المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

- 6 - ‌ ‌الهوى البكر ربما كانت الرحلة القصيرة التي اجتاز بها - بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره

[إحسان عباس]

الفصل: - 6 - ‌ ‌الهوى البكر ربما كانت الرحلة القصيرة التي اجتاز بها

- 6 -

‌الهوى البكر

ربما كانت الرحلة القصيرة التي اجتاز بها السياب شط العرب أول تمرس عملي بالطبيعة يتجاوز حد النظر والتأمل إلى المغامرة والسير في المجهول ومعاناة الاعتماد على النفس في استطلاع جانب من الطبيعة قد يكون شيئا مختلفا عن الظلال الساجية والتعاشيب الخضيرة وتدلي القطوف. ولكن ماذا كان رد الفعل المباشر لتلك المغامرة الصغيرة؟ لم يكن شيئا سوى تمثل الموت، إلا أن الشاعر خشي ان يسترسل في هذه الناحية وهو يتحدث عنها إلى صديقه وبتر الحديث قبل تمامه. وحقيق به أن يفعل ذلك، لا لان هذا النوع من الاعتراف قد يثير الضحك من المغالاة حين يقرن المرء بين ضآلة المغامرة وضخامة التصور وحسب، بل لأن الشاعر كان يقضي صيفا مليئا بالعافية والحيوية والنشاط، صيفا لا تعكر صفوه ذكريات بغداد ولا ضياع الحب الريفي، وإنما يستمد وقدة لكيفة اللهب من الحنين الداخلي العميق، صيفا يتغلب فيه الوعي الخارجي على كل رواسب الباطن، وتسيطر فيه الحركة العقلية على أي جيشان عاطفي. ولهذا وجدنا أن قصيدتيه في ذات المنديل الأحمر صدرتا باهتتين حافلتين بوعي يجعلهما لوحتين ضعيفتي النبض بالحياة. وكان بدر لو يدرك أبعاد حالة النفسية جديرا بالراحة، والعزوف مؤقتا عن قول الشعر، ولكنه كان يخشى جفوة الإلهام

ص: 70

- ولو إلى حين - وكان هذا الشعور يدفعه إلى الإكثار من النظم بدلا من التوقف عنه. وها هو يتوسل إلى خالد في رجاء من يستمد الثقة: " ألا تنقذ هذه القصيدة (التي سأكتبها لك) ؟ لقد مزقت أربع قصائد تبلها، ونويت أن أمزقها ولكني تذكرت نصائحك لي، فأبقيت عليها "(1) . وفي الرسالة نفسها: " بودي لو اكتب لك قصيدة أخرى.. فان عندي الآن قصيدتين: إحداهما " إلى العذراء المدنسة " كاملة وعدتها 25 بيتا، والثانية " الحب والشعر والطبيعة " وهي على وشك ان تكمل ". ثم في رسالة أخرى: " سأهمل قصيدة (إلى العذراء المدنسة) وان لم أمزقها؟ وعندي الآن قصيدة كاملة عنوانها (المحبوبة المدنسة) وقصيدة لم افرغ منها بعد عنوانها (العش المهجور) "(2) ؛ هكذا كان يكتب القصائد دون توقف، ولكنه مزق أربعا وأهمل خامسة، مما يدل على انه يقتسر الشعر، وكان حاد الإدراك بما يصلح للبقاء، ولهذا حذف جميع قصائد ذلك الصيف من بعد. على أنه لن يفوتنا أن نلمح؟ على وجه السرعة - كيف يلح معنى " الدنس " عليه، وان لم يكن؟ فيما أقدر - شيئا يتجاوز معنى الحب الذي داخله الشك، في لحظة ما، ولعله كان سببا؟ أو محاولة - لتهوين الأعراض الذي لقيه في دار المعلمين.

وكانت القراءة؟ بعد كتابة الشعر - هي المنحى الثاني من مناحي نشاطه؛ والحق ان لشواهد تشير إلى أن ثقافته أخذت تتسع وتؤثر في تفكيره ومقارناته، فهو يعرف ابن الرومي أو على الأقل يعرف من قصائده ما يعجبه وخاصة قصيدته في رثاء " بستان " المغنية، وقصيدته

(1) من رسالة بتاريخ 11/7/1944 والقصيدة التي يعنيها هي قصيدة " وقف المساء بضوئه المتغور " وهي إحدى قصيدتيه عندئذ في ذات المنديل الأحمر، وقد عرضنا لها من قبل.

(2)

من رسالة بتاريخ 26/7/1944.

ص: 71

في الاعتذار عن التفاوت في شعر الشعر " أما ترى كيف ركب الشجر "، وهو يقرأ في ديوان مهيار الديلمي، ويحفظ كثيرا من الشعر الذي أورده ابن قتيبة في " الشعر والشعراء "، ويطالع كتاب احمد الصاوي محمد عن شللي، ويحاول أن يتفهم بعض قصائد ذلك الشاعر في اصلها الإنكليزي (1) ؛ انه لم يتحول بعد دراسة الأدب الإنكليزي، ولكن هذا الاتصال المبكر بشعر شللي يدل على ان بذرة هذا التحول موجودة في نفسه، إذا وجد إلى ذلك سبيلا، وقد بدأ ينفعل ببعض أفكار " الديوان الشرقي " ويتعشق قصيدة البحيرة للامرتين، كما ترجمها علي محمود طه، أو كما يقول هو عن نفسه:" وعن طريق علي محمود طه وأحمد حسن الزيات في ترجمتهما للامرتين وألفريد دي فينيه ودي موسيه وبرسي شللي الإنكليزي أعجبت بالشعر الغربي وأخذت في مجازاته، وحاولت ان اقرأ الشعر الإنكليزي بعد الاستعانة بالقاموس عشرين أو ثلاثين مرة في القصيدة الواحدة "(2) . وعلى الجملة فهو يحب النسمات الغربية، ولكن صداقته للشعر العربي ما تزال اشد قوة ومتانة.

وتسعفه تلك الحيوية الذهنية في النقد أيضاً، فقد كان من قبل إذا عرض عليه إحدى قصائده، اكتفى بالتقريط، أما الآن فقد أخذ يرى هنا وهناك ما يمكن أن يرفضه في تلك القصائد، بلطف مشوب بالاعتذار، أو بثناء مسترسل في الموابة: أرسل إليه خالد قصيدة بعنوان " ذات الرقى " فكتب معلقا: " ولست إدري أأهنئك أم اكتفي أن أقول أن كل كلمة من قصيدتك تهنئة من ربة الشعر لك، ذلك انك أرضيت عاطفتك بها ثم عدت فأرضيت عاطفة غيرك، وكم كان جميلا

(1) الرسالتان السابقتان، وأضواء:18.

(2)

أضواء: 18 - 19.

ص: 72

أن أقرأ؟ يوم وصلتني رسالتك - في ديوان مهيار الديلمي فأرى فيه:

بكيتك للفراق ولحن سفر

- وعدت اليوم ابكي للإياب والخطاب لأطلال الحبيبة، ثم جاءتني رسالتك وإذا معنى كهذا؟ ولكنه أسمى وأصدق منه بكثير - يطالعني من قصدك:

ذرفت دمعي حين عز الملتقى

وأراه منسكبا وقد عرض اللقا لقد بكى مهيار مرتين؟ وذاك مما اعتاد المحبون عليه، أما شاعرنا فما اقتصر بكاؤه على موقفيه، لقد ظل باكيا منذ يوم الفراق؟ وهذا حق - حتى يوم اللقاء، وهذا ما انفرد به وحده؛ فكنا نتوقع أن يجفف اللقاء دمعه ولكنه لا يزال منسكبا، ولكن الشاعر نفسه؟ ولكني مع الشاعر - لا أرى في ذلك شذوذا، أوليس من يهواها ملك غيره؟؟ (1) " فعلى الرغم من أن السياب لم يفهم بيت صديقه بوضوح، وحمله من المعنى ما ليس فيه، فأنه كان يحس انه أخذ معناه عن مهيار الديلمي. ولكن صديقه حين غالى، وجاء بشيء غير معهود، في الثناء المشوب، لأن الناقد يدرك تماما طبيعة الجمال في بيت مهيار.

ومرة أخرى وقف عند قصيدة لخالد بعنوان " ياسمين " فأثنى عليها كثيرا ثم قال: " ولكنك تطعن فجأة أفكار (القارئ) المتسلسلة حين تقول في وصف الفم؟ انه " كجرح الطعين ": أن جرح الطعين يرسم أمام القارئ صورة بشعة: صدر عريض مكسو بالشعر عليه طعنة تسيل دماؤها ويجتمع حولها الذباب "(2) . إن إيراد مثل هذه النماذج النقدية، لا يعني أن السياب قد اصبح ناقدا في تلك السن ولكنه يلقي ضوءا على ذوقه، وعلى ما كان يتكون في إحساسه تجاه أي عمل فني، حتى عمله هو نفسه.

(1) رسالة في 11/7/1944.

(2)

رسالة في 26/7/1944.

ص: 73

وعندما انتزعه العام الدراسي الجديد (1944 - 1945) من أحضان الريف، عادت عجلة الحياة في بغداد تنقله بين كليته ومقاهيه التي ألفها في العام الأول؛ ولم تكن نقلة حافلة بالاستشراف لغير الزاد الثقافي، ذلك أن الصدمة في حب ذات المنديل الأحمر؟ ان صح أن نسميها كذلك - قد علمته أن يتردد في دق الأبواب العاطفية المقفلة، فأقبل على القراءة في الكلية وفي خارجها، ويصفه صديق كان يراه في تلك الأيام في أحد المقاهي بقوله:" فنراه جالسا في مقهى مبارك وأمامه قدح الشاي يرتشف منه ويعود إلى قراءة ديوان المتنبي أو أبي تمام أو البحتري وغيرهم من فحول الشعراء، ولكنه كان شغوفا لدرجة لا توصف بأبي تمام يحفظ مطولاته ويحلل صوره ويعيش في أجوائه، ولا أنس استشهاده بوصفه للثلج في إحدى رحلاته وقد غطى الأزهار، وكيف ان الشاعر عبد الرحمن شكري قد كتب في المقتطف انه لم يحس بحقيقة الصورة إلا بعد سنين طويلة، وعند سفره إلى انجلترة ومشاهدته الثلج وقد غطى الازاهير الجميلة "(1) .

ولنا على هذه العبارة المقتبسة تعليقان: أولهما صلة السياب بالمتنبي؟ وهي صلة خاصة ان وجدت حقا، ظلت سطحية الأثر؛ ولست أميل إلى إنكارها ولكني اعتقد ان التجاوب المصحوب بالتأثير، بين الفتى الناشئ والشاعر الكبير، لم يكن كبيرا، وثانيهما قول الكاتب " لدرجة لا توصف " فانه من المبالغات التي لا ترفض جملة، ولكني أخشى أن يكون هذا القول صدى " بعديا " لإقرار الشاعر؟ فيما بعد - بدينه الكبير لأبي تمام (2) .

في ذلك العام لم تكن الحرب قد انتهت بعد، وكان الفتى الذي أعلن رضاه عن ثورة الكيلاني في بواكير عهده بالشعر، لا يزال في حال

(1) العبطة: 9.

(2)

عن إعجاب الشاعر بالبحتري، انظر أضواء:18.

ص: 74

توقف، لا يستطيع ان يعلن انتمائه إلى فئة دون أخرى. ولعل خير ما يصور حاله قول الأستاذ العبطة:" كان هادئا وديعا ولم يرتفع صوته في هذه الأيام عندما كنا نتراشق ونتلاسن وننقسم إلى معسكرين: منا من يؤيد الحفاء ومعسكر الديمقراطية ومنا من يمجد النازية وهتلر؛ واذا ما احتدم النزاع؟ وكثيرا ما يحتدم - يستأذن في الذهاب إلى القسم الداخلي من الدار (دار المعلمين) تاركا النزاع وأهله "(1) .

ويمر هذا العام الدراسي كما مر أخوه السابق وينجح بدر في السنة الثانية بدار المعلمين، ويعود إلى الريف في إجازة الصيف، ولكنا نحرم كثيرا من المعلومات عنه، إذ ر شعر ولا رسائل تحمل تاريخ سنة 1945 (2) فأكثر شعره إنما كان ينظمه في فترات العطل المدرسية، وفي صيف ذلك العام سافر خالد في رحلة تنقل خلالها في ربوع مصر وفلسطين ولبنان وسورية، فلم يكن بين الصديقين مراسلات في ذلك الصيف، وذلك شيء حرمنا كثيرا من المعلومات عن بدر، في حياته ومحاولاته الشعرية.

وعندما عاد إلى السنة الثالثة بدار المعلمين، (1945 - 1946) كانت نفسه تعج بعاصفة جديدة من الإرادة الحازمة: أما أولا فانه لن يستمر في فرع اللغة العربية، فقد شبع من حفظ الشعر العربي، وازداد نمو الميل في نفسه لإتقان اللغة الإنكليزية كي يستطع أن يقلل من الاعتماد على القاموس حين يقرأ القصائد الشعرية، وأما ثانيا فان حياه السلبي يدل على انه كالصخرة الصماء الراسخة في وجه السيل، يزدهيها رسوخها، ولكنه لا يبلغ بها إلى أية غاية، ولذا فلا بد من الثورة على هذا الحياد الذي يشبه الموت.

(1) المصدر السابق نفسه.

(2)

لا ادري إن كان في ديوان أزهار ذابلة قصائد تحمل تاريخ 1945 إذ أنني لم استطع أن اعثر على الطبعة الأولى من هذا الديوان.

ص: 75

وقد دهش أصدقاؤه للتحول الأول حتى قال بعضهم: " انه موقف عجيب من شاعر ناشئ لم يتعرف من العربية إلا نهلة لا تبل الشفاه " وتحدثوا إليه بدهشة فابتسم ولم يتكلم (1) .

وأما التحول الثاني فانه لم يكن قد تبلور بعد تمام التبلور، ولندع أحد شهود تلك اللحظات يحدثنا عنها فيقول:" وهنالك في بغداد الأمس كان الواحد منا يحاول أن يجد لما تراكم في نفسه من قلق وهلع وخيبة متسعا في الأدب يثبت فيه قيما جديدة تتناسب مع أحاسيسه وتفهمه العاطفي لمشاكل العالم؛ وكان العالم يتحدث بصوت مبحوح عن جريمة قتل مرعبة حدثت في هيروشيما، وعن انتحار كاتب ألماني في البرازيل، وعن طالب بعث برسالة إلى الرئيس الأمريكي يسأله عما إذا كان عليه أن يتم دراسته بعد أن اخترعت القنبلة الذرية؛ وكانت صحف بغداد تتحدث عن تاجر خلط الدقيق بنشار الخشب وقدم خليطه خبزا للناس. وخلال هذه الصورة القائمة كانت يد صغيرة متشنجة تشد على أيدينا بكثير من الإخلاص، هي يد بدر، وكان يتحدث عن كل تلك الأشياء كما لو انه جزء منها ولا أهمية له من دونها، وفجأة وبنفس الحماسة يبدي إعجابه بضحكة حسناء عبرت، أو بلثغة زميله له في الكتابة تصاقب مجلسه في عرفة الدرس؟ وكانت تحملنا قصاصات من ورق عبر أمسيات كثيرة من مقهى إلى مقهى لنسمع إلى هذه المحاولة الجديدة وتتقد تلك القصيدة ونحن نحاول أن نفلسف العالم من حولنا. وظل البعض منا يحاول يائسا ان يوفق بين ماركس ونيتشه لينتشل نفسه من صراع مر؛ أما بدر فقد بدا لنا كما لو ان كلا منهما يعيش في زاوية من نفسه في حياة لا تتطور "(2) .

(1) العبطة: 9 - 10.

(2)

أضواء: 38 - 39 من قطعة للشاعر بلند الحيدري.

ص: 76

إن هذه الصورة الشعرية المفلسفة لذلك الماضي ربما لم تنقل التاريخ حرفيا، وربما تجاوزت عام 1946 بمدلولها إلا أنها على أية حال تعطي فكرة عن مخاض كان يعانيه جيل بدر؛ فأما إلى اليمين وأما إلى اليسار، ولو أن كاتب هذه السطور المقتبسة تذكر ان بدرا اشترك في إضراب وقع في الكلية أواخر عام 1945، فصل على أثره منها، وعاد إلى قريته، لاستطاع أن يذكر أن الشاب الذي لم يكن يحاول التوفيق بين نيتشه وماركس، فكريا، كان قد أصبح يدرك عمليا انه لا يستطيع أن ينأى بنفسه كلما أشتد الصخب حول الموضوعات العامة، وأن يدخل إلى غرفته في داخلية دار المعلمين. غير أن هذه الصورة صادقة تماما في الحديث عن نفسية بدر الذي كان ما يزال يتحدث عن افتتانه بضحكة حسناء عابرة في حماسة مماثلة لماسه في الحديث عن اخطر الموضوعات الإنسانية، ولكنه رغم ذلك كان يقف على عتبة تحول خطير.

هل كان " الهوى البكر " أثر في هذا التحول؛ " الهوى البكر "؟ ألست ترى، حين تعلم أن السياب هو صاحب هذه التسمية، كيف ان الشاعر أحس لحظة انه يولد من جديد، وان كل حب في الماضي كان عبثا؟ وبما أنه كان عبثا فكأنه لم يكن، ولتذهب كل ذكرى لهالة وذات المنديل الأحمر، ولكل أنثى خفق القلب لها من قبل، لتذهب كل هذه إلى جحيم النسيان. من هنا يبدأ التاريخ الذي يستحق التدوين، أما ما قبل ذلك فكله من أساطير ما قبل التاريخ وفرضياته ومزاعمه. كان القلب يحسب كل نور التمع في الدجى منارا يهديه، ولم يكن يعلم أن المغررات في أضواء الليل كثيرات، وبعضها كنار الحباحب، أما اليوم فقد وجد " المنارة " التي تومئ إلى المرفأ الآمن الأمين.

وكان ذلك النور الجديد إحدى زميلاته في الكلية تعرف إليها في مطلع العام الدراسي الثالث، ولا يميزها كثيرا أن تقول أنها ذات غمازتين لا لكثرة اللواتي يتمتعن بهذه السمة بل لآن كل فتاة احبها السياب

ص: 77

منحها غمازتين. غير أنها تمتاز عن كل من عرفهن بأمور: فهي ليست بكماء الاستجابة كالفتاة القروية، وهي ليست تنظر إليه نظرتها إلى غر كما كانت تفعل ذات المنديل الأحمر، وإنما هي فتاة تحب الأدب وتعجب بالشعر، وتحسن الاستماع إلى الشاعر إذا هو تحدث عن عاطفته، وهي لا تتحرج في أن تلقاه في رحاب الكلية وفي خارجها، وأن تمنحه الفرصة لكي يتعمق المعاني في عينيها وابتسامتها، وأن يلقي شعره؟ فيها - على مسمعيها. ولذلك لم يكن من الغريب ان يحص بأنه إنما يعرف الحب لأول مرة، ويكتفي من دنيا بغداد؟ على رحبها - بباحات الكلية، وباليسر في شارع " طه "، لعلها تطل عليه، أو لهاها تحس من وراء الجدران بزفراته ولوعته. وربما شارك في الإضراب الذي ذكرناه لينبل في عينيها، ويرتفع عند نفسه وعند نفسها.

غير أن الإضراب جر إلى الفصل، والفصل أدى إلى الرحلة عن بغداد، إذ ليس في مقدور طالب فقير يجد مأواه في داخلية دار المعلمين أن ينفق على نفسه باستئجار مسكن في الخارج، وقالت له في آخر لقاء:" وافني بكل ما تكتب من الشعر.. عن طريق الآنسة فلانة "(1) . وعاد إلى " جيكور " وهو يحمل بين جنبيه وديعة حب جديد، ويصونها صيانة البخيل لجوهرة فريدة.

وكان شتاء قاسيا يجمع العبوس والحرمان من إتمام الدراسة والبعد عن الحبيبة الجديدة، وكان أول صدى لهذا الفراق قصيدة بعث بها " هواه البكر " عن طريق الآنسة فلانة؛ وكتبت إليه فلانة تقول:" يسرني أن أقول لك أن الآنسة (؟.) معبودتك قد أعجبتها قصيدتك تلك وهي متأسفة لما حل بك "(2) ولكنه كان يحس بوطأة من المعاناة العاطفية لم يشهدها من قبل، ولم تكن هذه الكلمات لتخفف

(1) من رسالة إلى خالد بتاريخ 20/4/1946.

(2)

رسالة إلى خالد في (كانون الثاني أو شباط)1946.

ص: 78

الحقيقة الراعبة، وهي ان ابن العشرين يحس بأنه يضيع العمر في ارتقاب الليل ليسفر عن صبح، وفي تشييع القمر وعد الساعات الطويلة الثقيلة؟ الريف بعيدا عن الحبيبة يغل النفس ويحرج الصدر، وخاصة إن كان المرء قد احتجب عنه وجه هدفه:

ماذا جنيت من الزمان سوى الكآبة والنحول

أو ارقب الليل الطويل يذهب في الصبح الطويل

وأتابع الشمس المرنحة الشعاع إلى الأفول

وأشيع البدر السؤوم يغيب ما بين النخيل

لا مأمل لي بالكثير ولا رجاء بالقليل

وأعد أيامي لأسلمها إلى الهم الثقيل

وأعيش محروم الفؤاد من الهوى، عيش الذليل

وأسرح الطرف الكئيب من التلال إلى السهول

وأصعد الآهات دامية وأمعن في العويل

ضاقت بي الدنيا وضقت بها كأني في رحيل

في وهدة قفراء بح بجوها صوت الدليل (1) .

وأرسل إلى صديقه خالد مع هذه القصيدة قصيدة أخرى بعنوان " زهرة ذاوية " يخاطب فيها زهرة أخذت في الذبول ويقول لها " تفردت كالشاعر المستهام " وتبدو في سياقها العام وكأنما هي ترجمة؟ أو معارضة - لقصيدة إنكليزية. تلك ثلاث قصائد في أقل من شهر، ومع ذلك فانه يضيف في رسالته إلى صديقه:" فلا تزال لدي قصيدتان اجتماعيتان إحداهما تقارب التسعين بيتا والأخرى تزيد على الثلاثين، عنوان الأولى " غادة الريف " والثانية " رثاء فلاح " (2) . وكم كنا نتمنى

(1) من قصيدة " في يوم عابس " كتبها إلى خالد (وتاريخها 31/1/1946) .

(2)

الرسالة السابقة.

ص: 79

لو عرفنا هاتين القصيدتين، لنرى السياب وقد اخذ في منحى جديد غير الحديث عن الحب وما يجره من يأس وتشاؤم، وقد وعد أن يكتب بهما إلى صديقه في رسالة ثانية، ولكنه لم يفعل، أو لعله فعل وضاعت الرسالة.

وقرر أن يخلد حبه الجديد في قصيدة طويلة، فأنصرف مدة من الزمن ينظم " نشيد اللقاء " حتى بلغت أبيات ذلك النشيد 119 بيتا، وأرسله إلى الآنسة فلانة لتوصله إلى معبودته، ولتسرع فتنبئه عما تركه ذلك النشيد في نفسها من أثر؛ ومرت أسابيع دون أن يرجع إليه جواب " لا من الآنسة ولا من الحسناء التي أخبرتها بعنواني في آخر صفحة من صفحات الكراس المنكود "(1) واشتد به الألم المغص فتصور أن حبه قد مات، وعبر عن ذلك بقصيدة له " خب يموت " مطلعها:

اليوم بين مصارع الزهر

والصبح يطفئ جانب القمر

حبي يموت وأنت لاهية

لم يدر سمعك ضجة الخبر وبعد أن نفس بها عن كربه تأمل فيها وقال: " أحق أن حبي مات؟ لا وحبي ما مات حبي " ثم نظم بعدها بيوم قصيدة على وزنها بعنوان " ما مات حبي "، ويلفتنا في هذه القصيدة انه يعالج فيها تهمة تنقله من محبوبة إلى أخرى، فيجد أن النسيم أيضاً ينتقل ولكنه لا يستطيع ان يجاوز حدود الوجود:

أنت الوجود فحيثما انطلقت

بي مقلتان ملكت منطلقي

سيان عندي مت من ظمأ

ما دمت عبد هواك أو غرق

سيان عندي كنت في سحر

ما زلت أنت سماي أو غسقي

روحي فداؤك بت راضية

(2) أني فديتك أو على حنق

(1) نفس المصدر.

(2)

الرسالة السابقة.

ص: 80

ولعل جسر العشرين كان من اصعب الجسور التي أجتازها بدر فقد أحس انه يعبر حدا فاصلا بين عهدين، وهو لا يدري إلى أين تتجه به الاقدار؛ كان قد سمى المجموعة الشعرية التي رتبها في كراس " أزهار ذابلة "، وكان بعض رفاقه يلومه على هذه التسمية، وهو ما يزال في ريعان الشباب وعلى بداية الطريق المبلغ للآمال، ولكن حادثة فصله من دار المعلمين، قد ألقت به في مهواة يأس لا قرار لها، ولذلك فأن كلماته تنضح بالعذاب القاتل المروع وهو يخاطب صديقه خالدا بقوله:" أي خالد كم عاهدت نفسي في سكون الليل العميق أن اخفت نغمة اليأس في أشعاري وأمحو صورة الموت من أفكاري، حتى لا تسمع الآذان ركزا من تلك، ولا تبصر العيون خطأ من هذه، لكنني واحسرتاه عدت بصفقة الخاسر، وحظ الخائب، وقد نذرت نفسي للألم والشقاء واليأس والفناء؛ ما اجهل من لامني على ان سميت مجموعة أشعاري " بالأزهر الذابلة " ليته كان معي ليرى أن كل الكون: الأرض والسماء والتراب والماء والصخر والهواء، أزهار ذابلة؟ ذابلة في عيني الشاحبتين ونفسي الهامدة الخامدة "(1) .

ولم تسعفه القراءة كثيرا على العزاء، بل لعلها زادت في ألمه لأنها فتحت عينيه على مفارقة جديدة: كان يقرأ البحيرة للامرتين ويتنقل بين الخلجان والوديان والكروم وحوافي البحيرة وقنن الجبال والغيران الموحشة والشلالات الهادرة في صدوع الصخور من " سفوا " ويحس بضآلة الريف الذي كان يتغنى بجماله: " رباه اعطني مثل هذه السعادة وأن كانت قصيرة الأجل خائبة الأمل، فان من ذكرياتها ما يملأ فراغ الأيام وما يمنع الحب أن يزور من جديد "(2) .

وضاق صدر خالد؟ على سمعته - بهذا الوضع المتردي الذي

(1) الرسالة السابقة.

(2)

الرسالة السابقة.

ص: 81

انتهى إليه صديقه: أي هوى بكر وأي خداع نفسي وأي انخداع طوعي؟ ولم يقدر خالد أن الآلام التي يعانيها الشاعر مجتمعة؟ من إقصاء عن المدرسة ومن إخفاقات متلاحقة ومن فقر مستكلب القبضة ومن " فراغ وبطالة وسأم وخمود " إذا اقبل الصيف في منطقة البصرة - كلها كانت تتنفس دفعة وتنطلق تحت واحد اسمه " الحب "، فإذا أضاف الشاعر إلى ذلك الحب صفة " البكر " فذلك شيء حدث قبل أن يقذف به الإضراب فوق شوك البطالة والفراغ والسأم؛ ذلك شيء أراد به أن يبدأ عهدا جديدا فما ذنبه إذا أخلفت الأيام تقديره؟ ولكن خالدا ظن انه صارحه بما يعده حقيقة فأنه إنما يسدي إليه يدا حين يوقظه من غفلته. أن ربة الهوى البكر تعبث به ولا تحمل في نفسها أي تقدير لعاطفته، فلم هذا المضي في الطريق الذي ينتهي إلى غاية، لم هذا التعلق بتلك التي تفتح الباب " آونة فلا يكاد الطارق يهم بوضع قدميه على العتبة حتى يغلق دونه؟! "(1) .

وكان الرد المباشر على هذه الملامة عفويا طبيعيا: لا بد أن تكون لدى خالد شواهد يقينية تجعله يرسل هذا الحكم ويبني عليه اللوم، وقال بدر: " قد لا يصل بك فكرك الشاعر وخيالك الطائر إلى أن تدرك الأثر الصادم والأذى الكالم الذي تركته في نفسي كلماتك الزاجرة وأقوالك الساخرة؟. أرضاني هذا القول في أول أمره، ولكن ليل الريف الندي، تهب عليه أنسام الشمال التي أحسبها آتية من بغداد، أقول: لكن هذا الليل تسرق فيه الأحلام خطاها الخفية الواهنة مفضضة بالشعاع الباهت ينطف من نهر المجرة المختفي وراء الأبعاد هاج لي الألم واستنزل على صدري الخافق حسرت راعدة وآهات صاعدة، ضاق بها صدر الأفق الأرقط. ليت لي براعة شعراء الأرض جميعا لأصور

(1) من رسالة إلى خالد بتاريخ 13/6/1946.

ص: 82

لك حلمي المقطوع، الحافل بالثمار الخالي من القطاف الباكي على الصورة الهاربة من الإطار؟ " (1) .

أما الرد الذي جاء بعد ترديد الفكر وتقليب الهواجس، وتحليل الحاضر على ضوء الماضي، فهو رد طبيعي، ولكن حين يصدر عن نفس مريضة: وكأن السياب يقول لصديقه بطريقة غير عامدة: لا أستطيع أن أعيش دون حب، ولو كان من طرف واحد، ولو كان؟ كما تسميه - خداعا ذاتيا، أريد حبا، مهما يكن حاله، فإذا لم تتوفر لي هذا الحب فأنا ميت لا محالة. ولهذا السياب يتصور فقد هذا الهوى البكر ويمعن في تهويل ذلك على نفسه ويمد في أسباب اليأس بينه وبين قلبه، فلما استسلم للنوم لم يجد راحته إلا في العودة إلى الأم، فرأى نفسه؟ في المنام - يرقد في قبر:" ضباب شفيف ترقص فيه مقبرة القرية، كأنها فوق جناح جريح، بنفضه الشوق إلى موضع خلال التلال، ثم يركن الرقص إلى سكون كثيب يحتضنه الغبش الحزين، وهناك عند السدرة النائمة قبر مستوحد غريب رأيت أني راقد فيه تحت الحصى والتراب في ظلمة بلهاء، مت أسعفها لون من الألوان، يكاد ثقل الثرى يخنقني خنقا، لكنني من برجي الدامس استشرف الدنيا يدغدغها الربيع الباكر، فأبصر الأوراق تنمو بطيئا بطيئا، والبراعم تتثائب كسلى عن الزهر الأبيض وعن ألوان لا تحصى، والعروق دافئة، يسيل فيها ماء الشباب تزحم جوف الثرى، فأهتف من أعماق اللحد البارد: رباه، أفي الربيع النضير يطويني القبر؟! "(2) .

أن هذا الحلم يتحدث عن نفسه دون أن يحتاج تفسيرا، كل ما هنالك أن النخلة الفارغة أصبحت " سدرة نائمة "؟ وهما سيان -،

(1) الرسالة السابقة.

(2)

رسالة إلى خالد غير مؤرخة لعلها في الشهر السادس أو السابع سنة 1946.

ص: 83

وتتقابل في هذا الحلم صورتنا الموت والحياة، ولكن العقل الباطن يجد العودة إلى القبر؟ إلى الأم (أو السدرة النائمة) هي الحل الوحيد لما يعانيه صاحب هذا الحلم في الحياة؛ أن الكلمات الزاجرة التي أرسلها صديقه فوق رأسه، لا تحل مشكلة مستعصية، ولذا واجهها بعملية انكماش وتقلص وتقوقع في جوف الموت، في " رحم " الأرض حيث تنبعث الحياة أيضاً، " والعروق دافئة يسيل فيها ماء الشباب ".

وعندما أفاق لم تكن الحاجة إلى الانزواء المتقلص، إلى النجاة من الحاضر المؤلم (حيث خداع الحبيبة وزجر الصديق) ؟ أقول: لم تكن الحاجة إلى ذلك قد فارقته، ولهذا شفع الحلم السابق بحلم آخر إلا انه من وحي اليقظة. أليس من الممكن أن يفر المرء من واقعه إلا إلى ذلك الكهف المظلم؟ أليس هناك ما يحل المشكلة دون موت؟ بلى؛ ليرجع بدر إلى الماضي الذي حاول أن ينساه فانه هو قوقعته الأخرى في حال اليقظة. اسأل نفسك ما معنى الحاضر تجده يتلخص في فتاة تنتمي إلى المدينة وتحسن من أساليب الأخذ والعطاء ما لا يحسنه ريفي ساذج، ومثل هذا الحب لا يفي بالنقاء والطهر، فما اجمل العودة إلى الريف، منبع الصفاء والنقاء والود الخالص؛ ومرت من أمامه ريفية حسناء فخفق قلبه: هذا هو؟ دون ان يحس بأنه يتداوى من الداء بالداء - شفاؤه من مشكلته التي تبدو مستعصية، وفي لحظة خيل إليه انه محب وأن حبيبته ريفية: " أجوز في هذه الأيام تجربة لذة أو قل: وقعت في حب جديد، من نوع جديد، لا خبرة لي به من قبل؟. انه الحب الريفي الخالص العريق في ريفيته يسف دون أن يلامس التراب، ويسمو فلا يجوز السحاب، هذا الحب الرائع تؤطره أجواء قروية من الطبيعة والأزياء والأساليب من مواضع اللقاء وخلوات الغرام، من مراحله اللذة إلى نهايته المتوقعة، زواج المعبودة، أو افتضاح الحب، وحبس الطائر في قفصه.. كل تلك الأشياء ابذل كثيرا من الوقت في

ص: 84

سبيل هذا النوع الساحر من العشق؟ آه لو فرغت من كل شاغل، لأبرزت هذا الحب في قصيدة تجعل ساكن المدينة يشتاق لو غاص بكل روحه في قرارة هذا الهوى الريفي؟ أنها الآن تمر أمامي رائحة من الحقل، اضطرت أفكاري فلا أستطيع إكمال الحديث " (1) .

وليس بعسير على من يقرأ هذه السطور أن يجدها تمثل أمنية أو حاجة إلى حب جديد يخلص الشاعر من تعقيد المدينة بل يجعل " ساكن المدينة " يحسده عليه، أما أنها كانت حبا حقيقيا فأن شواهد الحال؟ كما سيتضح في هذا السياق - لا تدل على ذلك؛ كان الحب الجديد " فكرة " أو موضوعا شعريا صالحا لأن يبرز في قصيدة، وكانت الدواعي تحفز إلى إبرازه في إطار شعري، بل أن السياب نفسه رسم هذا الإطار:" روضان جاران؟ وفتى وعذراء وطفلة أو طفل هذا مسرح القصة وهؤلاء هم ابطالها، وقد يزيد الأبطال عددا؟ غادة أخرى أو غادتين، زهرة في ورقتين عطريتين تحيطها الأكمام "(2) . أما الدواعي التي تحفز إلى تحقيق هذا الإطار في عمل فني متكامل فكانت تتصل بقصة سابقة لهذا التاريخ، أرجأنا الحديث عنها، لنكفل لها الوضوح عن طريق المقارنة.

وتتخلص تلك القصة في أن السياب كان قد تعرف؟ من خلال المترجمات - إلى الشاعر بودلير، فقرأ شيئا من قصائد " أزهار الشر " وشيئا من سيرة الشاعر نفسه، ورأى صورا فتنته وهالته في آن معا، ووجد تجربة حب لا عهد له بمثلها، فأوحى ذلك إليه؟ وكان سريع الاستيحاء - أن يكتب قصيدة يصور فيها الحب الآثم وينتصر في الوقت نفسه للحب الطاهر، وإهدأها " إلى روح الشاعر بودلير "، فجاءت قصيدة طويلة قيل أنها تناهز ألف بيت؛ ويبدو أن القصيدة حين اكتملت

(1) الرسالة السابقة.

(2)

الرسالة السابقة.

ص: 85

وتم لها ذلك الطول المرهق، نالت إعجابه؟ وربما نالت إعجاب من سمعوا بعض مقاطعها من رفاقه - فأحب ان تكون فاتحة شهرته على نطاق واسع وعنوانا على مقدرته وشاعريته، فأرسلها مع السيد فيصل جري السامر إذ كان مسافرا إلى القاهرة ليسلمها إلى الشاعر علي محمود طه؛ وكان الوجه الظاهري للأمر انه يريد رأي شاعره المفضل في قصيدته المفضلة، ولكن الحقيقة هي انه كان يرجو أن تنال القصيدة إعجاب المهندس فيقدمها إلى إحدى دور النشر. غير أن القصيدة نامت في أحد الأدراج بمنزل المهندس مدة طويلة من الزمن، إذ لعله تسلمها سنة 1944 وها هو بدر في 13 - 6 - 46 يقول لخالد:" لست ادري أتستطيع أن تكتب إلى فيصل جري كي يأخذ ملحمتي من علي محمود طه أو تكتب إلى الشاعر نفسه ".

لقد بقي من هذه القصيدة (التي تحمل تاريخ 12 - 2 - 1944) أبيات غير كثيرة، يتحدث السياب في أولها على لسان الشاعر المفتون بالجسد والغواية الكافر بالفضيلة المؤمن بالشهوة المشبوهة، حتى إذا بلغ إلى قوله:" ولأحقرن الروح " جاءه الرد:

؟ لست بقادر

فارجع بروحك عودة المتندم ثم تندرج بقية الأبيات في تقريع هذا الفاجر الداعر وإنذاره بعاقبة مشئومة؛ ولسنا نعتقد أن المهندس أهملها لأنه لم يعجب بمستواها الفني، وأن كانت الأبيات المتبقية لا تدل حقا على إنها كانت قادرة على أن تلفت الأنظار للشاعر الناشئ، وإنما قد يكون ذلك محض قلة اكتراث عارضة أو تهربا من المسئولية في تقديم شاعر لم يلمع اسمه بعد، أو عجزا عن إيجاد الوسيلة الملائمة لإظهار القصيدة؛ ويمكن أن يفترض المرء في هذا المقام فروضا كثيرة، ولكن مهما يكن حظ تلك الفروض فإنني اعتقد أن الشاعر الشاب اخطأ مرتين: مرة لأنه حاول موضوعا

ص: 86

غريبا عنه غير داخل في تجربته؛ صحيح انه انتصر للروح ولكنه كان يريد أن يصور بعنف موقف الجسد، وهو منطقة محرمة حتى ذلك الحين في نظرته الرومنطقية الحالمة، ومرة ثانية حين اختار شاعرا ليقدمه إلى المجتمع، وشاعرا مثل علي محمود طه بالذات، ليس ممن يؤمن بالمريدين والاتباع، ولا يهمه أن يعرف بتبني هذا الاتجاه الشعري أو ذاك.

وكان التفاته إلى الجسد في تلك القصيدة ثم شعوره بأن إهمال شاعره الأثير لها يعني إخفاقها، ثم حنينه إلى الماضي الذي فارقه قبل عام أو أزيد قليلا؟ كل تلك كانت هي الدواعي لأن يقوم بكتابة قصيدة جديدة يصور فيها نقاء الحب كما يمثله الريف الطاهر العفيف، فهو أقدر على تصوير ما يحب، وهو يحاول أن يتجنب ما قد يسمى إخفاقا في المحاولة السابقة، وهو بذلك يقيم التعادل الطبيعي في نفسه حين ينظم ملحمة تضاهي؟ بل تفوق - ما سماه " ملحمة " الروح والجسد.

وأغلب الظن أن القصيدة التي تصور الريفي ظلت خاطرة جميلة لم تتحقق فقد أدركه العام الدراسي الرابع في دار المعلمين، دون ان ينظم منها شيئا؛ كانت تعلة إلى حين تنسيه المدينة وفتياتها " العابثات " بالقلوب، فلما عاد إلى المدينة وجد نفسه أسير دروبها وشعابها وقواعد الحياة فيها.

غير انه قبيل هذه العودة كان قد حرر نفسه؟ في لطف ودون صحب ودون أن يخدش وجه المودة - من أستاذية خالد: وأحسب بأية افتراق الطريقين تبدأ من هنا، فقد كان خالد ما يزال يؤمن بالقصيدة ذات القافية الواحدة، فكتب إليه بدر قصيدة بعنوان " نهر العذارى " يعارض بها قصيدة " النهر المتجمد " لميخائيل نعيمة، وجعل كل

ص: 87

بيتين منها على قافية (1) ؛ وكان خالد يحاسبه كثيرا على ما يتلبس شعره من غموض، فما كان منه إلا أن كتب إليه بعد تلك الرسالة الزاجرة:" كنت في كثير من الأحيان تأخذ علي الغموض في شعري ولكني أدركت الآن ان ذلك الغموض كان العقدة المسحورة التي أوجدتها يد العاطفة في ساعة جنون، إذا انحلت فقد الطلسم ما كان يحمل من تتمان ".

وحين عاد إلى دار المعلمين، أحس بنفسه مبلغ الصدق في نصيحة خالد، ذلك أن عودته فتحت عينيه على آن " الهوى البكر " كان ضوءا خادعا في دجى اللهفة والحرمان والتعطش إلى حب؛ صدق خالد، هذه فتاة يهمها أن يكون أتحد المعجبين بها شاعرا يحرق نفسه وقريحته قربانا بين يدي جمالها على ان يظل هذا الجمال بمنأى عنه كالنصب النائي الذي لا تستطيع ان تلمسه أيدي العابدين. وفتر سطوع ذلك الضوء الخادع أمام عيني بدر، وانماثت قداسيه رويدا رويدا دون أن يترك ذلك في نفسه ألا ندبا صغيرا يرتسم إلى جانب تلك الندوب التي خلفها البحث المخفق عن الحب؛ ومن المفيد أن نتذكر آن بدرا لم يخص هذا الهوى الضائع (رغم انه كان بكرا في روعته عند البداية) بقوله رثاء آو بذكرى آسى، إلا حين عد سرب الحبيبات في صحوة الموت واسترجاع الذكريات؛ وإنما تحول في لطف يرتقب:" المنتظرة " التي لا بد أن ينفتح عنها ستار " المسرح " لتمثيل دورها المرموق في حياته. وحين وجدها لم يعد الحب لهبا وجدانيا وحسب، بل اصبح رابطة نضال، إذ أزاح الفتى جانبا من القناع الذي كان يستتر وراءه تحويله الخطير، وإذا هو يدين بالانتماء للحزب الشيوعي. إن قصة الحب لم تنته بعد، ولكن من الخير أن نعود قليلا في الزمن إلى الوراء، على أن نرجع إلى قصة الحب مرة أخرى.

(1) رسالة في 13/6/46، وقد نشرت القصيدة في ديوان أزهار ذابلة من بعد، انظر أزهار وأساطير:151.

ص: 88