الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- 7 -
الانتماء الشيوعي
لا يذكر بدر؟ فيما لدي من وثائق - تاريخ انتمائه للحزب الشيوعي، وقد سألت عنه أخاه مصطفى فصمت في حيرة ولم يجب. غير أن بدرا يذكر أنه ظل يعمل في صفوف الحزب مدة ثماني سنوات، وأن ارتباطه به بدأ يضطرب ويهتز بعيد حركة مصدق، فإذا صح ذلك كله كانت أواخر سنة 1945 أو أوائل التي بعدها تصلح تاريخا لبداية ذلك الانتماء، غير أن كلامه عن بعض ذكرياته يوحى بأنه انتسب للحزب قبل ذلك بكثير، أي في فترة حرجة من الحرب العالمية الثانية إذ يقول:" وصرنا نبث الدعاية وللشيوعية جنبا إلى جنب مع الدعاية للنازيين: سوف ينتصر المحور على الحلفاء وسوف تنتصر روسيا معه (؟) وستعم الشيوعية العراق فبشرى للفقراء، بشرى للفلاحين الجائعين؟ الخ "(1) . وربما كان هذا حماسة ساذجة لا تدل على انتماء عملي، لان فيه خليطا من المشاعر المتضاربة.
ويتحدث عن انتسابه للحزب؟ دون أن يعين تاريخا - بقوله: " وكان لعمي الأصغر (عبد المجيد السياب) صديق يتردد عليه في القرية بين حين وحين، صديق إيراني الأصل يحب أدب جبران خليل جبران
(1) الحرية، العدد:1441.
ومي زيادة ويتحدث عن الديمقراطية والشيوعية ودولة الكادحين؟ لقد كان حديث علوان الذي قتل فيما بعد في سجن الكوت طليا، وكنا نقره في كل ما يقول، وذات يوم سمعناه يتحدث إلينا عن الحزب الشيوعي العراقي الذي يعمل سرا، وعن قائده العظيم الرفيق فهد الذي لا يعرف اسمه ولا شخصه أحد؛ وفي أحد ايام الجمعة دعانا إلى بيته وأخرج لنا استمارات الانتماء إلى الحزب الشيوعي: استمارة لعمي عبد المجيد، وأخرى لعبد الدايم ناصر وثالثة لي، واخترنا لنا أسماء مستعارة وملأنا الاستمارات؟ وهكذا أصبحت لا مجرد شيوعي وإنما عضوا في الحزب الشيوعي العراقي " (1) .
وقد يصح ان اشتراكه في المظاهرة التي فصل على أثرها بداية نشاطه العلني في هذه الناحية، فأما إذا أوغلنا في التاريخ، فأننا يجب أن نفترض أن السلبية التي سجلها عليه عارفوه أول عهده بحياة بغداد ودار المعلمين إنما كانت دهاء عجيبا منه في اختفاء دوره الحقيقي، وهذا ما لا يتفق مع طبيعته الانفعالية التي تجر إلى إبراز منتماها بيسر وسهولة.
وكان وراء دخوله الحزب عوامل كثيرة، وربما لم تكن النقمة السياسية هي اقوى العوامل ولا كانت النزعة الإنسانية لإنصاف الفقراء والمظلومين من أقواها، وإنما يجب أن تتصور روعة الإقدام على المجهول والعمل في الخفاء، وعامل السأم من الموقف السلبي الذي كان يفرده بين أقرانه في الكلية، والإعجاب بشخصية احمد علوان، وسهولة انقياده لعمه عبد المجيد؟ الذي كان كما يروي مصطفى شديد التأثير في بدر رغم انه اصغر منه سنا - كل تلك مجتمعة هي التي حببت إليه ذلك الانتماء، وجعلته يرفع الشعار الجديد.
ويجب إلا ننسى أيضا الجو العام في الحياة السياسية بالعراق حينئذ
(1) المصدر السابق.
فانه كان يمهد الطريق أمام الشباب للاتجاه نحو اليسار؛ كان انتصار روسيا في الحرب قد وسع نطاق الملتفين إليها، وكانت السياسة العراقية مشلولة، والأحزاب معطلة، وكان الناس في كثير من نواحي العالم يتطلعون إلى حياة افضل؟ في فترة ما بعد الحرب - إلا العراق فأنه كان يزداد غرقا في الركود (1) فاستطاع فهد (يوسف سلمان سوسف) ان يعقد مؤتمرا للحزب عام 1945 وأن يصدر " البيان القومي " وأن ينظم لجنة مركزية أصبحت تضم بالإضافة إليه زكي بسيم وحسين محمد الشبيبي وكريكور بدروستان وعبد تمر ومالك سيف وملا شريف وسامي نادر (2) ؛ وكانت جريدة " الشرارة " ثم " القاعدة " هي التي تنطق بلسان هذه الجماعة. وفي العام نفسه تألفت عصبة من يهود العراق لمناهضة الصهيونية وكانت تصدر صحيفة علنية تسمى " العصبة " وغايتها؟ فيما أعلنته - أن توضح للشعب الفرق بين اليهودي والصهيوني وتعمل على تخفيف الكراهية بين الطوائف (3) ؛ وكانت لهذه العصبة جريدة سرية تسمى " وحدة النضال "، تعبر عن المبادئ الشيوعية للعصبة؛ والحق أن تأليف هذا الحزب الشيوعي اليهودي إنما تم لعجز اليهود حينئذ عن الدخول في حزب " فهد " إذ كان " فهد " يتخوف من اليهود ويشك في إخلاصهم، هذا إلى ان انتماءهم للحزب قد يبعد ممثلي الأكثرية عنه ويجعله قاصرا على الاقليات. غير ان (فهدا) نفسه عاد ليعرض عليهم دمج الحزبين في حزب واحد، على ان يكونوا أعضاء بسطاء في الحزب الموحد، فلا يحتلوا مراكز هامة فيه. ووجد اليهود ان هذا الشرط لن يحول بينهم وبين ما يريدون إذا هم ضمنوا لأنفسهم سيطرة معنوية داخل الحزب، فقبلوا الانضمام إلى
(1) Communism and Nationalism in the Middle East p. 184
(2)
المصدر السابق: 184.
(3)
المصدر السابق: 190.
حزب " فهد "، وسرعان ما لمعت أسماء ساسون دلال ويهودا صديق وغيرهما، واحتلوا مراكز هامة في الحزب. وقد فسر بدر هذا خير تفسير حين قال:" فأصبحت ترى خلية شيوعية منظمها عبد تمر مثلا، وهو نقابي قدير لا أكثر، وتضم ساسون دلال عضوا بسيطا فيها، وكان ساسون دلال ممن درسوا الماركسية وتضلعوا فيها؟ وكان عبد تمر يقف مشدوها وهو يرى إلى معلومات ساسون أو ثقافته الماركسية الواسعة وإلى جهلة هو "(1) .
ولا ريب في أن بدرا كان عضوا في الحزب أثناء الفترة التي قضاها مفصولا من دار المعلمين (أي خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 1946) ، بل هو يقول إن عمادة الكلية كانت قد عرفت فيه انتماءه للحزب وأنها كانت تشدد الرقابة عليه مما قد يشير إلى أن فصله نفسه اقترن بتهمة الانتماء إلى الشيوعيين.
وفي شهر تموز (يوليه) سنة 1946 (وكان السياب ما يزال قابعا في قريته) أعلنت الحكومة عدم شرعية العصبة، وعطلت صحيفتها واعتقلت رؤساءها، وكان من بين أعضائها البارزين نعيم طويق فأمره الحزب أن يلجأ إلى قرية السياب " وكانت يومذاك حصنا منيعا من حصون السيوعية ". يقول السياب:" وجاءنا نعيم فهيأنا له مكانا في أحد بساتين النخيل، وكنا نقضي كثيرا من أوقاتنا في الجلوس معه والاستفادة من معلوماته في المادية الديالكتيكية والشئون الحربية، وزعمنا لأبناء القرية انه صديق من أصدقائي في دار المعلمين وأن اسمه محمود؟ "(2) .
في ذلك الشهر نفسه كان بدر يتحدث في رسالة إلى صديقه خالد
(1) الحرية العدد: 1466.
(2)
الحرية، العدد:1448.
عن حلمه وأنه رأى نفسه في القبر، ويتحدث عن الحب الريفي وأنه يريد أن يخلده في قصيدة طويلة، ويطلب إليه أن يخبره:" عنها وعنها وعنها، ألم ترهن أو تسمع عنهن ركزا؛ لعلي شوهت وجه الحقيقة بأن انقضت عددهن إلى ثلاث ". وفي ذلك الشهر نفسه نسمعه يقول عن حياته في القرية وفي صحبة الضيف المتوالي عن الأنظار بين نخيلها: " وفي ذات ليلة عقدنا مجلسا من مجالس الطرب في بستان آخر ودارت علينا الخمرة حتى سكرنا "(1) .
أن أي متأمل سيلحظ، ولا بد، ذلك الانقسام أو الازدواج في طبيعة بدر يومئذ، فهو ينتمي إلى حزب ينظر إلى المستقبل بتفاؤل، ويبني منهجه على قوة النضال، ويؤمن بالفرد ما دام في خدمة المجموع، ويتجه بكل طاقاته نحو الحياة، وبدر يمارس هذه الأمور " رسميا " باسم البطاقة التي يحملها، فإذا جن الليل وأخذ القلم ليكتب قصيدة أو رسالة تحدث عن الضياع أو عن الأحلام الفردية أو عن الموت، ونسي كل شيء سوى انه محروم من المرأة التي يحب. وفي عدم الاندماج بين هذين الطرفين يكمن السر كل السر في رفضه للشيوعية من بعد، وان تدخلت عوامل أخرى قوت لديه العزم على الانفصال.
على أنا يجب أن ننصفه، فانه رغم ذلك الازدواج، حاول جاهدا ان ينضوي تحت راية الحزب وان يعمل من اجل مبادئه بإخلاص، وكان في السنوات التي امتدت (بين 1946 - 1950) يستطيع أن يعيش؟ دون أزمة نفسية قوية - ممسكا رايتين متباينتين واضعا كل راية في يد، بعيدة عن الأخرى، وهو لا يحس بكثير من التناقض أو الاضطراب.
ولما انتهت العطلة الصيفية (1946) وانتهت معها مدة الفصل عاد
(1) الحرية، العدد نفسه.
إلى بغداد وكان أول عمل قام به حين وصلها أن زار الرفيق حسين الشبيبي الذي كان موقوفا مع عدد من الرفاق، وتناول الغداء مع الموقوفين، وتحدث إلى حسين عن النشاط الشيوعي في البصرة وأبي الخصيب وزوده حين بنصائح وتعليمات وكان في ما قال له:" لقد تخرج جاسم حمودي فاستلم أنت مكانه في الدار "، وفرح بهذه المهمة الموكولة إليه ثم وجدها عبئا أثقل من أن يحمله جسمه النحيل فذهب إلى الرفيق يهودا صديق وطلب إليه ان ينتدب لتلك المهمة طالبا غيره (1) ؛ وكان تخيله رغبة منه في أن يضمن لنفسه القدرة على الاستمرار في الدراسة، فاستطاع أن يفوت على سلطات الكلية الإيقاع به، ومارس نشاطه الحزبي بشكل هادئ لا يلفت إليه النظر، دون أن يتغيب عن اجتماعات الخلية الطلابية؛ وظل على صلة وثيقة بصحيفة " القاعدة " التي أصبحت تنطبق باسم الحزب، وبكل منشور من منشوراته (2) ؛ بل انه وفئة الرفاق في دار المعلمين نظموا مظاهرة حزبية (لعلها أواخر سنة 1946) ، فذهبوا إلى مقهى على دجلة، ورسموا الخطة التي سيعتمدونها في توجيه المظاهرة، وكانت تقضي بأن يكون المتظاهرون مسلحين بالعصي؟ فاشتروا حزما كبيرة من الخيزران من السوق المجاورة للمقهى - وأن يتحشد عدد من الرفاق عند موقف أحد الباصات كأنهم ينتظرونه، حتى إذا جاء الباص تركوه يفوتهم وركضوا كأنهم يحاولون إدراكه، وعلت هتافاتهم وهم يجرون، وتساتلت إليهم من هنا ومن هناك جماعات عينت لها مراكزها، ولكن أخبار هذا الاستعداد تسربت إلى الشرطة، ففاجأت المظاهرة من المؤخرة، وقد تشابكت أيدي المتظاهرين كي لا يحدث أحد نفسه بالفرار، ولكن ما كادوا يحسون بالشرطة من ورائهم حتى ولى أكثرهم هاربا، وهرب الرفيقان اللذان كانا قد شبكا
(1) الحرية: العدد السابق.
(2)
المصدر السابق نفسه.
يديهما بيدي بدر، في نترة مفاجئة، فسقط على الأرض وجرحت يده، ولما نهض رأى الرصيفين على جانبي الشارع يغصان بالشرطة، فتمالك نفسه وأخرج سيجارة وأشعلها، ودس يده المجروحة في جيبه، ومر في هدوء من أمام الشرطة فلم يلقوا إليه بالا، لآن هدوءه قد غطى على حقيقة موقفه (1) .
كان فهد خلال عام 1946 قد وقف جل جهده على تحقيق غايتين: أولاهما تقليل الانقسامات بين اليساريين أو توحيد الجماعات اليسارية معا في جبهة واحدة، وإحراز الاعتراف الرسمي بالحزب، وقد ظلت الخطوط تنعثر في تحقيق الغاية الأولى إلى أن اعتقل في أوائل 1947، فحدث تقارب بين حزب فهد وحزب الشعب (أو الأغلبية فيه) ، والجناح التقدمي في الحزب الوطني الديمقراطي وجماعة زكي الخيري وشريف الشيخ التي كانت قد انشقت عن حزب فهد من قبل، أما الغاية الثانية فلم يتم له تحقيقها أبداً، وعندئذ لجأ إلى استغلال واجهة خارجية للحزب عن طريق ما يسمى بحزب التحرر الوطني (جماعة السبيبي) ، فقد طلب إلى جميع الشيوعيين الانضمام إلى هذا الحزب، كما طلب إلى كل عضو عامل في حزب التحرر الوطني الانضمام إلى الحزب الشيوعي. وكان فهد يرجو ان يفيد من حزب التحرر في تنظيم لجان الطلبة واتحادات العمال (2) ، وقد جاء اعتقال فهد وكثير من أعضاء حزبه أثر تسلم نوري السعيد للوزارة (واستقالة وزارة أرشد العمري) في الحادي والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 1946؛ فقد بدأ نوري عهده بسياسة قمعية شديدة غايتها استئصال الشيوعية من جذورها، وأطلق رجاله لمباغتة كل وكر من أوكارها في الألوية المختلفة، وكانت ثمرة هذه
(1) المصدر السابق نفسه.
(2)
Laqueur pp. 188 - 89.
الحركة اعتقال فهد والأعضاء البارزين من حزبه (1) . وقدم المعتقلون للمحاكمة في شهر آذار (مارس) من ذلك العام، وكانت التهمة الكبرى الموجهة إليهم هي الصهيونية، ولعبت شهادة مالك سيف أحد أعضاء حزب فهد دورا هاما في إدانة المعتقلين وفي كشف كثير من الأسرار، وصدرت الأحكام في حزيران بإعدام فهد واثنين من رفاقه ثم حول الحكم إلى السجن مدى الحياة. ومن داخل السجن أخذ فهد يوجه شئون الحزب معتمدا في ذلك على اتصاله بيهودا صديق وكان قد اصبح سكرتير اللجنة المركزية الثانية (2)، ولكنا نلمح أهميته في التنظيم العام للحزب من قول بدر الذي أشرنا إليه من قبل:" وبعد أيام اتصلت بالرفيق يهودا صديق ان ينتدب لهذه المسؤولية غيري "(3) .
ولا نحسب ان بدرا في تلك الفترة فارق نشاطه اليساري أو فتر فيه؛ إلا أن الأحكام بالسجن على زعماء حزبه صدرت وهو يتأهب للعودة إلى قريته في إجازة الصيف، ثم تنبهم أخباره دون أعييننا في تلك الحقبة من السنة؟ على غير ما تعودنا - وذلك لان رسائله إلى خالد؟ أن كان ثمة رسائل - قد فقدت، ولم تبق منها إلا رسالة واحدة (بتاريخ 20 - 9 - 1947) يكلف فيها صديقه قضاء مهمة تتعلق بمصطفى السياب؛ ويهمنا قوله في آخرها:" عندي شعر كثير؟ جدا، سأقرؤه عليك في أوائل الشهر القادم، يوم 1 أو 2 منه ". وقد كانت تلك الرسائل حرية ان تحدثنا بشيء واضح عن نشاطه الفني وان كان يتجنب
(1) انظر Longrigg ص: 340 و laqueur ص:187. ويورد السياب تفصيلات خاصة عن السبب المباشر لاعتقال فهد (الحرية/ 1450) غير انه يذكر أن هذا الاعتقال تم سنة 1946 يقول: في يوم من أيام عام 1946 وكنت قاصدا أحد المقاهي سمعت بالنبأ المشؤوم آنذاك.. كنت فريبا من المقهى المقابل لوزارة الدفاع.. الخ ".
(2)
Laqueur: 192.
(3)
الحرية: 1448.
فيها كل حديث عن الجانب السياسي، لا لأنه كان يخشى الرقابة وحسب، بل لأن صداقته لخالد بفكرة سياسية معينة، أو قل إن صداقتهما كانت خارج نطاق المشاركة في رأي سياسي واضح المعالم.
ولكن أين هو الشعر الكثير الذي قاله في هذا العام الدراسي وفي الإجازة اللاحقة به؟ إننا لو قدرنا أن كل ديوان " أزهار ذابلة " وبعض " أساطير " يمثلان هذه الفترة لما كان ذلك كثيرا، ومع فانا نصدقه في قوله ان لديه شعرا كثيرا، ذلك انه كان ذا قدرة عجيبة على الإكثار من الشعر، ولدينا من قصائده في هذه الفترة قصيدة بعنوان " هل كان حبا " ظهرت في ديوانه الأول، ولهذه القصيدة أهمية خاصة عند الشاعر فانه يؤرخ بها بداية اتجاهه إلى الشكل الحديث في الشعر (1) ، وهي إذا توخينا الدقة لا تمثل شيئا من ذلك، وكل ما فيها تفاوت بسيط في عدد التفعيلات كقوله:
العيون الحور لو اصبحن ظلا في شرابي
…
جفت الأقداح في أيدي صحابي.
…
فالبحر هو الرمل، والشطر الأول يحتوي على أربع تفعيلات والثاني على ثلاث، ومن طبيعة الرمل أن يتيح هذا التفاوت تاما ومجزوءا، وليس فيها بعد ذلك من حداثة الشعر الا هذا المظهر البسيط.
وفي ديوانه " أساطير " قصيدة مبكرة من نتاج العطلة الصيفية (1947) بعنوان " سجين " وهي تصور ان ذراعي الأب تحولان دون لقاء المنتظرة:
وطال انتظاري كأن الزمان تلاشى فلم يبق إلا انتظار
…
وظل يتساءل " أألقاك "، مؤمنا أن لا بد من ساعة.. من مكان " لروحين ما زالتا في ارتقاب ":
(1) تاريخها 29/11/1946.
سألقاك أين الزمان الثقيل
…
إذا ما التقينا وأين العذاب
سينهار عن مقلتيك الجدار
…
وتفنى ذراعا أبي كالضباب ثم يهتف:
لينهد هذا الجدار الرهيب
…
وتندك حتى ذراعا ابي
أحاطت بي الأعين الجائعات
…
مرايا من النار في غيهب
إذا استطلعت مهربا مقلتاي
…
تصدى خيالان في مهربي
فأبصرت ظلين لي في الجدار
…
أو استوقفتني ذراعا ابي فهذه القصيدة معلم هام في حياة بدر النفسية، إذ فيه تستعلن الثورة على الأب دون مواربة أو رمز، وهي مقدمة لحفار القبور حيث الثورة على الأب تتسم بلباقة الرمز والكناية؛ وترمز سلطة الأب إلى الحواجز الكثيرة التي تحول دون لقاء المنتظرة وهي أيضاً كبش الضحية لتفسير ذلك الإخفاق المتوالي في الحب؛ فذراعا الأب قائمتان كالمقص تجذان كل علاقة، وكلما ظن الشاعر أن هذه هي المنتظرة تحركت ذراعا الأب فقطعتا حبل الرجاء الممتد نحوها، وتلك إشارة إلى أن الشاعر ورث كل ما يقصي المحبوبات عنه من ابيه، وفي طي ذلك معنى لا شعوري، وهو أن الأب القاسي هو الذي دفع بهذا الطفل إلى أحضان الأم دفعا حرمه القدرة على الانسجام مع أية امرأة أخرى. وربما تتضح المسألة تحت أنوار كاشفة أخرى إذا قلنا ان الأب كان ينتمي إلى حزب الشعب (وقد كان في البداية؟ وعندما نظمت هذه القصيدة - من ألد أعداء الحزب الشيوعي) وكان الشيوعيين يسمون قادته انتهازيين وجواسيس وعملاء (1) ، وهذا يفسر الإشارة الغامضة
(1) تغير الموقف بعد إعدام فهد، وتسلم قادة حزب الشعب عندئذ توجيه شئون الحزب الشيوعي، وهذه حقيقة تضاف إلى العوامل التي جعلت بدر يمقت الانتماء للحزب الشيوعي. (انظر العدد 1471 من جريدة الحرية) .
إلى النزعة الاقتصادية التي كان بدر يتصور أباه ممثلا لها:
أما تبصرين الدخان الثقيل
…
يجر الخطى من فم الموقد
تلوى فأبصرت فيه الظهور
…
وقد قوستها عصا السيد
وأبصرت فيه الحجاب الكثيف
…
على جبهة العالم المجهد فإذا تحطم رمز الإقطاع؟ سلطة الأب - تبدد الدخان الكثيف عن وجه العالم المجهد، وظهرت " المنتظرة "؛ ولكن المنتظرة برزت فجأة وقبل ان يتحطم الإقطاع ان ينهد الجدار الأبوي، فكيف كان ذلك؟ لندع بدرا مؤقتا يحلم بهذه المحتجبة، ولنتوجه إلى أحداث العام الأخير من حياته في دار المعلمين.