الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المغرب (ثانيا) عزل لبنان عن العالم العربي وإقامة قومية خاصة به تستمد معالمها ومقوماتها من الكيان القومى الضيق، والارتباط مع الغرب.
ولذلك فإن فرنسا لم تلبث بعد احتلال لبنان 1917 ان نفذت منهاجا ضخما للقضاء على عروبة لبنان وعزله عن العروبة. بعد أن كانت الارساليات الغربية قد تقدمت بهذه المحاولة سنوات تزيد عن ستين عاما.
وكان أبرز معالم ذلك هو: وضع اللغة الفرنسية في مستوى اللغة العربية في الدستور وفي المدرسة والمحكمة والمصرف، والصحافة، والكتابة وبذلك خلقت ثنائية فكرية وثقافية أدت إلى كثير من الانحراف الفكرى.
كما حاول الاستعمار الفرنسي في غزوته الثقافية على دعوة الوحدة العربية التي كان لبنان أول من حمل لواءها ودعا إليها في العشرينيات من القرن العشرين، والحقيقة الثابتة ان المسيحيين في الشام وفي لبنان بالذات هم أول من حمل لواء الدعوة إلى القومية العربية ولكن الاستعما حرصا منه على تمزيق كيان لبنان الداخلى وعزله عن القومية العربية عمد إلى خلق "ازدواج لبنان" بدعم الطابع الطائفي تحت اسم المحافظة على الكيان اللبناني.
غير أن مؤامرة التجزئة ما لبث أن انكشفت، وتبين أولا أن الصراع بين بريطانيا وفرنسا هو الذي خلق الطائفية وعمقها بأحداث 1860 التي حرضت عليها بريطانيا وأن الطائفية- كما يقول ادوارد حنين (مجلة: الندوة اللبنانية 22 نوار 195) ليست الا مزيجا من قشور الدين دون لبه، ومن شعائر الاديان دون الامان، ومن غيرة القساوسة والمشايخ دون رأفتهم. ومن سذاجة اللبناني دون فطنته ومن عمل السياسة دون وعيها وضميرها ومن خبث السياسيين وقسوة قلوبهم".
كما تكشفت حقائق الامتزاج بين طائفتي لبنان "حتى أن بعض العائلات الدرزية تربط نفسها بوشائج الأخوة والقربى إلى بعض العائلات اللبنانية المارونية وبالعكس، وأن ما جرت به العادة بين الموارنة والشيعيين وبين المسيحيين والمسلمين ".
وتكشف " أن بريطانيا عملت على على إزالة المملكة الناشئة في مصر بالاحتلال وتهديم الامارة المتمكنة في لبنان بالفتنة".
وأن الاستعمار بنفوذه قبل احتلال لبنان وبأدواته ووسائله بعد احتلاله عمد إلى "انماء روح التفرقة بين اللبنانيين" وقال حبيب أبو شهلا "ان الطائفية في لبنان معطلة للوحدة القومية ومسببة للتفكك في الجسم اللبناني وأن الانانية الطائفية والتوازن الطائفى والمصلحة الطائفية نكبة عظيمة وشر مستطير" وقد تأكد باجماع الرأى أن المطامع الأوربية هى التي مزقت لبنان.
وقد ألقت الأربعينات على لبنان ضياء جديدا حين أعلن استقلال لبنان 1943 اذا كان هذا الاستقلال نقطة تحول ونقطة التقاء.
فقد أعلن رياض الصلح أن (لبنان وطن ذو وجه عربي- وأن لبنان لن يكون للاستعمار مقرا ولا لاستعمار الأقطار العربية ممرا).
وكان هذا مقاومة لأفكار التجزئة التي تمثلت في منظمة (الحزب القومى السورى) ثم وجه بشارة الخورى وهو من أصدق الوطنيين الذين حكموا لبنان عند اعتزاله النظر إلى القومية العربية فقال "لا تحولوا وجوهكم عن دنيا العرب فان لكم فيها اخوان فكر وقلب ولسان".
***
الحزب القومى السوى والكتائب
وقد ركزت هذه الدعوة إلى تجزئة لبنان وعزله عن الأمة العربية في منظمتين في لبنان: هما الحزب القومى السورى الذي يعمل في سوريا ولبنان وحزب الكتائب وهما متحدين في الأهداف- وان كان حزب الكتائب في حقيقته منظمة طائفية متطرفة- غير أنها تحمل نفس الأهداف في الولاء لفرنسا لا للبنان وفي الايمان بوسائل الارهاب والاغتيال.
وقد حمل الحزب القومى السورى لواء الدعوة إلى الاقليمية والتجزئة وتزييف الحقائق للقضاء على الوحدة العربية ومقاومة دعوة القومية العربية فالوطن السورى- عند الحزب القومى السورى- هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية. وهى ذات حدود جغرافية تميزها عن سواها تمتد من جبال طوروس في الشمال إلى قناة السويس والبحر الأحمر في الجنوب.
وحدد الحزب موقف سوريا من الأمة العربية فقال
انطوان سعادة (مارس 1983) أن العرب ليسوا فاتحين كغيرهم من الأمم التي مرت بهذه البلاد والفتح لم يغير الهوية القومية السورية وأن اندماج القضية السورية القومية في القضية العربية كان سببه وقوع بلاد عربية غير سورية تحت التسلط التركى مما ساعد تولد فكرة اجتماع امم العالم العربي الخاضعة لتركيا على القيام بحركة تحريرية مشتركة" كما وصف العرب بالصحراويين وبلادهم بالصحراء وقال انهم متخلفون عن بيئة سوريا وعنده " أن الأمة السورية هى الأمة المؤهلة للنهوض بالعالم العربي".
وجرى الحزب القومى السورى على هدم التراث العربي واحياء تراث الشعوب التي حكمت سوريا قبل الإسلام كالآشوريين والكلدانيين والبابليين والحيثيين والفينيقين.
وبذلك حملت منظمة القوميين السوريين لواء حملة التجزئة في لبنان لمقاومة الوحدة بين أجزاء الكيان العربي وجرى الأب لامنس في كتابه عن سوريا على نفس النهج فأعلن أن السوريون أمة تامة وأن القضية السورية قضية قائمة بنفسها ومستقلة عن أى قضية أخرى. وأن الأمة السورية هى وحدة الشعب السورى والمولدة من تاريخ طويل وأن الوطن السورى هو البيئة الطبيعية التي نشات فيها الأمة السورية.
وجرى أنطوان سعادة على نفس النهج فقال بأن الأمة العربية شئ غير قائم في الواقع وأن هناك شعوبا متعددة تتكلم اللغة العربية. وأن العرب لم يؤثروا في سوريا أى أثر يذكر، وانما هى أثرت في العرب. وهو نفس ما تردد في مصر بالنسبة للعرب في الدعوة إلى مصر الضيقة والى الماضى الفرعونى.
ولم تقف منظمة (الحزب القومى السورى) إلى حد اذاعة هذه الآراء والدعوة لها وانما عملت على فرضها بالقوة عن طريق الارهاب المسلح والقضاء على من يقف في وجهها بحجة أن الشعب العربي لا يعرف ما يريد، وهدفها الاتجاه إلى قلب الأوضاع باسم "تغيير عقلية الحكم". ولو كانت هذه الدعوة مجردة خالصة من التبعية والعمالة للاستعمار والغزو الاستعمارى الفكرى والتغريب لكان هناك مجال لقيام سجال فكرى بينها وبين مبادئ القومية العربية. للكشف عن مدى زيف هذه الآراء، غير أن تأكد الصلة بين هذه المنظمة وبين الاستعمار قد حكم عليها بأن توضع في صف الاستعمار نفسه كمنظمات التبشير ومختلف هيئات العمل الاستعمارى في ميدان الغزو الفكرى العربي.
وذلك أن أنطوان سعادة انما بدأ دعوته إلى فكرة القومية السورية في المهجر ثم تابع الدعوة 1929 بعد عودته إلى وطنه لبنان ثم أنشأ في (16 نوفمبر 1932) الحزب القومى السورى وكون تشكيلاته العسكرية متأثرا بالفاشية والنازية على أساس الارهاب والتعصب والأقليمية والخيانة.
وقد أظهر عداءه للكيان اللبناني، مع أعضاء حزبه، وحكم عليه بالسجن وحل الحزب عام 1937 وعاد إلى المهجر، وفي أبريل 1944 أنشأ أتباعه الجزب القزمى الاجتماعى برئاسة نعمت ثابت. فلما عاد أنطوان سعادة 1947 إلى لبنان رأس الحزب ثم بدأ يدخل مرحلة تنفيذ فكرته باحداث انقلاب في لبنان وفق مخططه الاستعمارى واتصل بالسلطات الاجنبية وانكشفت هذه التحضيرات (يونيو 1949) التي اتجهت إلى تسلم الحكم بالعنف حل الحزب وعلن سعادة التعبئة الشعبية العامة واعلن الثورة في لبنان حيث هاجم انصاره المخافر ودور الحكومة (تموز 1949) ثم هرب سعادة إلى دمشق حيث قبض عيه وحوكم في 20 يوليو 1949 وحكم عليه بالإعدام، غير أن الحزب عاد مرة أخرى بصورة أخرى كان لها بعد الحرب العالمية الثانية دور كبير في خيانة أهداف القومية العربية. وكان للحزب تاريخ واضح في التغريب والتجزئة والعمل للاستعمار عن طريق عصابته الارهابية التي كانت سلاح المستعمر وأداته في القضاء على الأحرار وقتلهم أمثال: رياض الصلح أول من قال (ان لبنان وطن ذو وجه عربي) وعدنان المالكى داعية القومية العربية في الجيش السورى ونسيب المثنى الصحفى اللبنانى الحر.
وقد التقى حزب الكتائب اللبنانى مع الحزب القومى السورى في أهدافه ومخططاته واغتيالاته يؤمنا بأن الاخلاص للقومية العربية خيانة واشتراكا في كل مؤامرة ضد الوحدة وضد تجمع الأمة العربية وحريتها واتخذوا لهم من لبنان قاعدة ومنطلقا.
وقد أيد الحزبان الصهيونية في فلسطين ووقفا في وجه العمل لتحرير فلسطين وكشفا عن دورهما بالوقوف صراحة في صف الصهيونية وهاجموا وثيقة الاستقلال التي أعلنها رياض الصلح واتفقا مع الجنرال كانرو (1944) على مقاومة التيار العربي.
وقد عمل سعادة مع الألمان والأمريكان والانجليز وكان أيمانه بفرنسا أنها "الأم".
وقد واجه الفكر العربي الإسلامي المعاصر هذه الدعوة، بالتقنين والتحليل وكشف عن مغالطاتها واخطائها وزيفها وعناصر الافتعال فيها والهوى الاستعمارى والتغريبى الواضح في مخططها.
وأول عوامل الخطأ في نظرية أنطوان سعادة اضطرابه في تحديد المنطقة التي يعتبرها (الوطن السورى) وتغييره حدود هذه المنطقة عدة مرات بالزيادة والحذف.
وأن نظريته قامت على أساس الخروج من نطاق لبنان دون الدخول في حوزة العروبة، وزعمه أن سوريا منطقة منفصلة من الأمة العربية.
فقد عين حدود سوريا ببادية الشام ثم أدخل إليها قسما كبيرا من العراق ثم بلغ بحدودها إلى جبال بختيارى وبذلك أدخل العراق كله في حدود سوريا وقد فسدت منذ وقت بعيد نظرية العامل الجغرافى في تكوين القوميات والأمم وتأكد أندعامتى القومية هما اللغة والتاريخ.
ومن مغالطات سعادة معارضته للغة كعنصر من عناصر القومية ورفض القول بأنه متى استبدل المرء لغة جديدة بلغته خسر قوميته، وقد أعلن نظرية لا تثبت للمنافسة وهى أن في الإمكان أن تقبل الأمة لغة جديدة دون أن تفقد خصائصها وهو قول لا أساس له.
ولقد كانت الدعوة إلى "التجزئة" وخيانة القومية العربية، وتأييد الصهيونية وخيانة لبنان العربي بأحداث انقلاب ضده. وتأييد المستعمرين كلها من العوامل التي كشفت زيف الدعوة فضلا عن سيرها ضد التيار الضخم، تيار التقاء الجزء بالكل وارتباط سوريا الأكيد بالأمة العربية تاريخيا وفعليا.
ويرى ساطع الحصرى أن الدافع الذي دفع أنطوان سعادة إلى التحامل على القومية العربية هو (1) ان فكرة العروبة تختلط في ذهنه مع معانى البداوة والصحراوية (2) ومع الفكرة الإسلامية (الحزبية المحمدية) فقد توهم أن فكرة الوحدة العربية قناع لهدف إسلامي وهو في هذا غير سليم النظرة.