المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

- 17 - ‌ ‌أنشودة المطر حتى هذا الحد كان السياب يرى القصيدة - بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره

[إحسان عباس]

الفصل: - 17 - ‌ ‌أنشودة المطر حتى هذا الحد كان السياب يرى القصيدة

- 17 -

‌أنشودة المطر

حتى هذا الحد كان السياب يرى القصيدة الطويلة بناء يعتمد على قطبين (كما في فجر الإسلام والأطفال) أو على الاسترسال مع التداعي (كالسوق القديم وحفار القبور والمومس العمياء) ؛ وكل قصيدة منها لا بد من ان تعتمد على مشرع تمهيدي يهيء الجو العام أو يطرح المشكلة ولو لم يخبرنا ان قصيدة " أنشودة المطر " كانت قصيدة طويلة لتصورنا فيها حين تنظر إلى اعتمادها على فاتحة مسترسلة؛ وكذلك جاءت قصيدة " غريب على الخليج "، وهما تمثلان وجهتين لقطعة عملة واحدة، فتؤكدان التقارب الزمني بينهما. إلا أن قصيدة " غريب على الخليج " ربما كانت اسبق في زمن لأنها لا تزال تحمل طبيعة المقدمة التي افتتحت بها قصيدة " المومس العمياء " كما تحمل إثارة من صور هذه القصيدة وبعض أفكارها.

وقد يوهم بناء كل من هاتين القصيدتين " غريب على الخليج " و " أنشودة المطر " أن الازدواجية لا تزال هي القاعدة التي ترتكز إليها كل منهما. فالأولى تمثل الإحساس بالغربة والشوق العارم للعودة إلى العراق ولكن عدم وجود النقود يقف حائلا دون هذه العودة، والثانية تصور العراق نفسه من خلال المنظر الماطر. والحقيقة ان الازدواج في القصيدتين قد يسمى ازدواج التطابق: فالعراق والنقود التي تمكن الغريب من العودة شيئا متطابقان؟ أو هما أيضاً وجها

ص: 206

قطعة العملة الواحدة - أحدهما لا يستقل بالوجد دون الآخر، والعراق والمطر في قصيدة الثانية شيئان متطابقان أيضاً، بل هما اشد تطابقا من العراق والنقود، لآن الصلة بينهما صلة حياة مستمرة، لا عودة فردية محفوفة بظروف عابرة.

وتعتمد الإثارة فيهما على السحر البدائي الكامن في اللفظة؛ فاللفظة المتكررة هي التعويذة التي يرددها السحر القديم، أو هي " افتح يا سمسم "؟ كلمة السر التي تفتح على وقعها مغيبات النفس وهذه اللفظة هي " عراق " في القصيدة الأولى وصنوها " نقود "، وفي الثانية " مطر " وليس لها صنو منفصل، وإنما تحمل صنوها " عراق " في ذاتها حمل الأم للجنين.

في القصيدة الأولى " غريب على الخليج " تتفجر في داخل النفس " عراق " والموج يعول " عراق عراق " والاسطوانة في المقهى تردد " عراق "، وينفتح على ترديد اللفظة أبواب الماضي: فإذا بالطفولة المتمثلة في وجه الأم والنخيل وحكايا العمة والتنور الوعاج، واذا الشوق:

شوق الجنين إذا اشرأب من الظلام إلى الولادة (1)

- عودة طبيعية اثر تلك اللفظة السحرية، ولكن سرعان ما يعود الشاعر من حلم الماضي إلى واقعة ليرى نفسه:

تحت الشموس الأجنبية

متخافق الاطمار ابسط بالسؤال يدا

صفراء من ذل وحمى؟ ذل شحاذ غريب

بين العيون الأجنبية

(1) ديوان أنشودة المطر: 13.

ص: 207

بين احتقار وانتهار وازورار أو " خطية "

والموت أهون من " خطية "

من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبية

قطرات ماء؟. معدنية (1)

العراق هنا لا تحققه هذه القطرات المعتصرة: واحدة، اثنتان، ثلاث.. العراق يحققه رنين قطرات أخرى.. نقود.. لمعة الموج تقول: نقود؟ كواكب الخليج: نقود؟ وعند كل رنة يردد الصدى..ود.. فتصبح " أعود ".. " العراق " لفظة تفتح مغالق النفس المتناهبة بين جمال الماضي وبؤس الحاضر ولكن لفظة " نقود " تفتح العراق المغلق؟ ولكن لا عودة لأنه لا نقود؟ هنالك عوضا عنها قطرات الدموع وهي هذه المرة تتساقط: واحدة. اثنتان. ثلاث، من عيني الواقف أمام الباب المغلق؟ الباب المغلق ذي المصراعين: العراق والنقود، لكنها ليست قطرات الماء المعدنية التي كانت تعتصرها العيون الأجنبية.

القصيدة أذن تموج النفس في صعود يتلوه هبوط (الماضي؟ الحاضر، الأمل في العودة - اليأس منها) بين لفظتي " عراق؟ نقود "، فهي صورة سجين، لسجنه بابان مغلقان، يفضي أحدهما إلى الآخر، ولا تجدي القوة السحرية البدائية أمامهما شيئا لأن الواقع أقوى من السحر. وقبل ان نغادر هذه القصيدة يجدر بنا أن فيها إلى أمرين: أولهما أن الشاعر يلتفت لأول مرة إلى المسيح والصلب:

وحملتها فأما المسيح يجر في المنفى صليبه (2)

وهي لمحة عابرة، ولكنها ضرورية لتصور ما حدث من بعد في

(1) نفس المصدر: 14 - 15.

(2)

ديوان أنشودة المطر: 14.

ص: 208

شعر السياب. والثاني: أن الباب الذي فتحه ترديد لفظة " عراق " أفضى إلى عراق الطفولة لا إلى عراق الواقع الراهن حينئذ؟ أو ما يسميه الشاعر " عراق روحه "، فكأن الصلة التي تربطه با العراق هي عالم الطفولة وذكرياتها.

وهذا الأمر الثاني يؤدي بنا توا إلى قصيدة " أنشودة المطر " والى الفرق الكبير بينهما وبين القصيدة السابقة، بل إلى الفرق بينهما وبين كل ما سبقها من قصائد دون استثناء، فهي تقارب قصيدة " غريب على الخليج " في استغلال السحر الكامن في الكلمة، ولكن الكلمة هنا حقيقة كلية، تحقق عالما جديدا لا عودة ذاتية؛ وفي كلتا القصيدتين تنبعث الطفولة، ولكن انبعاثها هنالك ذكرى جميلة (تزيد من وضوح المفارقة مع الحاضر) أما هنا فان الطفولة جزء من حياة كبرى - فالعودة إليها ليست هربا إلى الماضي، وإنما هي وصل للماضي بالحاضر، ووصل للذات بالمجموع، ووصل للفرد بالمجتمع، حتى ينتج عن ضروب هذا الوصل وحدة عامة تستشرف المستقبل في ثقة الإنسان المطمئن إلى المصير الإنساني.

الحبيبة؟ في فاتحة القصيدة - هي الأم أو القرية أو العراق، أو هذه الثلاثة مجتمعة، والحب قوة ساربة في الإنسان والطبيعة على السواء: العينان غابتا نخيل ساعة السحر وحين تبسمان تورق الكروم وترقص الأضواء كأنها أقمار في نهر يرجه المجذاف، أو كأن النجوم ترقص في غوريهما، فإذا غابتا في ضباب الأسى أصبحتا كالبحر " سرح اليدين فوقه المساء " وأخذ يخفق فيه تيار من الحياة؟ فهو يعكس دفء الشتاء وارتعاشه الخريف والموت والميلاد والظلام والضياء؟ لا فرق بين الأم الكبرى والأم الصغرى، كلتاهما لبعدها تثير في نفس الطفل " رعشة البكاء ونشوة وحشية تعانق السماء "؟. عينا الأم

ص: 209

الصغرى تغيم بالأسى، والطفل يحس برعشة البكاء، فتلتفت الأم الكبرى بعينين باكيتين ووقع قطراتهما يقول: مطر؟ مطر؟ مطر؟، أنشودة متصلة متقطعة في آن تشبه هذيان الطفل الذي قالوا له ان أمه ستعود، ورفاقه يهمسون ان قبرها هناك على التل، يشرب قطرات المطر؟ ويجتاح كله حزن غامر، فيزداد إحساس الغيب بالضياع على سيف الخليج، فيصيح به " يا خليج يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى؟ ".

المنظر ناضح بالحزن حتى أعماقه، ورغم انه يصور طفولة الشاعر ويستمد اكثر مواده منها فانه الحقيقة التي يجب أن تلد حقيقة مغايرة.. من الحزن يجب ان يتولد المرح، كما يتحتم أن يتولد عن المطر خصب وغلال، ولكن الشاعر غريب ناء ولهذا فان المطر لم يولد في نفسه إلا جوعا، - شوقا إلى الام، إلى القرية، إلى الطبيعة؛ والشاعر والعراق سيان، لأن المطر لم يولد في العراق إلا الجوع؟ لأن الغلال التي يسكبها المطر لا يأكلها إلا الغربان والجراد؟ وتاريخ المطر في العراق طويل، ولهذا كان تاريخ الجوع فيه طويلا:

وكل عام حين يعشب الثرى نجوع (1)

ما مر عام والعراق ليس فيه جوع

والمطر يهطل: دفقة اثر دفقة؟ والرحى تدور في استخراج الغلال؟ ولكنها تمزجها بقطرات الدم؟ دم العبيد العاملين لإشباع الغربان والجراد،؟. إلا أن دفقات الأمطار والدماء لا بد ان تنداح كراتها وقطراتها عن عالم فتي جديد فيه الحقيقة المغايرة، فيه البسمة والنور:

(1) ديوان أنشودة المطر: 164.

ص: 210

في كل قطرة من المطر

حمراء أو صفراء من أجنحة الزهر

وكل دمعة من الجياع والعراة

وكل فكرة تراق من دم العبيد

فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد

أو حلمة توردت على فم الوليد

في عالم الغد الفتي واهب الحياة

مطر؟

مطر؟

مطر؟

سيعشب العراق بالمطر (1)

ويعود الشاعر فيتذكر جوعه؟ ظمأ إلى العراق، ويصيح بالخليج فلا يجيبه إلا صدى موجة تتكسر على الشاطئ حاملة الرغوة وبقايا بائس غريق ظل يشرب الردى من لحة الخليج - ارتوت عروقه حتى كادت تنفجر،؟ ولكن في العراق ريا آخر إلى جانب الظمأ والجوع:" ري الأفاعي التي تشرب الرحيق من زهرة يربها الفرات بالندى " إلا أن الحقيقة المغايرة لا بد أن تولد؟ من قطرات المطر وقطرات دم العبيد.

المطر " تلك هي الصفحة الخارجية من حقيقة الحياة، لشاعر يحس بالعربة عن الوطن والأم، ولكنه رغم المطر يحس بالظمأ، مثلما يحس العراق اثر المطر بالجوع، فالصفحة الداخلية من حقيقة الحياة هي الظمأ والجوع والموت؟ موت البائس الذي قذفه موج الخليج إلى الساحل، وموت الشاعر على سيفه في الوحشة والغربة والضياع؟

(1) أنشودة المطر: 165.

ص: 211

ولكن الموت لا يخيف، لأنه يلد الحياة، والجوع والظمأ لا يخيفان لأنهما سيفرجان عن شبع وري. الحقيقة الكبرى هي ان الطبيعة أم حانية: كلتاهما قد تبكي فتعبث اللوعة في نفوس، ولكن هذا البكاء بدء حياة جديدة، لأن قانون الحياة يقول: أن المطر لا بد من أن يلد عشبا، وشبعا وريا، وهذا الشبع والري من حق الذين يصنعون الحياة بدمائهم وليس من حق الغربان والجراد والأفاعي.

ها هنا الوحدة الكلية بين الفتى والأم والطبيعة والبائسين من بني الإنسان، مثلما هي الوحدة الكلية بين النشيد المتصل في القصيدة وشخوصها وبين الأضداد الظاهرية من حزن وابتسام وجوع وشبع وظمأ وري، لأن قوة التحول لن تجعلها أضداد إلى الأبد.

القصيدة بسيطة: لفظة واحدة استطاعت ان تغوص إلى سر الوجود، كما استطاعت ان تربط خيوطا مختلفة، وان توحد الطاقات في حبل قوي، هو حبل الأمل، فلم يعد الشاعر منفصلا بمشاعره الذاتية، ولم تعد النظرة الإنسانية مفروضة على هذه المشاعر من مبدأ خارجي، وإنما هي تسترسل؟ كما يسترسل المطر - من طبيعة الموقف كله، أنها صورة التلاحم بين الخصب والجوع دون إغراق في التصوير واستجلاب للانفعالات، وخروج بالأسى عن وقدته الطبيعية التي تشبه وقدة النار تحت الرماد. ومع أن عرض القصيدة قد اظهر كثيرا من الصبغة التقريرية، فأنها في الواقع من اشد قصائد السياب اعتماد على ألا لماح السريع والربط الداخلي، أول قصيدة من نوعها في شعره، وهي فاتحة ما يمكن ان يسمى " شعره الحديث " - اعني أنها في داخلها مبينة بنا تكامليا، وفي خارجها تتكئ على دورات متصاعدة، قليلة الاستطراد إلى الجزئيات التي تنحرف بها عن وجهتها العامة وعن غايتها النهائية. وإذا غاص القارئ بإحساسه الطبيعي في أعماقها وجد نهرا يعب كأنه صورة الخليج المرئي: فيه

ص: 212

اللؤلؤ والمحار وفيه الردى أيضاً، فيه الدم والجوع والحب والطفولة والموت، ولكن لا بأس: انه نهر الحياة الذي يحمل الناس جميعا إلى عالم فتي يهب الحياة. وهذا الهدوء التقبلي ليس جبرية وإنما هو اطمئنان إلى قوة التحول، إلى النظرة البدائية التي تربط الإنسان بالأرض وفصولها؟ القصيدة هنا كالأرض تهتز بالمطر لتربو نسمة الحياة، وان كان المطر يحدد سطحها ويجرف بعض معالمها، والأرض هي الأم، التي تمنح الحياة ولادة جديدة، ولما كانت القصيدة صورة للولادة الجديدة، فإن الإحساس بها يملأ النفس باستجابة غامضة، تكاد تكون لا شعورية.

ولهذا كله امتلأت القصيدة بصور نابضة أو متفتحة أو مشرفة على التفتح: " الكروم تورق؟ الأضواء ترقص؟ المجذاف يرج الماء - النجوم تنبض؟ ارتعاشه؟ الخريف؟ رعشة البكاء؟ الخليج يفهق بالؤلؤ والمحار والردى؟ العراق يذخر الرعود والبروق؟ الرجال يفضون الختم عنها؟ القطرة تنفتح عن أجنة الزهر -؟ " وليست هذه صورا للتزيين، وإنما تعتمد إيحاءات اللفظة والصورة معا لتمهد الطريق إلى التفتح الكبير؟ الذي تستعد له الحياة، وقد استطاع السياب أن يتخلص من صور الجنس التي كانت تعذبه وتملأ أخيلته في قصائده الأخرى حين جعلها تخب تحت صور الحياة عامة، ولم ينثرها على سطح الصورة الكبرى؛ وبالجملة صهر السياب ذاته وتجربته السابقة وموقفه الإنساني في " قصيدة "، بعد أن طال به العهد وهو يجيل قلمه في ميدان التجريب والخطأ.

ص: 213

فراغ

ص: 214