الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القطر المصري والسودان بالاحتلال فوائد لا تقدر".
وقال الدكتور صروف "أن احتلال بريطانيا لمصر دفعها إلى التقدم (أغسطس 1921) ولو لم يحتل الانجليز القطر المصري لبقى سائرا سيره الطبيعى كما كان سائرا حينئذ فليس في كل قواميس الكون وقوانين العقل ما يجعلها تحكم أنه كان يتقدم على سوريا ويتركها وراءه بمراحل كثيرة.
وقال فارس نمر (مارس 1910 المقتطف) أن كانوا يعيرونى أنى اعترفت للاحتلال بالاصلاح وللمحتلين بأعمال حسنة في هذا القطر فأنا على رؤوس الأشهاد احتلالى من أكبر الاحتلاليين لأنى جاهرت وشهدت ولم أخف ولم أنكر أن المحتلين أصلحوا هذا القطر اصلاحا عظيما، ونشروا عليه ألوية العدل والحرية وأنهم رقوه ماديا وأدبيا. وقد استقرت الأفكار على أن الاحتلال لابد وأن يدوم حتى ترتقى الأمة المصرية في المعرفة والعلم والقوة والكفاءة لتدبير أمورها وتولى شئونها بنفسها وذلك يستغرق زمانا طويلا".
ويصور المقطم (مايو 1910) كيف تنال مصر الحكومة النيابية فيقول:
أن مطالب الحزب الوطنى المتعلقة بالدستور من أشرف المطالب وأجلها، فنحن لا نذم غاية الحزب الوطنى بل غيرها ظاهرا وباطنا. والسبيل الذي نال به العثمانيون دستورهم يتعذر نيل الدستورية في القطر المصري. لأن أحوال القطر المصري مخالفة لأحوال تلك البلدان. أن للقطر المصري علاقات خصوصية بالأوروبيين تجعل نليلنا الدستور التام رغما عنهم صعبا جدا وان لم يكن ضربا من المحال.
وقد اعترف لورد كرومر في كتابه مصر الحديثة أن ماليى أوربا الذين يملكون الدين المصري هم الذين ألجأوا الحكومة الانجليزية إلى محاربة عرابى واحتلال القطر المصري وديون هؤلاء الأوربيون لم ينقص من ذلك الحين إلى الآن بل زادت. للأوربيين في أوربا 150 مليونى وللأوربيين ف مصر 60 مليون أى ما يوازى ثلث ثروة هذا القطر.
هؤلاء الدائنون لم يأتمنوا غير انجلترا على حفظ ديونهم فألجأوها إلى ارسال جنودها لاخماد الثورة العرابية واحتلال القطر المصري.
فعلينا أن نقنع الأوربيين عموما والانجليز خاصة أننا كفؤ لحفظ الاصلاح الذي تم في البلاد، وكفئو لحفظ أموالهم ومصالحهم وتأدية الفوائد والأقساط في مواعيدها وذلك بأن نسالم الأوربيين ونصادقهم على قدر الامكان وأن نناظرهم في الاجتهاد وأن يهتم كل موظفى الحكومة بعمل ما يطلب منهم بأمانة واخلاص حتى نثبت أنه أكفأ للوظائف من الأوربيين. وأن ننشر الأمن والاطمئنان في البلاد. وهذه السكة قد تكون طويلة نقطعها في سنوات كثيرة، وقد تكون قصيرة نقطعها في سنة أو سنتين. وأعتقد أن عقلاء الحزب الوطنى وحزب الأمة والحزب الدستورى يوافقوننا على ذلك.
والحكومة النيابية الحقيقية لا تنال في القطر المصري بالثورة والمغاضبة بل ما نرى".
هذه هى فلسفة الاستعمار البريطانى في مصر كما رسمتها أقلامه في المقطم والمقتطف في دعوة إلى الذلة والاستسلام والخضوع، وهو نفس المنهج الذي سارت عليه "الجريدة" لسان حزب الأمة والتي كانت تدعى أنها للمصريين وليست للانجليز ولا للخديوى كما ظهر كتاب أشادوا بالامبراطورية البريطانية وركزوا على ضرورة تأكيد الصداقة معها.
***
7 - المقاومة
كانت هذه القوى تعمل في طريق واحد هو القضاء على الوحدة العربية بين الأقطار التي فصلها الاستعمار وجزئها، والقضاء على الوحدة الداخلية أيضا بين أبناء القطر الواحد. ومحاولة خلق حياة فكرية اقليمية ضيقة تقوم على أساس اللهجة الاقليمية والانفصال عن اللغة الفصحى، وانكار القيم الأساسية للشخصية العربية كالتاريخ والدين.
وفي القضاء على اللغة والتاريخ والدين قضاء على القوة النابضة التي تدفع إلى الحرية والمطالبة بالجلاء وتخليص الكيان.
وكان لسيطرة الاستعمار على الصحافة والتعليم ووسائل الاعلام أثره في اشاعة روح جديدة تقوم على أساس النظر إلى الغرب نظرة الاكبار والنظر إلى الشرق نظرة الاحتقار، ومؤدى هذه النظرة محبة الغرب
والارتباط به واعتبار الاستعمار صلة حضارة وتمدين وليست صلة تسلط واستيلاء، مع اكبار ثقافة الغرب القائمة على أساس الإلحاد والاباحة والمادية والتنكر للقيم الروحية والانفصال تدريجيا من الشرق والعروبة. والنظر إلى التاريخ العربي نظرة الشك والتهكم. وبذلك يركز الاستعمار قواعده ويبقى إلى الأبد كما كان يطمع كرومر في مصر.
غير أن القوة الروحية والوطنية قد استطاعت أن تنفذ خلال هذا الضباب الكثيف، وأن تشق طريقها في مقاومة عزلاء من جميع أسلحة الاستعمار القوية الضخمة فكشفت عن خداع الاستعمار، وأظهرت خيانات الملوك والأحزاب وأعوان الاستعمار وعملائه، وتركت "ميسلون" في سوريا و"دنشواي" في مصر وأمثالها في السودان والمغرب جروحا دامية في ضمير البلاد العربية لم تلتئم، وقد ظلت تثير على الاستعمار وأعوانه روح السخط، وقاومت الصحافة الاستعمارية صحافة وطنية كانت أقلامها أشد ايمانا وصدقا. وأبعد أثرا في النفس العربية، وقد كانت كلمة الحق والكلمة الوطنية بعيدة الأثر في القضاء على القضايا الزائفة والأكاذيب وصنوف الخداع.
وفشلت كل معارك القضاء على اللغة العربية أو الدين أو التاريخ وتحطمت قضية اقامة صداقة بين البلاد العربية والاستعمار، وارتفعت الصيحات في كل مكان بالثورة على الاستعمار وأعوانه فاذا أخمدها الاستعمار، تحولت ال ضرام قوى يتصل بالشعب عن طريق الصحافة والكتابة والخطابة ويترتب الفرص ليتجمع جديد.
وفي شوارع مدن عربية كثيرة ارتفعت النداءات بخيانة الملوك وخيانة زعماء ظلوا سنوات طويلة يخدعون شعوبهم، وفي ميادين عامة وأمام مساجد مقدسة قتل ملوك ووزراء خانوا أوطانهم:
ولم يستطع الاستعمار أن يحمى أعوانه الخونة فحاسبهم الشعب. وفي ظروف كثيرة فرض الشعب سلطانه فمنع المستوزرين من تولى الحكم حتى تجاب مطالبه، واندفعت أيد حرة سوداء على الخونة فحررت الأوطان من كثير من العملاء.
وظلت هذه القوة الوطنية المؤمنة حية نابضة مهما حيل بينها وبين الظهور.
وحاولت الأقلام أن تبلغ كلمة الحق مهما حيل بينها وبين اعلانها فكانت النشرات والصحف السرية والكتابات الرمزية.
وكان لقضية فلسطين وخيانات ملوك العرب فيها أثرها الكبير في تاريخ روح الوطنية والدعوة إلى الوحدة في سبيل مقاومة الخطر.
وتنادت أجزاء الوطن العربي في شعرها ونثرها بالرغم من حواجز الاستعمار وخرج زعماء أبرار فطافوا أنحاء العالم يكشفون مظالم الاستعمار وينددون به. وتلاقت طوائف المسلمين والمسيحيين في مصر في وحدة وطنية، كما تلاقى العرب والبربر في شمال أفريقيا لمواجهة الاستعمار الذي كان يسعى للتفريق بينهما، وكشف الشعب خدعة الأحزاب السياسية وفشل النظم النيابية الغربية القائمة في ظل جيوش الاحتلال وسلطان المندوب البريطانى ولم تنطل كلمات المقطم والمقتطف على الشعب الذي كان يعرف حقيقة طريقه.
ووجد الفكر العربي من هذه المعركة حصيلة ضخمة وزادته قوته حياة وزادت معالمه قوة، وقد أفاد الفكر العربي من هذه المعارك أنه جدد نفسه، وأضاف لعمله دعائم جديدة في سبيل دعم خطته والانطلاق في طريقه محافظا على مقوماته متصلا بالحياة متطورا مع الزمن.