الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- 31 -
مذكرات أمس اليوم
هاجر بدر من بغداد وهو مغص النفس من المدينة لأنها أولا حاولت ان تحرق جيكور في نفسه ولأنها ثانيا امتلأت بمناظر دموية مرغبة؛ ولكن جيكور لم تستطع ان تنسيه هاتين الحقيقتين عن المدينة، لأنه وجد " المدينة " تحاول ان تعدو إلى الريف، فتحول مقبرة أم البروم إلى جزء منها؛ لقد عرف أن الأحياء يجلون عن ديارهم، أما امتداد يد المدينة لطرد الموتى من قبورهم فانه شيء غير معهود (1) :
ولكن لم أر الأموات قبل ثراك يجلبها
…
مجون مدينة وغناء راقصة وخمار
…
ولهذا استيقظت في نفسه صورة المدينة التي رسمها من قبل في " مدينة بلا مطر " وما أشبهها من قصائد، فيقول:
مدينتنا منازلها رحى ودروبها نار
…
لها من لحمنا المعروك خبز فهو يكفينا
…
علام تمد للأموات أيديها وتختار
…
وعاد يرى فيها عروق تموز التي قال عنها من قبل (2) :
(1) المعبد الغريق: 25.
(2)
قصيدة " جيكور والمدينة " في أنشودة المطر: 105.
شرايين في كل دار وسجن ومقهى
…
وسجين وبار وفي كل ملهى
…
وفي كل مستشفيات المجانين
…
في كل مبغى لعشتار
…
فهو لذلك يقول في العدوان على أم البروم:
تسلل ظلها الناري من سجن ومستشفى
…
ومن مبغى ومن خمارة؟. من كل ما فيها
…
المدينة حيثما كانت في نظرة واحدة لا تتغير، أنها مبادءة للرذيلة، فهي تستبيح الاعتداء على الموتى:
لتثمر بالرنين من النقود وضجة السفر
…
وقهقهة البغايا والسكارى في ملاهيها
…
وتكاد قصيدة " ام البروم " ان تكون إعادة للمادة التي أوردها السياب في قصائد هاجم فيها المدينة، فهي مثال على عودة الشاعر إلى وسائله المألوفة واستغلاله لها.
وأما نفوره من المدينة لأنها امتلأت بمناظر القتل والحرق والصلب فانه ظل ينبعث في نفسه بين الحين والحين رغم استقراره في جيكور طلبا للطمأنينة. ولهذا عبر عنه في بعض قصائده مثل " المعبد الغريق " و " ابن الشهيد ". وتستوقفنا تلك المقدمة التي كتبها للقصيدة الثانية حين نشرها بمجلة الآداب: " يسرني أن يعود الولد الضال إلى بيته، وان أعود إلى الآداب التي على صفحاتها متنفسي الطبيعي الذي أعاهد نفسي أن يدوم أبدا "(1) . ولكن هذا العهد لم يكن إلا ومضة عابرة،
(1) الآداب (عدد حزيران) 1962 وانظر المعبد الغريق: 125.
إذ سرعان ما وجد نفسه يعلق في شباك حوار ومنظمة حرية الثقافة؟ لحاجته إلى المال -.
ولو كان ثمة مجال للحديث عن تجاوب التوأمين عند ذكر العلاقة بين الإنسان والمكان لقلنا دون تردد ان السياب أحس بزحف المرض وبشبح الموت يسعى نحوه حين رأى الفناء قد أناح بكلكله فوق جيكور، فقد مان هو ولقرية يرتبطان كالتوأمين بمراحل الولادة والصبا والشباب والأكتهال، وحين رأى السياب نفسه في مرآة القرية التي أحبها ندت عنه صرخة تقول:" جيكور شابت "؛ لقد كان يهدف حين عاد إليها ان يعيش؟ كما عاش الطفل القديم - في " ظل النخل "(1) الذي يمتد فيئه " كأهداب طفل "، ولكن الحيرة تملكته إزاء هذه المسافة التي قطعتها جيكوز في الزمن (2) :
جيكور ماذا أنمشي نحن في الزمن
…
أم أنه الماشي
…
ونحن فيه وقوف؟ أين أوله
…
وأين آخره؟ هل مر أطوله؟
…
أم مر أقصره الممتد في الشجن
…
أن جيكور هذه التي تحيره ليست هي التي يريدها ولذلك طالبها بأن ترد إليه أي تعود كما كانت، بل طالبها بأن تعيده إلى الحياة لأنه يرى نفسه يرى نفسه في مآتها ميتا:
ردي إلي الذي ضيعت من عمري
…
أيام لهوي؟. وركضي خلف أفراس
…
(1) المعبد الغريق: 109.
(2)
المعبد الغريق: 110.
تعدو من القصص الريفي والسمر
…
؟..
جيكور لمي عظامي وانفضي كفني
…
من طينه واغسلي بالجدول الجاري
…
قلبي الذي كان شباكا على النار
…
وأراد من جيكور ان تمد إليه افياءها:
أفياء جيكور أهواها
…
كأنها انسرحت من قبرها البالي
…
من قبر أمي التي صارت أضالعها التعبى وعيناها
…
من أرض جيكور ترعاني وأرعاها
…
ولكن يجوز كانت قد تقلصت افياؤها وتغضنت وجناتها " جيكور شابت وولى صباها "(1)، ولهذا عاد يسألها سؤال الحيران:
هل ترى أنت في ذكرياتي دفينه
…
أم ترى أنت قبر لها فابعثيها
…
وابعثيني؛ وهيهات ما للصبا من رجوع
…
أن ماضي قبري وانى قبر ماضي؟. (2)
…
ولم تكن جيكور وحدها هي التي أدركها الخراب، بل قلب جيكور نفسه كان قد توقف عن النبض، وقلب جيكور هو " بيت الجد " الذي فتح بدر فيه عينيه على الدنيا ولذلك رثى هذا البيت مرتين، وكان كأنه ينتحب وهو يصرخ في أولاهما:(3)
(1) المعبد الغريق: 41.
(2)
المعبد الغريق: 143.
(3)
انظر قصيدة " دار حدى " في المعبد الغريق: 45 وما بعدها.
طفولتي صباي أين أين كل ذاك
…
ورأى الفناء يحدق إليه من الحجار كما وجد صنوه في دمه:
أم أنني رأيت في خرابك الفناء
…
محدقا إلي منك، من دمي
…
مكشرا من الحجار؟
…
وسماه في القصيدة الثانية، " منزل الاقنان "(1) ، وهي تسميه غريبة، إذ من المعروف أن القن تعني " من يولد عبدا "، فهل اختار الشاعر هذه التسمية لأن نزعة إقطاعية ساورته في تلك اللحظة أو لأنه كان ينظر في شيء من الاحتقار إلى الإقطاعيين الذي لم تبق منهم بقية سوى جدران بيت خرب؟ ليس هناك جواب حاسم ولكنا نعلم من قصيدة أخرى أن لفظة " قن " ترد في معرض التنقص والتحقير:
ونفسا حدها بين السرير وبين قائمة الحساب كأنها قن
…
من الأقنان (2)
…
ولكنا لا ندري لمن كان يوجهها وهو يتحدث عن بيت جده.
وحين وجد السياب أن الفناء قد عصف برواء جيكور التفت بشدة إلى ذكريات الماضي، وأراد ان يبعثه حيا أو ان يعيد بناء لبناته من جديد، ومما قوى التفاته إلى ذكرياته، وقوعه في براثن المرض، فإن العودة إلى الماضي أصبحت ملجأه من حاضره المعذب بالأسقام، ولهذا انقسم شعره في هذه الفترة في موضعين ذاتيين على الأغلب: الحديث عن آثار الماضي وصوره أو الحديث عن آلام الحاضر، وقد يجمع بين الموضوعين علاقة الشاعر بالموت.
(1) انظر ديوان منزل الاقنان: 82 وما بعدها.
(2)
إقبال: 26.
إن الذين مهدوا للسياب سبيل السفر إلى إحدى الجامعات الإنكليزية ليدرس فيها ويتفرغ لتدوين مذكراته قد غفلوا عن حقيقة هامة: وهي عجز السياب الفاضح عن كتابة مذكرات ذات طابع تاريخي فني متناسق وتدرج محكم؛ إذ لو فعل ذلك لصب مادة شعره كلها على شكل نثري؛ ولهذا اختار هو الشكل الشعري فكتب ثلاثة دواوين وبعض رابع تحدث فيها عن ذكريات الماضي وعن ابرز لحظات الحاضر، وواضح ان جانبا كبيرا من الماضي إنما اعتمد على الحلم وان اكثر الحاضر كان خلوا من الأحداث ومعنى ذلك ان السياب لو حاول ان يكتب مذكراته لجاءت مخفقة بطيئة ضعيفة الحركة وهي انا أن تعتمد التأمل في تجارب الماضي والحاضر، وذلك شيء لا يحسنه، وأما أن تحوي أحداثاً مثيرة (عدا فترة الخصومة مع الشيوعية) وهو لا يملكها. ولهذا أحسن صنعا بمذكراته حين صاغها في قوالب شعرية.
وتكاد كل صور الماضي تستعاد من جديد: فتحيا الأساطير القديمة التي تحكي عن الجنية وسندباد وقمر الزمان وعنتر وتصحو " وفيقة " من هجعتها العميقة ويتراءى للعين شباكها الذي يمثل نافذة الأمل، ويعود خيال ابنة الجلبي وشناشيل شباكها؛ ويلخص الشاعر تاريخ حياته في قصيدة " ليلة في العراق "(1) كما يتحدث عن تاريخ حبيباته السبع وعن مصايرهن في قصيدة " أحبيني "(2) ؛ حتى الراعي القديم ينبعث حيا ليتحدث إلى النهر الذي عرفه في الصبا، وليجدد العهد لهالة (3) ؛ وفي ليلة شتائية كثيرة المطر والثلج بلندن رأى فتاة ذكرته بآخر فتاة احبها قبل زوجته (4) كذلك عاد يستحث تصوراته القديمة عن
(1) الشناشيل: 39.
(2)
الشناشيل: 59.
(3)
انظر قصيدة " يا نهر " في المعبد الغريق: 84 - 88.
(4)
منزل الاقنان: 70.
بودلير الذي أوحى له من قبل بقصيدة " الروح والجسد "(1) ؛ وفي قصيدة " فرار عام 1953 "(2) استعادة لرحلته إلى الكويت وما انتابه من حنين إلى العراق. وقد كشفت هذه الذكريات عن حقيقة هامة هي العلاقة بين الطفولة والمطر وقيمة رمز المطر في حياة السياب. فقد بدأ أن الذي يفتنه من منظر المطر وما يصحبه من برق ورعد إنما هو ما يتكشف عنه الجو الماكر من وجود، وقد ارتبط ذلك الجو في ذهنه بحلمه الكبير، أن يتزوج (أو ان يرى على الأقل) بنت القصر المنيف، وهذا هو الحلم الذي عبر عنه في قصيدة " شناشيل ابنة الجلبي " وقرنه بمنظر المطر:
وأرعدت السماء فطار منها ثمة انفجرا
…
شناشيل ابنة الجلبي
…
ثم تلوح في الأفق
…
ذرى قوس السحاب؟.
…
ولهذا تجاوز منظر المطر دائما إلى ما وراءه، ولعل هذا الإحساس هو الذي كان يسيطر على نفسه وهو يكتب إلى زوجته (3) :
من خلل الضباب والمطر
…
ألمح عينيك تشعان بلا انتهاء
…
فالزوجة هنا؟ من قبيل الشعور بالجميل - قد حلت محل " ابنة الجلبي " وان لم تكن كذلك في مطاوي شعوره.
وقد كان يحس؟ دون تهويل - ان الماضي هو الحقيقة
(1) المعبد الغريق: 115.
(2)
المعبد الغريق: 131.
(3)
منزل الأقنان: 41.
الوحيدة التي تستحق ان تعاش، ولذلك كان يرى صلته بالحاضر نوعا من الكذب والتصنع، فيحتاجه إحساس شامل بالتعب (1) :
تعبت من تصنع الحياة
…
أعيش بالامس، وادعو أمسي الغدا
…
كأنني ممثل من عالم الردى
…
؟..
تعبت " كالطفل " إذا أتعبه بكاه.
…
ولهذا كانت أقوى صور الماضي يقظة في نفسه هي صورة الأم، وكان للمرض أثر كبير في مضاعفة الرابطة وتضخيم الحاجة إليها؛ واتخذ بدر للعودة إلى الام طريقين: إيحائية وعامدة؛ فمن الأساليب التي اتبعها في الطريقة الإيحائية ان جعل أما تفتش في لوعة عن ابنتها التي اختطفها الموت في قصيدة " الأم والطفلة الضائعة "(2) ، وذلك عكس للواقع الذي كان يعانيه، وزيادة في إحساسه بأنه هو الميت على التحقيق وان أمه هي التي تبحث عنه. ومن العبارات الدالة في هذه القصيدة قوله:" مضت عشر سنوات "، فان هذا المقدار من السنوات هو الذي يفصله عن وفيقة:(3)
عشر سنين سرتها إليك، يا ضجيعة تنام
…
ذلك ان الحديث عن وفيقة إنما كان أيضاً حديثا عن أمه بطريقة ايحائية، فوفيقة تجمع في طبيعة حياتها وموتها بين بدر وامه، فهي فتاة من عائلته (وفيقة بنت صالح بن محمد بن السياب) ماتت أمها وتركتها يتيمة، كما حدث لبدر، ثم توفيت في حال وضع وتركت طفلا يتيما. فهي في
(1) المعبد الغريق: 36 - 37.
(2)
المعبد الغريق: 59.
(3)
المعبد الغريق: 73.
شخصها تمثل مشكلة بدر وهي في موتها تمثل الام، وكان هذا التلاقي في المصيبة هو الذي يعطف بدرا إليها، ولهذا نحس ان حديثه عنها وإن حمل ألفاظ الحب، لا يعني إلا " إسقاطا " نفسيا أو نقلا، ولهذا يقول لها " يا اقرب الورى إلي "(1) رغم بعدها العميق عنه، وهو البعد الذي يصوره بقوله:
وأنت في القرار من بحارك العميقة
…
أغوص لا أمسها، تصكني الصخور
…
تقطع العروق في يدي، أستغيث:" آه يا وفيقه "؟
…
وهي نفس عملية الغوص على المحار الضائع حين يتحدث عن طفولته وأمه وعن أحلامه على ضفة بويب.
ولهذا أيضاً كان شباكها الأزرق إحدى نوافذ الرجاء؟ وان كان رجاء شارعا على الموت (2) ؛ وقد استيقظت وفيقة في نفسه على أثر أغنية سمعها لام كلثوم (3)، وكانت هذه الاستفاقة من أشد اليقظات أسى على أن وفيقة تزوجت غيره:
واشرب صوتها فيظل يرسم في خيالي صف أشجار
…
أغازل تحتها عذراء؛ أواها
…
على أيامي الخضراء بعثرها وواراها
…
زواج. ليت لحن العرس كان غناء حفار
…
وليس واضحا أي زواج يعنيه بدر: أهو زواج وفيقة من غيره، أم زواجه هو، وحين نبلغ قوله:
(1) المعبد الغريق: 73.
(2)
انظر قصائده في وفيقة في المعبد الغريق: 5 - 23.
(3)
الشناشيل: 86.
قساة كل من لاقيت: لا زوج ولا ولد
…
ولا خل ولا أب أو أخ فيزيل من همي
…
تعود وفيقة فتتخذ دور " الأم " لأن الأم هي الوحيدة التي كانت كفاء بإزالة همه بين ذلك الصف الطويل من علاقات القربى والصداقة. لهذا فأني لا أرى فصلا بين الحديث عن جيكور وبويب والأم ووفيقة، لانها جميعا ترمز لشيء واحد؛ ذلك أن وفيقة ليست كسائر الحبيبات اللواتي عرضن له في طريق الحياة، وأقربهن إليها؟ رغم التفاوت الكبير - ذات المنديل الأحمر التي كانت تكبره بسبع سنوات.
تلك هي الطريقة الإيحائية التي اتخذها للحديث عن الأم، فأما الطريقة العامدة فأنها تتمثل حينا في استدعاء الام له ليلحق بها (1) :
وتدعو من القبر أمي: " بني احتضني فبر الردى في عروقي
…
فدفء عظامي بما قد كسوت ذراعيك والصدر، واحم الجراح
…
جراحي بقلبك أو مقلتيك ولا تحرفن الخطى عن طريقي "
…
ويكون جوابه على هذا الدعاء:
فيا قبرها افتح ذراعيك؟.
…
أني لآت بلا ضجة، دون آه!
…
ويتصور هذا الاستدعاء في صورة يد ممدودة إليه تحجب إليه الموت (2) :
أوشك أن أعبر في برزخ من جامدات الدماء
…
تمتد نحوي كفها، كف أمي بين أهليها:
…
" لا مال في الموت، ولا فيه داء ".
…
(1) منزل الاقنان: 17.
(2)
منزل الاقنان: 101 - 102.
وأحيانا يتراءى له أن اللقاء بالأم قد تحقق، ولو وهما، فاستراح إلى عطفها وكلماتها الحانية:(1)
ولبست ثيابي في الوهم
…
وسريت: ستلقاني أمي
…
في تلك المقبرة الثكلى؛
…
ستقول: أتقحم الليلا
…
من دون رفيق
…
جوعان؟ أتأكل من زادي
…
خروب المقبرة الصادي
…
والماء نهلا
…
من صدر الأرض؛ ألا ترمي
…
أثوابك؟ والبس من كفني
…
لم يبق على مر الزمن
…
عزريل الحائك إذ يبلى
…
يرفوه. تعال ونم عندي
…
أعددت فراشا في لحدي
…
لك يا أغلى من أشواقي
…
فأمه ترحب بعودته، ولكنها جازعة من الوحشة التي يحسها وهو سائر وحده، ذلك أنه كان منذ مدة قد تخلى عن الموت في الجماعة ولذا اصبح موته الفردي مصدرا للخوف والفزع؛ ومن اجل هذا عادت أمه تأسى لوحدته في ذلك الطريق (2) :
" ويلاه! كيف تعود وحدك، لا دليل ولا رفيق ".
…
(1) الشناشيل: 20 - 21.
(2)
الشناشيل: 27.
فيجيبها معاتبا لأنها اختارت؟ في عهد مبكر - أن تعيش في عالم لا عودة منه:
أماه ليتك لم تغيبي خلف سور من حجار
…
لا باب فيه لكي أدق ةلا نوافذ في الجدار
…
كيف انطلقت على طريق لا يعود السائرون
…
من ظلمة صفراء فيه كأنها غسق البحار
…
وفيما كان في مستشفى الموانئ جاءه نسيم الليل يحمل إليه همسات أمه وهي تقول: " مضى أبد وما لمحتك عيني "(1) فيؤكد لها أنه يعشق الموت لأنها بعض منه:
فما أمشي؛ ولم أهجرك، أني أعشق الموتا
…
لأنك منه بعض؛ أنت ماضي الذي يمض
…
إذا ما اربدت الآفاق في يومي فيهديني
…
ولكنه رغم عشقه للموت كان يؤثر الحياة اكثر، ولذا فهو يطلب إليها أن تأتي وتصنع معجزة:
أيا أمي تعالي والمسي ساقي واشفيني
…
ان عودة الشاعر إلى الأم، هي التي ترسم علاقته بالموت في هذه الفترة، وقد اتضح أنه لم يعد " انتصاراً " وإنما راحة من العناء في أحضان الأم. وقد تتم هذه الراحة في هدوء الاستسلام، كما قد تجيء عاقبة للضجر من المرض الممض؛ فلو كانت الدرب إلى االقبر في أقصى أركان الدنيا لسعى إليه (2) :
(1) الشناشيل: 94.
(2)
إقبال: 29.
لسعيت إليه على رأسي أو هدبي أو ظهري
…
وشققت إلى سقر دربي، ودحوت الأبواب السودا
…
وصرخت بوجه موكلها
…
لم تترك بابك مسدودا؟
…
ولكنه حين يتصور أنه لم يكتب كل ما في نفسه يتمنى لو يتمهل الموت قليلا حتى يتم رسالته الفنية (1) :
فدونك يا خيال مدى وآفاق وألف سماء
…
وفجر من نجومك، من ملايين الشموس، من الأضواء
…
وأشعل في دمي وزلزال
…
لأكتب قبل موتي (أو جنوني أو ضمور يدي من الإعياء)
…
خوالج كل نفسي، ذكرياتي، كل أحلامي
…
وأوهامي
…
وأسفح نفسي الثكلى على الورق
…
ليقرأها شقي بعد أعوام وأعوام
…
ليعلم أن أسقى منه عاش بهذه الدنيا
…
وآلى رغم وحش الداء والآلام والأرق
…
شطرورغم الفقر أن يحيا.
…
وكان على وعي دقيق بأن الشعر هو طريقه للبقاء (2) :
فيكتب القصيدة يريد أن يجدد البقاء، أن يعيده
…
ولكن كل ما حوله كان محاطا بالموت، حتى الشعر نفسه، ومن ثم
…
(1) إقبال: 40.
(2)
منزل الاقنان: 110.
لم تبق إلى تبق إلى جانب الموت حقيقة أخرى، فهو القوة السارية في كل مظهر من مظاهر الحياة، وعند هذا الحد يكون تموز رمز الحياة والخصب قد احتجب عن ناظريه وحل محله " مناة "، - أو المنية - ولذلك جاءه صوت الموت يفيض بهذا الجبروت المطلق (1) :
" تهدم حائط الأجيال
…
وكاد يغور إذ لمسته كفي؛ ألف نوح زال
…
وألف زليخة صيرت كحل عيونها ظلمة
…
أنا الباقي بقاء الله اكتب باسمه الآجال
…
وما لسواه عند مطارق الآجال من حرمه "
…
هنا في كل موت ألف موت، كان في الضمه
…
وفي القبلات، في الأقداح
…
تدور الاسطوانة وهو فيها لمعة الضوء
…
يوسوس في تهدج صوتها فيخادع الأرواح
…
ويلمس جبهة الملاح في النوء.
…
ورغم أن لحظات الواقع كانت تمرسا عمليا بزحف الموت، فإن تنقله رجاء الاستشفاء فتح طريقا جديدا إلى الذكريات، وفي تردده بين روما وبيروت ولندن وباريس والكويت كان الحنين يعصف به تلك الذكريات، وكانت العودة دائما أملأ عذبا، لأن كل سفرة كانت تعجله يظن أن الماضي قد فر إلى رجعة وأسلمه إلى آلام الحاضر. ولعل من التذكر النموذجي أن تخطر بباله مقابر " الأطفال " في حمى أمهم العظمى وهو بعيد في بيروت:
ذكرت مقابر الأطفال
…
(1) المعبد الغريق: 151 - 152.
تلوذ بكل سفح، نام فيها دون أثداء
…
ولا قمط، صغار من حصاد الجوع والداء
…
لقد رضعوا من الثدي الذي لم تبله الأجيال
…
وناموا في حمى الأم التي لا يستوي الأطفال
…
ولا الأشياء إلا في حماها، في حمى ترب وظلماء
…
وحين سئل السياب ذات مرة " ما هو أحسن ما تعتز به من شعرك " قرأ على مسامع سائله هذه الأبيات نفسها (1) وسر ذلك أن السؤال وجه إليه وهو يقترب من الموت ومن حمى الأم العظمى، وأن الأبيات تعبر عن رغبة الطفل المستقر في نفسه في موت مريح، فللأطفال في شعره مكانه لا تزاحم، ومن أجل هؤلاء الأطفال كان يتصور أنه ثار مع الثائرين على الظلم والاستعباد، ومن أجلهم انضم إلى الحزب الشيوعي حتى أنكر على نفسه أن يسخر شعره لحديث الحب وجمال الطبيعة بينما الأطفال جائعون (2) :
كيف يجوع آلاف من الطفال ملتفه
…
بآلاف الخروق تعربد الريح الشتائية
…
بها، وأظل أحلم بالهوى والشط والقمر؟!
…
من هنا بدأت رسالته الإنسانية، وحين تذكر " مقابر الأطفال " كان ما يزال يتشبث بخيوط واهية تبقت من تلك الرسالة، لأن الكفاح في سبيل أولئك الأطفال لم يعد يقدر عليه رجل كسيح. ولكن من يقرأ شعر السياب سيلحظ فيه ذلك الحب العنيف لكل مظاهر الطفولة، وهو حب لم يتغير لحظة ولا اعتراه أي وهن.
(1) انظر صحيفة العلم المغربية (جمادى الأولى 1386، 2 سبتمبر 1966 العدد 5958) .
(2)
الشناشيل: 41.
واشتملت مذكراته على تقييد كل دقائق الحاضر: من الأمل بالشفاء وحب العودة، والتشوق إلى الزوجة والأبناء، وصورة الزوجة وهي تؤمل عودته، ومن تطور المرض، وفعل التجارب والأدوية الطبية في جسمه، وتصوره للأحتضار، وكتابته وصيته وعنايته بكتابة شاهد على قبره، وقلقه وسخطه وثورته وعجزه وتردد نفسه بين الثورة والعجز، والإحساس بالوحدة والنفي وعشرات أخرى من الأحوال التي يعانيها مريض مقيد إلى سرير؛ ذلك هو عالمه من التجربة، ولذلك فانه استغل مادة ذلك العالم حين شاء أن يظل يتغنى أو ينوح ليسمع صوت نفسه. ومن الطبيعي ان يكون جو قصائده هو جو " الغرفة المغلقة " وما يدور فيها من هواجس، ولهذا انتلأت قصائده؟ وخاصة فواتحها - بمثل:" الغرفة موصدة الباب " و " الباب ما قرعته غير الريح " و " كما ينسل نور خائف من فرجة الباب " و " فنور غرفتي إيماض برق؟ " و " خلا البيت؟ " و " أوصدي الباب " و " يا غربة الروح في دنيا من الحجر " و " كمستوحد أعزل في الشتاء " و " سهرت فكل شيء ساهر " و " من مرضي، من سرير الأبيض "؟ وهلم جرا مما هو علاج للوحدة والوحشة والسهر في غرفة مغلقة تعج فيها الهواجس وتتموج وتتضارب كيف شاءت. وحين تتصور انحباس إنسان كان طليقا في غرفة نائية لا يؤنس فيها وحدته أحد، نتذكر على التو ان صور الضياع كانت تتراءى لعينيه على شكل صروح مفقودة، لا حجرة صغيرة مغلقة، كمعبد شيني وارم ذات العماد وذلك هو الفرق بين أحلامه وواقعه؛ وقد ظل يتشبث بالصرح المائل للخراب وهو يتحدث عن انهياره الذاتي، فليس الذي يتراءى له ظلا يغيب وإنما مبان ضخمة تتهدم، وصوت الموت فيها هو رنين معول حجري ثقيل (1) :
(1) إقبال: 39.
رنين المعول احجري في المرتج من نبضي
…
يدمر في خيالي صورة الأرض
…
يهدم برج بابل، يقلع الأبواب، يخلع كل آجره؟
…
وهذا لا يعد اعتدادا بالنفس ما هو ميل طبيعي لديه إلى تضخيم الصور، فالحقيقة اكبر من ان تقاوم، وحين يغبط المرء الدودة على عيشها يكون قد استكان للحقيقة المرعبة (1) :
الدودة العمياء يلسعها
…
برد يقلصها ويطويها
أواه لو ترضى تبادلني
…
عيشي بعيش كاد يفنيها وهذه الحقيقة التي تجعل " الرجلين ريحا تجوب القفار "(2) هي التي جعلته حتى في الماضي كسيحا تمشي إليه الحقول بدل أن يمشي إليها (3) :
إلى أن تسير الحقول
…
إلينا فنقطف منها الثمر
…
ومن قبل عرضنا للسياب السائر؟ الواقف الذي قيدته أحزان الحي في العصر الرومنطيقي فهو يهم بالسير ولا يستطيع.
بقي ان نقول شيئا في الطبيعة العامة لقصائد هذه الفترة، وهي أغزر الفترات شعرا إذا نظرنا إلى عدد القصائد، ولكن نطاق التجربة فيها محدود، ومن هنا تعرضت للتكرار في الموضوعات، كما جاءت دون تنقيح، لأنها كتبت وطأة المرض، وقد تخلص السياب فيها من المؤثرات الثقافية لأنه كان مشغولا بحاله عن الدرس والمراجعة، وقل
(1) إقبال: 56.
(2)
المعبد الغريق: 124.
(3)
المعبد الغريق: 90.
فيها الحرص على مبنى فني مركب، لأن أكثرها انفجر مع انفجار اللحظات العاطفية المترجحة بين التفاؤل واليأس، فهي تتدفق مع سورة العاطفة وتقف بتوقفها في اللحظة المعينة، وقد حاول الشاعر في بعضها التلاعب بالوزن، وأبرز مثل على ذلك قصيدة " جيكور أمي "(1) حيث يتعاقب وزن الخفيف والرمل والرجز وهي من اشد القصائد إخفاقا، وتعد نوعا من العبث أو التجربة العابئة في نطاق الإيقاع الشعري. وكثير من قصائد هذه الفترة اشد حرصا على نوع من التوازن في القافية من سائر شعره، وبعضها مزيج لا تعرف له سببا بين تفعيلات متساوية في الشطرين وأخرى متفاوتة. والحقيقة الباهرة في هذه القصائد ليست في موضوعها ولا صورها ولا تنوعها وإنما هي في عدم سأم الشاعر من التدفق بها. ولعل من المفيد أن نستأنس هنا برأيه في اشعر عامة، وفي قصائد هذه الفترة خاصة، فأما نظرته إلى القصيدة من حيث هي عمل فني فيتمثل في قوله (2) :
وهكذا الشاعر حين يكتب القصيدة
…
فلا يراها بالخلود تنبض
…
سيهدم الذي بنى، يقوض
…
أحجارها ثم يمل الصمت والسكونا
…
وحين تأتي فكرة جديدة
…
يسحبها مثل دثار يحجب العيونا
…
فلا ترى. إن شاء أن يكونا
…
فليهدم الماضي فالأشياء ليس تنهض
…
إلا على رمادها المحترق
…
(1) الشناشيل: 77.
(2)
منزل الاقنان: 127.
منتثرا في الأفق
…
وتولد القصيدة
…
ولكن السياب في هذه الفترة خالف هذه الوصية لأنه لم يكن يهدم ما يبني، ولم يكن لديه أفكار جديدة تنهض على رماد ما قد يهدمه ويحرقه، ولذلك أحس بأنه لم يعد الشاعر الذي كان، ولم تعد قصائده كما كانت (1) :
هي حشرجات الروح اكتبها قصائد لا أفيد
…
منها سوى الهزء المرير على ملامح قارئيها
…
وأحس من اجل ذلك ان المغني قد هرم، وانه لا يطلب من الناس شيئا سوى ان يسمعوه، مجاملين:
هو مائت أفتبخلون
…
عليه حتى بالحطام من الازاهر والغصون
…
أتراه كان يلمح هذا الإرهاق الذي أصاب نفسه وشعره حين أجاب مراسل صحيفة العمل التونسية عن المفاضلة بين نهضة الشعر في العصر العباسي والنهضة الحديثة، بقوله:" الشعر العربي الماضي أحسن. ما زالت الأمة العربية لم تنجب شاعرا يضاهي المتنبي أو أبا نمام أو طرفة وغيرهم؛ وزمان الشعر قد انقضى فالعصر ليس متهيئا الا للشاعر الكبير جدا حتى يعبر عن العصر "(2) .
كلمة تصلح ختاما لجهاد طويل في تاريخ التجربة الشعرية، ولكنها أشبه بحكمة يقولها شاعر؟ طالما أحس بعظمة ما أداه - لإخوانه أصحاب الاتجاه الحديث في الشعر. غير ان بدرا نسي ان " الشاعر
(1) منزل الاقنان: 130.
(2)
نقلته العلم المغربية عن الصحيفة التونسية (العدد: 1958) .
الكبير جدا " في كل عصر هو المعبر الوحيد بين الشعراء عن قضايا الإنسان في عصره، بطريقة فنية يتجاوز بها عصره، فينتصر بجدتها على الدثور وبتجددها على النسيان.