الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1)
حملات التغريب والغزو الثقافي
قامت الحضارة الغربية على أساس المادية والاقتصاد والصناعة. لذلك كان الاستعمار ثمرة من أهم ثمارها، وجزءا مرتبطا بها مكمل لها لا ينفصل عنها. وقد اختلفت بذلك عن الحضارة التي سبقتها والتي كانت تجمع بين المادة والروح.
ولقد قامت الثقافة الغربية على أساس تفكير بدأ بالتحرر من سلطان الكنيسة عندما رأى المسيحية تحده عن الانطلاق فانفصل عن الدين كلية وجرى مع العلم الحديث في مكتشفاته وعلومه وأنشأ نظما وقيما اشتقها من حاجاته ورغباته وحاول تطبيقها.
وقد بدأت الحضارة الغربية بالثورة الصناعية وقامت على أساس التنافس في البحث عن المواد الأولية والخامات والصلب والبحث عن أسواق لتصريف المنتجات وكان لاختراع وسائل المواصلات السريعة أثره في ربط أنحاء العالم وسرعة الانتقال بين أجزاءه المختلفة.
ولما كان الاستعمار هو عامل "الحركة" في الحضارة الغربية المادية فقد كان لابد أن يتخذ من الوسائل التي تكفل له البقاء في المناطق التي يغزوها. وذلك بعد ان استطاع في خلال القرن التاسع عشر ان يخضع القارتين الآسيوية والأفريقية وجنوب أمريكا وكما ارتبطت الحضارة بالغزو الاستعمارى ارتبط هذا الغزو بالخصومة لغير الرجل الأبيض وغير الأوربيين.
وصاحبت عمليات الغزو العسكرى عملية غزو فكرية واقتصادية وكان هذا الغزو أشبه بحملة انتقام عنيفة ربما كان مصدرها هزيمة الغرب في الحروب الصليبية.
وقد بدأ الغرب نهضته على أساس ترجمة العلوم والفلسفات العربية التي كانت قوام حضارته الجديدة ومع ذلك فقد حمل معه لواء الغدر والافتراء والحقد على العرب والمسلمين وانكار فضلهم وأثرهم وقد استهلت أوروبا حملتها بحرب صليبية عنيفة على العرب في أسبانيا وعلى المسلمين في تركيا وعلى العرب في المغرب وهذه ربما كانت انتقاما لمقتل القديس لويس وهو يقود الحملة الصليبية التاسعة إلى ساحل المغرب. ولم يلبث اللورد اللنبى ان كشف خبيئة هذا الأمر حين أعلن عند دخول "القدس" عام 1917 انه قد انتهت الحرب الصليبية.
وقد ارتبطت الحضارة بالاستعمار، وارتبط الغزو بصورة تحمل معنى الخصومة للإسلام على نحو صليبى فيه معنى الصراع بين المسيحية والإسلام ومحاولة الانتقام او ربما كان الضغط على الإسلام انما جاء باعتباره العدو الأول للاستعمار وان بقاء الاستعمار الغربي المسيحى في العالم العربي لا يتم الا بالقضاء عليه.
ويظهر ذلك واضحا في أول مشروع استعماري تقدم به القس "ميبنتز" في 15 مارس 1972 إلى لويس الرابع عشر ملك فرنسا جاء فيه "أريد أن أتحدث اليكم يا مولاى في مشروع غزو مصر، ولا يوجد بين أجزاء الأرض بلد غير مصر يمكن السيطرة منه على العالم كله.
وعلى تجارة الدنيا بأسرها وهى تستطيع ان تلعب هذا الدور لسهولة استيعابها لعدد كبير من السكان. وهي اليوم معقل الديانة المحمدية، ولأى داء تخسر المسيحية تلك الأرض المقدسة التي تصل آسيا بأفريقيا والتي جعلت منها حاجزا بين البحر الأبيض والبحر المتوسط ومدخلا لبلاد الشرق بأجمعها والذين يحقدون على فرنسا سينظرون بعين الارتياح لهجومكم على المسلمين تحدوهم روح مسيحية".
وعندما عرض المركيز دى سنيلاي مشروع ثق قناة تصل البحر الأبيض بالبحر الأحمر قال في مشروعه "انه مشروع صليبى ومن مميزاته امكان حفر قناة تكون ملكا مشتركا للعالم المسيحى".
ويمكن أن يطلق على هذه المرحلة "مرحلة التحدي" لما حفلت به من حملات التغريب والغزو الثقافي واضح وخطة واسعة المدى قوامها الغزو التجارى والاقتصادى والثقافي والعسكرى والسياسى، وعمليات الغزو الثقافي عن طريق الصحافة والكتابة والسينما والتعليم، وحركات التبشير والاستشراق والدعوات المتعددة التي تهاجم التراث والقيم والدين ومحاولة التشكيك فيها، والثنائية في التعليم الدينى والمدنى وثنائية الثقافة بين الفرنسية والانجليزية والحملات على القيم، والاتهامات ودعوات التجزئة والتمزيق ومحاولات نقل حشد هائل من المذاهب والنزعات والدعوات الغربية المتصلة بالدين والمجتمع والفكر وحملات الشيوعية والصهيونية والإلحاد، والحملات على الدين واللغة.
وقد وقفت الأمة العربية من الحضارة الغربية موقفا رائعا، لم يكن موقف الجمود ولا موقف الانصهثر. لم يمانع من قبل الأضواء الحديثة على أساس ان تظل معالم شخصيتنا حية قائمة، على ان تزداد بهذه الأضواء الجديدة قوة وحياة واندفاعا في طريق الأمم الناهضة.
ولم يكن لدى البلاد العربية مانعا من تقبل الحضارة باعتبارها نتاج بشرى اشترك فيه الجنس الانسانى كله وقد قام العرب بدورهم فيها وحملوا أمانتها- وحدهم- فترة تزيد على أربعة قرون كاملة وحدهم فحموها وزادوا فيها وأضافوا اليها.
والإسلام دين متطور فسيح مطلق يتجاوب مع الأزمان المختلفة والبيئات المتعددة، ولا يحول دون اقتباس أسباب الحضارة، وقد تقبل مجتمعنا الحضارة من تبل واقتباس وترجم من ثقافات الشرق والغرب ومن حضارات الفرس والروم والهند والمسحيين واليونان ما زاد شخصيته قوة وحياة.
ولكن الغرب عندما اتصل بالوطن العربي لم يقدم لنا من الحضارة الا الجوانب المتصلة بمظاهر الحياة وهى في مجموعها جوانب الغرائز والترف وارضاء الأهواء.
وللحضارة الغربية جانبها: العلمى العقلى المتصل بالآلة والاختراع والتقدم العلمى والكشوف المختلفة. وجانبها المتصل بالترف والمتاع الحسى واطلاق الأهواء واللذات مما كانت المرأة والمراقص والحانات والكحول والمخدرات وسائلها وأدواتها.
وقد حرص الاستعمار ان ينقل هذا الجانب وحده إلى البلاد المحتلة، وان يحجب عنها الجانب الايجابى، ولم يقصد بتقديم هذا الجانب من الحضارة ألا العمل على تحطيم المجتمع العربي وبث روح الفساد فيه وتمزق كيانه واستلاب ثروات الأثرياء الذين اندفعوا وراء اللذات، وسقطوا في حماة المتاع الحسى فتركوا القرية وعكفوا على الأهواء في المدن وبذلك فقدوا ثرواتهم والتهمتها المؤسسات الاستعمارية الربوية والعقارية، اما فيما يتعلق بالثقافة فقد حجب الاستعمار عن الوطن العربي جانبها العلمى الرفيع المتصل بترقية الحياة والسمو بالفكر إلى عوالم الاحساس والتسامى، وأباح الجانب المتصل بالمذاهب الهدامة والآراء الإلحادية والشبهات وقضايا الفكر التي ما زالت معروضة للبحث والتي لم تصل بعد إلى درجة العقائد، واتصل هذه بالنظريات ذات المظهر العلمى التي خلقها الاستعمار ليحاول اقناع الشرقيين والشعوب الملونة والمحتلة بأنهم أقل من الشعوب البيضاء قدرة عقلية، وان الرجل الأبيض هو الانسان الذي خصته العناية الالهية بنحصير الشعوب المختلفة وحمل أمانة حمايتها وتنويرح ا، وهذا هو ما التام هذا الاضطراب العميق والصراع النييبين الفكر العربي والحضارة والثقافة الغربيتين.
وعندى أن أمر الحضارة والثقافة الغريبتين او انتقل الينا انتقالا طبيعيا دون ان تكون وراءه هذه القوى التي تقوم على الغزو الثقافي وتنظم الحملات في سبيل "سحق الشخصية العربية" لما حدث أى انحراف، وانما الذي أحدث الانحراف هو محاولة الغرب في غزو بلادنا بجانب من ثقافته ان يفرض الجانب المنحرف المضطرب المتشكك.
والواقع ان الآراء والمذاهب الغربية لم تكن قائمة في الغرب بهذه الكثرة او التعدد في وقت واحد وانما جرت محاولة حشد كل الآراء والأفكار والدعوات التي مرت بمختلف الثقافات والفلسفات في الفقرة الطويلة من عصر النهضة إلى الآن حتى تأخذ صورة الحملة الجائحة التي تثير اؤعصاب وتبعث الشك وتزلزل العقائد في حين ان هذه الدعوات والمذاهب قد ظهر بعضها أثر البعض الآخر وانها لم تكن في صيغة الحقائق المقررة وانما في صيغة الآراء المعروضة للمناقشة وكآراء قابلة للنقد وان أغلبها انطوى وظهرت أفكار أخرى قضت على الأولى.
ولقد كانت هناك معركة ضخمة هائلة، وهى "معركة التغريب والغزو الثقافي وقد حدث انحراف ووقعت ضحايا وظن الاستعمار ان تجربة "تغريب تركيا" يمكن ان تتكرر في العالم العربي.
حقا، لقد كانت تجربة تركيا سلاح رهيب في أبانه، ثم تبين من بعد انها عمل فاشل وأن "التطور" غير التغريب" وان "الاقتباس" غير "النقل".
ذلك ان "تجربة تركيا" لم تتنع الأمة العربية بتقبل الحضارة الغربية كاملة، بل لعلها زادتها حذرا من ان تمسخ شخصيتها ولعنها هى التي حكمت بان "الاقتباس" خير من النقل، وان قبول جوانب من الحضارة والثقافة ورفض أشياء أقوى لشخصية الأمة من نقل كل شئ. لقد ظهرت كيف تميعت الشخصية التركية فلم تعد إسلامية او شرقية او غربية وانما هى خليط غير واضح المعالم.