الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1)
الاستعمار وآثره الفكرى
كان من الطبيعى بعد أن نهضت أوربا وحققت انتصارات ضخمة في مجال الصناعة والتجارة والكهرباء أن تتجه إلى الشرق والعالم العربي بالذات، وقد كانت حملة نابليون 1798 على مصر ارهاص هذا الاتجاه الذي ظل يوالى انقضاضه خلال القرن التاسع عشر كله حتى أكتمل له استعمار العالم العربي كله 1918 وقد بدأ الاستعمار باحتلال فرنسا للجزائر 1830 وبريطانيا لعدن 1838 ثم احتلال فرنسا لتونس 1881 وبريطانيا لمصر 1882 واحتلال ايطاليا لليبيا 1961.
وكانت الدول الأوربية منذ حملة نابليون حتى الحرب العالمية الأولى قد رتبت خططها لهذا الغزو: عسكريا وأقتصاديا وثقافيا على نحو يحقق لها البقاء الطويل في المنطقة والقضاء نهائيا على شخصيتها ومقدارتها وقيمها وثقافتها ودينها وتاريخها. وقد ظهرت ملامح هذه الخطط في الفترة التي سبقت الحرب العالمية والتي تمثات فى:
(1)
أساليب الاحتلال في مصر وعدن والجزائر وتونس.
(2)
النفوذ الأجنبى والامتيازات وعمليات الغزو الاقتصادى والثقافي الموجهة إلى السلطة العثمانية.
(3)
امتداد النفوذ الأجنبى والامتيازات والغزو الاقتصادى والثقافي إلى مختلف البلاد العربية وجميعها واقعة تحت
سلطان الدولة العثمانية وقد أعلن على تمكن الغرب من فرض سلطانه ضعف الولاة العثمانية التي كان يطلق عليها أسم "الرجل المريض" واستبداد الحكام والولاة والأمراء المسيطرين على مختلف الأقطار العربية وضعف القوى الشعبية وانهزامها نتيجة لتسلط الامراء وحروبهم وفساد نظام الحكم.
غير أن عوامل اليقظة كانت قد دبت منذ أواخر القرن الثامن عشر بدعوة "محمد بن عبد الوهاب" وكانت لحركة
"محمد على" أثرها في اليقظة غير أن العوامل كلها كانت تدل على أن الغرب انما يعد خطة واسعة المدى للسيطرة على المنطقة واحتلالها. وقد كانت الحرب العالمية الأولى فرصة للقضاء على دولة الخلافة وتمزيق جبهة الدول العربية وتجزئتها.
وقد كانت فكرة "الوحدة العربية" قد بلغت مداها قبيل الحرب العالمية الأولى وفرضت وجودها بعد الاختلاف مع سلطان تركيا العثمانية التي انضمت إلى المانيا ووجدت من بريطانيا ما شجعها على دخول الحرب العالمية في صفها وصف حلفائها بناء على وعد بقيام الدولة العربية بعد الحرب. وكان أن خدعت بريطانيا العرب ونفذت مشروع تقسيم المنطقة بينها وبين حليفتها فرنسا واعلنت قيام الوطن القومى اليهودي في فلسطين.
وبذلك تمزقت هذه المنطقة الواحدة إلى دول لها حدود وجيوش وملوك ونظم ونقود وثقافات ومناهج تعليمية.
وسيطرت فرنسا على لبنان وسوريا وتونس والجزائر ومراكش.
وسيطرت انجلترا على العراق والأردن والخليج العربي والسودان ومصر.
وسيطرت ايطاليا على ليبيا.
وقام في فلسطين نظام استعمارى مزدوج: بريطانى يهودي.
وبذلك انفصلت الدول العربية لأول مرة بعد أربعة قرون وعام واحد (1517 - 1918) عن تركيا ولكنها لم تنفصل عنها في الحقيقة الا سياسيا أما فكريا فقد ظلت مرتبطة بها متطلعة اليها. وقد استغل الاستعمار هذه الرابطة استغلالا بعيد المدى بعد تغريب "تركيا الكمالية".
***
ومنذ اليوم الأول لهذا التقسيم الذي فرضه الاحتلال العسكرى بدأت حملة الغزو الثقافي التي قصد بها الاستعمار إلى تركيز سلطانه على نحو عقلى وعاطفى يتصل بالنفس العربية ويحول مفاهيمها ومعالمها وتيارات فكرها على النحو الذي يحقق له البقاء وقد ركز الاستعمار في غزوه الثقافي على:
(1)
خاق جوا من عدم الثقة بشخصية المواطن وتشكيكه في جميع عقائده وقيمه وتراثه وتاريخه على النحو الذي يجعله يعتقد بأن وطنه دائما كان نهبا مقسما لكل الأقوياء وتحويل هذه الأفكار إلى عقائد بتعليمها في المدارس ونشرها في الصحف والكتب.
(2)
اقامة فواصل طبيعية بين كل قطر واقامة معالم قومية خاصة به تنبع من تاريخه البعيد وتسبق الروابط الإسلامية العربية التي بدأت فيما بعد ظهور الإسلام وخلق جامعات متعددة ودعوات متبانية لخلق البابلة الفكرية التي لا تمكن من قيام فكرة واحدة.
) 3) رسم صورة باهرة للغرب، جبارة لاوربا، رهيبة للاستعمار، مخيفة للاحتلال وسطوته وجبروته، ومضى إلى تلقين معنى الثقة بهذا الحلف القوى، والايمان بحضارته والتيقين من أن الاندماج فيها هو وحده السبيل لتحقيق الحرية والاستقلال والوصول إلى النضوج والقدرة على حمل مسؤلية الحكم.
) 4) سيطر الاستعمار على الحكام والأمراء والاعيان وأسماهم "أصحاب المصالح الحقيقية" وأعانهم على التوسع في التملك ليتخذ منهم ركائز يسيطر بها على العامة واخضاع الوزراء والحكام لنصائح مندوب الدولة المغتصبة. وفرض المستشارين على الوزارات وجعل أوامرهم نافذة.
) 5) سيطر على الحياة الاقتصادية بواسطة أعوانه من الاجانب، وخفض أسعار المحاصيل الرئيسية للبلاد وبيعها بأبخس الاثمان والحيلولة دون تصنيع البلاد أو انتفاعها بالمخترعات الحديثة وبقائها بدائية. والحيلولة دون استخدام الوطنيين في هذه الاعمال وقد بلغت أرباح هذه الشركات أكثر من ميزانيات الدول نفسها.
(6)
ادخلوا إلى البلاد المحتلة الوفا من المستوطنين الذين استطاعوا بسلطان الاستعمار الاستيلاء على آلاف الافدنة الجيدة والقضاء على الصناعات الوطنية والسيطرة على مالية الدولة ووضعها تحت وصايته-أى الاستعمار- بفضل سلطان الامتيازات الاجنبية ونفوذ المحاكم المختلطة.
(7)
القضاء على روح المقاومة بشراء الذمم بالمال والمنصب والمرأة وخلق روح "النفعية" وقتل روح "المثالية". وخلق نزعة الانانية بدلا من نزعة الجماعية وتحويل الوطنية إلى سياسة. واثارة الطوائف بعضها على البعض الآخر وخلق حياة نيابية وأحزاب تتصارع.
(8)
الغاء الجيش الوطنى للأمة المحتلة وفرض جيش الاحتلال في ميادينه وايقاف الأمراء وأولياء النعم تحت أعلامه.
(9)
فتح أبواب السجون والمنافى لكل مجاهد أو مفكر صاحب رأى حر يحاول أن يرفع رأسه أو يقاوم واصطناع أساليب القتل في الظلام.
(10)
تحويل الصحافة إلى موالاة الاحتلال.
ومصادرة الصحف ذات الطابع الوطنى المعارض للاحتلال وذلك لتكوين رأى يؤمن بعظمة المستعمر ويجرى وراء
(11)
الغاء مجانية التعليم وتدريس العلوم بلغة المحتل، وقصر التعلم على طبقة خاصة واحلال المدرسين الأجانب محل الوطنيين ووضع برامج تهدف إلى تحطيم معنويات الأمة وتصويرها بصورة الامة المستعبدة وتدريس تاريخ الامة المحتلة على نحو تعظيم واكبار واستبعاد التاريخ القومى وحجب كل معانى عظمة الامة من لغة وتاريخ وبطولات وامجاد. واثارة جو من الشكوك والريب حول القيم الروحية والوطنية ومحاولة اقناع الامة المحتلة بأن الاحتلال عمل مدنى وان الأوربيين هم سادة
البشر وانهم المكلفون بنشر الحضارة وتمدين الامم غير البيضاء.
(12)
في خلال الحرب العالمية الاولى والثانية جندت بريطانيا وفرنسا عشرات الألوف من أبناء الأمة العربية في جيوشها، وقد قدمت مصر في الحرب العالمية وحدها مليون عامل مصري لم يعد منهم أحد فضلا عن الغلات والدواب والخيرات.
وكان لهذا الاتصال بين الغرب والشرق أثره البعيد في استيراد عديد من النظريات، والمذاهب الفكرية الغربية.