المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

- 19 - ‌ ‌فترة الآداب كانت معدات المعركة جاهزة حين نشرت مجلة - بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره

[إحسان عباس]

الفصل: - 19 - ‌ ‌فترة الآداب كانت معدات المعركة جاهزة حين نشرت مجلة

- 19 -

‌فترة الآداب

كانت معدات المعركة جاهزة حين نشرت مجلة الأديب صورة للبياتي ومعها حديث له عن بعض الشعراء المشهورين مثل ناظم حكمت وبابلو نيرودا، ومن قبل ذلك نشر نهاد التكرلي فيها مقالا عنوانه " عبد الوهاب البياتي المبشر بالشعر الحديث "؟ وكان قد أعده ليكون مقدمة لديوان " أباريق مهشمة "؛ إذن فان مجلة الأديب قد تبنت؟ هي لا تدري - موقفا متحيزا، ولم يعد في مقدور الفريق الآخر أن يلوذ بالصمت، ولما أخذ أفراده يبحثون عن مجال لهم وجدوا مجلة " الآداب " تفتح لهم صدرها الرحب. في تلك الفترة كان أصدقاء السياب يلحون عليه بألا يتهاون بأمر نفسه وأن يتصل بمجلة الآداب وينشر فيها قصائده، ونزل عند رغبتهم نفسه فكتب إلى الدكتور سهيل ادريس بذلك فتلقى منه جوابا حافلا بالتقدير والتشجيع حتى قال بدر في رده عليه:" كان لرسالتك الكريمة التي أرسلتها أثر بالغ في نفسي وهي شاهد على نبل نفسك وكبر قلبك وإخلاصك في العهد الذي قطعته على نفسك بخدمة المجموعة العربية وأدبها السائر نحو النور "(1) ومع الرسالة قصيدة " أنشودة المطر ". وما لبثت مجلة الآداب أن نشرت

(1) رسالة إلى الدكتور سهيل إدريس بتاريخ 25/3/1954.

ص: 225

نبذة لكاظم جواد ينتقد فيها قصة لعبد الملك نوري وقصيدة للبياتي، ويقول في القصيدة أن فكرتها مسروقة من قصة " أشباح بلا ظلال " للقاص العراقي نزار سليم (1) ، وبذلك صح للسياب ومؤيديه منبر يسمعون الناس منه أصواتهم.

وكان توثيق العلاقة مع مجلة الآداب يعني لدى السياب؟ الذي كان قد ألف المزج بين الأهداف الشعرية والانتماء الحزبي - انتماء من نوع جديد. وكانت القضية لديه واضحة الابعاد، ولم نكن متجوزين حين جعلنا انفكاك روابطه من الحزب الشيوعي أمرا مواكبا لتضخم معنى الوطن في نفسه، إذ ها هو يصوغ المشكلة صياغة لا تتحمل التأويل حين يقول:" اننا مصممون على خوض هذه المعركة حتى النهاية، فهي ليست معركة سياسية مؤقتة، انما مسألة دفاع عن قيم وطنية وأدبية مهمة. إننا نحارب المكارثية الجديدة التي تريد ان تنبعث عندنا بعد ان أخذت تحتضر في موطنها الأصيل؟ ان السؤال هو؟ أيجب أن يكون الأديب (عالميا) !! قبل ان يكون وطنيا أم انه يجب ان تبدأ بوطنه وأمته، ويفضي من خلالها إلى الإنسانية الواسعة؟ "(2) ، ولهذا أصبح السياب يتحدث عن العراق وحسب، وظهر أثر في الموضوعات التي تناولها في قصائده أنشودة المطر. ولما ظهرت الدعوة إلى تأييد الجبهة الوطنية التي تألفت حينئذ في العراق أبى السياب وأصحابه أن يوقعوا على عريضة التأييد إلا إذا نص فيها على قضية فلسطين وقضية المغرب العربي (3) .

وفي أثناء ذلك ظهر ديوان " أباريق مهشمة "، فكتب كاظم جواد مقالا ليس فيه رفق بالأباريق، كشف فيه عن الغارات التي شنها

(1) الآداب، عدد أيار (1954) ص 56 - 58.

(2)

رسالة الدكتور سهيل إدريس، بتاريخ 19 حزيران 1954.

(3)

المصدر نفسه.

ص: 226

البياتي على أشعار الآخرين حتى استلبها وأدرجها في شعره (1) . وثار البياتي لهذا النقد وظن أن مجلة الآداب ضالعة في الهجوم على شعره، فرد على ذلك بمقال نشره في جريدة الوادي هاجم فيه الناقد وأصاب بشظايا هجومه الدكتور سهيل إدريس ومجلة الآداب ونثر تهمة العمالة والمأجورية للاستعمار على رءوس خصومه كما ينثر الذهب في أعراس الأغنياء. وقص السياب المقال من الجريدة وأرسله إلى سهيل وكتب إليه يعبر عن أسفه لما قيل في حقه وعن سخطه على مقال البياتي، ويعتذر عن عدم إرسال قصيدة للنشر لأنه هو واخوانه " مشغولون بمكافحة هذه الطغمة من المزيفين المغتربين الذين إذا انهزموا في مجال الفكر وعجزوا عن دحض الحقائق لجأوا إلى السب المبتذل والتهم الباطلة يكيلونها جزافا، دون ضمير يحاسبهم ولا قيمة خلقية أو مبدئية تردعهم "(2) . وفي هذه الرسالة نفسها يشير إلى كتيب له في المطبعة؟ لعله " المومس العمياء " - ويقول ان طبعه لم ينجز بعد " لأن مدير المطبعة فرد من أفراد هذه العصابة المتآمرة على قيمنا الخيرة وأدبنا المخلص، عصابة البياتي وعبد الملك نوري ورهطهما "(3) .

وتطور الأمر إلى التفكير في اللجوء إلى حمى العدالة. لماذا لا ترفع قضية على البياتي ينال فيها ما يلجمه عن التهم الباطلة؟ ويقول السياب في رسالة للدكتور إدريس " ستصلك قريبا رسالة من الأخ عدنان الراوي يشرح لك فيها بعض الأمور المتعلقة بإقامة الدعوى على البياتي. وقد قررنا أنا والأخ كاظم إقامة دعوى أخرى على البياتي لأن سكوتنا عنه يعتبر تشجيعا له على استهتاره كما يعبر تخليا عن " الآداب " وعنك، وثق أيها الأخ الكريم أننا لن تتخلى عنك مهما كانت الظروف.

(1) انظر مجلة الآداب، عدد تموز 1954.

(2)

رسالة إلى الدكتور سهيل بتاريخ 3 تموز 1954.

(3)

المصدر نفسه.

ص: 227

نحن نعلم تماما أية قوة عمياء تسند البياتي ونواجهها نحن ونتحداها، ولكنا قد آلينا على أنفسنا ألا نسمح لأية قوة في الأرض أن تهين المثل التي نؤمن بها والقيم التي لأجلها نحيا " (1) . وانتهت هذه الفورة إلى سكون واكتفى خصوم البياتي بأن نشروا في الآداب ما عدوه تعبيرا لا عن سخطهم وحسب بل عن سخط جميع الأوساط الأدبية " على اختلاف نزعاتها واتجاهاتها الفنية " على مقالة البياتي " لما فيها من تجريح متهافت كشف القناع عن زيف كاتبها وأبان عن عقلية لا ترقى في أسلوبها عن الأساليب البوليسية العتيقة في إلصاق التهم والافتراءات إذا ما اوعزتها الحجة؟ " (2) .

في ذلك الجو المتلبد بتهم العمالة والجاسوسية والخيانة والزيف والأساليب البوليسية تبلورت قصيدة " المخبر " التي يصور فيها السياب نفسية جاسوس؛ وكان ينوي إذا نشرتها الآداب أن يفتتحها بهذه العبارة: " الجاسوس يفتري على اختيار أناس ويلصق بهم التهم الباطلة والأكاذيب، وأقرب الناس إليه وأشبههم به من داس على ضميره فاتهم الوطنيين بالخيانة وأكل لحم أخيه ميتا "(3) ، فلما نشرت القصيدة في الآداب لم يكتب تحت عنوانها إلا الآية القرآنية " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا "(4) ، ولما أدرجت في ديوان أنشودة المطر لم تظهر الآية مرافقة للعنوان (5) .

ومن الطبيعي أن تسترعي هذه " الملائكة " انتباه المهتمين بالقضايا الأدبية، وأن يبدو السياب فيها؟ إلى جانب رفاقه وإزاء خصومه -

(1) رسالة بتاريخ 17/7/1954.

(2)

الآداب، عدد أيلول 1954، ص: 71 - 72.

(3)

من رسالة إلى الدكتور إدريس 17/7/1954.

(4)

الآداب، عدد تشرين الأول 1954 ص:24.

(5)

انظر الديوان المذكور: 32.

ص: 228

أديباً صاحب قضية يدافع عنها بكل قوة، وان يكون صاحب رأي في تلك القضية وفي قضايا الأدب جملة، وأن لا يكون رأيه مقصورا على شعره وتجربته الذاتية فيه، فالشاعر يحور في تصوره للشعر إلى نظام نقدي؟ موجود في نفسه بالقوة أو بالفعل - وما دام باب الاجتهاد في الأدب مفتوحا على مصراعيه، فلا بأس من أن يكون الشاعر أحد المجتهدين. وذهبت مجلة الكاتب الغربي تطلب رأيه في سؤال قدمته إلى غيره من الشعراء والأدباء:" هل هناك أدب تقدمي؟ " فكان من جوابه: " ما دمنا نؤمن بأن الحياة في كل مجال من مجالاتها ما تزال منذ البدء في تطور وتقدم إلى الأمام فان من البديهي بعد ذلك أن يكون في كل زمان أدب تقدمي، أو سمه ما شئت من الأسماء ما دامت التسمية تحمل هذا المفهوم، والأدب التقدمي هو الأدب الذي يعبر عن أفكار القوى النامية في مجتمع ما "(1) ، وهذا كلام يحمل صيغة الفرض النظري المقبول في ظاهره ولكنه عند الأمثلة يفقد قيمته، فكما أن أدب الصعاليك في الجاهلية يمثل فكرة الثائرين على التقاليد القبلية فهو لذلك أدب تقدمي فان غزل عمر بن أبي ربيعة يمثل الجيل النامي الناشئ في العصر الأموي الذي أراد أن يوجه إلى السياسة الأموية احتجاجا سلبيا، فهو أيضاً شعر تقدمي، وكذلك الأدب الماجن الذي ظهر في العصر العباسي فانه تعبيرا عن جيل فتي من الشعوبيين كره السيادة العربية، وأخذ يعلن الثورة على ضياع الفرد الفنان في غمار الفوضى الاقتصادية والسيطرة المذهبية الصارمة، فهو بنفس النسبة شعر تقدمي لأنه يمثل أفكار قوى نامية في مجتمع ما؟ ذلك أذن تعريف يجر إلى الفوضى، فإذا قال السياب بعد ذلك: " أما خصائص هذا الأدب فهي التفاؤل والثقة في المستقبل والإيمان بالإنسان واحترامه كفرد وكمجموع

(1) الآداب، عدد أيلول (1954) ص:73.

ص: 229

وتفهم حقيقة الروابط التي تربط الأفراد؟ الخ " بدا لنا انه عاد إلى مفهومه اليساري عن التقدم وانه نقض على نفسه ذلك الفرض التعميمي الذي يفترض وجود الأدب التقدمي " في كل زمان ".

وفرضت العلاقة بالآداب على الشاعر أن يشحذ أسلحته النقدية ليكون مستعدا للدفاع عن شعره. فان من سنة هذه المجلة ان تعهد ينقد العدد الواحد من أعدادها إلى ناقد أو ناقدين، وتنشر النقد في عدد تال. وبما أن السياب أخذ يخص الآداب بقصائده فانه قد استهدف بذلك لنقد الناقدين وتعليق المعلقين، ولهذا وجد شعره عرضة لنقد أناس لا ينتمون إلى الأنصار والمعجبين ولا إلى الخصوم الحانقين، ولعلها كانت تجربة جديدة يواجهها وهو يحسب انه يقود ثورة تجديدية في الشعر، يستحق عليها التقدير والتحفي. ومن الطريف أن يواجه السياب أول عهده بهذا الانفتاح على آلاف القراء ناقدين كبيرين عرف عنهما الأخذ بالنظرة اليسارية في تقويم الأدب والشعر، وهما رئيف خوري ومحمود أمين العالم، وكلاهما يدرس القصيدة دراسة موضوعية متأنية، وكلاهما يؤمن بالأدب المتفائل المؤمن بالإنسان، وليس لدى أحدهما أو كليهما أي نكتة من ضغن توحي بالتجني أو بالتحامل أو بالغرض. وكان من رأي رئيف خوري حين قرأ قصيدة " رؤيا فوكاي " أن السياب " يعرف كيف ينبغي للشعر الجديد حقا أن يكون من حيث الموضوع والتعبير إلا انه حين يحاول النهوض بما يعرف انه الواجب تخونه مقدرته فيحس قارئه أنه قصد إلى شيء أروع وأتم مما استطاع إلى تحقيقه سبيلا، فقد ترك شيئا كثيرا وراء ما قاله لم يوفق إلى قوله "(1) . وكان رأي الأستاذ العالم حين قرأ " مرثية الآلهة " أنها قصيدة " مثقلة بكثير من الأفكار غير المتمثلة تمثلا فنيا ويصوغ الشاعر

(1) الآداب، عدد شباط (1955) ص 68.

ص: 230

مضامينها صياغة تكاد تقضي نهائيا على إنسانية هذه المضامين فهي مزدحمة بالصور غير المترابطة، ولقد فرض الشاعر على بنائها حشدا ضخما من الأساطير والثقافات والمعاني غير المهضومة، وظل ما فرضه على القصيدة قائما من خارج القصيدة كعمل سياسي موحد فهي حشد من الدلالات التي لم تنجح في أن تتناسج في داخل العمل الفني بل ظلت منضافة إليه " (1) . والرأيان متفقان على أن كلتا القصيدتين لم تنضج فنيا في نفس الشاعر، فهي قاصرة عن المخطط الواعي الذي يريده لها؟ عند رئيف - وهي ذات فجاجة في التكوين العام لأن حشد الأساطير والصور فيها من الخارج قد أضعف قدرتها على التلاحم الداخلي. وفي رأي رئيف صلة وثيقة بقول أحد النقاد القدماء في نقد كاتب من الكتاب: انه " يتطاول صاعدا فيتقاعس قعيدا " (2) وفي رأي محمود صلة وثيقة بما عرضت له هذه الدراسة من إخفاق المبنى في قصائد بدر بسبب الازدواج الناجم عن الحشد من الخارج. ولست أتحدث هنا عن القصيدتين فلذلك مكان آخر، وإنما يعنيني في هذا الموطن صدى هذا النقد في نفس السياب. فبدلا من ان يتأمل قصيدتيه مرة أخرى بعين الناقد لا بعين المعجب، كتب يرد على رئيف خوري ردا حادا أخرجه فيه من دائرة النقد الأدبي ولام الآداب لأنها لم تعهد بنقد العدد إلى ناقد من نقاد الشعر المعروفين، ذلك أن رئيف خوري أديب كبير وحسب ولكنه ليس من نقاد الشعر البارزين وإنما له في كل عرس قرص فقابليته موزعة هنا وهناك " فهو ليس بالناقد المبرز والقصاص المبدع ولا الشاعر الكبير، وان كان بمجموعه أديبا كبيرا، وهم لم يزاول نقد الشعر إلا مزاولة نظرية " (3) ، وتصدى لمحمود العالم بروح اقل تهجما، وتعلق

(1) الآداب: عدد آذار (1955) ص66.

(2)

الإمتاع والمؤانسة 1: 62.

(3)

الآداب، عدد نيسان (1955) ص:61.

ص: 231

عليه بجزئية من حديثه؟ حين أشار العالم إلى أن السياب يحذو حذو اليوت - فقال: " وزعم الأستاذ العالم أنني أحذو حذو اليوت فيما اكتب، كلا ياسيدي، أن ما اكتبه هو شيء من صميم التقاليد الشعرية العربية، ودونك أبا تمام لتعرف كيف كان يستخدم التاريخ والأساطير وشعر السابقين وكل ثقافة في شعره "(1) .

وكان رد رئيف على حدة السياب وعنفه يحمل الهدوء المبطن بالتفنيد الساخر: كيف صحت عملية الجمع الحسابي تلك؟ (ناقد غير مبرز قصاص غير مبدع شاعر غير كبير: كيف ينتج عنها أديب كبير؟) وأخذ السياب بالهدوء والركانة في رد رئيف فكتب يقول: " أراني مدينا لك بالاعتذار والحق أن كلمتي التي كتبتها تعليقا على قراءتك للعدد الشعري من الآداب كانت تتسم بالقسوة والنرفزة؟ كما سميتها - وقد تلمست من خلال ردك الأخير روحا كبيرة رحبة الأفق زادتني إعجابا بك على إعجاب وإكبارا على إكبار "(2) .

ويهمنا من ذيول هذا الحوار شيئان: أولهما أن السياب فهم من قول رئيف " فقد ترك شيئا كثيرا وراء ما قاله لم يوفق إلى قوله "؟ فهم منه أنه يحذف من القصيدة أشياء كان من الممكن ان توفر لها الخصب والغنى، بينما يعني رئيف أن الشقة واسعة بين ما قيل وما كان يجب أن يقال. وبسبب هذا الخطأ في الفهم اعترف السياب بعيبه الكبير وهو للإفاضة التي تثقل القصيدة:" لقد كنت إلى وقت قريب أبرم بنفسي لأني استفيض في الموضوع الذي أعالجه فأقول كل ما عندي، لأن الشاعر الحق هو من يقول خير ما عنده لا كل ما عنده أو كل ما يمكن أن يقال "(3) ، وهل هذا الاعتراف بما هو اكبر من المأخذ الذي

(1) الآداب، عدد حزيران (1955) ص:65.

(2)

المصدر السابق: 65.

(3)

عدد نيسان (1955) ص: 62.

ص: 232

رآه الأستاذ العالم في قصيدته " مرثية الآلهة "؟ كل ما هنالك أن السياب ظن أنه برئ من الحشد لكل ما يعرفه أو لكل الفعال يعرض في طريقه بينا يرى الناقد أنه لم يكن قد برئ من ذلك بعد. وثاني الأمرين أن السياب بدلا من أن يلتزم بحدود الدفاع عن قصيدتيه نقل المعركة بينه وبين البياتي إلى معركة بينه وبين صلاح عبد الصبور متخذا من ثناء رئيف على عبد الصبور تكأة لإظهار عيوب زميله المصري، ولم يكن الذي يملأ نفسه غيظا فوز عبد الصبور بشيء يسير من ثناء ناقد كبيروحسب، بل استغلال أنصار عبد الصبور لذلك الثناء، ودفع صاحبهم إلى مقدمة الصورة لينتزع شعار الفوز بزعامة الشعر الحديث من يد السياب.

وكان الهجوم المتبادل في أول أمره صغير الموضوع يدور حول أي الشاعرين اكثر من صاحبه تكسيرا للأوزان، ولكن لعل الدكتور سهيل ادريس كان يريد للنار أن تلتهم مقدارا اكبر من الحطب حين عهد بنقد العدد الثالث من الآداب (1956) ؟ وفيه قصيدة للسياب بعنوان " في المغرب العربي "؟ إلى عبد الصبور دون غيره، واستبق صدور ذلك النقد فكتب للسياب ينبه بذلك التدبير، فكان رد السياب:" وقد رحبت بإسنادك قراءة العدد الماضي إلى الأستاذ عبد الصبور الذي نرجو أن يكون منصفا في نقده، وإلا فأقلامنا حاضرة، وستكون أمامنا فرصة ثمينة لإعادة تقييم الكثير من المعايير والآراء. هذا هو رأيي ورأي الأخ محيي الدين (إسماعيل) أما أخونا كاظم فهو عاتب عليك لأنك أسندت قراءة عدد الآداب إلى شخص يجهل حتى أوزان الشعر، ولكننا؟ الأخ محيي وإياي - أقنعناه بوجاهة الدافع الذي دفعك إلى ذلك: إظهار الحقيقة عن طريق تصارع القيم والمعايير "(1) .

(1) رسالة إلى الدكتور إدريس بتاريخ 4/3/1956.

ص: 233

وظهر نقد عبد الصبور للقصيدة بما يسمح للأقلام المعدة ان تتحرك بجلبة فوق الطروس، فقد أثنى على المحاولة الشكلية فيها وهي المراوحة بين وزنين ولكنه شفع ذلك بقوله " ولكن مما يعيب هذه المحاولة أنها بلا منهج ملتزم فقد كان الأوفق ان تثنى الأصوات في القصيدة فصوت ذو نغم يحكي الحاضر وصوت ذو نغم آخر يحكي التداعيات "(1) . وكشف عن الخلط بين القيم الدينية والقيم القومية في تعليل ثورة المغرب في قصيدة، وتولى الأستاذ ناجي علوش تصحيح ما قاله عبد الصبور، وشد السياب على يد صاحبه شاكرا معجبا بقوة منطقه، وغمز من وطنية عبد الصبور غمزا تجريحيا قاسيا (2) .

إلى هذا الحد كانت الآداب؟ بنوع من المصادفة التي تشبه العمد - قد عرضت نتاج السياب الجديد على ناقدين كبيرين وشاعر يعده السياب من خصومه؟ بطبيعة المنافسة في الصنعة الواحدة - فلماذا لا يعرض هذا النتاج على شاعر من أصدقائه ثم على شاعر حيادي - في الظاهر - لم يصطدم حتى الآن مع السياب في معركة سافرة؟ فعهدت بقراءة عدد يحوي قصيدة السياب " غارسيا لوركا " إلى حليفه كاظم جواد فلم يقل شيئا سوى انه معجب بقصيدة بدر أيما إعجاب وخلص إلى أن السياب شاعر مجدد لم يجد الإنصاف حتى الآن لان أشرار أثينا يطردون أخيارها؟ كما قال ارسطوفان - ولكنه من ناحية أخرى ذكر ان القصيدة من اغرب واجمل ما قرأ إذ جاءت تعبيرا عن تجربة لوركا بنفس أسلوب لوركا (3) ، وكان في هذا بارع الغمز لصاحبه لأنه كان يتدارس معه شعر الشاعر الأسباني، وهو قد ترجم له قصيدتين ونشرهما في مجلة الآداب نفسها، فهو يتهم صديقه بطريقة مواربة انه

(1) الآداب، عدد نيسان (1956) ص:63.

(2)

انظر الآداب، عدد حزيران (1956) ص:74.

(3)

الآداب، عدد تموز (1956) .

ص: 234

انتزع صور لوركا وطريقته حين شاء ان يتحدث عنه.

وأما الشاعر المحايد؟ في الظاهر - فهو محمد مفتاح الفيتوري، وقد راجع قصائد العدد الذي وردت فيه قصيدة " قافلة الضياع " فكان رأيه فيها أنها " لا ترتفع إلى مستوى أغنية المطر زائعة صديقي بدر السياب، بل لا اعتقد انه سيخالفني كثيرا عندما اقرر أنها لا ترتفع كثيرا عن مستوى هذا الشعر الذي نحاربه معا: شعر الخيالات السقيمة والحقائق التاريخية الجامدة والتجارب العقلية المشاعة، شعر القوالب الصناعية الخالية من حرارة الحياة وجدية المأساة "(1) ، وقد كشف الفيتوري عن أن الأسطورة التي تعتمد عليها القصيدة؟ وهي قصة قابيل وهابيل - تختلف اختلافا جذريا عن مأساة اللاجئين - موضوع تلك القصيدة - وان التوفيق بين المحملين الأسطوري والموضوعي يتطلب جهدا يتجاوز حد المقارنة الخارجية والربط الشكلي.

ولو أنا حكمنا على اكثر الجهد الشعري للسياب خلال السنوات الثلاث (1954 - 1956) من زاوية ما قاله فيه ناقدان كبيران وثلاثة من الشعراء المنتمين إلى المدرسة الحديثة في الشعر لحكمنا بأن النتيجة؟ في مجملها - كانت سالبية الطابع؛ ولكنا حين ننظر اليوم إلى تلك القصائد متسلسلة لا نشك في ان تجدد المحاولة وتنوعها يحمل من معاني الإخلاص والرغبة في البلوغ اكثر مما تستطيع القصيدة الواحدة أن تنبئ به في انقطاعها عما حولها وفي فقدانها، وذلك سيتضح في فصل تال نتحدث فيه عن تلك القصائد مجتمعة ومنفردة.

وقبل الانتقال إلى ذلك الفصل لا بد من أن نستدرك ما فوقه علينا السياق العام الذي حاولنا فيه إعطاء صورة متكاملة عن " فترة الآداب ". فقد حدثت هنالك أحداث وشئون تتفاوت في صغرها أثناء

(1) الآداب: عدد آب (1956) .

ص: 235

تلك المرحلة؛ ومنها أن بدرا تزوج (عام 1955) فتاة من أبي الخصيب ليست من ذوي قرباه إلا أن أختها كانت زوجا لعمه عبد القادر السياب، وكانت إقبال؟ وهذا هو اسمها الذي ردده السياب في شعره من بعد - خريجة في دار المعلمات الابتدائية، بسيطة الثقافة وخاصة حين تعيش في كنف رجل يعتد بثقافته ويشعر أنها مصدر من مصادر شهرته ومركزه الاجتماعي، ولهذا أخذ نفسه بتلقينها بعض الدروس الخصوصية، ولكن شعوره بما يجب ان يكون عليه دور المرأة في حياة الفنان، وحلمه المثالي القديم بالسعادة البيتية، جعلاه يحس بأنها لا تستطيع ان تفقه دوره الكبير في الحياة وفي الشعر، ويضيف مصطفى؟ وانا انقل شهادته هنا في حذر؟ بأنه كان في طبعها شيء من العجرفة، فكان بدر يتجنب إثارة المشكلات البيتية لأنه يكره ان يتحول جو البيت إلى " نقار " مستمر، وكانت ذات طموح في تغيير الوضع الاجتماعي الذي وجدته عليه؟ وهو موظف بسيط ذو راتب ضئيل - فلذلك اندفع بالحث والتشجيع إلى العمل المرهق. واظن أن مصطفى هنا قد اخذ بعضا من الحقيقة وترك بعضها لان بدرا لم يكن يخلو من هذا الطموح نفسه فكان قبل الزواج يمارس عددا من الأعمال ويعاني الإرهاق ليوفر لنفسه قدرا يسد حاجته من المال. ولكن إذا كان الزواج حمله؟ وهذا امر طبيعي - مسؤليات جديدة، فانه رده إلى شيء من الاعتدال، وقلل من إسراعه في الشرب؛ ويقول الأستاذ العبطة؟ مؤيدا ما قاله مصطفى - " وهو في السنة الأخيرة (1956) اعتزل المقاهي والحانات بعض الشيء "(1) إلا انه ربط بين الزواج وبرود عاطفته من جهة التزامه الاجتماعي (2) ؛ وقد المح السياب إلى مشاغله الكثيرة التي حفت به بعد الزواج وعدها مسئولة عن تشتته وعدم

(1) العبطة: 15.

(2)

العبطة: 76.

ص: 236

قدرته على الإنتاج المنظم فقال في رسالة بعث إلى الدكتور إدريس: " ستدرك مع الزمن كيف تفترس المشاكل والمشاغل وقت المتزوج. أنها مشاكل ومشاغل ليست من صنع الزوجين، ولكنها مع ذلك مشاغل ومشاكل، وقد عاقتني هذه المشاغل عن إرسال شيء إلى الآداب طوال هذه المدة "(1) ؛ ولعل في هذه الشكوى ذريعة للاعتذار، وسيتبين لنا من دراسة قصائد السياب عام ان تزوج والعام الذي تلاه خصب يقل نظيره فيما أنتجه قبل الزواج.

ومن أحداث تلك الفترة ظهور كتاب يجمع عشرين قصيدة مترجمة عن الإنكليزية لشعراء ينتمون إلى أقطار مختلفة ومذاهب شعرية متفاوتة وفيهم من الكاتبين بالإنكليزية اليوت وباوند واديث سيتول وسبندر وفلتشر وداي لويس وولتر دي لامير وفيهم لوركا وريلكه ونيرودا ورامبوا وبريفيه وغيرهم. وقد كان من الحق ان يقارن الدارس بين أصول تلك القصائد وما صارت إليه في اللغة العربية، ولكن هذه دراسة تتطلب جهدا تحقيقيا مستقلا لا يتحمله هذا البحث؛ وقد قمت ببعض المقارنات هنا وهنالك ووجدت أن الترجمة يعوزها أحياناً قدر كبير من الفهم الدقيق للأصل، كما تفتقر إلى مستوى أسلوبي شعري يراعى فيه شيء من هذا عند الحديث عن دين السياب لاديث سيتول، ومن شاء نموذجا من المقارنة فليقرأ ترجمة السياب لقصيدة ناظم حكمت ويقارنها بترجمة عفيف فراج للقصيدة نفسها (2) .

وقد أثار هذا الكتاب إنكار فريقين: أولهما مجلة " الثقافة الوطنية " البيروتية، فانها علقت على الكتاب بقولها: " وهذا شخص

(1) بتاريخ 30 كانون الثاني 1956.

(2)

انظر ترجمة فراج في مجلة الطريق عدد ايلول (1968) ص:98؛ أما ترجمة السياب فتقع على الصفحة 88 - 90 من الكتاب المذكور.

ص: 237

اسمه بدر شاكر السياب اصدر كتابا ضم طائفة من القصائد لشعراء من الفاشست النازيين أمثال ازرا باوند ومن الجواسيس الذين اشتغلوا في الانتلجنت سيرفس من أمثال ستيفن سبندر " (1) . ورد السياب بأنه ليس شيوعيا حتى يتهمه الشيوعيون بالانحراف، ودافع عن القصائد التي اختارها بانها ذات محتوى إنساني (2) . واصبح السياب يترصد ما قد تقوله عنه مجلة الثقافة الوطنية، وحين اخبره بعضهم؟ بلهجة التحدي - ان المجلة ستنشر مقالا طويلا في الهجوم عليه رجا الدكتور إدريس إذا ما ظهر مثل هذا المقال ان يقتطه من المجلة ويرسله إليه بالبريد المسجل ليتسنى له الرد عليه: " ردا آخذ به ثأر كل مثقف أصابه رشاش من أذى هذه المجلة ومثيلاتها " (3) . أما الفريق الثاني الذي واجه هذا الكتاب بشيء من الاستنكار فهو الحكومة العراقية حينئذ: فقد أوقف السياب اثر صدور الكتاب؟ في شتاء سنة 1955 - ثم قدم للمحاكمة، ودافع عنه الأستاذ محمود العبطة أمام حاكم جزاء بغداد الأول " وقد احتار السيد الحاكم في تكييف الجريمة، فأجلت الدعوى، وأخيرا جرم بموجب أحكام قانون المطابع العثماني الصادر في سنة 1323 وحكم عليه بغرامة قدرها خمسة دنانير لأنه لم يذكر اسم المطبعة في الكتاب " (4) .

ومن أحداث تلك الفترة أيضاً محاولة البياتي؟ حسب شهادة

(1) الحرية العدد: 1443؛ وانظر الثقافة الوطنية تشرين الثاني (1955) ص 64: وقد تصرف السياب في النقل، فلم تقل المجلة:" وهذا شخص اسمه " وإنما جاء فيها " صدر في بغداد كتاب بعنوان؟ " والنص المذكور ورد خبرا، واكبر الظن أن الذي صاغه مراسل للمجلة في بغداد، وهو في صورته لا يتطلب ردا عنيفا، ولكن السياب كان متحفزا للمعارك.

(2)

الحرية العدد 1443.

(3)

رسالة بتاريخ 4/3/1956.

(4)

العبطة: 14.

ص: 238

السياب - إجراء صلح أو مهادنة بينهما، ويقول السياب في ذلك:" فأجبته ان هذا لن يكون إذا لم يعتذر من الدكتور سهيل ومجلة الآداب بالصورة التي يراها الدكتور سهيل مناسبة. والذي اعتقده ان اعتذاره سيكون انتصارا لنا وللآداب وللحق "(1) . ورغم أن المعركة مع صلاح عبد الصبور قد جعلت حدة الخصومة بين السياب والبياتي خافتة الصوت، فان كلا من الشاعرين لم يخمد تماما جذوة الغيرة في نفسه من نده. وحين عرض الأستاذ خضر الولي من بعد أسئلة أدبية على أدباء العراق؟ ومن بينهم الشاعران - عبر كل منهما عما يحسه تجاه الآخر فاستطرد بدر ليعيب قصيدة " سوق القرية " للبياتي وأردف ذلك بقوله:" وإنما استشهدت بالياتي لأنني أرى فيه شاعرا مبدعا حين يكتب عن تجربة صادقة وبأسلوب لا يجعله التفكير بالقارئ البسيط ينحدر إلى مستوى النثر "(2) . وردد البياتي تهمة الانحدار إلى النثرية ضد بدر وسماه " صديقنا " وقال: " ولعل القارئ سيأخذ العجب حين يرى أنني اقتصرت على السياب دون غيره ولكن عجبه سيزول إذا ما علم أنني كنت اعتبر السياب في محاولاته الأولى من شعرائنا الشباب الأوائل الذي ستتحقق على أيديهم بعض القصائد الناجحة "(3) ؛ لقد اخفت الزمن صوت النقمة الطاغي ليحل محله نوع من الاعتراف الحذر أو المقيد.

ولقد هيأت تلك الفترة للسياب أن يتحدث في مشكلات الأدب والشعر وان يسمع الناس رأيه فيها، وكان قد وقع في نظراته إلى الشعر والشاعر تحت تأثير سبندر، واستعار شيئا من آرائه في مقال له عن الواقعية؛ وحين سئل عمن اعجب بهم من شعراء الغرب أجاب في عصبية:

(1) رسالة بتاريخ 30 كانون الثاني 1956.

(2)

آراء في الشعر والقصة: 13 (وقد ظهر في 15 أيلول 1956) .

(3)

المصدر نفسه: 40.

ص: 239

" حين يسألني سائل عمن أعجبت بهم من شعراء العرب أحدق في وجهه برهة من الزمن محاولا أن استشف أغوار نفسه: ايجد ام يهزل فيما يسأل؟ بمن أعجبت من شعراء الغرب منذ هوميرس حتى ديلان توماس اتراه يدرك ضخامة ما يسأل عنه؟ " ثم تتسع دائرة التأثير لدى السياب رغم ذلك فإذا هو معجب بشكسبير ودانتي وهوميروس وفرجيل وغوته وكيتس واديث سيتول واليوت (1) . ويقر بتأثيره في الشعر؟ تدريجيا - بالبحتري والمهندس أولاً ثم بأبي تمام ثم بشللي وكيتس ثم اليوت ثم اديث سيتول (2) ويعتقد أن طريقته الشعرية مزج بين طريقة سيتول وأبي تمام معا. ونلمح في كل هذا ان للشاعرة الإنكليزية منزلة هامة في نفسه؛ وانه اعجب من بين الشعراء المحدثين بالجواهري وابي شبكة والفيتوري " لمتانة الأسلوب وحرارة العاطفة دون ميوعة والموازنة بين الفكرة والصورة والعاطفة والاتجاه الواقعي "(3) . فإذا سئل عن الواقعية ذكر انها اتجاه يندرج تحت لوائه شعراء من شتى المدارس الشعرية فكل من استحق اسم شاعر يمكن أن يسمى واقعيا.

وقد كان هذا المفهوم الواقعي هو محور محاضرته التي ألقاها في مؤتمر الأدباء الثاني بدمشق حين قرر أن الأدب الخالد هو الذي يصور محاربة الإنسان للشر، والشر اليوم قد تبلور في الاستعمار وقواه وفئاته، وأكد انه من دعاة الأدب الواقعي الملتزم. ثم قسم الأدب العربي إلى ثلاثة أقسام: واقعي ومحايد ومنحل، والأخير نوعان: نوع يدعو الناس إلى الهزيمة ونوع ماجن داعر؛ والشعر الواقعي هو الصالح للبقاء وهو يفرض نفسه على الناس تلقائيا (4) .

(1) آراء: 13 - 14.

(2)

المصدر السابق: 14.

(3)

المصدر السابق: 15.

(4)

انظر الآداب، عدد تشرين الأول (1956) ص: 22 وما بعدها.

ص: 240

لعل مؤتمر الأدباء الثاني أول فرصة سنحت للسياب ليقف بين أدباء وشعراء يمثلون مختلف الأقطار العربية، وقد كان مفهومه لما يريد من الأدب أقوى بكثير من مفهومه لموضوع المحاضرة وهو " وسائل تعريف العرب بنتاجهم الأدبي الحديث " فان ما يمس الموضوع من محاضرته يمثل أفكارا سطحية مثل: تشجيع الدولة للأديب، وإنشاء دار للنشر ترصد لها الحكومات العربية أموالها وتشرف عليها لجنة تنبثق من المؤتمر، شريطة ان تلتزم كل دول الجامعة العربية بدخول كتبها إلى أقطارها، ثم تأسيس رابطة للأدباء العرب على اختلاف اتجاهاتهم الفكرية والأدبية. فهذه الأفكار تدل على التناقض الضمني بين فكرة السياب عن الأدب وأفكاره عن طرق ترويجه، وابسط امتحان لهذه الأفكار ان نسأل: إذا كان الأدب الواقعي الناضج يفرض نفسه على الناس تلقائيا فما الحاجة إلى تشجيع الدول؟ ثم كيف تشجع اكثر الدول يومئذ الأدب الواقعي الملتزم وترصد الأموال لنشره وأكثرها كان يرى في ذلك الأدب خطرا على كيانه، ثم؟ وهذا أدهى وأمر - ما الذي سينتج عن تأسيس رابطة من الأدباء على اختلاف اتجاهاتهم الفكرية والادبية، وكيف يمكن لهذه الرابطة ان تعمل وبأي مقاييس تنظر إلى الأدب، وقوة التناقض في كيانها تهدم كل قرار ايجابي؟ ان هذا الخلط يدل على شيئين. انه لم يبق من ثورة السياب في نطاق النظرية الفنية إلا الإيمان الغامض بشيء اسمه الأدب الواقعي الملتزم وأنه لم يكن؟ من الناحية العملية؟ يدرك شيئا من الواقع الذي تعانيه الدول العربية حينئذ (1) .

وقد أتيحت الفرصة أيضاً للسياب لينشر مجموعة من شعره في ديوان جديد، وكان الدكتور سهيل إدريس يحفزه إلى ذلك، وتشهد

(1) انظر مناقشة لمحاضرة السياب من زوايا أخرى عرض لها الدكتور شكري فيصل، في الآداب العدد 12 (1956) ص:57.

ص: 241

رسائله بأنه كان يعد ذلك الديوان لتنشره دار الآداب، فهو يقول في إحدى رسائله:" أشكرك على عرضك الكريم. وسأعد العدة منذ الآن لتهيئة ديوان من الشعر، وقد كلفت الأخ محيي الدين بكتابة مقدمة له "(1) ويقول في أخرى: " سنلتقي في بلودان وسأسلمك الديوان الذي اعكف الآن على استنساخ قصائده وتبويبها "(2) ولكن الديوان لم يظهر على هذا النحو، لأسباب لا ندريها، وربما كان في سياق الأحداث المقبلة ما يومئ إليها من بعيد.

(1) رسالة بتاريخ 4 - 3 - 1956.

(2)

رسالة بتاريخ 1 - 8 - 1956.

ص: 242