المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

- 21 - ‌ ‌الينابيع الثقافية ترى هل كان السياب يحس أن " - بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره

[إحسان عباس]

الفصل: - 21 - ‌ ‌الينابيع الثقافية ترى هل كان السياب يحس أن "

- 21 -

‌الينابيع الثقافية

ترى هل كان السياب يحس أن " أنشودة المطر " نقله مفاجئة في المبنى والمستوى؟ أكبر الظن ان غريزته الفنية أدركت ذلك إدراكاً مبهما ولهذا فإنه جعل رمزه الجديد المفضل ذلك التعاقب بين الخصب والجدب في اكثر قصائد هذه الفترة، ثم لعل تلك الغريزة هي التي حفزته إلى أن يتجاوز ذلك المستوى الذي بلغه في " أنشودة المطر " أو لا يقصر عنه؟ على الأقل - ولهذا حاول في كثير من قصائده أن يتفوق على نفسه، وان يطلع ببناء فني جديد. وكانت هذه الفترة احفل الفترات الشعرية بالتجديد في المبنى والموضوعات والصور والرموز، فإن لم تكن كذلك فإنها تتحدث عن محاولة مستمرة للتفرد في الطريقة وأدواتها ووسائلها.

وللينابيع الثقافية أثرها في هذا المستوى وفي طبيعته: فقد حشد السياب عددا كبيرا من الأساتذة يمتدون من دانتي حتى اليوت ومن أبي تمام إلى الجواهري، عندما سئل عمن بهم أو عمن أثروا فيه؛ ولكن الحقيقة كانت اقل من ذلك كثيرا، فقد ظل داتني والمتنبي وشكسبير أسماء تذكر في معرض المباهاة الثقافية، كما توارت صورة اليوت ومن قبلها صورة كيتس، ولم تبق من علي محمود طه إلا أصداء باهتة ذابت قبيل أنشودة المطر؟ فيما أحسب - وآخر ما يمثلها قصيدة

ص: 250

" أم سجين في نقرة سلمان "(1) التي نسجت على منوال " جانة الشعراء "؛ أما الجواهري " أعظم شاعر ظهر في هذه الحقبة من شعرها الحديث " و " أستاذ هذا الجيل الطالع من الشعراء العراقيين "(2) فلم تتبق منه إلا رحى تطحن قرونا؟ قعاقع يستدعيها المقام في قصيدتي فوكاي وبور سعيد. وظل السياب متمسكا بالجمع بين الشرق والغرب اللذين ظن كبلنغ سفها انهما لا يجتمعان، فكان يزعم لنفسه ان شعره مشتق من الجمع بين طريقة ابي تمام واديث سيتول.

والحقيقة أن السياب في بحثه عن منبع شعري يتلائم وطبيعته ومنهجه وقع تحت تأثير كل من لوكا واديث سيتول، وربما لم يكن من المصادفة ان كلا منهما لم يكن منتميا إلى معتقد سياسي معين. وقد أعجبه في الشاعر الأسباني عمق تعبيره عن القسوة والموت وقدرته الفذة في تصوير الواقع من خلال صور حسية مجسمة وتلاعب بالألوان وجمع للملامح المتباعدة في إطار شعري واحد تتصل فيه المجسمات الواقعية بأخيلة غريبة طليقة لا واقعية؛ ومع ذلك كله فأن تأثر السياب بلوركا لم يكن عميقا لأن صور لوركا؟ وهي المادة التي يحتاجها السياب اكثر من حاجته للموضوع والطريقة - كانت غريبة الوقع لما يغمرها من سمات سريالية، ولم يكن السياب يستطيع الابتعاد كثيرا عن الوضوح في الصورة، لأنه تعود منذ نشأته الشعرية ان يتخذ الصور للتوضيح

(1) يقول السياب في هذه القصيدة:

في قلعة جبلت حجارتها

بدم القلوب وبارد العرق

ظلماء يلهث في مغاورها

داجي الهواء لهاث مختنق

وتعفن الزمن الحبيس لدى

جدرانها طبقا على طبق

وتلظت الصحراء فاغرة

عنها فم المتثائب القلق

حيث النهار هجيرة ودجى

والليل غاشية من الأرق

قلب أعز من الحياة على

قلبي يلوك بقية الرمق وهي في أربع مقاطع، ولعلها تعود إلى أحداث سنة 1952.

(2)

انظر العبطة: 84 - 85.

ص: 251

المعنوي لا للإبهام الموحي. ولهذا اقتصر تأثير لوركا في شعره على استعارة عدد غير كثير من الصور، أو على المحاكاة القياسية لبعضها الآخر؛ فقوله مثلا (1) :

والبرد ينث من القمر

إنما يعد مستعارا من قول لوركا على لسان القمر " افتحوا السقوف والصدور لأدفئ نفسي فأنا بردان "(2) ؛ وللقمر دور هام في شعر لوركا، ولكن السياب؟ رغم اتكائه على لوركا أحياناً في هذه الناحية - لم يستطع أن يتبنى ذلك الدور نفسه للقمر. كذلك فإن محاولته التلاعب بالألوان وإضافة الألوان إلى الصدى " أصداؤها الخضراء.. أصداؤها البيضاء.. أصداؤها الحمراء؟ "(3) ربما كانت محاكاة لوركا على استغلال الألوان في شعره. ويظهر في قصيدة " النهر والموت " أثر لوركا واضحا فهناك تتدفق المياه وتتحدث الطبيعة مرددة " بويب، بويب " فيخيل للشاعر انه يسمع " أجراس برج ضاع في قرارة البحر؟ وتنضح الجرار أجراسا من المطر " ويحس الشاعر ان الدماء والدموع في الكون " أجراس موتى في عروقي ترعش الرنين "(4) . ولا ريب أننا نقرأ هنا قول لوركا (5) :

الأطفال: يا جدولا رقراقا يا ينبوعا ريقا

ماذا يحتوي قلبك الألهي المتفتح بالعيد

أنا: جرس الموت الذي يدق في الضباب.

وقوله أيضا:

(1) أنشودة المطر: 24.

(2)

Lorca p.93

(3)

أنشودة المطر 80 - 81.

(4)

أنشودة المطر: 141، 143.

(5)

عرس الدم - ترجمة الدكتور علي سعد، المقدمة 14 - 16.

ص: 252

ملء قلبي الحريري أنغام وأضواء

ودقات أجراس ضائعة.

وفي قصيدة السياب نفسها " لألح القمر يخوض بين ضفتيك يزرع الظلال " وهو قياس على لوركا " والحرس المدني يتقدم زارعا الحرائق "(1) وعلى قوله في موضع آخر: " بينما يزرع الصيف غمغمات النمورة واللهيب "(2) . ومع أن قول السياب " ناب الخنزير يشق يدي؟ "(3) مستوحى مباشرة من قصة أدونيس فأنه لا يبعد أن يكون ناظرا أيضا إلى قول لوركا " فشق نعالهم وكأنما شقها بعضات خنزير بري "(4) في قصيدة " مصرع انطونيو الكامبوريو ". وفي هذه القصيدة يتحدث لوركا عم مدى تطعن بها النجوم صدر الماء الرمادي، كما يتحدث في قصيدة أخرى عن القمر الذي يلقي بمدينته في هواء الليل (5) ، وعن الأسماك التي تضيء مدى مزينة بدم الأعداء (6) . ولما حاول السياب أن يكتب قصيدة في لوركا (7) استمد من طريقته في التصوير فتحدث عن " المدى التي تمضغ الشعاع " وعن " شراعه الأخضر كالربيع "، وحشد في القصيدة ما يمثل لوركا، في نظرة، من حيث الفكرة والصورة والمبنى الشعري. فبنى القصيدة على التضاد العنصري واللوني، حسبما أوحى له بذلك صديقه كاظم جواد (8) الذي كان يتدارس وإياه بعض قصائد لوركا، ولهذا جعل قلب لوركا

(1) الآداب (1956) : 471 وعرس الدم: 72.

(2)

عرس الدم: 67.

(3)

أنشودة المطر: 99.

(4)

Lorca p.54.

(5)

عرس الدم: 68.

(6)

المصدر نفسه: 78.

(7)

انظر أنشودة المطر: 27.

(8)

يقول كاظم جواد: ثمة تضاد يضطرم في شعر لوركا المتوتر التابض؛ (الآداب - 1956) ص: 470.

ص: 253

تنورا متوقدا بالنار فوارا بالماء معا، وعينيه تنسجان شراعا من اللظى خيوطه من مغازل المطر، ومن الحياة (كما تمثلها ثدي الأمهات والمدى التي تسيل منها لذة الثمر ومدى القابلات التي تقطع السرر) والموت (المتمثل في مدى الغزاة؟ أمثال الحرس المدني -) وهي تمضغ الشعاع. وهذا الشراع ندي (لين) قوي (صلب) أخضر كالربيع أحمر دموي، كأنه زورق من ورق وضعه طفل في ماء للعب أو كأنه " شراع كولمبس " وضعه في الماء مغامرا متحديا.

أما الشاعرة الإنكليزية فإن علاقته بها أقوى وأعمق، وربما كان من الغريب أن تحتل اديث سيتول كل هذه المكانة من نفسه، فأنها شغلت نفسها طويلا في العناية بالإيقاعات الصوتية وهي مغموسة النفس في التيار الديني وتستمد كثيرا من صورها من قصة المسيح، وتعد بعض صورها أشد غرابة من صور لوكا، ولكن الجواذب التي ربطت السياب بشعرها كانت متنوعة: فقد كان يريد منبعا غير اليوت الذي حاول البياتي أن يحاكي بعض نماذجه، ولهذا فهو يرجو؟ على إقراره بعظمة اليوت - ان ينفي عن نفسه تأثره به، لكي لا يرد هو والبياتي موردا واحدا؛ ثم انه عجز عن أن يجد ضالته في شعر ديلان توماس، رغم التقارب الشديد بين هذا الشاعر واديث سيتول، لأن توماس اشد واكثر تجوزا في الاستعمال اللغوي والصوري، وكان اهتداؤه إلى شاعرة؟ من غير الطبقة الأولى - يعد كشفا يبعث في نفسه الارتياح إلى استقلاله في النظرة والانفراد عن الآخرين. وقد أعجبه في شعرها ذلك الفزع الذي تغلغل فيه بسبب الحرب وتفجير القنبلة الذرية، ففي هذه المرحلة قل احتفالها نسبيا بموسيقى الألفاظ، كذلك كانت تجمعه بها رابطة أخرى هي حاجة الاثنين إلى التركيز، شغفها بترصيع القصائد بالدلالات الأسطورية، لا اتخاذ المبنى الأسطوري محملا للقصيدة؟ كما يفعل اليوت. ولما كانت نواحي

ص: 254

التلاقي بينه وبين تلك المرأة الشعرة كثيرة فانه تحدث دائما عنها في إجلال بالغ وذهب يعلن في شيء من المباهاة انه تأثر طريقتها في الشعر، وقرنها دائما باليوت ليقول ان الشعر الإنكليزي الحديث عرف شاعرين عظيمين لا واحدا.

ولم يقف تأثير سيتول عند حد المرحلة التي تتحدث عنها بل تجاوزها إلى المرحلة التالية، كما فعل لوركا على نطاق أضيق. كذلك بدأ تأثيرها مبكرا إذ تعرف إلى شعرها أواخر أيام الطلب في دار المعلمين، ولكن أثرها لم يبلغ أقصى قوته إلا في فترتي صلته بالآداب ومجلة شعر. فهي التي جعلته شغوفا بقصة " قابيل " يرددها في مناسبات عديدة، وعنها أخذ صورة التقابل الرمزي بين السنبلة والذهب (النضار) (1) :

النار تصرخ في المزارع والمنازل والدروب

في كل منعطف تصيح أنا النضار أنا النضار

من كل سنبلة تصيح ومن نوافذ كل دار؟

وصورة طائر الحديد الذي يلقي القنابل على المدن الآمنة (2) :

يا صليب المسيح ألقاك ظلا

فوق جيكور طائر من حديد وصورة الحياة السارية التي تنبض في عروق الكون على وجوه مختلفة؛ فقوله:

أحسست ماذا؟ صوت ناعورة

أم صيحة النسغ الذي في الجذور

إنما هو مستمد من قولها (3) : ومن خلال ما يعمله الموت

(1) أنشودة المطر: 60.

(2)

أنشودة المطر: 93 وانظر ص: 48 حيث الترجمة مباشرة.

(3)

Collected poems ص: 372.

ص: 255

ومن خلال جفاف الغبار

يسمع صوت النسغ الصاعد كأنه

أصوات بقرية هائلة تنبعث من

" ميامس " محتجبة مرعبة

And through the works of Death

The dusts aridity is heard

Of mounting saps like monstrous bull - voices of unesen of fearfu.

Mimes:

وقد كرر هذه الصورة في قصيدة أخرى فقال (1) :

أسمع من شوارعها الحزينة

ورق البراعم وهو يكبر أو يمص ندى الصباح

والنسغ في الشجرات يهمس؟.

ومما يدل على المحاكاة المعتمدة بعض التلاعب كان يجريه في التصوير أحياناً، بين قلب وتحوير، فالصيحة (2) تنبعث من قلب الأرض كالرعد هاتفة بالمسيح وهي تزأر:

ليكن هناك حصاد

ور يكن بعد اليوم فقير

لأن المسيح قد بذر في كل ثلم

ويتحول السياب بهذا المنظر فيصور (3) الموت وهو يركض في الشوارع هاتفا بالنيام ان يستيقظوا قائلا: " أنا المسيح، أنا السلام "!، والقرابة بين الصورتين تدل على الاتباع المعتمد، ويشفع السياب هذه الصورة بقوله:

والنار تصرخ يا ورود تفتحي ولد الربيع

(1) أنشودة المطر: 20.

(2)

Collected Poems: ص372.

(3)

أنشودة المطر: 20 - 21.

ص: 256

وهذا تحوير أيضاً لقول الشاعرة (1) :

الورد على الجدار تصيح

" أنا صوت النار "

The Rose upon the wall

Cries -! I am the voice of Fire:؟

وقد جرأته الشاعرة الإنكليزية على اقتباس الرموز المسيحية، لاكثار من ذكر المسيح ولعازر ويهوذا، وأن كانت هناك عوامل أخرى شجعته على ذلك؟ كما سأوضح من بعد -. وهو يترجم عنها بعض الأبيات ويضمنها قصيدة " رؤيا فوكاي "(2) ، ومن هذا المثال يبدو كيف انتزع الأبيات التي ترجمتها من مواضع في القصيدة، وكيف رتبها حسبما شاء، وعندما بلغ إلى قوله:

فأزحف على الأربع

فالحضيض والعلاء سيان،

زاد على ذلك قوله: " والحياة كالفناء "، وهذه الزيادة قد جاء بها من قصيدة أخرى (3) .

Where life and death are wqual

مما يدل على ان هذا الربط المتباعد، كان يعتمد على اختزانه لقصائد الشاعرة في ذاكرته إلى جانب الترجمة المعتمدة.

ويجري السياب على منوال الشاعرة الإنكليزية أيضا في استخدام رموز المطر، ففي قصيدة " أنشودة المطر " تجتمع لديه الكآبة الفردية من منظر المطر بالاستبشار لما قد يتمخض عن المطر من زوال الجوع، وهذا يشبه جمع الشاعرة في قصيدتها " أمطار نيسان "(4) بين البهجة بالحياة

(1) Collected Poems ص:377.

(2)

أنشودة المطر: 48 و collected Poems ص: 274.

(3)

انظر ص: 387.

(4)

انظر ص: 409.

ص: 257

وتحسب الجفاف الذي سيعتري كل شيء في الوجود. أما قصيدتها " ما زال المطر يتساقط "(1) حيث يومئ المطر إلى الموت والدماء والقنابل المتساقطة في الغارات الجوية فانها قد ألقت ظلها التام على قصيدة السياب " مدينة السندباد "(2) .

ولعل قصيدة: " مرثية جيكور " و " مرثية الآلهة " و " من رؤيا فوكاي "؟ (وهذه القصائد الثلاث تمثل مشروع قصيدة واحدة مما كان يسميه السياب ملحمة) أقوى قصائد الشاعر صلة بأثر اديث سيتول، لأنها تعد شاهدا على الاتباع الدقيق وعلى الاستقلال في نطاق ذلك الاتباع. فقد عمد الشاعر إلى قصيدة " ترنيمة السرير " Lullaby (ص274) وإلى " ثلاث قصائد في القنبلة الذرية "(368 - 378) فاستمد منها كثيرا من تصوراته ومن الجو العام الصالح لمثل موضوعه، بل جاراها في بعض الرموز والعبارات مقتبسة أو محورة.

وتقع " مرثية جيكور " منفصلة عن سائر القصيدة ولكن هذا ليس سوى ترتيب موضوعي اقتضاه الديوان حين نشرت القصائد مجتمعة؛ وعلينا أن ننظر في تلك القصائد من حيث تمثل وحدة، فتجيء " مرثية الآلهة " أولا، - وقد كان الشاعر كتب غليها عند نشرها في مجلة الآداب أنها " مقطع من قصيدة رؤيا فوكاي "(3) وبعدها تجيء " رؤيا فوكاي " ثم تجيء " مرثية جيكور " لتكون ختاما. وقد عدل الشاعر عن اعتبار هذه القصائد وحدة متكاملة حين أحس انه عجز عن إخراج " ملحمة " متناسقة الأجزاء متلاحقة الفصول، ولكن شيئا من النظام المقبول يمكن ان يستشف من هذه القطع الثلاث على حسب الترتيب الذي افترضته، فالقطعة الأولى تصور غياب صورة الإله عن الكون

(1) انظر ص: 272.

(2)

أنشودة المطر: 150.

(3)

الآداب (1956) عدد شباط.

ص: 258

الإنساني؟ وهو إله كان في كل عصر من صنع الإنسان نفسه - وكيف الإنسان في العصر الحديث القوة والمال تحت أسماء جديدة هي " كرب " و " حديد " و " فحم "؛ والقطعة الثانية تمثل اثر القنبلة الذرية في هيروشيما من خلال رؤيا فوكاي الكاتب في البعثة اليسوعية، وقد جن من هول ما شاهده؟ وهذه القطعة تجيء في ثلاثة أقسام: القسم الأول " أنشودة الرصاص والحديد " وهي ممتزجة من أسطورة صينية عن ناقوس ضخم من المعادن التي لم تتخذ معا إلا حين مزجت بدم العذراء " كونغاي "؟ اجتماع حتمي بين السلاح والموت والدماء - فأصبح الناقوس يردد في دقاته دائما اسم تلك الفتاة، ومن صورة آريل في مسرحية العاصفة لشيكسبير وهو يتغنى:" على عمق خمس قامات يرقد أبوك في القرار " ومن صورة الغجر وقد هموا بالرحيل عن غرناطة (أثر مطاردة البوليس المدني لهم) وهي صورة من صور الدمار كما كان يحسه لوركا، ثم صورة البابيون وهي قاع المحيط تهدف طفلا بشريا قتل " طائر الحديد " أمه، ومعظمها مترجم عن قصيدة " ترنيمة السرير " للشاعر اديث سيتول، وينتهي هذا القسم باستواء الأضداد من خير وشر في عالم الإنسان، ذلك أن قاع البحر أصبح يضم " الموت " متمثلا في من التهمهم البحر، كما يضم " الولادة " متمثلة في الطفل الإنساني الذي تربيه القردة - البابيون؛ وقد اختير البحر موضعا لهذين الضدين لأن ظهر اليابسة لم يعد صالحا للحياة، فقد قتل كل شيء إلا قابيل وبقي الذين امتلأت عروقهم لدى المخاض الكوني الأول بالوحشية القاتلة، وذلك جنس بشري يكره النور وقد تجمعت فيه الأضداد فهو ريان عطشان، جذلان حزين، جائع متخم، يضحك من رئة ينخرها الداء، فان لم يكف من غلوائه فانه سيكون ضحية للعدم الذي اخترعه، وهذا هو ما يصورة القسم الثاني. أما القسم الثالث فانه على لسان مريض أصيب بالزهري اثر ضرب هيروشيما وهو يرثي

ص: 259

صلته بالحب الطبيعي ويأسى لفقد السود وحلول " الخربة المظلمة " التي يصبح فيها البوم وتنعب فيها الأصداء والرياح، ثم يستذكر هذا المريض صورة الرعب التي رسمتها القنبلة فأصبحت الأرض فاغرة الفم والشمس كالذئب المسعور وتكورت سحابة " بيضاء سوداء رقطاء القفا عجيبا "، وأخذ الأبرص يعدو طالبا السقيا فانهلت السحابة عن دم من ثدي ممزقة وعيون كأنما فقأها سيخ جنكيز، وشرب كل إنسان من ماء الردى. كل هذا والطيب " سازاكي " قد عبأ القناني من دم المرضى؟ الذين اصبحوا يعرفون بأرقامهم لا بأسمائهم - كي يفحص أثر الذري في دماء الآدميين. وفي هذا القسم أتكأ الشاعر كثيرا على قصيدة لأديث سيتول بعنوان " شبح قابيل " (1) ؟ فالأرض الفاغرة أشداقها تنبح السحاب في ظمأ قاتل ناظر إلى قولها (2) :

وذلك الخليج الذي انفق على مدى الكون بدا

وكأنما كل قرارات المحيطات قد نضبت

وتعرت الشمس فاغرة فاها على التو

كفم المجاعة الكونية، مدت فكيها

من أقصى الأرض إلى أقصاها

وصورة الأبرص الذي يعدو خلف صورة السحابة لاهثا يريد ماء تتردد أيضاً في قصيدة الشاعرة الإنكليزية حيث تقول:

والى ذلك الفاغر الخاوي

جاءت حضارة مقعدي الحياة وبرصها

مثلما جاءوا إلى المسيح عند بحيرة الجليل

والدم المنهل ليشرب منه الظمأى إنما يعبر عنه " الغني " الذي

(1) هو الذي يسميه السياب في بعض قصائده السابقة " ظل قابيل ".

(2)

ص: 373 - 373.

ص: 260

اصبح لا يتميز من لعازر وان كان ما يزال يبشر بذلك الترياق المسمى " الذهب "، فقال:

أن ما أريق ما يزال يعب كأنه الطوفان

ولكن الذهب سيغدو دم الكون،

فالذهب الوحشي الذي تكثف حول الجوهر الأول

فيه تركيب الدم ورائحته ودفئه ولونه

ولا ريب في أن الشاعر استوحى القطعة التي تمثل موقف الطيب من مرضاه، وبرود العلم إزاء مشاعر الذين ينتظرون الموت فوق الأسرة من قول الشاعرة:

علينا ان نأخذ خلاصة من الداء للعلاج

؟؟

فإذا أعطينا منها مقدار عشرين حبة

فإن وجه الأبرص ستعمره الحياة

كوجه الوردة بعد الأمطار الغزيرة

وعند رجوعنا إلى نهاية القسم الثالث (وهو نهاية القطعة الثانية من القصيدة) نجد ان الشاعر لم ينته إلى شيء، إذ كانت خاتمة قصيدته صورة امرئ مطروح على سرير في مستشفى، وهو ينتظر أن يحمل إنسان آخر رقمه لأنه صائر إلى عهده حفار القبور. وإذا قارنا هذا بما فعلته الشاعرة سيتول وجدناها تختم هذا الجزء من قصيدتها بما يشعر عودة الحياة، ورجوع المنقذ رغم كل المآسي التي صنعها الإنسان عبد الذهب، فتقول:

ومع ذلك؟ فمن ذا الذي خال أن المسيح مات عبثا؟

انه سائر على بحار من دم، انه آت في المطر العنيف

غير ان الشاعر لم يكن يستطع ان يصل إلى خاتمة مشابهة، لأن

ص: 261

موقفه يختلف عن موقف الشاعرة، فهو لا يؤمن بالمنقذ، وغايته هي أن يصور فظائع القوة الإنسانية التي لا تعرف حدودا، وحين رثى الآلهة في القطعة الأولى من قصيدته وأعلن عن خلق الإنسان لآلهة جديدة لم يبق لديه من حمى غيبي يلوذ به كما فعلت الشاعرة اديث سيتول، وهذا موقف يحسن أن نتنبه له بدقة، لأنه يضع مفارقة دقيقة بين السياب وبين كل من سيتول واليوت، فهو يعلن عن انهيار القيم الإنسانية دون أن يكون هناك بصيص من الأمل المتفائل في استنقاذ الإنسانية من الدمار، أما سيتول واليوت فانهما يعلنان عن انهيار القيم وهما يتشبثان بعودة المنقذ وبالرجوع إلى حمى الدين لأن ذلك هو الذي يعيد؟ في نظرهما - للحضارة الإنسانية رونقها؛ وحين اتخذ السياب من سيتول نورا هاديا لخطاه في هذه القصيدة لم يستطع أن يجاريها إلى النهاية، بل وقف عند صورة الدمار وحدها سمعنا في الوصف. ويبدو انه أحس بفراغ شديد تنتهي إليه قصيدته، فنظم قطعة ثالثة هي " مرثية جيكور " لكي يكمل صورة الدمار، وكانت جيكور ترمز لكل ما يحبه في الكون، فإذا أصبحت عرضة للخراب، فقد انتهى العالم في نظره، ولذلك أعلن هذه النهاية من خلال المجتمع الريفي الذي أحبه، فقارن بين أفراح القرية في عرس " محمود " وبين الهجوم البربري للحضارة ممثلا في " طائر الحديد " الذي ألقى صليب المسيح فوق جيكور، مستعيرا هذه الصورة من اديث سيتول أيضاً، إلا أن سيتول حيت تتحدث عن الصليب الملقى تنظر إلى صورة المقابر المسيحية والصلبان مغروسة فيها، فأما السياب فانه تجوز في نقل الصورة فجعلها تمثل الموت نفسه دون نظر إلى ملابساتها الأخرى. وقد قارن الشاعر بين الأفراح التي تنوج عادة بإعلان " دم العذرية " وبين الدم الذي كان ينزف من جسم محمود اثر الغارة المتوهمة على جيكور، كما قارن بين قصاص من القرية " هومير شعبه " الذي يمضغ والتواريخ والأحلام ويتحدث عن حرب

ص: 262

البسوس ومصرع الحسين، ويغزل على نول قديم، وبينه وقد اصبح هو ونوله ضحية لآلة حديدية جديدة:

تسكب السم واللظى لا حليب الأم أو رحمة الأب المفقود

ويعلن الشاعر في النهاية انهيار الإنسان وسقوطه بعد أن أصبحت الأرض سوقا تباع فيها لحوم الآدميين في أفريقية وآسية:

هكذا قد أسف من نفسه الإنسان وانهار كانهيار العمود

فهو يسعى وحلمه الخبز والأسمال والنعل واعتصار النهود

والذي حارت البرية فيه بالتآويل كائن ذو نقود

وبهذا الدمار الشامل يستطيع الشاعر أن يعلن انه قد اختار ختاما لقصيدته يصلح الوقوف عنده، لأنه وان لم يتحول إلى شيء من التفاؤل فهو على الأقل قد ضمن خاتمته شيئا غير قليل من الأسى المبهم على المصير الإنساني

تلك هي القصيدة التي أراد السياب بها أن يمضي نطاق القصيدة الطويلة (1) ، وقد رأينا مدى تأثيره فيها بالشاعرة الإنجليزية، ولكن بذل قسطا كبيرا من الجهد ليستقل رغم الاتباع الدقيق، وكان كأنما يترسم خطة مدرسة في هذا العمل، فهو قد هيأ مادة جديدة ينطلق منها للحديث عن موضوع مشترك؛ وحين رأى الشاعرة تتخذ رموزا معينة، لم يقف عند حد استعارة تلك الرموز بل حاول أن يختلق رموزا جديدة يستقل بها، وان يحشد لقصيدته أساطير لم تخطر لها على بال، ومن مجموع القصيدة يتبين للقارئ ان الشاعر كان " يؤلف " بقوة الاحتذاء وأنه لم يكن " يبدع ". ولولا النقد الذي واجهته بعض أجزاء هذه القصيدة حين نشرت في الادب، لخمل لنا الشاعر كان

(1) هناك مزيد من التحليل الجيد لهذه القصيدة أورده الأستاذ عبد الجبار داود البصري في كتابه عن السياب ص:72 وما بعدها.

ص: 263

ماضيا في إنشاء مقاطع أخرى يضيفها ما ألف. فان الموضوع كان فسيح المجال للتهويل، التصويري أمر شديد الصلة بقلبه وعاطفته، غير أن هذا التهويل يحتاج اندفاعا متضربا عجاجا، ومثلما دفعه هذا التهويل في قصيدة " فجر السلام " إلى اختيار شكل تقليدي مليء بقعقعة توهم الجزالة - كما يفعل الجواهري في كثير من قصائده - فكذلك فعل الشاعر في هذه القصيدة، ولم يبن على السوق الشعري الحديث منها سوى القسم الذي عنوانه " هياي، كونغاي كونغاي "(1) ورغم أن هذا القسم حشد من مختلف الاقتباسات فانه؟ في نظري؟ اجمل ما في القصيدة، ذلك أن السياق الشعري التقليدي يتطلب مع الإيهام بالجزالة نفسها) وضوحا واستقلالا في الدلالات اللفظية، وهذا ما لم يحسنه السياب في كل محاولة من هذا النوع، لأن المعاظلة إذا دخلت في السياق الجديد لابسة ثوبا من الغموض، قبلت في الجو الإيحائي العام دون تدقيق كثير، أما في سياق القصيدة فأنها عقبة أمام الفهم الضروري، ومن اساءة التقدير للشعر القديم أن يظن شاعر معاصر كالسياب أن التعبير الجزل لا يتطلب شيئا وراء المحافظة على العلاقات النحوية؛ وما كانت هذه العلاقات؟ على صحتها - لتصنع أسلوباً، وإذا اغتفر هذا في الأعجمي حين يحاول الكتابة بالعربية فانه لا يغتفر في عربي يعجب بأبي تمام والمتنبي.

وقد عاد إلى هذه المحاولة في قصيدة بور سعيد فمزج فيها بين اللحنين القديم والجديد، وهي على ما تمثله من حماسة طبيعية لقضية عادلة ومن ثورة على عدوان يمثل أحط أنواع الغدر في تاريخها العربي الحديث فأنها غير سديدة في المبنى الفني، وعيبها هو العيب الذي وجدناه في قصيدة " فجر السلام " اعني عدم التمايز أو التدرج في دورات القصيدة، وعدم وجود ما يسوغ الانتقال الفني من لحن إلى لحن، وقيام العبارة

(1) أنشودة المطر 460.

ص: 264

المفتعلة حجر عثرة في سبيل تذوقه، وللقارئ أن يتأمل الأبيات التالية وأن يحاول نثرها فانه سيدرك ما اعنيه حين أصف شعر السياب بالالتواء التعبيري حين يريد أن يتشبث بأذيال الجزالة:

حاشاك فالموت توري فيك حدته

طعم الدم الحي ما يرقى به البشر

أخفاه عنك التزام واشتباك يد

في مثلها فهو حيث احتازه البصر

حتى إذا ارتد واستبشعت صورته

أدركت أي انتصار ذلك الظفر

أدركت أن الضحايا رد كاثرها

فيك الأقل المضحى أنها كثر

من سدد النار في يديك يوردها

كيد المغيرين منه الظن والنظر

واحتاز في قلبه الأحقاب يزرعها

في جانب منه واستبسالك الثمر ولو شئت أن تطلب المسوغ لكثير مما يقوله السياب في هذه القصيدة، وأن تسأل نفسك في كثير من المواقف: لم قيل هذا بادئ ذي بدء، ثم: لم قيل هذا على النحو، لم تجد جواباً مقنعا، أنه يقول؟ مثلا - على النغمة الجديدة:

كم من دفين كل ماء القنال

في مدة العاتي وفي جزره

يلقي على صدره

عبئا من الظلماء؟ كان القتال

من اجل أن يرتاح في قبره.

ولو نثرت هذا الكلام لكان على النحو الآتي: " في ماء القنال قوم دفنوا، وماء القنال ذو المد العاتي والجزر يلقي على صدورهم عبئا من الظلام؟ وما كان القتال الراهن إلا لكي يرتاح أولئك المدفونون في قبورهم ". ماذا يريد الشاعر أن يقول؟ أيريد أن يقول أن الثأر متصل؟ أيريد أن يقول أن الذين ماتوا " سخرة " في حفر القنال إنما وجدوا راحة نفوسهم في هؤلاء الأبناء الذين أشعلوا نار القتال ليثأروا لهم؟ قد يريد

ص: 265

ذلك ولكن أي تعبير احتوى مثل هذه الفكرة؟ وكم يحتاج القارئ من حسن الظن بالشاعر ليوجه كلماته هذا التوجيه؟ لهذا أحس أن السياب؟ في هذه القصيدة - يعاني في اللحنين القديم والجديد قصورا في صياغة أفكاره في تعبيرات مناسبة، أقول " أفكاره " وأنا أعني انه أنه كان هنا يصوغ أفكاراً محوطة بالانفعال ولم يكن يدون صورة انفعال صحيح. ولعل أوضح أجزاء قصيدته هي التي تحدث فيها عن بطولة " القائد العربي " الكبير، لأنه كان في تلك اللحظة منفعلا بتلك البطولة وان اضطرته ظروف العراق حينئذ ثم طبيعة دار النشر التي تعهدت إصدار ديوان " أنشودة المطر " إلى أن يكني عن الاسم ب " سيف الدولة " في قوله:

يا أمة تصنع الأقدار من دمها

لا تيأسي أن " سيف الدولة " القدر وهو يريدك ان تقرأ: " ان عبد الناصر القدر ".

ص: 266