المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعتيم في المبنى والموضوع - بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره

[إحسان عباس]

الفصل: ‌تعتيم في المبنى والموضوع

- 23 -

‌تعتيم في المبنى والموضوع

تلك هي التي سميتها القصائد الكهفية، وهي على اتفاقها في الموضوع والمنطلق التصويري تتقارب في مستواها الفني، حسبما وضحت. أما بقية قصائد هذه الفترة (عدا القصائد المتصلة بالقنبلة الذرية وبور سعيد) فليس بينهما رابطة تجمعها موضوعيا، وتتقارب قصيدة " تعتيم "(1) و " غارسيا لوركا "(2) في المبنى الذي يتمثل في الانسياب العفوي الحر النبع من لفظة. فكلمة " تنور " في كلتا القصيدتين هي المنبع، إلا أنها في قصيدة لوركا تسير على نظام التضاد مع " الماء " فتبيح للتضاد بان ينتظم جميع القصيدة (كما عرضت من قبل) ؛ وأما التنور في قصيدة " تعتيم " فانه مصدر النور الذي يكشف عن محيا المحبوبة وما يعتلج فيه من أحزان وأفراح، وقد كان النور والنار مصدر وقاية الإنسان الأول من الضواري حقا لأنها كانت تفزع منهما، فمن الخير أن تنطفئ النار والنور ويدفن الخبز في التنور حتى لا تكون النار سبب فنائنا، فالبقاء في الديجور خير لنا، لآن النمور السماوية قد ترجمنا بالصخر والنار. وليس في شعر السياب ما يضارع هذه القصيدة إخفاء للرمز مع استغلاله دون خلل. فالنور على وجه

(1) أنشودة المطر: 29.

(2)

أنشودة المطر: 27.

ص: 276

الحبيبة يفضح رغبتها الشهوانية، بينما كان الإنسان الأول يستعمل النار لطرد تلك الشهوة المتمثلة في النمور والأسود، فمن الخير أن يضيع الحبيبان في أحضان الظلام لكي يحتجبا فيما يريدان تحقيقه عن أعين النمور في المساء، وهي على عكس نمور الأرض لا تخاف النار والنور بل تستغلهما لرؤية الأحياء الذين يمارسون شهواتهم وترميهم بحجارة الرجم. فالقصيدة لا تحمل شيئا من الموضوع النبيل، ومع ذلك فانها شديدة الإحكام لبقة الرمز، ولعل القارئ قد أدرك أن التنور والنمور (في الأرض والسماء) ودفن الخبز والرجم كلها متصلة بحقيقة واحدة يراد الوصول إليها في حمى العتمة قبل ان يخيم " ليل القبور ". أن من يقرأ هذه القصيدة يعجب كيف استطاع السياب؟ الذي كان يثقل القصيدة بالتوضيح والشرح والتعليق - ان يصل إلى هذا المستوى من الالماع والتلميح.

وفي قصيدة " المخبر " لا يخطو السياب خطوة جديدة وإنما يعود إلى صورة مماثلة للتي رسمها في " حفار القبور "؟ الإنسان الذي يأكل من دفن الناس في الأرض أو في السجون (فالأمر سيان) - وهو يحاول ان يسوغ ما يأتيه، مع شعور عميق بحقارة ما يصنع. وكذلك هو الأمر في قصيدة " عرس في القرية " فأنها عودة إلى زواج الريفية الجميلة من ابن مدينة ثري، ففيها يحاول السياب ان يزاوج بين الأسى على مصير المحبوبة وبين كفاح الطبقات الكادحة فتجيء المزاوجة مضحكة كما حدث ذلك في قصيدته " حسناء القصر " وفي غيرها:

كان وهما هوانا فان القلوب

والصبابات وقف على الأغنياء

لا عتاب فلو لم نكن أغبياء

ما رضينا بهذا ونحن الشعوب

ص: 277

والقصيدة بطيئة الحركة، وفيها من الوضوح النثري ما يجعل قوة التلميح في مثل قصيدة " تعتيم " اشد غرابة.

ولكن اغرب محاولاته جميعا في هذه الفترة هي " أغنية في شهر آب "(1) ، وقد كان يحس ان القصيدة محاولة لكتابة الشعر بأسلوب جديد، ولهذا رأى أن يلمح إلى بعض ما قد توحي به القصيدة في رسالة إلى الدكتور سهيل إدريس؟ تقدم اقتباس جزء منها - ولكن هذا الذي قاله لا يفسر شيئا على وجه الدقة، واصح ما قاله هنالك ان تلك المحاولة كانت جديدة حقا بالنسبة لما كان قد نشر من قصائد.

لقد وجد قصيدة للوركا عنوانها:؟ أغنية يوم من تموز " فأحب ان يتغنى في شهر آب، لأنه قد يفيد من رمز تموز ما يجعل حلول آب أمراً محتما، ولعل الصلة بينه وبين لوركا لا تتجاوز هذا الحد كثيرا؟ فيما يتعلق بهذه القصيدة - وشهر آب متأجج بالحرارة، ومع ذلك فان جو القصيدة يوحي ببرودة شديدة.

وتفتتح القصيدة بموت تموز الذي يرمز للخصب الشهواني والحب ودفء النهار، قتله هذه المرة خنزير اسود هو الليل:" الخنزير الشرس "، الذي يبدو ظلامه نقالة إسعاف أو قطيعا من النساء ذوات العباءات السود؛ الجوع والبرد يسيطران أثناء الليل على الأجساد ألواناً من الدفء؛ فربة البيت تريد ان تذكي النار في جسدها بسماع موسيقى الجاز، وهي تحس ان " الليل شقاء "؟ وأمامها المربية الزنجية وهي " كالغلبة تربض بردانة " أيضاً. وتجيء الزائرات وقد تدثرن بالفراء؟ ذئبات يلبسن جلود ذئاب ويطيف بأثدائهن المتنمرة عرام النمور - ويأخذن في السمر فتلهب الأماني فيهن التوق ولكن الخيال لا يشبع:

(1) أنشودة المطر: 22.

ص: 278

ولهذا تأكل منه الضيفة وتظل جوعانة كجوع ربة البيت. وتتسلل الأحاديث مطيفة بمن خطبت ومن فسخت خطبتها، وهذه النار التي تأكل لحوم البشر نوع آخر من طلب الدفء حين يكون القمر نفسه مبتردا في الأفق، ورويدا رويدا تحس الضيفة بالبرد رغم تدثرها بالفراء، فقد اذكت القصص المثيرة النار في دمها ولكنها عادت فانطفأت؟ وتتسمع النساء على ما يحدث في الخارج فلا يسمعن إلا صوت الليل والجليد وعواء الذئاب؟ عندئذ تتوجه ربة البيت إلى زوجها ليأتي ويشاطرها شيئا من البرد (لأن الضيفة مبتردة أيضاً مثلها) فهي تريد ان تبعث الحرارة في دمها باغتياب الناس أي أكل لحومهم ثم حملها على نقالة الليل ودفنها في قلب زوجها الذي اصبح باردا كأنه مقبرة. وقد اسقط السياب جزءا من القصيدة كان قد نشره في الآداب (عدد أيار 1956) ومن هذا الجزء نعلم أن الزوج في الخارج في بيت صديق أو بار، وان زوجته لا ترى مفاجأة في عودته سواء جاء في الموعد أو تأخر:

لا لوم عليه فقد أعطى ما اطلب منه ولا عتب

خدم ورياش ملء البيت وأبهة؟. دنيا ونقود

وفيه منظر للسيدات وهن يقرأن البخت على سطور فنجان:

ماس وبقيتها ذهب

وهدية والدها؟ الله هدية والدها عجب:

صياد بين يديه شباك

تتلامح ملأى بالأسماك

ذهب وزعانف من فضة

ولآلئ توهم أن هياكلها ذهب

وبأن لصائدها خضه

ص: 279

وتتعوذ مرجانة، ابةالرقى والتعاويذ، من عقد السحر " والليل الراكد بالخضر "، وهذا الجزء من القصيدة يزيد الصورة وضوحا ويفسر نداء المرأة لزوجها من بعد، ويضفي على حياة نساء الطبقة النترفة مزيدا من الوضوح ولكنه بفضح القصيدة لآنه يعتمد التصريح لا التلميح وخاصة عندما تتحدث ربة البيت عن عودة الزوج وهي يقظى مسهدة والضياء ينساب من شق الباب إذ يفتحه لدى عودته:

كالماء المالح اشربه

حتى تتقطر اغواري ولذلك كان حذفها اشد انسجاما مع قوة الإيحاء؛ وفي رموز الذهب والفضة المتحولين إلى سمك والسمك الذي يحمل زعانف من ذهب وفضة ما يعد تراوحا صريحا بين الثراء الباذخ والجنس دون أن يكون في إحداهما تعويض عن الآخر لآن كليهما يمثلان شهوة نفس ظامئة إلى التعويض.

ولو أنا حذفنا كلمة " تموز " وقلنا " مات النهار " حين قتله الليل لما تغير شيء في القصيدة ظاهريا، ومع ذلك فان رمز تموز الذي لم يتكرر إلا كاللازمة المترددة يعد أساسا هاما في القصيدة التي تمثل كناية متقنة؟ تسلسلا ونغما - عن مدى الفراغ الذي تعانيه نساء الطبقات الغنية، وعن حاجتهن إلى رد الجوع (رغم كثرة الطعام) وصد البرد (رغم كثافة الفراء) لأن الجوع والبرد يعنيان هنا الحاجة إلى الدفء المستمد من الحب والعمل والرجولة، ولكن فقدان هذه الأمور يجعل البرد يسيطر على حياة البيت (كما يسيطر على مظاهر الطبيعة في الخارج) ويحيل كل دفء مصطنع دفئا قصير الأجل، فلا الفراء نافعة ولا الأحاديث عن المحبين ومغامراتهم مسعفة ولا أكل لحوم البشر بالغيبة يرد البرد القابع في العظام؟ ومن أين يجيء الدفء إذا كان قلب الزوج جبانة؟ ان القصيدة؟ كما ترى - تضخيم للفكرة في

ص: 280

" تعتيم " وتوسيع لحدودها، بحيث تخرج القصيدة من حدود الكتابة عن رغبة رجل وامرأة قادرين على تحقيق ما يريدان إلى التعبير عن الجوع المستبد بعالم المرأة لآن الخنزير البري قد طعن تموز طعنة قاتلة، وإذا رجعنا إلى الأسطورة القديمة عرفنا منها أن الطعنة قد أصابته في رمز الفحولة، ولذلك كان هذا البرد الغريب في شهر آب، وسيطر ذلك الجوع واصبح الليل " نهارا مسدودا ". فالقصيدة صورة لانبتار العلاقات أو رمز عن العنة التامة في عالم المظاهر الكاذبة والترف الزائف، وكل ما يتصل به، حتى المريبة الزنجية " كالغابة " تربض بردانة ". هل هذه القصيدة أصيلة أو انها صورة مستعارة؟ إن السياب لم يعودنا أن يكون الحوار كما هو هنا، ولم نألف لديه هذه النقلات الخاطفة، ولا هذه السخرية العميقة، ولا أمثال هذه الصور: " الليل نهار مسدود " و " كالغابة تربض بردانة " و " والبرد ينث من القمر فنلوذ بمدفأة من أعراض البشر " و " والظلماء نقالة موتى سائقها أعمى "؟ ولكنا؟ رغم البحث - لم نهتد إلى ما يصلح أن يكون أصلا لها، ويكفينا أن السياب نفسه سماها " محاولة جديدة " (1) .

وخلاصة ما هنالك أن المدى الذي حاول السياب ان يروده في قصائد هذه الفترة كان واسعا رحبا، وان إخفاق بعض محاولاته يكشف عن استعداد عنيد للتغلب على كل عقبة تعترض نهوضه بعبء الإبداع الفني، حتى استطاع في قصيدة " أنشودة المطر " والقصائد الكهفيات وفي " غارسيا لوركا " و " تعتيم " ثم على نحو غريب في " أغنية في شهر آب " ان يضع نماذج متنوعة لما تستطيع أن تحققه القصيدة

(1) لا اعلم إن كانت القصيدة قد أثارت أية مناقشة حولها فقد طرحتها الآداب على القراء وطلبت أن يبدوا فيها آراءهم. ولم يقل الأستاذ هنري صعب الخوري، الذي نقدها في العدد التالي، شيئا واضحا حولها.

ص: 281

الحديثة، مهما تكن موضوعاتها متباعدة. لقد قدر للسياب ان ينشر جناحين عريضين يشرف بهما على أفق مديد، ولم يكن أسير نظرية محورية تملي عليه نفسها في صور متعددة؛ ولكن هل يستطيع الشاعر ان يظل فاردا جناحيه على هذا النحو مدة طويلة؟ أن من يتابع التطور الفني للسياب سيحس انه أصيب بالإرهاق وانه كان يسير بخطى سريعة إلى تضييق المدى، وكان ضيق المدى يشعره انه قد وجد ذاته مرة أخرى، وانه يريد العودة من دنيا الآخرين إلى دنياه الخاصة. وكان تأثره باديث سيتول مفيدا في البداية ولكنه غرس في نفسه بذورا لم يستطع التخلص منها في المرحلة التالية. ومن الهام أن نتذكر أن عمر الحديث عن العرب والقومية العربية لم يطل، ولكن الغربة عن جيكور كانت قد طالت: عشر سنوات قضاها الشاعر وهو يتحدث عن الحرب والسلام والمشكلات الاجتماعية في المدينة ومآسي القنبلة الذرية ونهضة المغرب العربي والعدوان على بور سعيد وحقارة المخبرين وعن غارسيا لوركا وعن خواء الطبقات الغنية، وفي تلك الأثناء خاض معارك آبية ومشاجرات يدوية وخطب في مؤتمر أدباء العرب في بلودان؟. أفلا يحق له أن يعود بعد كل هذا التطواف إلى جيكور؟

ص: 282