع أحيانا، ولكنه يدل من ناحية أخرى على أن الشاعر لم يكن متزمتا في اختيار الأسلوب الشعري الجديد وان تجديده لم يكن كراهية للقديم من اجل قدمه.

وكانت تجاربه في التنويع بين الإيقاعات توقعه في أخطاء عروضية، وهو من أشد الناس حرصا على التناغم في الايقاع، من ذلك مثلا:

وصعدت نحوك والنعاس رياح فاترات تحمل الورقا

فهذا مما لا يضبط. غير أن إحساسه العارم بضرورة التقفية المتراوحة يزيدنا يقينا بحرصه الشديد على النغمة المؤثرة بموسيقاها وعلى شيء من الانسجام الداخلي في شكل القصيدة.

* * *

إن هذه الدراسة حين حاولت أن تجيب على العديد من الأسئلة لم تثر شيئا حول شكل الحديث بل اعتبرته ظاهرة موجودة تدرس دون تشكك في قيمتها، ولا ريب في أن هناك أمورا أخرى لم يتح لكاتب هذه السطور ان يتناولها كالسلامة اللغوية، والاتساق بين الصور في القصيدة الواحدة، والصور المكررة وعلاقتها بنفس الشاعر، وأثر الأسطورة في ذلك لتكرار، وغير ذلك من موضوعات، ولكنها فيما حققته تعد محاولة أمينة في نطاق الدراسة الموضوعية، لأنها رفضت أن تجعل من الشفقة التي أثارها موت السياب أو النقمة التي بعثتها تقلباته في الحياة رائدها للحكم على شعره.

ص: 418