الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العرب والاستعمار
(ماذا كان أثر الاستعمار في الكيان العربي وما مدى هذا الأثر من الناحية الفكرية).
لقد بدأ الاستعمار في الكيان العربي بالحملة الفرنسية على مصر التي حفزت أسطول بريطانيا إلى التحرك للبحث عن الأسطول الفرنسي. وكان هذا علامة الصراع الفرنسي البريطانى، الذي اتصل في الوطن العربي منذ 1898 حتى 1917 حينما اقتسمت بريطانيا وفرنسا بمعاهدة (سايكس باكو) الوطن العربي: أى أنه في خلال قرن وربع قرن ظلت المعركة محتدمة الأوار ثم أنها استمرت بعد ذلك في الميادين الثقافية والاقتصادية والاجتماعية بالرغم من الاتفاق الودى الذي تم توقيعه بينهما عام 1904 وبه أطلقت كل منهما يد الأخرى في مصر، ومراكش.
كانت بريطانيا تسيطر على مصر والعراق وفلسطين والأردن، بينما تسيطر فرنسا على سوريا ولبنان ومراكش وتونس والجزائر. وكان الاستعمار البريطانى والفرنسي متباين الوسائل والأساليب في كل من الأقطار المحتلة، غير أنه كان هناك شبه اتفاق غير مكتوب بينهما يلتقى في مفهوم واحد هو (أن الشرق كله هو منطقة نفوذ وتوسع للغرب، وأن سكان أفريقيا وآسيا، في درجة أقل من درجة أهل أوربا، وأنه لا بد أن تظل بلادهم منطقة نفوذ للغرب، ومورد خامات وأسواق انتاج وأن يظلوا وقود الجيوش التي يجندها الغرب، وعمال مصانعه، وعبيد أرضه وأداة استغلاله) وكان اختلاف فرنسا وبريطانيا في النظم والأساليب، يمثل جانبا من الخطة المرسومة لتجزئة المنطقة وعزلها، والفصل بين كل منطقة منها وبين الأخرى بوسائل مختلفة أقل ما فيها الأسلاك الشائكة، فقد كان هناك اختلاف في الأسماء ثم في نونع نظام الحكم والعملة والأعلام ومنهاج التعليم ومفاهيم الثقافة والفكر فضلا عما آثاره الاستعمار من خلافات بين حضارات قديمة ومذاهب ودعوات تفرقة بين المسلمين، والمسيحيين والبربر والعرب والموازنة والدروز والسنة والشيعة، كان الاستعمار بعد أن احتل هذه الأقطار بالغزو العسكرى قد أخذ يدعم بقاءه في المنطقة. وكانت وسيلته إلى ذلك هى الغزو الثقافي
والفكرى، وهذا لا يتم الا بعزل هذه الأجزاء ونشر دعوات التجزئة والانفصالية في كل منها، ثم تجزئتها داخليا مرة أخرى بالأحزاب السياسية أو بالخلافات المذهبية.
ولقد قاوم الكيان العربي الاستعمار منذ اليوم الأول، بالثورات والمعارك وبمختلف أسلحة المقاومة، واستمر في معركة متصلة معه، لم تتوقف، قدم خلالها الشهداء والضحايا، ثم وقفت بالمرصاد لكل مؤامرته. ووجد الاستعمار أعوانا وملاء كانوا أداته في تنفىذ دعوات التغريب والتجزئة وفرض سلطاته السياسى والفكرى. كانت الحضارة الغربية هى وسيلته في تحطيم جبهة المقاومة والقضاء على كيان الأمة ذلك لأنه لم يقدم لنا من هذه الحضارة جانب الزخرف والجنس والملذات والاثام، فكان ذلك عملا ضخما في تحطيم اقتصادنا العربي، فلقد تهاوت ثروات الأسر كلها تحت سلطان الملذات والمخدرات والبغاء، وكلها أسلحة هيأ لها وحماها، عن طريق الامتيازات، وشجع على استمرارها، وجند لها من الكبراء من وقفوا دون القضاء عليها. أما الجانب الايجابى الفعال من الحضارة جانب القوة العسكرية والكشف والاختراع والمدافع والطائرات ومصانع الانتاج فقد حال بيننا وبينها، وبذلك انهارت ثروتنا الاقتصادية، في نفس الوقت الذي تحطمت فىه قوانا الاجتماعية والروحية، هذا بالاضافة إلى حملاته التغريبية في فرض " ثقافة " الغرب التي تحمل تحمل بذور المادية وانكار الأديان والتشكيك في التاريخ ومحاولة تحطيم معنوياتنا عن طريق " التعليم " الذي فرض سلطانه عليه وعن طريق " التبشير " الذي سانده وحماه ودفعه إلى الأمام، وعن طريق الحملات المستمرة على اللغة العربية ومحاولة احلال اللهجات العامية بدلا منها وحملات الشعوبية واذاعة نظريات السامية والأربة.
واجهت العرب الاستعمار في معارك المقاومة المخالفة: السياسة والفكرية والاجتماعية، وأعانها على المعركة صلابة شخصيتها وقوة روحيتها وايمانها بالله
واستهانتها في التضحية من اجل الحرية والدفاع عن الحمى وكرامة الوطن.
وكانت معركة " التحدى والاستجابة " معركة ضخمة، ظلت تدور رحاها خلال الفترة التي نؤرخها، بين الاستعمار بأسلحته وقواته ووسائله، وعملائه وأغرائه وحملاته التغريبية، وسلطانه على الحكم والتعليم والصحافة والاذاعة والسينما في الوطن العربي كله، وبين قوى الأمة ممثلة في قادتها ومفكريها حيث استيقظت لتدافع عن وجودها وتدعم من كيانها، وقد اندفعت أقلامها تكتب داعية إلى الجهاد والغداء والمقاومة بينما كانت حركات الاصلاح تجرى في محيط الدين والمجتمع والفكر والتعليم والاقتصاد، فقامت جمعيات الشبان المسلمين والاخوان والرابطة الشرقية، وبنك مصر وانشئت مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية وجرت اصلاحات في الأزهر وتجديد في أساليب دراسة العقيدة واللغة والمجتمع والمرأة. وتوحيد في الجهات الداخلية ازاء المستعمر ممن يمكن القول معه بأن الاستعمار هزم في معركته الأولى، وتحطت أسلحته. وكسبت الأمة العربية الجولة الأولى.
فقد بقيت اللغة العربية وبقى الإسلام وتحرر
الاقتصاد ونقض التعليم منه آثار الاستعمار. وفشل التبشر، وتحطمت دعاوى المستشرقين وانكشفت اتهاماتهم المتعصبة.
ولكن هل توقف الاستعمار على أثر الهزيمة التي منى بها، ذلك لم يحدث مطلقا، فقد جدد الاستعمار خططه وبدأ معركة جديدة بعد الحرب العالمية الثانية ليس هذا موضع بحثها.
وجملة القول في هذا المدخل، أن أمتنا قاومت الاستعمار والغزو العسكرى والثقافي وواجهت الحملات المختلفة بايمانها. وفرضت رأيها في الحضارة فرات أن هذه الحضارة ليست غريبة خالصة وأنما هى تراث الانسانية كلها وقد شارك فيها الشرق من قبل وقدم لها خلاصة جهده وتجاربه ما أوصلها إلى مرحلة القوة والفعالية، كما فرضت البلاد رأيها في الثقافة الغربية فانكرت قول القائلين: بقبولها جميعا خيرها وشرها، ما يحمد فىها وما يعاب، وتحررت من التبعية، وأعلنت حقها في أن تقبل منهاجها في البحث، حيث جددت بها تراثها، ورفضت مالا يتفق مع معالم شخصيتها وقيمها وكيانها وأمجادها.