المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌يا مهلك موسى ومنجي فرعون - بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره

[إحسان عباس]

الفصل: ‌يا مهلك موسى ومنجي فرعون

- 14 -

‌يا مهلك موسى ومنجي فرعون

لم تكن التفاؤلية التي عبرت عنها قصيدة " فجر السلام " وما جرى مجراها من القصائد قادرة على أن تنسي السياب أن عالمه الحقيقي يشبه الدروب والزوايا التي وصفها في حفار القبور، وان الظلمات النفسية تصبغه بعتمة كئيبة، وان العدمية التي كان ينادي بها الحفار الجائع الظامئ ذو الشهوات المتوفرة إنما كانت صدى لحقد الشاعر على " نسل العار "، وان فكرة الدفع واسترجاع المدفوع؟ بين الحفار والمومي التي ماتت - إنما كانت أمنية شاب لا يجد ما يسعفه على اكتساب بلغة من طعام؛ فقد كان في بقية عام 1950؟ حين هبط بغداد دون عمل بعد أن فقد وظيفته في شركة نفط البصرة - متسكعا في الشوارع أو مترددا إلى المقاهي:" وأمسى ملازما لمقهى حسن العجمي يحيط به الشقاء والألم ولكنه يتحمله بصبر واباء، يعينه إخوانه الذين أتذكر منهم اكرم الوتري ومحبي الدين إسماعيل وخالد الشواف "(1) .

ولكن سعيه وسعي أصدقائه في تدبير عمل يحفظ له كرامته قد استطاع أن يخفف شيئا من تلك الضائقة التي كانت تعتصر نفسه،

(1) العبطة: 12.

ص: 169

فاشتغل مترجما في الصحف مثل صحيفة " الجبهة الشعبية " و " الرأي العام " و " العالم العربي " وفي صحف الأستاذ الجواهري، غير أن رزقه من الصحافة كان مرهونا بما تواجهه من تقلبات الحال، إذ كانت تحتجب أو يلغى امتياز أصحابها، ولهذا أخذ يتردد إلى بعض المتاجر ويعمل فيها بأجر يومي (1) . ثم توسط له بعض الرفاق لدى المدير العام بمصلحة الأموال المستوردة لكي يوظفه دون ان يطالبه بشهادة حسن سلوك، ففعل (2) وهكذا ارتاح إلى مرتب منظم وان لم يخفف ذلك من نشاطه في الصحف.

في تلك الفترة عاد فالتقى بالصبية اليهودية مادلين، حين كان يسير ظهر يوم (1950 أو 1951) قرب مقهى الزهاوي، فاستوقفته الفتاة وسألته عما لديه من شعر نضالي، وكانت لديه قصيدة طويلة لم تكن قد اكتملت يتحدث فيها عن نضال الشيوعيين في كل مكان: في الصين وفي اليونان وفي الاتحاد السوفيتي، فاتفقا على موعد، وجاء يحمل تلك القصيدة، ثم كان لقاء آخر بعد اسبوع، فمشى بصحبتها وهما يتحدثان في أمور نضالية، واتفقا على لقاء ثالث؛ واعد بدر لهذا اللقاء قصيدة يتغزل فيها بمادلين كتبها على ورق ازرق معطر؟ وخلع على القصيدة ثوبا نضاليا مهلهلا، ففرحت الفتاة بالقصيدة، قال:" وافترقنا وتواعدانا على موعد جديد ورحت أفكر بالموعد المنظر، فعزمت على أنني سآخذها هذه المرة إلى فندق من الفنادق المعروفة بأسرارها، وانتظرتها في الأسبوع الرابع، ولكن مضت ساعة على الموعد وهي لم تأت، وبعد أن يئست تماما انصرفت لأعلم فيما بعد ان الشرطة قد اعتقلتها ثم أطلق سراحها، لكنني لم أرها "(3) .

(1) المصدر نفسه: 13.

(2)

الحرية من مقال بعنوان: شعاراتهم الجماهيرية.

(3)

الحرية، العدد 1452.

ص: 170

غير أن قصة مادلين لم تنته عند هذا الحد، فقد كان السياب ذات يوم في مديرية الأموال المستوردة عندما جاء أحد الرفاق وقال للموظفين:" إن لدينا رفيقة يهودية؟ وهي شابة جميلة - تريد الحكومة ان تسقط عنها الجنسية العراقية وتسفرها إلى إسرائيل وإذا تزوجها مسلم أصبحت هي مسلمة ولم تغد الحكومة قادرة على إسقاط الجنسية عنها "(1) ، وكان السياب أحد الذين سجلوا أسماءهم للزواج منها؛ تلك قصة بسيطة لكن دلالتها عميقة، فاالسياب لما شم رائحة الأنوثة المشتهاة نسي النضال، واصبح لا يفكر إلا في قضاء وطر عابر، وحين اصبح هذا الوطر لائحا عن طريق الزواج، لم يتردد؟ باسم المشاركة في خدمة الحزب؟ في ان يستفل الرباط الزوجي لتحقيق الشهوة التي كانت تجتاح كيانة. وقارى القصة إذ يقدر شجاعة الصراحة لا يملك إلا أن يعجب لذلك المد العاتي الذي كان يحيل كل غاية جادة إلى تهافت نفسي واضح أمام رغبات النفس الجامحة. ولكن ذلك كله لم يمنع ان يكون البيت الذي الذي استأجره بدر وشقيقه وكرا من أوكار أنصار السلام، فيه يجتمعون ويتباحثون ويقرأون المناشير (2) .

واخذ الجو السياسي في بغداد يتلبد بالغيوم إذ قام رجالات الأحزاب؟ وخاصة أعضاء حزب الجبهة الشعبية والحزب الوطني الديمقراطي - بتقديم مذكر إلى الوصي تضمنت المطالب الشعبية، نشر بدر في جريدة " الجبهة الشعبية " قصيدة ثائرة تنبأ فيها بالوثبة الثانية، وسرعان ما حدثت تلك الوثبة التي عرفت في تاريخ العراق الحديث باسم " انتفاضة تشرين "(3)(1952) .

وحين يرد بدر بداية هذه الانتفاضة إلى أسباب لا علاقة لها

(1) المصدر نفسه.

(2)

المصدر نفسه.

(3)

المصدر السابق.

ص: 171

بالسياسة أدت إلى إضراب كلية الصيدلة، وهي أسباب مدرسية صرف (1) ، فانه لا يتجنى على الواقع التاريخي، ولكنه ينسى أن أية حركة في ذلك الجو المحموم كان يمكن أن تؤدي إلى انفجارات متلاحقة، فقد كانت النفوس تضطرم بالتذمر والغضب إزاء الحملات الانتقامية التي كانت تشنها الحكومات المتعاقبة على الشعب، وإزاء الفساد الذي ينخر في الجهاد الإداري كله، وقد أشار بدر نفسه قبل قليل إلى المذكرة التي رفعتها بعض الأحزاب إلى الوصي مطالبة بالاحتكام إلى الدستور واحترام القضاء وإطلاق الحريات وأنصاف الفلاحين وتحسين مستوى المعيشة وغير ذلك من المطالب.

ولهذا ما كادت مظاهرات الطلبة تخترق شوارع العاصمة ويصاب فيها بعض الطلبة، حتى هب الشعب إلى إعلان سخطه، وأخذت فئاته تهتف مرددة إصرارها على نيل المطالب التي تقدمت بها الأحزاب في مذكراتها وفي 22 أكتوبر (تشرين الأول) وجهت الحكومة الجيش ليتصدى للاهلين، ولكن المتظاهرين هتفوا بحياة الجيش، فلم يطلق الجند النار على أحد، على نحو التضامن الضمني، ولم ينجح أصحاب السلطة في تحريض فريق من أبناء الوطن - أعني الجند - ضد فريق آخر - أعني الجموع الشعبية.

وعمدت الحكومة إلى إطلاق البوليس ليلا للقبض على من تعتقد انهم اشتركوا في تلك الانتفاضة، وملأت بهم المعتقلات، وبذلك استطاع القضاء على هذه الحركة.

وفي أحد الأيام المظاهرات - قبل أن تسيطر الحكومة على الموقف - حدثت مظاهرات عنيفة احرق فيها مركز الشرطة باب الشيخ وقتل عدد من الأشخاص، فيهم بعض رجال الشرطة. وكان بدر - حسب ما كتب من بعد - ذا دور بارز في تلك المظاهرات، ورأى أن القبض عليه أمر

(1) المصدر نفسه.

ص: 172

لن تتردد فيه الشرطة، وقدر انه قد يسجن وانه سيفصل من وظيفته؟ دون ريب - ولم تعد لديه وسيلة يلجأ إليها سوى الهرب من العراق، فتنكر في ملابس إعرابي وسافر إلى البصرة، وفي أبي الخصيب سلمه بعض أقربائه إلى بعض " المهربين "، فنام ليلة في دار ذلك المهرب، وفي فجر اليوم الثاني؟ وكان يوما شتائيا باردا - أيقظه دليله، فسار بدر وراءه حتى بلغا نهرا صغيرا يفصل بين العراق وإيران، وحين اجتاز بدر ذلك النهير اصبح في ارض إيرانية (1) .

ولم تزد إقامة بدر هذه المرة في إيران عن شهرين وعشرة أيام، فذهب هو وصديقه العربي الإيراني محمد حسين إلى عبادان لعلهما يجدان سفينة تنقلهما إلى الكويت، وكان بدر يحمل كيسا صغيرا من القماش فيه دشداشة وفانيلة ونعل وكتاب " كيف تتعلم اللغة الفارسية في أيام ". وبعد ثلاثة أيام استطاع هو ورفيقه ان يصلا إلى القصبة، إلى الجنوب من عبادان، وهناك نزلا عند مختار القرية، وقد تجاوزا فترة الضيافة المعهودة، فكان المختار ضيق الصدر بهما، حتى إذا وجدا السفينة التي تنقلهما إلى الكويت كانت سفينة شراعية، قاعها من الطين لأنها " مطعونة " فالطين فيها يحول دون تسرب الماء ويسكبها ثقلا، وربانها رجل قذر مقامر سكير كليل النظر. وبينما كانت السفينة تسير بهم في عرض الخليج كادت تصطدم بأحد الفنارات، وصاح بهم الربان:" تشاهدوا "، ولكن اليأس الغالب جعل بدرا يقوم فيعنف الربان، وبهذه الحركة حفز الركاب إلى إبعاد السفينة عن الخطر المحقق، ولكن الرياح والبرد القارس والجوع كانت عوامل قاهرة، ولما اشتد عصف الرياح اخذ بدر يدعو قائلا:" يا الله نجنا، يا مهلك موسى ومنجي فرعون؟. " وحين لاح بر الكويت كان يصرخ بينه وبين نفسه: " لقد

(1) الحرية: 1442، 1502.

ص: 173

قهرت الخليج بسفينة مثقوبة " (1) .

وهناك نزل هو ومحمد حسين على جماعة من الشيوعيين العراقيين كانوا قد فروا إلى الكويت، واضطروا إلى الإقامة فيها بعد أن حكم عليهم بالسجن غيابيا، وامتلأ المنزل بساكنيه إذ اصبح عددهم ثمانية، وفيهم السائق والعامل والافندي، وفيهم خريج من دار المعلمين الريفية، ومن بين نزلاء البيت ثلاثة مصابون بمرض السل، كذلك قال بدر (2) ، أتراه كان على خطأ لو جعلهم أربعة؟

وتوزع الأصحاء العمل فيما بينهم، وكان ان وكل إلى بدر القيام بأعمال الكنس وغسل الآنية وإعداد الأسرة وتحضير الشاي والطعام؛ ومن الطبيعي ان يتوقع المرء وهو ينظر إلى هذا البيت المزدحم وقوع المجادلات والمنازعات بين سكانه، خصوصا وان المشارب متفاوتة، والاغتراب يضع النفوس في توتر متحفز، والهنات تكبر إذا صادفت أعصابا مرهقة، والموضوع الصغير يتطور في سياق الجدل التنفيسي إلى مشكلة، فكيف إذا عرفنا ان بدرا لم يكن راضيا عن الدور الذي يقوم به في خدمة تلك العصبة، وهو يرى انه كان يجب ان يتمتع بشيء من امتيازات الفتى المثقف الموهوب الذي يحسن شيئا آخر أهم من غسل الصحون وكنس الغرف وإعداد الأسرة؟

وكان الآخرون؟ وأكثرهم من العمال - يعدونه " أفنديا " ويلمحون لديه عدم التزام دقيق بما يعتقدونه ولاء حزبيا ومبدئيا فهو يشتري قصة " عشيق الليدي تشاترلي " للورنس، فيرونها في يده، فيستنكرون ذلك ويمنعونه من قراءتها، وينصحونه بأن لا يتجاوز في قراءاته الحدود المعقولة المقبولة: ان يساريا مثله يجب ان يتسامى على

(1) جريدة الشعب العدد الأسبوعي: 4090 (15/2/1958) .

(2)

الحرية، مقال بعنوان " أخلاق الشيوعيين ".

ص: 174

الأدب المنحل والقصص البديء المكشوف، وان يقرأ؟ أن شاء القراءة - قصص غوركي وايليا اهرنبرغ وتشيكوف من الروس وكتابات دكروب وحنا مينه في لبنان، وشعر نيرودا وناظم حكمت.

واتهمه الرفاق بأنه ينتمي إلى طبقة البرجوازية الصغيرة وان ما لديه من آراء شاذة إنما هي رواسب تخلفت في نفسه بسبب ذلك الانتماء، ومرة قال له احدهم:" انتم الافندية؟ انتم أبناء الطبقة البتي برجوازية "، فثار في وجهه قائلا:" تعال حاسبني، أينا الافندي وأينا الكادح؟ انك تتقاضى راتبا اكبر من راتبي، وتلبس ملابس خيرا من ملابسي، وتنام على فراشي، وتقوم بأعمال أهون مما أقوم به، انك لا تكنس ولا تغسل الاواني القذرة؟ "(1) .

وحلت ذكرى الوثبة، فأحب الرفاق الاحتفال بذكراها واعدوا كلمات لتلك المناسبة، وكان فيهم إيراني خطب بلغته، فقال في خطبته:

" إن فيصلا ونوري السعيد وعبد الإله اتفقوا ضد الشعب العراقي وعقدوا اجتماعا في قصر الزهور "، فاستولى الضحك على بدر ولم يستطع إسكاته، لأنه حين تصور الملك الطفل تنسب إليه أمور خطيرة الشأن، أضحكته المفارقة، ولكن الرفاق ثاروا عليه، وقرروا طرده من الحفلة وحرمانه من العشاء تلك الليلة (2) .

وهكذا كانت الفترة التي قضاها في الكويت مليئة بالمهارات والمنازعات، في موضوعات مختلفة، ولكن اشد ما غاظ الرفاق فيه تفضيله شكسبير على ناظم حكمت وادلاله عليهم بثقافته الواسعة في اللغة الإنكليزية وغضه؟ في معرض التحدي والمهاترة - من كل الشعراء اليساريين كأن يقول: " أخي، ليس ناظم حكمت وحده بل لو

(1) المصدر السابق.

(2)

المصدر السابق.

ص: 175

وقف ناظم حكمت ثم وقف على رأسه بابلو نيرودا ثم وقف على رأس هذا اراغون ثم وقف قسطنطين سيمونوف فوق رأس اراغون لما بلغوا جميعا كعب شكسبير " (1) ويشفع هذا كله باستعلائية غياظة وهو يتحدث عن " دار المعلمين العالمية " حتى قال له أحدهم مهما ترا منذرا معا: " نحن يا عمي عمال وقد تكون أنت قد درست الأدب الإنجليزي في دار المعلمين ولكن؟ ولكن سيأتي يوم حين نجلس نحن الذين لا نعجبك وراء منصفات القضاء لنحاكمكم " (2) .

ليس من الضروري أن تكون التهمة الموجهة إلى السياب - وهي أنه يحمل رواسب الطبقة البرجوازية - تهمة صحيحة، ولكن حسبها أنها التفسير الذي استطاع أن يهتدي إليه رفاقه حين كانوا يرون في تصرفاته ما لا يقرونه من الزاوية العقائدية. لقد وجدوه - كما وجد هو نفسه - يقرأ غير ما يقرءون، ويضحك في أشد الأوقات جدية، ويطامن من شموخ الأدباء الماركسيين، ولا يتورع حتى عن قراءة أدب موسوم بالانحلال. ورغم هذا التباين في الميول والمفهومات، وربما في الغايات، ظل بينهم يستقبل الرفيق " جنجون "؟ منظمهم الحزبي - الذي كان يسكن في محلة نائية من محلات تاكويت، ويهرع إلى لقائهم وهو يحمل جريدة الحزب أو أحد منشوراته، للدراسة والمناقشة.

ولما عاد إلى العراق؟ بعد ستة اشهر في الكويت؟ ووجد الأحوال فيه لم تتغير، لم يكن يحس بأنه؟ فيما تربى لديه من مشارب وآراء - قد اصبح غريبا على حزبه ومعقد انتمائه، وإنما ظل الحزب هو مفزهع الوحيد، ولهذا قرر أن يغادر العراق وأن يسافر إلى مهرجان الشبيبة في بوخارست، فأخذ من الحزب الشيوعي العراقي رسالة

(1) المصدر نفسه.

(2)

المصدر نفسه.

ص: 176

توصيه إلى حزب توده الشيوعي في إيران (1) .

وقد زلزلت التجربة الإيرانية في المرة الأولى والثانية من زيارته لإيران، بقية الدعائم الحزبية التي كانت ما تزال ثابتة ثبوتا مؤقتا في نفسه، وقربته من لحظة الانفصال.

في تلك التجربة رأى العرب الذين يقطنون تحت الحكم الإيراني في منطقة " عربستان " ووجد لديهم شعورا قوميا قويا متسترا في آن، وذات يوم كان في أحد المشارب مع بعض أصحابه يتحدثون بالعربية فاقبل عليهم بعض الشبان العرب من أبناء عربستان، وراح أحدهم يقول في حسرة: انتم اخوتنا وكم تتمنى لو كنا معكم في بلاد واحدة، واخذ يغني اغنية عربية يذكر فيها الملك " فيصل " متدحا، ظنا منه أن ذلك يعجب العراقيين، فما كان من أحد السكارى الإيرانيين الا أن هجم على الفتى العربستاني صارخا:" أنت إيراني، غني على ملك إيران؟ شاهنشاه "(2) . ورغم أن أهل تلك المنطقة يتكلمون العربية فان الحزب الشيوعي يصدر لهم صحيفة تسمى " خلق خوزستان " باللغة الفارسية؛ وقارن بدر بين الحزبين: الحزب الشيوعي العراقي يكاد يكون في خدمة الاقليات وصوتها المعبر عن آمالها، فهو يصدر لكل اقلية صحيفة بلغتها، وحزب توده الإيراني يفيض بنزعة قومية غالبة؛ يقول بدر:" ورأيت؟ فيما رأيت - إن حزب توده كثير الاهتمام بالحوادث التقدمية والوطنية في التاريخ الإيراني، فهناك مثلا يوم يحتفل فيه الشيوعيون الإيرانيون احتفالا عظيما هو ما يسمونه بيوم " مشروطيت " وأظنه؟. يوما طالب فيه بعض الأشخاص الإيرانيين بتطبيق روح الدستور في إيران (3) .

(1) الحرية: 1442.

(2)

الحرية: 1502.

(3)

الحرية، من مقالة بعنوان:" تجربتي مع تودا ".

ص: 177

ثم حدثت الثورة على مصدق في تلك الفترة، وشهد بدر كيف تخلى حزب توده عنه حتى تمكن زاهدي ومن وراءه من المتآمرين من إنجاح خطتهم، ولما ثار بدر على هذا التخاذل وسأل عضوا من حزب توده؟ في طهران - كيف يدعون الأمور تتجه في هذا المجال أكد له ذلك العضو أن الثوريين كانوا يقدرون على سحق زاهدي وأردف قائلا: اسمع أيها الرفيق العربي نحن على حدود اتحاد شوروي (الاتحاد السوفيتي) واذا استولينا على الحكم؟ نحن الشيوعيين - فهل تظن الأمريكان يسكتون عن ذلك؟ بالطبع لا.. سوف يتدخلون، وإذا ما تدخلوا أصيب الاتحاد السوفيتي بالضرر " (1) وأيا كان حظ هذا التعليل من الوحاهة أو التفاهة، فإن موقف حزب توده قد مكن الفرصة لاستقواء الاتجاه اليميني في إيران وحصر حزب توده في " قمع بلوطة "، ولكن هذا الموقف نفسه قد حطم بدر آمالا عريضة، وازدادت آماله تكسرا حتى أصبحت دقاقا مطحونا حين عاد إلى العراق وحدث رفاقه بما كان من تقاعس الحزب الإيراني، فوجد رفاقه العراقيين يصوبون ما اقدم عليه حزب توده، لأن في ذلك كل خير ومصلحة للسلام.

وبقيت الشعرة الدقيقة التي كان يستبقيها معاوية بينه وبين الناس فلا يسمح لها بأن تنقطع، ولكن بدرا كان غير معاوية، ولذلك يقول في وصف خيط الشعاع الهبائي:" لقد بقيت رغم هذا عضوا في الحزب الشيوعي العراقي معزيا نفسي بأن القيادة قد تتغير ويأتي إليها أناس يقدرون مصالحهم القومية حق قدرها. غير أني لم يعد يربطني بالشيوعيين غير خيط واه ضعيف، وكان أقل خطأ يرتكبونه كافيا لأن يقطع هذا الخيط بيني وبينهم "(2) .

(1) الحرية: 1442.

(2)

الحرية: 1442.

ص: 178

وذلك هو الجانب الحزبي من التجربة الإيرانية التي أمدت السياب بشئون أخرى مفيدة، فقد تعرف فيها إلى أشخاص كثيرين، وأتيح له من خلالها مزيد من التمرس بنماذج نفسية وأخلاقية مختلفة، ومشاركة في بعض ضروب النشاط، فقد كان يخرج مع " الرفاق " في نزهاتهم أيام العطلة الأسبوعية ويستمع إلى الخطب والقصائد، ومرة ألقى قصيدة عن السلام بالعربية ثم قرئت ترجمتها بالفارسية، واستنسخها أحد الرفاق ودرسها لتلامذته في إحدى المدارس الثانوية (1) . ويقول:" لقد تعلمت في هذه السفرة من فنون الحب ما كنت أجهله ولم يكن ذلك إلا عن طريق رؤيتي للآخرين "(2) . وقد تعرف إلى جوانب مختلفة من الحياة في عربستان وزار شمران؟ وهي مصيف على مسافة من طهران - وسكن في العاصمة الإيرانية وتردد إلى الحانات ودور البغاء في " دروازة قزوين "، ورأى؟ عن كثب - أساليب زاهدي في تعقب الحزب الشيوعي، وتعلم قليلا من الألفاظ. الفارسية لتعسفه على التفاهم مع الناس.

ولما أزمع العودة إلى وطنه كان يعول على ثمانين تومانا استدانها منه أحد الشيوعيين العراقيين (وهو إيراني الأصل) ولكن المدين عجز؟ أو تظاهر بالعجز - عن الوفاء بدينه معتذرا بأن الأعمال معطلة وأنه لا يملك مصدرا للارتزاق، وعندئذ لجأ بدر إلى رفيق عراقي يعده مثال النزاهة بين من عرفهم من أعضاء الحزب ويرمز إليه بالحرفين (س. ج) فباعه فراشه وسريره واشترى تذكرة قطار في الدرجة الثالثة إلى المحمرة ليعود منها إلى العراق (3) ، وهو مثقل النفس بالتجربة الإيرانية المريرة.

(1) الحرية " تجربتي مع تودا ".

(2)

المصدر نفسه.

(3)

الحرية، مقالة عنوانها " نماذج من سلوك الشيوعيين ".

ص: 179

بقي أن أقول: أن التفرغ الذي هيأته له هذه المرحلة في الكويت وإيران، وشعوره بالغربة الضائعة، وتململه تحت وطأة الضيق المادي، وامتلاء نفسه بالمقارنات والمفارقات، كل تلك العوامل قد مكنته من الانصراف إلى إنجاز مشروعات شعرية غير قليلة، وخاصة في نطاق القصيدة الطويلة، وقد منحت شعره شيئا من تلوين جديد.

ص: 180