المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

- 1 - ‌ ‌أساطير ديوان " أساطير " مقصور على نتاج السنة - بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره

[إحسان عباس]

الفصل: - 1 - ‌ ‌أساطير ديوان " أساطير " مقصور على نتاج السنة

- 1 -

‌أساطير

ديوان " أساطير " مقصور على نتاج السنة الأخيرة التي قضاها السياب في دار المعلمين (1947 - 1948) ، لا يتعداها إلا إلى الأشهر القليلة التي عاشها مدرسا في الرمادي، فهو؟ باستثناء ثلاث قصائد يستشرف فيها المنتظرة - يمثل اهتداءه إليها ثم فقده لها وانفعالاته التي عصف بنفسه، على صور مختلفة، في أثر ذلك الفقد؛ ولا يشذ عن ذلك إلا القصيدتان الأخيرتان في الديوان، أعني " خطاب إلى يزيد " و " إلى حسناء القصر " وهما دون تاريخ. ورغم ان اتجاهه العام في الديوان ما يزال يعبر عن اختلاجه في سكرة الرومنطيقية، فان الديوان يصلح أن يتخذ جسرا واصلا بين الطرفين، إذ تبدو فيه الازدواجية على عدة أشكال.

وأول صور الازدواجية هو ما تفرضه الرومنطقية من نزاع بين قوة الحب وقوة الموت، ولهذا ما يكاد الشاعر يتحدث في قصائده عن روعة الحب أو عن ألم الفقد حتى ليرجف فرقا من الموت الرهيب؛ وهو بين هاتين القوتين يحاول أن يجد رجاءه في الخلاص منهما معا، ولهذا فرضت عليه هذه الازدواجية أن يستخدم صورا مزدوجة أيضا فإذا تحدث عن الهرب من الحب وقال " سأمضي " أحس بأنه واقف لا يستطيع حراكا:

ص: 132

- اني لغيرك؟. بيد أنك سوف تبقى، لن تسير

قدماك سمرتا فما تتحركان، ومقلتاك

لا تبصران سوى طريقي أيها العبد الأسير.

- أنا سوف أمضي فاتركيني؟.

- أنا سوف أمضي، فارتخت عني يداها، والظلام

يطغى

ولكني وقفت، وملء عيني الدموع.

وإذا استراح إلى " النافذة المضاءة "؟ وهي منفذ من الرجاء للمواقف المترقب - أحس أن الظلام قد أخذ يطغى على نفسه حتى حجب عن عينيه تلك النافذة؛ وإذا خفق قلبه " للشراع "؟ وهو يرمز إلى قصة المنتظرة من أولها إلى آخرها - وجد هذا الشراع " يذوب " - أي يتوارى وينطفئ رويدا:

شراع خلال التحايا يذوب

؟..

وشراع يتوارى

؟؟؟

ضوأ الشطآن مصباح كئيب في سفينة

واختفى في ظلمة الليل قليلا قليلا.

ولذلك كانت الصور الكبرى المسيطرة على قصائد الديوان هي صورة الإنسان السائر الواقف، والشراع القادم المتواري، والنافذة المضاءة المظلمة؛ وكان كل شيء يذوب: الشراع يذوب، والنعم يذوب، والشتاء يذوب، والغيمة تنحل، والأرجل التي تهم بالمشي تذوب، والأفق يذوب، والمصابيح تذوب، وهذا الذوبان يدل على الاستحالة وعلى التلاشي معا، ويعود فيجمع طرفي الازدواجية الرومنطقية في نطاق.

ص: 133

ومن صور الازدواج في ديوان اجتماع الشكلين القديم والحديث فيه، فبعض قصائده (ما عدا خطاب إلى يزيد) هي من المثلثات أو المربعات؟ الخ: أي تتحد القافية فيها في دورات تتكون الدورة فيها من ثلاثة أبيات أو أربعة أو أكثر؛ وبعضها الآخر يعتمد مبدأ التفاوت في عدد التفعيلات، ولكن الشاعر رغم اعتماده للشكل الجديد، فلما يغفل القافية في هذا اللون من الشعر، مما يكسب قصائده الجديدة اتساقا داخليا في النغم، كما انه قلما يقطع معنى ويستأنف آخر في الشطر الواحد (وهو أمر سيكثر منه في المستقبل) ، ومعنى هذا أن ابتعاده عن الشكل القديم لا يزال يتم في تهيب وحذر، ولذلك فأنه يعوض عدم التساوي في الأشطار بتنغيم مقصود، من الترديد المعتمد وغيره، فلا يحس القارئ بأن الشاعر ابتعد كثيرا عن شكل الدورة الثلاثية أو الرباعية.

وقد تحدث الشاعر في مقدمة ديوانه عن هذا اللون الجديد؟ حينئذ - من الشعر، فرد إقدامه عليه إلى تأثره بالشعر الإنكليزي الذي يعتمد " الضربة " أساسا فقال:" وقد رأيت أن من الإمكان أن تحافظ على انسجام الموسيقى في القصيدة؟ رغم اختلاف موسيقى الأبيات - وذلك باستعمال الأبحر ذات التفاعيل الكاملة، على أن يختلف عدد التفاعيل من بيت إلى آخر، وأول تجربة لي من هذا القبيل كانت في قصيدة (هل كان حبا) من ديواني الاول (أزهار ذابلة) ؛ وقد صادف هذا النوع من الموسيقى قبولا عند كثير من شعرائنا الشباب، اذكر منهم الشاعرة المبدعة الآنسة نازك الملائكة "(1) .

وهذا الإطراء للشاعرة نازك يخفي في طياته دعوة إلى تنازلها للسياب عن السبق إلى ابتداع هذا الشكل الجديد؛ وذكر الشاعر

(1) أساطير: 6.

ص: 134

لقصيدته (هل كان حبا) ؟ وهي مما نظمه في عام 1946 أي قبل أن تنشر نازك ديوانها " شظايا ورماد " سنة 1949 - يؤكد غايته هذه التي ظل يدافع عنها كلما أثير الحديث عن أولية هذا اللون من الشعر. ولكن هنا وهما لا بد من تجليته: ذلك أن للسياب قصيدة واحدة نظمها قبل عام 1948 يزعم فيها انه اهتدى إلى شكل جديد، ولكتها قصيدة لم تنشق عن الشكل القديم إلا انشقاقا جزئيا طفيفا، لا يوحي لأحد من الناس بالجدة، بينما أصدرت نازك (عام 1949) ديوانا يجري أكثره على هذا الشكل الجديد، وفيه محاولات عامدة لابتكارات وتنويعات في داخل هذا الشكل نفسه، وفيه مقدمة نقدية دقيقة تدل على وعي بأبعاد طريقة جديدة، بينما تمثل مقدمة السياب لديوانه " أساطير "(1950) خلطا صبيانيا وسطحية في الفهم للشعر الإنكليزي. وليست نازك أقل ثقافة واطلاعا على الشعر الأجنبي من السياب، فمن الغرور أن يزعم السياب لنفسه أنه هو الذي أوجد طرية حاكاه فيها الآخرون. وقطع القول أن الشعراء الشبان في الشبان في العراق كانوا يتململون سأما من الشكل القديم، وأن السياب عثر عفوا على قالب صب قصيدته " هل كان حبا "، وأن نازك وضعت مخططا عامدا للخروج بالقصيدة إلى شكل جديد، وأن كلا منهما كان يعمل مستقلا عن الآخر، متأثرا ببعض أشكال الشعر الأجنبي. وقد شاع " شظايا ورماد " اكثر من شيوع " أساطير "، دون أن يكون ذلك راجعا إلى أيثار الناس للجودة أو الجدة، وإنما لمحض التفاوت في القدرة على التوزيع لدى موزعي الكتب، وهذا يعني أنه كان أسرع إلى التأثير في نفوس القراء؟ سالبا كان ذلك الأثر أو موجبا -، وأن السياب نفسه لم يكثر من النظم على الطريقة الجديدة إلا بعد ان تعرف إلى محاولة نازك، واتضحت أمام عينيه أبعادها. بل أزيد فأقول: أن قصيدة السياب " في ليالي الخريف " إنما نسجت على مثال قصيدة " الأفعوان " لنازك. أما أن الشعراء من

ص: 135

بعد أخذوا يحاكون السياب اكثر مما يحاكون نازك الملائكة، فليس سره في الشكل وإنما مرده إلى المضمون، وقد كان مضمون السياب؟ من بعد ديوان " أساطير " - أقرب من ديوان نازك إلى ما يراد من الشعر الحديث أن يحققه. وقد أدرك السياب مؤخرا أن إلحاحه على تقرير الأسبقية لابتكار هذا الشكل لا يحفل بمجد كثير إذ تقرير " الأوائل " من الأمور العسيرة، فقال:" ومهما يكن فان كوني أنا أو نازك أو بالكثير أول من كتب الشعر الحر أو آخر من كتبه ليس بالأمر المهم؛ وإنما الأمر المهم هو أن يكتب الشاعر فيجيد فيما كتبه، ولن يشفع له؟ أن لم يجوز - أنه كان أول من كتب على هذا الوزن أو تلك القافية؟. أن الشعر الحر اكثر من اختلاف عدد التفعيلات المتشابهة بين بيت وآخر، انه بناء فني جديد، واتجاه واقعي جديد، جاء ليسحق الميوعة الرومانتيكية وأدب الأبراج العاجية وجمود الكلاسية. كما جاء ليستحق الشعر الخطابي الذي اعتاد السياسيون والاجتماعيون الكتابة به "(1) .

إن أدراك السياب أن " الشعر الحر اكثر من اختلاف عدد التفعيلات المتشابهة بين واجر " - لا يمثل مرحلة ديوان " أساطير " لأنه ان كل الشكل الجديد قد جاء ليستحق " الميوعة الرومانتيكية "، فان ذلك الشكل - على جدته - لم يخدم تلك الغاية في ديوان " أساطير "، وإنما جاء ليخدم الرومانتيكية على نحو جديد، على أن من الانصراف للسياب أن نقول انه من بعد حلول الانعتاق من اكثر ما يمثله هذا الديوان.

ولكن إن كان المضمون أحد مسوغات الثورة في الشكل، فان المضمون الجديد الذي مارسه السياب جزئياً في ديوان أساطير، وكان

(1) العبطة: 37 - 38.

ص: 136

الشكل الجديد ملائما له، معتمد على الصراع الذي يشبه المرض بين العقل الظاهر والواعي الباطن، لا على الصراع بين الإنسان والقيود التي تعيقه عن التقدم في واقع الحياة، فهو صورة فردية للهلاس الناجم عن طغيان الاستبطان الذاتي، وهو حيث نابع من داخل النفس، فيه بعض من اضطراب الحديث النفسي وشيء من تشتت الهواجس، وترديد الذكريات في لوعة ممرورة. ولكن السياب لم يكثر من هذا اللون لان طبيعة القصائد التي تتحمل التعبير به لم تتح له الاسترسال فيه.

غير أن الشاعر كان عندما نظم هذا الديوان يعيش حياة مزدوجة فهو مناضل يشارك في الكفاح من اجل غايات جماعية، وهو منكفئ على نفسه يجتر آلام الحب المخفق، ويتحرم بقدس ذاته، وكلن هذا الازدواج متباعد الطرفين، فلما حاول أن يقرب بينهما في ثنائية يمحي الخط الفاصل بين شطريها سقط سقوطا واضحا، ولذلك كان ازدواج المضمون واضح الافتعال في هذا الديوان: فالشاعر الذي يحلم بالموت ويسمع صوت أمه تناديه يقف ليأسف على أنه سيمضي ويبقى " الطغاة "؟ ولا معنى لذكر الطغاة هنا لأن الشق الأول وهو موت الفرد كان ناجما عن فقدان الملاذ العاطفي، لا عن وجود الطغيان في هذه الحياة (1) :

سوف أمضي وما زال تحت السماء

مستبدون يستنزفون الدماء

سوف أمضي وتبقى عيون الطغاة

تسامد البريق

من جذى كل بيت حريق

(1) أساطير: 69، وقد تكون لفظة " الطغاة " إشارة مواربة إلى " الأب "، وتكون القطعة جزءا من الثورة عليه، وهي بهذا التفسير نفسه لا تدل على ثورة حقيقية ضد الإقطاع وأصحابه.

ص: 137

والتماع الحراب

في الصحارى ومن أعين الجاعين

وفي مثل هذا الافتعال وقع الشاعر في قصيدة " إلى حسناء القصر " فهو مفتون بهذه الحسناء، مسرف في تصوير مدى هذه الفتنة، وهذا الإحساس الكامن يجعل تهديد الحسناء بزوال مالها وقصرها، وبثورة المضطهدين، وإراقة الدماء في سبيل الحرية ازدواجا مضحكا يفضح نوعا من الصبيانية في فهم النضال، فلو أن هذه الحسناء أشارت له بطرفها لانتهى كل الحقد على القصر وأصحابه من نفسه. والحقيقة أن الشاعر كان ما يزال يؤمن بالاتجاه الذاتي في الشعر لعجزه عن التخلي عنه، ولهذا فهو يقول في مقدمة ديوانه:" وقبل أن أختم هذه المقدمة لا بد من التعرض لمشكلة كثيرا ما ثار حولها الجدل، تلك هي رسالة الفنان في المجتمع: أنا من المؤمنين بأن على الفنان دينا يجب أن يؤديه لهذا المجتمع البائس الذي يعيش فيه، ولكنني لا أرتضي أن نجعل الفنان؟ وخاصة الشاعر - عبدا لهذه النظرية، والشاعر إذا كان صادقا في التعبير في كل نواحيها، فلا بد من أن يعبر عن آلام المجتمع وآماله دون أن يدفعه أحد إلى هذا، كما أنه من الناحية الأخرى يعبر عن آلامه وأحاسيسه الخاصة التي هي في أعمق أغوارها أحاسيس الأكثرية من أفراد هذا المجتمع "(1) .

وتبقى قصيدة " خطاب إلى زيد " شاذة في هذا الديوان: شاذة بشكلها فأنها على طريقة القصيدة الكلاسيكية، شاذة في موضوعها بالنسبة لباقي القصائد، لأنها تتحدث عن الظلم الذي يمثله مصرع الحسين. وأنا اعتقد أنها قصيدة متكلفة وأنها أيضاً لا تمثل روح السياب، الذي كان؟ في بعض اللحظات - يرى في الحجاج بطلا عربيا،

(1) أساطير: 8.

ص: 138

رغم ما قرأه في كتب التاريخ من أخبار (صحيحة أو مكذوبة) عن عسفه ولهذا فأنه اتخذ في قصيدته طريقة التهويل بالفاجعة والتخزن على الضعاف والصغار العطاش، دون أن توحي قصيدته بمعنى البطولة التي يمثلها الحسين في نفسه. واكبر الظن أنه لم ينظم القصيدة ثم لم يدرجها في ديوان يتحدث كله عن الحب إلا إرضاء لصديقه الأستاذ علي الخاقاني الذي تفضل بطباعة الديوان، وهذه خلة في السياب سنصادفها في غير موضع واحد، فقد كان سريعا إلى الترضية، حتى ليتنازل في سبيلها عن كثير مما يحرص عليه، وتلك ناحية استغلت فيه وأسيء استغلالها في بعض الاحيان، وأصابت بشظاياها قواعد بعض قصائده وغاياتها.

وليس من الطبيعي أن نقارن بين هذه القصيدة؟ وهي طريقة وحدها - وبين قصائده المبنية على الدورات، ولكن الشاعر؟ على وجه الإجمال - يضيق ذرعا بالشعر الجزل الجاري على نسق عال من البيان المشرق، وهو قد أتقن الوحدات الدورية اتقانا رفع درجة الانفعال عن طريق الصورة والعبارة، واصبح في حاجة إلى مزيد من التحليل إذ لا يكفي أن تكون دورات القصيدة دائما وعاء لسكب الانفعال، بل لا بد من نقل خلجات النفس على نحو تأملي دقيق، وذلك هو ما أتاحه له الشكل الجديد، فكان انتقاله إلى هذا الشكل خطوة طبيعية. غير أنك لا تزال تلمح بعض إمارات الضعف القديم في الوحدات الدورية، ولجوءا إلى الاضطرار، وعدم تبلور في الصورة، كما في قوله (1) :

الدرب تحرقه النوافذ والنجوم المستسرة

سكران تدفعه الظلال وتشرب الأوهام خمره

وهذا النماذج من الضعف تجعل الانحياز إلى الشكل الجديد أمرا ضروريا، لأن هذا الشكل يغنيه عن الاضطرار، وعن الحشو لاستكمال

(1) أساطير: 25.

ص: 139

النغمة الموسيقية، وعن التبدد في الصورة المركبة، وهو يمنحه حرية الاختيار، فيرفض ما لا يلتئم مع السياق العفوي، أو ينبو في موضعه عن نقل التيار النفسي.

غير أن هذا كله قد يبدو حين ندرس بعض نماذج الشكل الجديد محض فرض نظري، ذلك لأن السياب لا يزال يثقل هذا الشكل بما تتطلبه الدورة الشعرية من تنغيم كقوله:

في بقايا ناعسات من سكون

في بقايا من سكون

في سكون.

ولا يزال يسترسل وراء كل طاقة من طاقات الانفعال على حدة دون أن يستطيع ضفر تلك الطاقات في سياق داخلي ينتظم حركة القصيدة ويمتد بأمتدادها، فهو مشتت مضطرب، ويعجز عن أن ينقل اضطرابه على نحو منظم، وهو لا يشبع من إثارة ما في الزوايا وعرضه على الناس مفقدا القصيدة قدرتها على الإيحاء الكلي، في ظمأة المتعطش إلى أن يبوح ويبوح؛ وهو ما يزال أسير عرف شعري، يفرض به على نفسه بسط الجو العام أولاً، ووضع القارئ فيه، لأنه لا يزال يحتفل بالمقدمة التي تهيء نفسية قارئه للتلقي، وهذا قد يجوز، بل يكون ضروريا، أحيانا، ولكن إمعان السياب نفسه فيه يجعله نوعا من " الصناعة " المتكفلة التي يترسمها الشاعر خضوعا لنظرة اطارية تقليدية أو تهيبا من إلقاء الخطوط المعبرة دون مشرع تمهيدي مسطح يفترش أرض القصيدة فيبدو كالمنظر الطبيعي الواقعي من خلف صورة تعبيرية أو رمزية.

وكثيرا ما يكون هذا المشرع التمهيدي تحديدا لطبيعة الزمان والمكان والحركة؟ خارج نفس الشاعر - مثل:

ص: 140

في ليالي الخريف الحزين

حين يطغى علي الحنين

؟؟

في المقهى المزدحم النائي في ذات مساء

وعيون تنظر في تعب

في الأوجه والأيدي والأرجل واللهب

والساعة تهزا بالصخب.

؟؟.

الكوكب الوسنان يطفئ ناره خلف الظلال

والجدول الهدار يسبره الظلام

إلا وميضا لا يزال

يطفو ويرسب مثل عين لا تنام.

وعلى النقيض من ذلك استغناؤه عن مثل هذه الفواتح، في مثل قوله، مطلع قصيدة:

والتف حولك ساعداي، ومال جيدك في اشتهاء

كالزهرة الوسنى؟.

وأوضح قصائده تمثيلا لهذا المشرع التمهيدي قصيدته " في السوق القديم " التي أوحت بها تلك الفترة القصيرة في الرمادي؛ فهي تنقل إلينا مزايا الشكل الجديد وعيوبه معا؟ في تلك المرحلة - وتتكون القصيدة من أحد عشر مقطعا، وينحصر الموضوع الرئيسي منها في الأربعة المقاطع الأخيرة (8 - 11) حيث يتحدث الشاعر عن من لقيته وتشبثت به توهمه أنها المنتظرة، منذ عام واحد، وأخذت تلح عليه بأنها هي الحبيبة:

أنا من تريد فأين تمضي فيم تضرب في القفار

ص: 141

مثل الشريد؟ أنا الحبيبة كنت منك على انتظار

وتنبأت له بأنه رغم هذا الحب لن يحقق حلم الشباب (بيتا على التل البعيد) وأوضحت له انها تحبه ولكنها لغيره، وحاول أن يتفلت منها (أنا سوف أمضي فاتركيني؟ دعيني أسلك الدرب البعيد، حتى أراها في انتظاري؟ أنا سوف أمضي) . ولكنه وقف لا يستطيع حراكا وملء عينيه الدموع.

ولا ريب في أن هذا التفلت كان هربا نفسيا طلبا للراحة من الحب، وقوله " سوف ألقاها هناك عند السراب " هو العودة إلى الماضي الذي أصبح ميئوسا منه، والضمير في " ألقاها " قد يشير إلى الحبيبة القديمة، كما قد يشير إلى الأم، إلى الموت، أو الراحة المطلقة، وإلا فلا معنى للهرب من هذه التي طال انتصارها إلى أن أشرقت، " حتى أتت هي والضياء ". ولكن الشاعر بدلا من ان يجعل هذه النواة الهامة محور القصيدة أورد قبلها سبعة مقاطع فتحدث عن منظر السوق العام في الليل، وكيف أنه يثير الذكريات ويشرع على " نافذة تضاء،:

وارتج في حلق الدخان خيال نافذة تضاء

ثم تحدث عن تناثر الأضواء الضئيلة التي كشفت له عن كوب يحلم بالشراب، وعن المناديل الحياري تخفق كأنها تنذر بالوداع وصوت يغمغم " مات. مات " وعن الشموع المعلقة في السوق، وكيف نقلته رؤيته لها إلى تلك الشموع نفسها وهي تضيء المخدع المجهول، ثم يحدث تلك الشموع أن قلبه كان مثلها خفاقا وكان يحلم والأعوام تمر (شراع في أثر شراع) ، يحلم بالصدر والفم والعيون، وكان ينتظر والصيف يحتضن الشتاء، وهو ما يزال واقفا كالمنزل المهجور تعوي في جوانبه الريح:

كالسلم المنهار لا ترقاه في الليل الكئيب

ص: 142

قدم، ولا قدم ستهبطه إذا التمع الصباح

وظل قلبه كذلك " حتى أتت هي والضياء ". ولا ريب في أن استثارة الذكريات أمر طبيعي، والسوق القديم قادرة على ان تبعث هذه الذكريات، إلا أن الشاعر أسرف في نثر الخطوط من حول المنظر، دون تناسب، فالكوب مجتلب في سلسلة الأشياء التي تهمه في الضغط على زر التذكر، والمناديل (مناديل الوداع أو مناديل النائحات) ليست ذات قيمة كبيرة في الصورة، وليس من تناسب بين وقفته عندها ووقفته عند الشموع؛ وليس من ضرورة لسرد الأدوات التي تثير الحلم، فقد طال ذلك الحلم حتى أصبحت اليقظة على الأبواب، وكادت القصيدة أن تتحطم، وكان في مقدور الشاعر أن يستغني عن تعداد مناظر السوق وهو يمشي، وأن يوجز ويثف في سرد تاريخ حبه المخفق، ولكنه عاد وكأنما يتحدث مرة أخرى بالذكريات التي نثرها في قصيدة " أهواء " ذات المنزع التاريخي. ولهذا اضطر أن يوجز ويكثف؟ وحسنا فعل - في قصة المنتظرة المتشبثة ببقائه. أن القصيدة كما ترى ليست خفقة أثارت صورة المنتظرة ثم كان من حديث ومد وجزر بينه وبينها، وإنما هي ثلاث مراحل: منظر السوق وأدواته؟ منظر الشموع وحدها وصلة الشاعر به وسرده لماضيه على مسامعها - منظر اثنين يلتقيان فجأة ويفترقان كذلك رغم التشبث اليائس. والصلة بين هذه الأجزاء الثلاثة نوع من التداعي الحر، وهي صلة واهية، لأنها يمكن أن تظل تثير عناصر جديدة إلى مالا نهاية. لهذا فان الشكل الجديد يجب ألا يخدعها بجدته عما تعانيه القصيدة من استطرادات وانتحاءات، تجعل تماسكها مرتبطا بأضعف الخيوط الشعرية، وهو تلاحم الأوهام. وكل من يتمثل القصيدة من الداخل يستطيع أن يدرك أن الشاعر لم يستطع أن يحلم وهو يمدد ذكرياته كالخشب المستعرض في وسط السوق القديمة كلما رأى منظرا من مناظرها، ولذلك كان حديثه إلى

ص: 143

الشموع يقظة ومقارنة ومقايسة (وهذا يمثل المقاطع 5 - 7) ففي الصلب من القصيدة (بين الرؤية التي تحاول أن تنقلب إلى رؤيا على وقع الأدوات التي تهيج الذكرى وبين الرؤيا التي تمثل الرؤية في العلاقة بينه وبين المنتظرة) وقف الشاعر يحاكم ويعارض وقد فتح عينيه منبهرا على مدى التشابه بين قلبه وبين الشموع. وهكذا لم يكن البناء الحلمي المفضي إلى الوقفة النهائية منسجم الجوانب، وذلك كله ناجم عن ميل الشاعر للتمزق العاطفي والثرثرة التي تشبه اعترافات المريض تحت تأثير المخدر. فالشكل الجديد لم يمنح القصيدة جدة، أي أنه لم يخلق فيها وحدة سوى وحدة السرد، وهي وحدة تحقيقها القصيدة القديمة بكل يسر.

وقد تسأل نفسك لم اختار الشاعر السوق محملا لذكرياته، وليس في السوق ميزة تفردها عن سواها في إثارة الذكرى، فالأدوات التي رآها موجودة في غير السوق، ولكن الحق أن السوق تنفرد بميزة لا تتوفر في سواها: فالمنظر ليلى، والنور تعصره المصابيح الحزانى في شحوب، والسوق قديمة كئيبة، وهي ممتدة أمام البصر، فهي من حيث طابعها العام تثير الكآبة في النفس المغتربة المستوحشة، وهي بامتدادها وخطى العابرين فيها وغمغماتهم تمثل تيار الحياة، والشاعر طاف فوق هذا التيار، بين الجموع ولكنه ليس بينهم، يرى ولا يرى، ويسمع وكأنه لا يسمع، وفي طفوه معنى الحركة والسكون في ان، وهو السائر الواقف، اليقظ الحلم. تلك حالة تهيئها السوق حقا، وقد كان الشاعر واقعي الاستشارة حين جعل منها مفترشا لشعوره بالضياع والإخفاق، ولكنه لم يكن واقعي البناء حين أطال في التذكر والوقوف عند أداة إثر أداة في تلك السوق الكئيبة. وحسبنا هذا القدر من الوقوف عند هذه القصيدة.

وبعد ذلك كله يصلح ديوان " أساطير " ليكون معرضا لبعض

ص: 144

المؤثرات التي أخذت تفعل في توجيه شعر بدر؛ فقد كنا لمحنا في ديوانه الأول تأثره بعلي محمود طه وإدراجه لقطعة من قصيدة إنجليزية في إحدى قصائده، ولكن ديوان أساطير يدل على اتساع في التأثير، وان كان ما يزال تأثيرا خارجيا - نوعا من الإشارة العابرة أو التضمين. فهو يعرف أن لاليوت قصيدة عنوانها " الأرض اليباب (آو الخراب) :

فلتنبت الأرض الخراب على سنا النجم الحزين

صبارها؟.

ويعلق على لفظة الأرض الخراب في الحاشية بقوله " عنوان قصيدة للشاعر الإنجليزي الراجعي ت. س. اليوت "، وقد وظعنا خطا تحت كلمة " الراجعي " لأن السياب بعد سنوات سيعد اليوت اعظم شاعر حديث بالغة الانجليزية، ولكنه يصفه بالرجعية هنا نزولا على ما يتطلبه منه اتجاهه اليساري. ولا ريب في أنه كان قد قرأ شيئا من اليوت، إذ أن قوله في قصيدة " ملال ":

وأكيل بالأقداح ساعاتي

إنما هو الترجمة لقول اليوت: " قد رت حياتي بملاعق القهوة "(1) ، وهذه ظاهرة حقيقية بالتنبه، فان السياب كان يستعير الصور المترجمة ويدرجها في شعره، فيخفى مكانها على القارئ في درج النغم. وهو قد قرأ قصيدة للشاعر الإنجليزي Bridges يستشرف فيها السفن ويتملك الحنين إلى البحر، وما قول السياب في قصيدة القرية الظلماء:

إني سأغفو بعد حين، سوف أحلم في البحر

هاتيك أضواء المرافئ وهي تلمع من بعيد

تلك المرافئ في انتظار

(1) I have measured out my life with coffee spoons.

ص: 145

تتحرق الأضواء فيها مثل أصداء تبيد

سوى صدى لوقفة ذلك الشاعر الإنجليزي وهو يحلم بالسفن والبحار.

كذلك فان قوله في القصيدة نفسها:

والآن تقرع المدينة البرج الوحيد

لا يمكن أن يفهم دون ان يربط الفريد دي موسيه: " دعي ساعة البرج في قصر الدوج تعد عليه لياليه المسئمات واتركينا نعد القبلات على ثغرك؟ " - أقول لا يفهم قول السياب في سياقه دون هذا الربط، لأن السياب يصور نفسه في القرية بعيدا عن المدينة، فقرع ساعة البرج يثير في نفسه ذكريات السعادة التي صورها الفريددي موسيه في البندقية، ولكن سرعان ما يتذكر السياب أن جورج صاند تخلت عن صاحبها وغدرت بعهده، ولذلك يسرع إلى القول:

دعها تحب سواي تقضي في ذراعيه النهار

وتراه في الأحلام يعبس أو يحدث عن هواه

فهو يرسم التناظر بينه وبين دي موسيه، وبين صاحبته وجورج صاند من طرف خفي. وهو يعرف أيضا " كيتس "، ويجد في نفسه صورة منه، لأنه كان يحس أنه سيموت مثله في سن صغيرة ويقتبس قوله في آخر قطعة كتبها (1) :

تمنيت يا كوكب

ثباتا كهذا - أنام

على صدرها في الظلام

وأفنى كما تغرب وقد اختار السياب أسطرا متفرقة متباعد من قصيدة كيتس، وتدل ترجمته على أنه لم يكن دقيقا في فهم الأصل ونقله.

(1) انظر أساطير: 83 وقارنه بقول كيتس في Golden Treasury ص228 - 229.

ص: 146

البحث عن الملحمة

ص: 147

فراغ

ص: 148