الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والاكتفاء بنشر غمامة كثيفة من الغموض والتشكيك والآراء المتناقضة وذلك في محاولة ضخمة لاعطائنا الصورة المظهرية دون الصورة الحقيقة للثقافية فقد قاوم الاستعمار التعليم الشامل لوجه الثقافة ووقف في وجه انشاء الجامعة المصرية.
وحاول أن يجعل هدف التعليم قاصرا على اخراج موظفين وليس لتخريج علماء وباحثين.
كما قدم في ميدان الحضارة أسوأ ثمراتها في تجارة الرقيق الأبيض والكحول ومواد الزينة واللهو وهى الأجهزة التي تمكن الغرب بها من القضاء على مقومات شخصيتنا والاستيلاء على أموالنا.
ولقد ظهر واضحا اثر هذا "التغريب" في الأقطار التي تحررت من بعد وكسبت الاستقلال، فقد ظلت خطط التغريب قائمة في كل ميادين الفكر والصحافة في خلق طبقة من المفكرين ورجال الدولة الذين انصهروا في بوتقة التغريب فآمنوا بهذا الاتجاه ودافعوا عنه، وكان ذلك باسم التمدين وباسم العهد التي قطعته الاتفاقيات والمعاهدات بأن نسير سيرة الأوربيين في انظمة الحكم والتعليم والثقافة وقد اتخذ "الغزو الثقافي" في سبيل فرض "التغريب" وسائل متعددة، فالكتب التي تترجم هى كتب معينة تعين على حماية الاستعمار ودعم مركزه وتصورنا بصورة القصور والتخلف. وتصور أوربا والغرب بصور الأمم العظيمة ذات القوى الجبارة وقد كانت هذه الكتب دائما من النوع الهدام الذي يهدف إلى الفتك بالدين والأخلاق وتحطيم كيان المجتمع وتحويل نظره عن الحرية واجهاد في سبيل الاستقلال؟ ؟ ومحاولة قتل الشخصية العربية ومقوماتها وتدمير تفكيرها وتسميم ينابيع الثقافة فيها وعن طرقه ارتفعت أصوات الدعوة إلى اذابة الأمة الإسلامية في الحضارة اذابة كاملة باعتبار ذلك هو السبيل الوحيد إلى النهضة والحرية.
وجرت الادعاءات الغربية التي تنفى أن العرب أمة وتحاولت أن تجعل من دول البحر الأبيض المتوسط جامعة ورابطة.
ولقد ركز الغزو الثقافي أحماله كلها على مهاجمة "الإسلام" كدين ونظام مجتمع واتهامه بأنه سبب انحطاط الشعوب ورأى "جب" أن "حركة التغريب كانت بعيدة المدى بانزال الاسلاام من عرشه في الحياة الاجتماعية" وقد أعلن الكثيرون من دعاة التغريب أننا لسنا شرقيين اطلافا وأننا أوربيون في الدم والمزاج والثقافة واللغة، وادعى هؤلاء اننا سكان العالم العربي من بغداد شرقا إلى طنجة غربا نشترك وأوربا في ميراث واحد هو ميراث الدولة الرومانية.
وكان من نتائج هذا كله أن أضيف إلى الفكر العربي الإسلامي "ترقيعاات" متعددة من الثقافات الفرنسية والانجليزية والأمريكية، وهى البطاقات التي فرضت نفسها في المنطقة.
***
النقل والاقتباس
كان لحركة "التغريب" أثر واضح في الفكر العربي الإسلامي المعاصر والحياة الاجتماعية في العالم العربي فقد كانت مصدر كل الانحرافات والاضطرابات التي أصابات الشخصية العربية الإسلامية وانحرفت بها فترة من الزمن عن طريقها الطبيعى، وليس من شك أن الثقافة والحضارة الغربيتين كان لهما نتائج ايجابية ونتائج سلبية.
ولو قد استقبات الأمة العربية هذه الحضارة وهذه الثقافة دون أن يرتبطا بحملات الاستعمار والغزو الثقافي والتغريب لأمكن لها أن تنقل منها ما تراه صالحا لها، كما فعلت من قبل في أبان النهضة الفكرية الأولى خلال العصر العباسى الأول.
غير أن الأمر لم يكن باختيارها فقد فرضت الحضارة الغربية فرضا وفرضت معها الثقافة الغربية بما فيها من تيارات ومذاهب ونظريات في الاجتماع والدين والسياسية وأساليب في الحكم والتشريع والتعليم والصحافة.
ولذلك فقد كانت القضية الأولى في الفكر العربي الإسلامي المعاصره هى:
النقل أم الاقتباس؟
وكانت هناك تجربة كاملة من تجارب النقل هى تجربة تركيا، فقد تحولت من الشرق إلى الغرب، ومن اللون الإسلامي إلى العلمانية اللادينية في الثقافة والحكم والتعليم.
وقد قام تياران واضحان: أحدهما يدعو إلى النقل الكامل والثانى يدعو إلى الاقتباس، وكان تيار "النقل الكامل" الذي دعا اليه سلامة موسى ومحمود عزمى
وطه حسين جريا وراء دعوة "جاك الب" التركى وهم جميعا من تلاميذ (دوركايم) العالم الاجتماعى الاسرائيلى الذي نقل آراء كارل ماركس من ميدان الاقتصاد والسياسة إلى ميدان الأخلاق والاجتماع. والذى يؤمن بأن الفرد لا قيمة له وانما القيمة للمجتمع. وأن القيم كلها كالاخلاق والأديان والعقائد والآداب انما بخلقها المجتمع ولذلك فهى ليست ذات قيمة أو أهمية حقيقية.
وقد كان طه حسين تابعا لأحمد غايف التركى في القول: بأن المدينة الاوربية كل لا يتجزأ، أما ان يؤخذ كله أو يترك كله وهو قول مردود وكأن الطرف الثانى يقول: أن التجديد في الأدب والثقافة كالتجديد في العلم لا يمكن أن يقوم الا على أساس تعاون الماضى والحاضر، وأن الفكر يبنى في حاضره على ما أسس في ماضية.
ولم يكن لدى العالم الإسلامي مانعا من قبل الحضارة باعتبارها نتاجا بشريا اشترك فيه الجنس الانسانى كله وقد حمل العرب أمانتها فترة تزيد على أربعة قرون.
أما الذين قالوا بالتوقف دون الاقتباس فلم يكونوا على فهم صحيح بحقيقة الإسلام وقدرته على تقبل التطور وحقيقة مفاهيم الفكر العربي، ذاك أن القاعدة في ذلك هى اننا لا نتقبل كل شيء، ولا الإسلامي تتحول لى صور ممسوخة من الأمم الأخرى، وأن عاينا أن نضع أمام أنفسنا أولا المحافظة على ملامحنا الحقيقية ومعالم شخصيتنا الواضحة والايمان الصادق بتراثنا وقوميتنا وتاريخنا ولغتنا ومشخصات فكرنا ثم نقتبس ما يزيد هذه الشخصية قوة وحياة ودفعنا إلى الامام في طريق الحضارة جنبا إلى جنب غير متخلفين في ركب الأمم.
وقد كان هذا المبدأ "البناء على الاساس" هو حصاد المعركة الفكرية الطويلة الممتدة خلال اكثر من مائة عام.
فالمزج بين القديم والجديد والماضى والحاضر والشرق والغرب انما يقوم على وجود شخصيتنا أولا والمحافظة على ملامح فكرنا العربي الإسلامي الواضح حيث لا يجوز أن يطمس ملامحه الاقتباس.
وقد كنا طوال تاريخنا (1) متحركين غير جامدين ولا متوقفين (2) اصلاء أكبر من الاحداث وغير أمعات تجرى مع التيار (3) لدينا من المرونة والحيوية ما يمكننا من التكيف مع الظروف والمقاومة الدائمة لكل محاولة للطغيان عليها أو سحقنا ومن القدرة ما يمكننا من مواجهة التحدى برد الفعل السريع الذي يرقى فوق الاحداث ولا يجعلنا نضيع في زحمتنا.
وقد كان "الاقتباس" في معناه مزيج من "المعالم الاساسية" التراث الجديد ومن هذا كله يتكون شيئا جديدا هو شخصيتنا الفكرية العربية الإسلامية المتجددة.
وكان هذا التيار "الوسط" أصدق التيارات التي حققت ما أراده دعاة الثقافة القديمة من بعث التراث وتجديده ما أراده دعاة الثقافة القديمة من بعث التراث وتجديده بأساليب جديدة وحقق خير ما اراده دعاة التغريب الذين يريدون منا التحول نهائيا إلى الصورة الغربية.
وكان مفهوم الاقتباس، أن معنى نقل الحضارة ليس في مستوى مفهوم نقل الثقافة. وأن نقل الحضارة ليس معناه نقل كل الحضارة فهناك فوارق واضحة بين الثقافة والحضارة.
غير أن "التغريب" ام يكن يهدف الا إلى النقل الكامل للقضاء على شخصيتنا وكياننا، ولذلك كان يضغط علينا ليحولنا من الاقتباس إلى النقل عن طريق دعاته وعملائه.
وقد حدث انحراف فعلا ولكن اثارة لم تمتد طويلا، فان بعض دعاة التغريب أنفسهم قد تحولوا عن دعواهم تحول منصور فهمى والدكتور هيكل ومحمود عزمى.
وهكذا سار تيار النقل وتيار الاقتباس جنبا إلى جنب، كان الاقتباس يعنى الاعتدال وكان النقل يعنى الاندفاع وقد كان لمادية الفكر الغربي وتحلل الجوانب المنقولة من الحضارة الغربية أثرها في موجة الانحراف التي أصابت الأمة الإسلامية.
ذلك أن أول أثار الثقافة للغربية والحضارة الغربية كانت القضاء على مقومات حياتنا الفكرية وهى مقومات روحية مقتبسة من الدين والخلق فظهرت ملامح الذاتية الفردية واسراف الطبقة الوسطى في تقليد الطبقة العليا المترفة التي صنعها الاستعمار له، وتفشى الوصولية والزلفى والتبذل واستشراء روح الخنوثة والميوعة،
حيث سرت روحها إلى الصحافة والاغانى والكتابة والمسرح.
وبلغ الاهتمام غايته بالالفاظ، واستولى روح من اليأس، صاحبه روح من الاستهانة والسخرية بامجادنا وتراثنا وأعلامنا وتاريخنا ولغتنا وديننا، وبدأ الوجود العربي تحت ضغط صراع الثقافات المتعددة من أمريكية وفرنسية وبريطانية، وثنائية التعليم الغربي والقديم، مزيجا غربيا مضطربا من القديم والجديد، دون أن يتبلور ذلك في حضارة جديدة أو ثقافة جديدة، وحرص الاستعمار على أن تظل هذه الجماعات المختلفة والآراء المختلفة، والدعوات المختلفة ما بين إسلامية وعربية وبابلية وأشرية وبربرية قائمة حتى لا يتم "الامتزاج والتباور" بين أجزاء البلاد العربية التي أفصلت فعلا بحواجز وحدود وقامت فيها حكومات وعروش ونظم مختلفة ما بين ملكية وجمهورية وامارات وما بين حماية ووصاية وانتداب واستقلال واحتلال.
وبذلك أمكن للتغريب أن يسيطر وأن يحول الحياة الاجتماعية في الأمة العربية تحت ضغط "النزعة المادية" إلى الاندفاع وراء اللذات والمتاع مما أدى إلى افلاس عدد كبير من التجار وسقوط عدد كبير من اعيان البلاد وهو ما أطلق عليه فريد وجدى "المبالغة في المتاع بالحياة المادية" مما أدى إلى استيلاء الاجانب أصحاب البنوك والأندية على هذه الثروات تحت تأثير التهالك على الشهوات على نحو خطير لم يعرف من قبل.
وقد كان حرص الغرب على نقل هذا الجانب الآثم من حضارته إلى بلادنا خطير الأثر في عملية التغريب والقضاء على كياننا، وكان أخطر ما فيه من أثر هو القضاء على كياننا، وكان أخطر ما فيه من أثر هو القضاء على الكيان الاجتماعى والاقتصادى والنفسى لنا، مما يجعلنا عاجزين عن الجهاد والنضال في سبيل مقاومة الاستعمار، وما يؤدى إلى سحق قولنا وهدم معالم روحنا المعنوية وتطرق الفساد إلى النفوس والوصول إلى درجة التحلل التي تقضى قضاءا نهائيا على كياننا.
ولذلك كان كتاب الغرب يحرصون على تسجيل هذا المعنى في دراساتهم ومشاهداتهم: يقول روث فرانسيس في كتابة الشرق الناهض "لقد أصبحت البضائع التي تغمر الأسواق الشرقية هى الجوارب الحريرية والأثاث والمفروشات وثياب السهرة المكشوفة والأحذية العالية الكعوب. والسيارات والمشروبات الكحولية والمياه المشبعة بالصودا والكتب الافرنجية.
وقد حرص التغريب أن يربط بين التجديد وبين الاباحة وأن يجعل التجديد هدما دون بناء وأن يكون التجديد في أعماق معاينه هو ترويج البضائع الاجنبية وازدراء المصنوعات الوطنية وهدمها وجعل كل قديم مزدرى.
وكان لضغط التغريب أثره في أن العربي كان يعرف عن شكسيبر وبرناردشو وكبلنج أكثر مما يعرف عن المتنبى والجاحظ وابن الرومى.
وكانت غزوات المفكرين الغربيين لبلادنا انما تهدف للبحث عن صور مسمومة يراد بها الاساءة، والقاء محاضرات ترمى فيها بالاتهامات حتى أن أحدهم كان لا يتورع عن أن يحاضرنا في الجعية الجغرافية عن عقليتنا بأسم (عقلية الشعوب المنحطة) أمثال الدكتور ليفى برول ويفسر هذه الشعوب بأنها شعبنا.
والجمعيات الثقافية التي أنشئت في بلادنا كان هدفها ربطنا بالغرب، من هذه جمعيات التاريخ المصري ونادى الانجليزى الذي كان يتولى رئاسته اللور ملنر وبرنامجها كما ذكرت الصحف هو «افهام الرأى العام الانجليزى الخدمات التي أدتها الحكومة المصرية الحكومة البريطانية والحلفاء في خلال الحرب» كما كان هدف هذه الجمعيات خلق صداقات بين المصريين والفرنسيين من ناحية وبينهم وبين الانجليز من ناحية أخرى تولى رئاستها أجانب ثم مصريين متغربين.
حتى الجمعية المصرية التي أنشئت 1836 باللغة الانجليزية كان هدفها كما ذكر توفيق أسكاروس (الأهرام 13/ 1/1925) بجمع معلومات خاصة بمصر وما لها من العلاقات بينها وبين بلدان أفريقيا وآسيا وأن أعضائها كانوا من الأجانب وأغلبهم الانجليز، وقد استعملت طبعا هذه المعلومات والأبحاث لخدمة الاستعمار البريطانى ومهدت لوضع يده على بلادنا وقد عزا الدكتور محمد حسنى ولاية (الاهرام 3/ 1/1934) جمود روح البحث العلمى في مصر إلى وقوعها تحت نير الحكم الاجنتى عصورا طويلة وما يتبع ذلك من التضييق على ميادين الاقتصاد والعلم والزراعة.
ولا شك أن حركة التغريب كانت تستهدف أن تظل معرفتنا بتاريخنا ناقصة، مما كان له أبعد الأثر في ضعف الوطنية والقومية. ولذلك دعا عباس مصطفى عمار
(الاهرام 1/ 4/1934) الذين يعالجون ضعف الوطنية عندنا ويثيرون الشعور القومى أن يتأكدوا أن الاهتمام بشئوننا السياسية وحدها لا يكفى، وأن تقوية العقيدة الوطنية أنما يكون بقدر فهمنا لهذا الوطن الذي نعيش فيه من حيث جغرافيته وتاريخيه ومدنيته وحضارته كما أدى التغريب إلى فقدان "الطابع" وانعدام التجانس الفكرى وأن الاستعمار الفكرى حرص على أن لا يصهر في بوتقة واحدة حتى لا يحدث "التجميع" الذي هو اخطر عوامل مقاومة الاستعمار ولذلك كان يعول كثيرا على اثارة عناصر التفكك والتمزيق والتجزئة مما يحول دون خا 5 طابع واضح.
وقد كان أبرز عوامل فقد الطابع كما أوردها عباس عمار (الاهرام 3/ 9/1925) هى: احتقار تراث الاجداد والنظر إلى الدين نظرة ليس فيها احترام ولا تقديس والامان بمادية الغرب والسخرية بروحانية الشرق واعتبار كل ما في الغرب جميل حتى أباحيته ونواحى الضعف فيه وكل ما في الشرق حقير أن استحق أن ينظر اليه بعين الاحترام يوما ما فزمنه قد انقضى. وقد آن الأوان للتخلص من تراثه ووئده حيا كما اعتبر ظاهره الزواج من الغرب لها أبعد الاثر في هذا التفكك لما يؤدى إلى تنشئة الاولاد النشأة الغربية التي لا صلة لها بالشرق والتعلم بالغة الاجنبية وتجاهل اللغة العربية.
ونعى عبد العزيز الإسلامبولى (المعرفة- يولية 1933) على مفكرينا التنكر لأبنائنا وأجدادنا واكار أدبنا ولغتنا والزراية بتاريخنا وثقافتنا وقطع الصلة بين ماضينا وحاضرنا» وطالب بالتعرف إلى التراث العربي والبحث عن اثارة ومخلفاته من إسلامي وعربي وقبطى وفرعونى في أديانه وفلسفاته وروحانياته ومادياته، وأننه لابد للتجديد من شرط الدين والقومية الصحيحة.
وليس أدل على اضطرابنا في المرحلة أننا احتفلنا بذكرى رينان وهو الداعية الاستعمارى الذي جهر باتهامنا بالقصور وصاحب نظرية الآرية والسامية.