الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- 18 -
انفصام الرابطة الحزبية
لقصيدتي " غريب على الخليج " و " أنشودة المطر " دلالة أخرى سوى دلالتهما على المرحلة الفنية التي كان الشاعر قد بلغها، فقد صورتا إحساسه الذاتي بغربة قاسية فريدة، وعذابه الأليم في تلك التجربة الكويتية الايرانية، وحين أخذ يتأمل في طبيعة تلك الغربة وذلك العذاب ازداد إحساسه بالعراق؟ عراق الطفولة وعراق البؤس والجوع، واقترن الاثنان في نفسه اقترانا شعوريا وفنيا لم يتحقق من قبل على هذا النحو. لم يقفز إحساسه حينئذ إلى رؤية البؤس الانساني؛ لم يفكر في أطفال الزنوج أو في عمال مرسيليا، أو في الكادحين في كل مكان من الكرة الأرضية؛ ذابت تلك الخفقة التي عبرت عنها قصيدة " الأسلحة " والأطفال " ليحل محلها شعور مستبد طاغ بالطبيعة العراقية والذكريات العراقية ومطر العراق وعمال العراق وفلاحي العراق وجوع العراق؟ وكبرت صورة العراق في نفسه حتى طردت كل صورة أخرى، أي كبر الاحساس بالوطن وبالرابطة الوطنية القومية، دون سواها من الروابط الأخرى، وكانت قصيدة " المومس العمياء " مقدمة طبيعية لهاتين القصيدتين، لأنها جعلت تلك المرأة عربية عراقية مستباحة الجسم والنفس؛ وكانت التجربة المريرة مع حزب توده هي النافذة التي انفتحت لاستقبال ريح تلك الاحاسيس؛ انه؟ حسب تجربة السياب - حزب
أممي من حيث المبادئ ولكنه يتغنى بالأمجاد القومية والماضي القومي والتاريخ القومي، ويتعصب للغته وتراب أرضه عصبية قد تجوز على المشاعر القومية عند الآخرين كما قد تتنافى مع المبادئ التي اتخذها له شعارا. لماذا لا يحق للسياب أن يتعصب لوطنه وقوميته على هذا النحو؟ ألأن الحزب الشيوعي العراقي الذي ينتمي إليه يمثل الأقليات؟ ثم ماهو التعويض الذي يرجوه الغريب عن التعاسة والبؤس في ديار الغربة؟ انه بحاجة إلى صدر الأم، إلى صدر الوطن الجميل العطوف، وحين أتحدث صورة الأم وصورة الوطن كان السياب يقترب من العراق قربا مساويا لبعده عن الأممية. كانت الأممية وثبة في فضاء مجهول لا تتلاءم وطبيعة الطفل الذي يرى الحياة قبرا ونخلة على ضفة " بويب " ولا تنسجم وطبيعة اليافع الذي يحلم بالحبيبة؟ الام، ولا تتواءم ومشاعر المراهق الذي يعانق الحب والموت في آن، ولا تتمشى واحساسات الشاب الذي يحب كل فن جميل ولو كان صاحبه خائنا لكفاح الطبقات الكادحة. وعاش الشاب منقسم النفس: لأن الكفاح الجماهيري كان قد أصبح؟ منذ سنوات - قدرا لا يستطيع التراجع عنه، ولأن الفردية الصارخة كانت ما تزال تشده إلى أحلام الحب والموت، وحين تزوجت هذه الفردية الوطن، واتحدت به اتحاد التطابق، استراح الشاعر إلى وضع جديد، وإذا هو يحس - ألم أو تأنيب نفسي؟ ان رابطته بالأمية قد انفصمت في يسر، وانحلت العقدة حين تباعد طرفاها عفوا دون أن تحتاج إلى إرادة لتقطعها قطعا.
ليس معنى هذا أن الأممية تنكر الشعور المخلص الصادق في خدمة الوطن والتضحية من أجله. ولكني هنا أتحدث عن وضع محدد، وعن أحاسيس مرهونة بظروفها. ومن تتبع الصفحات السابقة من هذه الدراسة استطاع ان يجمع عددا كبيرا من الأسباب الكبيرة والصغيرة التي أدت بالسياب إلى الانفصال عن الحزب الشيوعي العراقي، وكل ما
أريد أن أقوله هنا هو ان تلك الأسباب المجتمعة وضلت بفعلها وتأثيرها إلى اللحظة الحرجة
حين كان السياب يعاني تجربة غربة مريرة، ساعتئذ أحس؟ بطريقة عفوية؟ إن الوطن أحق با بستقطاب مشاعره، بل هو قد استقطب حقا مشاعره جميعا على نحو من الحنين والتصور الرومنطيقي:
الشمس اجمل في بلادي من سواها، والظلام
حتى الظلام؟ هناك اجمل فهو يحتضن العراق
واحسرتاه متى أنام
فأحس أن على الوسادة
من ليلك الصيفي طلا فيه عطرك يا عراق (1)
وكان هذا الشعور ينسجم مع طبيعة طفولته وذكرياته، لآن المسافة بينها وبين فرديته أصغر بكثير من المسافات بين تلك الفردية والنزعة الإنسانية الكبرى. ساعتئذ أحس؟ مخطئا أو صيبا - أن الوطنية بمعناها القومي تصلح بديلا عن تلك النزعة الإنسانية العامة، فنانق الاتجاه الجديد، دون ان يعلن لأحد ان صلته بالحزب قد ماتت؟ هكذا في يسر - من غير ان تعاني شيئا من سكرات الموت، أو شيع بالبكاء والعويل. تلك حقيقة لا تغير منها العوامل الأخرى التي طرأت بعد العودة إلى العراق، وإنما تزويدنا اطمئنانا إليها:
عاد السياب إلى بغداد فوظف في مديرية الأموال المستوردة بوساطة من صديقه عبد الرزاق الشيخلي، وعاد دولب الحياة يجري كما كان يجري من قبل. إلا أن العراق الذي كان يتراءى له في الغربة لم يكن كذلك: كلما اقترب المرء من دنيا الحقيقة ذابت من حولها
(1) ديوان أنشودة المطر: 14.
أنسجة الأوهام؛ ولكن؟ مهما يكن من شيء - فان القروش القليلة في بغداد وبين الصحاب أجمل كثيرا من غسل الصحون وتنظيف الغرف وترتيب الأسرة في الكويت.
وأكبر شيء تلقاه السياب الضربة المفاجئة انه وجد رفاقه اليساريين قد تناسوا مواقفه في المظاهرات وقصائده المثيرة للجماهير، وأحس أن الغربة قد جعلت ألوان كفاحه تميل إلى الشحوب، بينا أخذ يلمع في الاتجاه اليساري اسم شاعر آخر، هو عبد الوهاب البياتي، فلم يغفر السياب لليساريين ما عده تنكرا لفنه في سبيل اليسار، ولم يغفر للبياتي هذه الجرأة التي منحته الشهرة دونه، ولم يغفر للزمن ذنبه في أن أتاح للبياتي تلك الفرصة؛ وأخذت النار تقترب من الفتيل المشبع بالبنزين؟ الفتيل الدقيق الذي يربط بين السياب واليساريين.
وأخذ السياب يعرض ما كتبه أثناء اغترابه على الرفاق، فأعجبتهم الروح العامة في قصيدة " الأسلحة والأطفال " ولكنهم أبدوا شيئا من التردد في قبول " المومس العمياء "، بل ذهبوا إلى ما هو أبعد في فرض رأيهم عليه حين أمروه؟ على حسب تعبيره - بأن ينشر القصيدة الأولى قبل الثانية (1) . وبدأت المحاكمات والمكايدات الصغيرة تكشف عما قد اختمر في نفسه، وكانت الظروف معينة على تطوير تلك المكايدات. فقد نصحه بعض أصدقائه بأن يثبت وجوده في الميدان لئلا ينساه الناس، وأن يطلب الشهرة خارج حدود العراق، ذلك لأن ما ينشر في العراق ربما يتجاوز حدوده في كثير من الأحيان، وتلفت السياب حوله فرأى ان مجلة الآداب خير ما يكفل لشعره الذيوع والشهرة، فأرسل إلى المجلة قصيدة بعنوان " يوم الطغاة الأخير " وكتب تحت العنوان:" أغنية ثائر عربي من تونس لرفيقته "، وليس في القصيدة
(1) الحرية: 1443.
أية دلالة على تونس أو على أي مميزات خاصة تجعل الثائر عربيا، ولكن السياب كان يعلم أنه يتقدم إلى مجلة الآداب أول مرة، وأن للمجلة طابعا خاصا ونزعة معينة تحرص عليهما، فكان إهداء القصيدة تقربا إلى المجلة وقرائها.
ويقول السياب: " وثارت ثائرة الشيوعيين لهذا الإهداء "(1) ولا يستطيع المرء الذي لم يلابس طبيعة تلك المماحكات والمكايدات عن كثب أن يجد أية علة مقبولة للغضب من تلك العبارة، فالثائر حين يثور لا يتخلى عن انتمائه، اللهم الا أن يكون بعض الناقمين على ذلك الإهداء كانوا يرفضون ان يعدوا التونسي عربيا. وأيا كانت الأسباب فان السياب مضى في المكايدات شوطا آخر، ليوجد لنفسه عذرا في الانفصال مستمدا من أحداث الواقع لا من الأحاسيس النفسية الدخيلة. فنشر قطعا من قصيدة " المومس العمياء " في مجلة الأسبوع العربي التي كان يصدرها خالص عزمي (2) ، ومنها تلك القطعة التي تتحدث عن أن " بطلة " قصيدته عربية النسب، فلما قرأها بعض الرفاق (وأكثرهم من اصل إيراني) هنأوه عليها (3) لأنه غمز من قناة العرب وأسطورة العرض والشرف الرفيع؛ وكان السياب؟ في حقيقة الأمر - قد جعل ذلك المقطع من قصيدته للغاية التي أدركها الرفاق فيه، فأحس في سرورهم أنه يكاد ولا يكيد، وأنه قد عرض قومه للشماتة، فأحب أن يرد الصاع بمثله، فلما نشر القصيدة كاملة في كراسة مستقلة، كتب تعليقا على ذلك المقطع يقول فيه: " ضاع مفهوم القومية عندنا بين الشعوبيين والشوفينيين، يجب أن تكون القومية شعبية والشعبية قومية؟. أفليس عارا علينا نحن العرب أن تكون بناتنا بغايا يضاجعن الناس من
(1) المصدر السابق.
(2)
العبطة: 14.
(3)
الحرية: 1443.
كل جنس ولون؟ " (1) وكان واضحا ان هذا التعليق توجبه جديد لمحتوى ذلك المقطع من القصيدة وانه أيضاً مماحكة سافرة؛ وقابلة جماعة من الرقاق وقالوا له: ما الضرر في أن يضاجع المومس العربية أي امرئ كان ما دامت هي قد رضيت أن تكون بغيا؟ ورد السياب بأنه لا يستنكر مضاجعة البغي وإنما يستنكر أن تتجه امرأة عربية إلى احتراف البغاء، وهذا موضوع يهم العرب، وعلى الشاعر أن يضرب على الأوتار الحساسة في نفوس قرائه (2) . ولكن التصريح بالشعوبية كان يعني غمزا من نوع جديد، وكان السياب يدرك كما كان الرفاق يدركون أن الأمر خرج إلى حيز قلب المبادئ أو الثورة عليها وإلا فكيف تصبح القومية شعبية والشعبية قومية؟ ان كان لهذا الكلام معنى؟
واشتدت المهاترات، وارتفعت حدة الاتهامات المتبادلة، في المجلس العامة والخاصة عن طريق الأحاديث؟ دوم أن يلجأ أحد الطرفين إلى إدانة الآخر كتابة؛ وكان ذلك يعني أن السياب قد تخلى عن انتمائه الحزبي، وحين أراد الرفاق ان يعلنوا تخليهم هم أيضاً عنه قاطعوا قصيدته " المومس العمياء " بل تلقوا قصيدة " الأسلحة والأطفال " حين نشرت بفتور شديد؛ إلا أن الكثيرين سهم ظلوا على علاقة طيبة به، رغم ما يدور في مجالسهم من منازعات جدلية حادة. وفي تلك الفترة تحول محيي الدين إسماعيل؟ وكان مثله قد تخلى عن انتمائه الحزبي - من " مجرد واحد من معارفه " إلى صديق حميم من أصدقائه، وأخذ الصديقان يعيدان النظر في كثير من المسائل التي تلقياها من قبل بالتسليم ويطرحانها للمناقشة (3) . ويصور الأستاذ العبطة تلك الفترة من حياة بدر بقوله: " وكانت جلساتنا في الأماسي ما بين 1954 - 1955
(1) المومس العمياء: 31.
(2)
الحرية: 1443.
(3)
الحرية: من مقال بعنوان " خاتمة المطاف ".
في مقهى الفرات في أول شارع الأمين يحضرها كاظم جواد وعبد الصاحب ياسين ورشيد ياسين ومحيي الدين إسماعيل، وفي هذه الأماسي التي قد تطول إلى آخر الليل في المقهى أو تتحول إلى الحانات الرخيصة المنثورة في شارع الأمين آنذاك. في هذه الأماسي تتجلى لنا طبيعة السياب في حالتي الانبساط والغضب، وقد يهم القارئ ان يعرف شغف السياب بالنكتة وترتيب المقالب على أصدقائه وأحبابه. وللتاريخ نشير إلى المخانقات التاريخية بينه وبين كاظم جواد أو بينه وبين رشيد ياسين التي قد تصل إلى الشتم إلى التثاقل السياب من عبد الوهاب البياتي في هذه الفترة بالذات " (1) .
ان لفظة " تثاقل " تعد نوعا من التلطف في التعبير عن معركة قلمية ضارية دارت بين السياب ومؤيديه من ناحية والبياتي ومؤيديه من ناحية أخرى، وكانت في حقيقة الأمر نقلا للنزاع السياسي العقائدي إلى صعيد أدبي، إذ كان العراك على موضوعات والأشكال الأدبية مما لا يشتثير ريبة القائمين على توجيه الحياة السياسية. ولا ريب في أن عوامل فردية خاصة لعبت دورها في اشتداد الخلافات، فقد كان السياب يحس أن البياتي قد انتزع مكانته الشعرية بين اليساريين أثناء غياب السياب في الكويت وإيران، وكان البياتي على أهبة إصدار ديوان من الشعر هو الذي سماه من بعد " أباريق مهشمة "، بينما يجد السياب صعوبة في العثور على من ينشر له " الأسلحة والأطفال " في كراسة، ومروجو القالة الذين تهزهم بالمتعة النفسية مناظر التهارش يذهبون ويجيئون بما يملأ النفوس من بارود الضغينة، وللأدباء الشبان حدة في التنافس ينسون معها كثرا من فضائل الحلم أو التجلد أو المجاملة أو الأناة. وقديما قال ابن الرومي: " لو كان المشتري حدثا لكان
(1) العبطة: 13 - 14.
عجولا "، والعجلة أخت الحدة أو ظئرها الرءوم. ولدى الأدباء في العالم العربي إحساس خاص بجمال المعارك الأدبية، لأنها أسواق للشهرة والإعلان والمنافرة، وهي؟ في نظرهم - دلالة على الحيوية وسبيل إلى إثارة النظارة للمشاركة، ولهذا وقف السياب وكاظم جواد ومحيي الدين إسماعيل صفا واحدا ضد البياتي وعبد الملك نوري ومن التف حولهما من الأنصار والمعجبين.
وتجاوزت المعركة حدود العراق، دون أن يكون هناك قدرة على الفصل في مجال الخصومة بين الضغائن الذاتية والمقاييس الفنية، وكان نقلها ذلك يعني ارتفاع الجلبة والتخاصم حول أشياء مختلفة تمتد من أصغر الأمور حتى كبريات المسائل النقدية والفنية، ولكن دون أن تتفاوت نسبة الغيرة والحمية بتفاوت الموضوعات، وذلك أدعى لاسترعاء الإسماع والأنظار، وأقدر على تنبيه الناس في داخل العراق وخارجه إلى هدير الحركة الأدبية فيه، ولم يكن هناك انقسام على أصول أدبية مذهبية، وإنما هي مقاييس عامة حينا أو شديدة الخصوص حينا آخر، ولهذا لم ترسم تلك الخصومة خطأ فاصلا بين مدرستين أدبيتين، ولا حققت نتيجة سوى جراح في النفوس؛ ومن الطريف أن تلك المعارك كانت؟ دون أن تعلن عن ذلك - ترفع شعارا قبليا قديما يقول: أنا وأخي ضد ابن عمي وأنا وابن عمي ضد الغريب، فالسياب مثلا وكاظم جواد يقفان ضد البياتي، ما دام البياتي خصما مشتركا، ولكن سرعان ما يدب الخلاف بين السياب وجواد لتبايننظريتيهما في تفسير قصيدة أو بيت واحد من قصيدة (1) .
(1) انظر الآداب عدد حزيران وتموز 1954.