الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- 16 -
المومس العمياء
حين انتقل الشاعر إلى كتابة قصيدة " المومس العمياء " لم يكن يدرك أن القصيدة التي تبنى على التضاد بين موضوعين (كالحياة والموت أو الحرب والسلام) قد تخفق، ولم يحس انه قد اخفق حقا في هذه المحاولة مرتين، ومع ذلك فانه في قصيدة " المومس العمياء " تجنب موضوع التضاد، شبعا مؤقتا من ذلك النوع من المبنى، وانتحى منحى آخر، لعله ابسط بكثير من البناء المزدوج.
كان في قصيدة " حفار القبور " قد ترك الباب مفتوحا ليعود إليه، لكنه بدلا من ان يعاد الكتابة مرة أخرى عن الحفار، وجد انه قد ضحى بالمرأة البغي في سبيل التصوير الفني حينئذ، فلم لا يتناول الحديث من زاوية النظر إلى تلك المرأة، فان الموضوع اشد اثارة واقرب إلى النفوس من موضوع " الحفار "؛ وإذا كانت شخصية الحفار تمثل النزعة السادية الطاغية؟ كما أشرت من قبل - فأن تصوير نظريتها، في حالة استسلامية، اقرب إلى الناحية الإنسانية لأنه يستطيع ان يثير قدرا اكبر من الشفقة والعطف والرثاء.
ولقد كانت بعض الأدوات التي أسعفته في قصيدة الحفار ما تزال جاهزة لديه: فهو بحاجة إلى المنظر الليلي وإلى صورة الحارس
المكدودة، وصورة العابرين، وإلى السكير الذي يرتاد حي البغاء، ولكن لا بد من تغير الدافع المحرك للقصيدة: فقد كان هو المال لإشباع الشهوة الجنسية، أي أن الظمأ الجنسي كان هو الدافع الأقوى في توجيه قصيدة الحفار، ويصبح عنصر المال أقوى في قصيدة " المومس والعمياء " وتصبح الشهوة الجنسية وسيلة للحصول عليه، وتغدو الغاية من العنصرين: الشهوة والمال هي الحصول على القوت. وحين يتغير الدافع في القصيدة تتغير معالم أخرى كثيرة تبعا لذلك: فتدخل في الصورة شخصيات جديدة منها عدد من البغايا، والقواد، والجنود وصورة والد الفتاة التي أصبحت بغيا، وزوجة الشرطي، وبائع الطيور في حي البغاء، وعندما يتغير الدافع ويقوى عنصر المال يصبح إفراده بالحديث أمراً طبيعيا في القصيدة الجديدة؛ وتتعدد المسارب النفسية إلى الموضوع: فيمكن الوقوف عند الانتحار، والاحتجاج الجريح على هذا الوضع السلبي، والتغلغل في الذكريات، والمقارنة بين الصبا وخطر الشيخوخة الزاحفة، وبالجملة فأن قصيدة حفار القبور ليست سوى صورة لرجل معين يمشي في الطريق من الجبانة إلى المبغى ثم يعود إلى القبور. أما قصيدة " المومس العمياء " فأنها تاريخ حياة امرأة؟ شريط زماني يسترسل في داخل مخطط مكاني عريض هو حي البغاء في بلد عراقي. ولذلك كان هم الشاعر أن لا يعزل استرسال ذلك الشريط عن الواقع المكاني، بل ان يبقي البعدين الطولي الزمني والعرضي المكاني متجاوزين أو متلازمين.
وتاريخ حياة إنسان قد يقص حسب تتابعه الزمني، ولكن القصيدة تضيق ذرعا بذلك أحياناً، لأن نمو القصيدة ليس من الضروري أن يعتمد على تسلسل الزمن؟ كنمو الإنسان؛ فإذا تذكرنا ان قصة حياة فتاة تحترف البغاء لا تصور إلا في لحظتين: ما قبل السقوط وما بعده، أدركنا ان اللحظة الأولى هي
الجديرة بالتصوير، لرسم المفارقة البعيدة أولاً بين الماضي والحاضر، وللهرب إلى أحضان الماضي الجميل من شقاء التعاسة الراهنة؛ أي أن نمو قصيدة تتناول مثل هذا الموضوع يتم بالمزج بين الرؤية للواقع على ضوء من الذكريات، كما يكون للتداعي واللمح الرجوعي أثرهما في بناء القصيدة. وعلى التداعي والرجعات الخاطفة اعتمد السياب كثيرا في قصيدته، حتى جاءت سلسلة: حلقاتها الرؤية (أو التأمل في الواقع) والاستنكار، وليس يربط بين تلك الحلقات أحياناً إلا الخيط العام وهو صلة المرأة بكل حلقة منها على حدة. ويتم وصل هذه الحلقات بسرعة خاطفة تفوت على القارئ الفحص عن مدى التعسف أو الضرورة في ذلك الربط.
وتتخلص القصة؟ من حيث كيانها التاريخي - في سطور: فتاة اسمها سليمة، من أصل عربي صريح، عاشت في كنف أب فقير، كان يعمل حصادا بأجر، وذات يوم سمعت طلقا ناريا في الحقول، فهرعت تستطلع الخبر، وقلبها يحدثها ان والدها ربما صاد بطة تصلح طعاما لهم في ذلك اليوم، ولكنها تجد أباها مضرجا بدمائه، قتله إقطاعي (أو حارسه) اتهمه بأنه دخل حقله يسرق من قمحه الناضج، والفلاحون من حوله يهمسون في ذلة مرددين تلك التهمة:" رآه يسرق ". وتنشب الحرب وتجيء آلاف الجنود إلى العراق، فتستباح اعراض، وتقع سليمة فريسة لهذا المد العاتي، وتصبح بغيا محترفة، ويكون الإقبال عليها في شبابها كبيرا، ولكنها تصاب بالعمى وتحس بوطأة السنين الزاحفة، كما يتغير اسمها بعد فقد البصر فيدعونها " صباح ". وبسبب عماها يبتعد عنها طلاب الشهوة وتحس بالجوع والحاجة إلى المال. وفي غمار تلك الحياة القاسية تفقد بنتا كانت من ثمرات الإثم؛ وها هي في ذلك الوضع المحزن تستدعي الأيدي التي تشتري جسدها بما يسد الرمق فلا يسمع دعاءها أحد.
إن هذا السرد التاريخي يبين ان انتقال القصيدة حسب السياق الزمني سيكون خلوا من الأحداث، ولهذا لا يمكن اعتماده في القصيدة واهم حادثة في حياة هذه الفتاة هي ما اتصل بمقتل والدها، ولهذا كان البدء بها ممكنا. ولكن الشاعر كان يعتقد أن القصيدة الطويلة لا بد من ان تكون ملحمية الطابع، والملحمة تتطلب فاتحة تمهيدية، فذهب يمهد للقصة طويلة زادت على ست صفحات: عرض فيها للصورة الليلية التي أطبقت على المدينة، فإذا المدينة نفسها عمياء، والعابرون في طرقاتها هم أحفاد " أوديب " الأعمى؟ فهم أيضاً نسل العمى - تقودهم شهواتهم العمياء إلى المبغى حيث المقبرة الكبرى التي تطبق على جيف مصبغة بأنواع الطلاء، واحد السكارى (أعمى آخر) يدق على الباب يحلم بدفء الربيع، فيسخر الشاعر منه ومن حلمه الكاذب ويخبره ان شيطان المدينة (أي المال) لم يراهن في ذلك الحي إلا على أجساد مهينة محطمة، فليضاجع أية امرأة منهن لييسر لها الطعام، وليس ذلك السكير بأسوأ حالا من الأب الذي جعل من ابنته متاعا يشرى بالمال، فهو قد دفعها (في عماه وجهله) إلى ذلك المصير، وليست التي لحقت بالمواخير أسوأ حالا من " النائمات في كنف الرجال " اللواتي يعاملن بامتهان فهن أيضاً عمياوات في الذلة المضروبة عليهن، وكلهن؟ سواء بقين في كنف الرجال أو في حظيرة الإثم - يربين أطفال الحقد في صدورهن ليعصفن بالرجل المستبد الممعن في عماه.
تلك هي المقدمة وهي رغم التنقل السريع بين جوانب مختلفة من الصورة الكبرى لوضع المرأة، وقسوتها التقريرية، ووضوح التوجيه المقصود، من خير المقدمات التي يعنى بها السياب عناية خاصة في قصائده الطويلة، لأن وحدة " العمى " الحقيقي والمجازي فيها تجعل قصة المومس العمياء جزءا لا يتجزأ من اللوحة الكبرى.
وتبدأ القصة بعد ذلك بصورة بائع الطيور وهو يعرض سلعته في
حي البغايا، وتناديه سليمة لتتحسس ما يبيع، وفيما هي تمر يدها على الطيور تتذكر أسرابها التي كانت تراها في صباها، وتتذكر أباها والطلق الناري والفاجعة، وتسمع صوت قهقهات بعيدة فتعرف أن السمسار قد عاد " من الترصد بالرجال على الوصيد " وتتمنى لو كانت متزوجة فتخطر على بالها قصة زوجة بائسة هي امرأة الشرطي الذي يعمل حارسا في حي البغاء لكي يضمن ألا يتم اتجار بالخطايا " الا لعاهرة تجاز بأن تكون من البغايا "، وتدرك أن الزوجة ليست أحسن حالا؛ فينصرف خاطرها إلى الانتحار فتدفع عنها هذه الخاطرة لأنها " حرام " فيستبد بها الغيظ وتتساءل في حرقة بالغة: أذن " لم تستباح "؟ ويغلي الغيظ في صدورها حقدا على الرجال، وتتشفى بتوزيع الداء عليهم، ولكنها تتذكر انهم ليسوا سواء: فمن كان منهم كأهل قريتها كانوا أناسا طيبين، جائعين مثلها " ومثل آلف البغايا، بالخبز والاطمار يؤتجرون " ومن كانوا كالذين اغتصبوها؟ من جند الحرب - فهم المجرمون حقا، في استعلائهم وزهوهم؛ وتسمع وقع أقدام السكارى فيتمثل لها الوجود كله مقسوما في شطرين يفصل لبنهما سور، ها هنا بغايا وهنالك سكارى - تلك هي حياة البشر، وكل فريق منهما يطلب الآخر، ولكن السور عنيد كسور يأجوج ومأجوج الذي سمعت عنه في الصغر، لا يمكن ان يدكه إلا طفل اسمه " ما شاء الله "، ويدركها الإحساس بأن الزناة يعرضون عنها. ألانها عمياء؟ ولكن الذين يطلبون جسدها لا يبحثون فيه عن عينيها. أترى ان رفيقتها " ياسمين " هي سبب أعراضهم عنها لأنها تزينها بالطلاء، فتتعمد تشويه محاسنها؟ ولكن لا، أنها تغيرت حقا عن تلك الصبية التي كان شعرها يلهث بالرغائب والطراوة والعبير، الصبية ذات الثغر الجميل والنهد الكاعب. ولكن إلى متى هذا الجوع والذباب قد شبع من قمامة المدينة؟ الجوع الصارخ يجعلها تصرخ؟ بينها وبين نفسها - مستدعية السكارى
مدلة بنسبها العربي، لم لا يأتي هؤلاء السكارى فيضاجعون دماء الفاتحين؟ دم خير الأمم كما كان أبوها يقول - ليكون في ذلك درس لكل أب لا يزوج ابنته متشبثا بخرافة النسب. وتسطع المفارقة حين تتذكر المصباح الذي تضيئه للآخرين وهي لا تراه، بزيت تدفع ثمنه من سهاد مقلتها الضريرة؟ والزيت غزير في بلدها -؛ عشرون عاما مضت وهي تأكل بنيها من سغب، تريد الحياة وهي تخون سنة الحياة، وقد ماتت " رجاء " ابنتها، ولكن موتها كان راحة لها؟ انتظار؟ انتظار:" الباب اوصد، ذلك ليل مر، فانتظري سواه ".
ومن هذا العرض الموجز يتضح مبنى القصيدة، وتظهر الحلقات التي تكون السلسلة: الطيور؟ القهقهات؟ وقع أقدام؟ تذكر المصباح؟ وفي جوف كل حلقة منها خواطر مستدعاة أيضاً، فالتداعي في داخل الحلقات موضوعي (مثلا: تمني الزواج؟ لا زواج فالانتحار بديل - لا انتحار فاحتجاج جريح: لم تستباح؟) ولكن تداعي الحلقات نفسها تعسفي يفرضه الشاعر للاستمرار في البناء، وليس من رابطة بينهما كما أشرت من قبل - سوى صلتها بالمرأة التي تتحدث عنها القصيدة. وهذا بناء سهل لا يكلف الشاعر شيئا من التخطيط سوى ان يترك " بطل " القصيدة حرا في هواجسه، يثبت ما يشاء منها ويحذف ما يشاء، ولا يقف هذا الشكل حين يقف الا عند التعب من التذكر أو عند فقدان المدد الهاجسي الصالح للإثبات والاختيار، ولهذا جاءت خاتمة القصيدة مؤقتة اعني أنها حين أعلنت " ذلك الليل مر فانتظري سواه " تركت الباب مفتوحا للتقفية على آثارها بقصيدة أخرى؛ ومثل هذا المبنى يوفر وحدة موضوعية ونفسية كما يكفل إيجاد جو عام يقوي هاتين الوحدتين ولكنه لا يستطيع أن يؤمن " وحدة ضرورة " اعني نمو الحلقات نموا حتميا، إحداهما من الأخرى. وقد كان من الممكن لهذا المبنى ان يكون مركبا لو كانت الرجعات الخاطفة تنقلا بين
" المونولوج " الداخلي وتيار الحياة الخارجي، ولكن الشاعر آثر ان ييسر على نفسه حين راوح بين القصص السردي والتأمل الاستطرادي، حتى انه ليستنفر الأسلوب الملحمي في سياق القصة نفسه:
يا ذكريات علام جئت على العمى وعلى السهاد
…
لا تمهليها فالعذاب بأن تمري في اتئاد
…
قصي عليها كيف مات وقد تضرج بالدماء
…
فبدلا من ان يتركها تعرض القصة من الداخل، يأخذ هو دور الموجه للسياق القصصي.
اذن فإن المبنى لا يجعل من قصيدة " المومس العمياء " قصيدة متميزة، أو نموذجا للقصيدة كما يريدها الشعر الحديث، فهل هناك عناصر تكفل لها القبول في النطاق الشعري العام؟ هناك لباب وأهداب:
أما اللباب فيتمثل في الفكرة المحورية وهي الصورة الداخلية القابعة وراء الانشغال بالصورة الجزئية، صورة فتاة مسكينة جنت عليها ظروف العيش. وتقول الصورة ان المجتمع؟ من حيث الأخذ والعطاء - فريقان: فريق المسخرين؟ بفتح الخاء المشدودة - وهم هؤلاء الطيبون الذين يؤجرون مقابل الشبع، وهم يأنفون من لفظة " بغي " دون أن يكون بينهم وبينها فرق طبيعة المعاملة المتسلطة التي تنحدر فوق رؤوسهم؛ وفريق أرباب " السهام التبرية " التي تصفر في الهواء، وبها قتل والد سليمة، وباسمها قامت الحرب، وبفعلها تم تحويل البنت الشريفة إلى بغي، والرجل العاطل إلى قواد، والشرطي إلى حارس على ممارسة الزنا بعد دفع الثمن للدولة؛ وعندما تحول هذا المجتمع على هذا النحو انقسم أهله في فريقين: فريق السكارى وهم الرجال العمي الذين يدفنون خروق جواربهم في أحذيتهم ويساومون البغي ليوفروا ثمن العطور، وفريق البغايا وهن جميع النساء
اللواتي يمارسن حياة البؤس في ظل الزوج أو دون زوج، وبين الفريقين سور كسور يأجوج ومأجوج لا يفتحه إلا " الشاطر " المسمى " ما شاء الله ". وهذا هو القدر في اعتقاد أولئك التعساء:
ومن الملوم وتلك أقدار كتبن على الجبين
حتم عليها أن تعيش بعرضها
؟؟؟
والله؟ عز الله - شاء
ان تقذف المدن البعيدة والبحار إلى العراق
آلاف آلاف الجنود
؟؟..
الله عز وجل شاء
ألا يكن سوى بغايا أو حواضن أو اماء
أو خادمات يستبيح عفافهن المترفون (1)
هل يريد الشاعر ان يثير النقمة على " القدر "؟ انه يسرد ما يعتقده أولئك البائسون دون تلميح، ولكن ما شاء أن يأخذ التقرير موشحا بمفارقاته وجد فيه استهجانا أو سخرية، وهو اثر تحجبه طبيعة الانهماك في القصة وتفصيلاتها دون الماع إلى رؤية جلية، في هذا الصدد.
ويتمشى مع الفكرة المحورية ذلك التيار النقدي في القصيدة وهو يتناول سيطرة المال واثر الحرب في المجتمع، والتشبث بفكرة النسب اصريح، وغمز الواقع المتصل الاقتصادي غمزا جانبيا سريعا:
ويح العراق أكان عدلا فيه انك تدفعين
سبهاد مقلتك الضريرة
(1) المومس العمياء: 12.
ثمنا لملء يديك زيتا من منابعه الغزيرة
…
كي يثمر المصباح بالنور الذي لا تبصرين (1)
…
ولكن اعمق نقد في القصيدة هم ذلك الذي يعالج العلاقة بين الحرفة والحياة: فالمرء يكدح للحياة في خدمة إقطاعي مثلا ولكنه يخون الحياة من حيث لا يدري، لأنه يعين الظلم عل الاستمرار ويفتح الباب لعبودية عشرات آخرين مثله، وكذلك البغي فان الطبيعة هيأتها لتكون أما، ولكنها تضاجع الرجال لتأكل لا لتبقي على استمرار النسل، بل تتعمد ان لا تثمر تلك المضاجعة فتقطع بذلك حبل الحياة، وتضفر حبلا سواه، فتشنق في النهاية بالحبل الذي تضفره.
ذلك هو لباب القصيدة، وهو يمنحها قوة موضوعية وفكرية؛ أما الأهداب فهي العلائق التجميلية والتخيلات الفنية ومنها: اعتماد الرموز والأساطير، فهذه أول قصيدة يتكئ فيها السياب على الأساطير اليونانية وغيرها بشدة، وكان من قبل لا يشتشير سوى قصة قابيل، اما الآن فهو يجمع إلى تلك القصة صورة ميدوزا وأوديب وافروديت وفارست وابولو، ولكن هذه الأساطير تدخل في قصيدته مدخل الإشارات التاريخية، والأسطورة الوحيدة التي تحتل موضعا راسخا في قصيدته هي التي تحدث فيها عن يأجوج ومأجوج والسور:
سور كهذا حدثوها عنه في قصص الطفولة
…
يأجوج يغرز فيه من حنق أظافره الطويلة
…
ويعض جندله الأصم، وكف مأجوج الثقيلة
…
تهوي كأعنف ما تكون على جلامده الضخام
…
والسور باق لا يكل، وسوف يبقى ألف عام
…
لكن: إن شاء الإله
…
(1) المومس العمياء: 25 - 26.
طفلا كذلك سمياه
…
سيهيب ذات ضحى ويقلع ذلك السور الكبير (1)
…
ومن تلك الأهداب استغلاله المفارقة الساخرة في القصيدة: المفارقة التي الحارس ساهرا على اقتضاء حق الدولة في إجازة الخطيئة لا على حماية الناس منها، وتجعل هذا الحارس نفسه وهو في حي البغايا يردد أغنية " تصف السنابل والازاهر والصبايا " والمفارقة التي تجعل الذباب شبعان من قمامة المدينة والخيول تجد غذاءها في الحظائر والحقول بينهما الإنسان جائع، والمفارقة التي جعلت " الشرف الرفيع " و " الآباء " و " العزة القعساء " سلعا تعرض في سوق الشهوات فلا تجد مشتريا. والمفارقة التي تجعل عمياء تنفق كسبها القليل لإضاءة مصباح، ثم تلك المفارقة الساخرة في الأسماء: فالمرأة تسمى سليمة وهي لديغة تسوطها الشهوات وترقع وهيها بالدهان، وإذا عميت اصبح اسمها " صباح "، وإذا رزقت بنتا سمتها " رجاء " ليموت رجاؤها جملة؟
وهناك عذوبة الاقتباس من حياة الناس في أحاديثهم اليومية وأغانيهم:
وتوسلته " فدوى لعينك؟ خلني بيدي أراها "(2)
؟؟؟؟؟
وصدى يوشوش " يا سليمة يا سليمة
نامت عيون الناس آه؟ فمن قلبي كي ينيمه " (3)
ومحاكاة الأغنية الشعبية بما يكسر من حدة الاندفاع السردي في قوله:
(1) ص 18 - 19.
(2)
ص: 20.
(3)
ص 20 وهي ترجمة لأغنية شعبية. انظر ص: 31 الحاشية: 11.
كالقمح لونك يا ابنة العرب
…
كالفجر بين عرائش العنب
أو كالفرات على ملامحه
…
دعه الثرى وضراوة الذهب
لا تتركوني فالضحى نسبي
…
(1) من فاتح ومجاهد ونبي وهذا الارتكاز على لباب جوهري وأهداب تعتبر؟ في مجملها - علائق فنية جميلة قد يعوض بعض تعويض عن التعسف الذي ادخل الحيف على المبنى الفني الكلي، إذ نجد في اللباب مطلبا أكبر من الحديث عن مومس بائسة، كما نجد في الأهداب مكملات ضرورية للبراعة في السرد أو في التصوير. ومع أن القصيدة لا تتحمل بعدا رمزيا في جميع شخوصها وأحداثها، فإنها يمكن ان تتخذ في عمومها صورة لوضع اجتماعي عام يسوده الاضطراب والفقر والتشبث بمثل بالية؛ آلا أنها تصف اكثر مما تضرب جذور العلل والأدواء، ولا تحمل المسوغات حين تحشد الكوارث، وتطلق " الجبرية " من عقالها وتغل يد الإنسان عن التغيير، وتلقيه في الانتظار، ولعل بواعثها الذاتية إنما كانت نقمة الشاعر على المدينة وسأمه النفسي من تجاربه في دروبها المظلمة.
وقد خضع السياب فيها لمؤثرات خارجية: أما في الموضوع فإنه كان مأخوذا بسحر الروايات الميلودرمية الشائعة التي تهول على المشاهدين بما تكدسه من فواجع، لاعتقاد كتابها ان ذلك يبتز العطف والرثاء ويستدر الدموع؛ وأما في السياق فقد أراد أن تكون القصيدة شاهدا على أتساع الثقافة، ولهذا حشد فيها كثيرا من الإشارات إلي الأساطير - كما رأينا - وقد بدت أكثر تلك الإشارات مجتلبة، ما عدا ذكر أوديب، توطئة للحديث عن العمى، ورمزا للاستباحة العمياء التي لا تستطيع التفرقة بين الحلال والحرام؛ ثم إن " أوديب "
(1) ص 24.
في القصيدة شديد بروحها " الجبرية " التي تشبه فكرة القدر اليونانية، وهي فكرة العقاب للبريء أو المخطئ جهلا دون تقديم علة، حتى ولا علة امتحان المؤمن (كما في قصة أيوب) . وقد كان السياب بحاجة إلى ان يدرك ان يدرك ان ترديد الأسماء الأسطورية أو التاريخية محض ترديد لا يصنع رموزا؛ وأن صهر الإشارات في سياق القصائد أكثر انسجاماً واقدر. على تحقيق حسن الظن بالثقافة الواسعة، ففي قوله:
انك تقطعين
حبل الحياة لتنقضيه وتضفري حبلا سواه
إشارة إلى بنيلوبه وهي تحيك غزلها ثم تنقضه في انتظار عولس، ولكنها انصهرت في السياق، وأصبحت تومئ من بعيد إلى قصة قديمة، وهي على هذا النحو خير من التصريح بذكر بنيلوبه وفرضه على المقرئ فرضا.
وليس في كل حين يكون الاستمداد من النبع الثقافي موفقا، كيف كانت في الصبا، حتى تنكر من نفسها ما صارت إليه:
تلك المعابثة اللعوب؟ كأنها امرأة سواها
…
كالجدولين تخوض ماءها الكواكب، مقتاها
…
والشعر يلهث بالرغائب والطراوة والعبير
…
؟.
كانت إذا جلست إلى المرآة يفتنها صباها
…
فتظل تعصر نهدها بيد، وتحملها رؤاها
…
من مخدع الآثام في المنفى إلى قصر الأمير
…
تقتات بالعسل النقي وترتدي كسل الحرير
…
وهذه اللفتة مستمدة من ثقافة السياب، فقد قرأ لعمر أبو ريشه قصيدته جان دارك - فيها احسب - ووقف فيها على قوله (1) :
وأكفها في شعرها
…
تزداد دغدغة ولهوا
والناهدان بصدرها
…
يتواثبان هوى وشجوا
فتشد فوقهما وسادتها
…
وفي شغف تلوى؟.
وتمثلت خدنا يحل
…
براحته لها المازر
ويضمها شغفا وتهمي
…
فوقها القبل المواطر وقد ضل السياب حين تابع أبو ريشة كما ضل صاحبه من قبل، وكلاهما غرف من شهوات نفسه ما سكبه على " بطلة " قصيدته. لا لأن جان دارك لم تكن فتاة جملة ريانة العود مفعمة بالشهوة ولا لأن " سليمة " لم تكن مكتملة الأنوثة، صاخبة النفس بأحلام الجنس؛ ولكن لأن من يريد ان يتحدث عن " قديسة "؟ في قصيدة لا في سيرة حياة - لا يتحدث عن لبؤة قد تضرمت نيران الشهوة، ومن يريد أن يثير عطف الناس على مومس أذلتها الحيات لا علاقة له بالحديث عن سعار الجنس الذي كان يستبد بها في شبابها، إذ كيف يصدق الناس ان حاجتها هي التي دفعتها إلى ذلك المنحدر دون تركيبها الشهواني المستعر بشبق جارف؟
(1) من شعر عمر أبو ريشة: 99 - 100.