الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدعوة والشيوعية
عندما وقع الوطن العربي تحت سيطرة الاستعمار الغربي، كان مخطط تغريبه وتحطيم شخصيته يهدف إلى توجيه تيارات فكرية متعددة متضاربة، وكان لسيطرة الاستعمار على أوجه الأعلام أثره في رسم صور مختلفة لهذه الآراء والمذاهب والدعوات.
ولقد كان من الطبيعى أن تصل هذه الدعوات: الرأسمالية المسيحية والصهيونية والماركسية والشيوعية إلى الوطن العربي باعتبارها دعوات عالمية لها أجهزة ضخمة تذيعها ككل الأفكار والآراء والتيارات، غير أن الاستعمار الغربي كان حريصا على أن يوجه هذه الأفكار ويرسم لها صورا معينة حسب وجهة نظره كتأييده للصهيونية ودعوته ومهاجمته للشيوعية والاشتراكية. وليس أدل على هدفه في زعزعة العقائد وأحداث اضطرابات ضخمة في الحياة الفكرية العربية من أنه سمح بقيام دعوات وصحف وكتابات للشيوعية وهو على خلاف معا وخصومه وتعارض، ذلك لأنه انما كان يهدف بذلك إلى تعميق حملة التغريب وتحطيم الشخصية الإسلامية وتمزيقها وسلخها عن أهدافها، فضلا عما في الشيوعية من حملة عنيفة على "الإسلام" الذي كان الاستعمار حريصا على القضاء عليه والتشكيك فيه كمقوم ضخم للحياة الفكرية.
وكانت تلك خطته دائما في اذاعة الآراء ذات الصفة المعارضة، في السياسة والاجتماع والتعليم والعقيدة وذلك لتنسيخ الفكر ومنعه من الاتجاه في طريق موحد وكان هذا جزءا من خطة التجزئة التي جعلها من أبرز أهدافه.
وكانت الدعوة الماركسية الشيوعية قد تسربت إلى الفكر العربي الإسلامي بعد ثورة أكتوبر 1917 في روسيا وتألفت أحزاب شيوعية سرية في مصر وسورية قام على الدعوة لها والاتفاق صهيونيون وكان (روزنتال) اليهودي هو رأس هذه الحركة في مصر. وقد نظرت الأهرام (10/ 7 عام 1925) إلى هذا الأمر من زاوية بريطانيا لا من وجهة نظر الوطن العربي فقالت أن معظم شعوب الشرق مغلوبة تئن بلادها تحت النير الأجنبى وأنهم - أى الشروعيون - يأتون اليها من الطريق الذي يغريهم بها، ومما يهم التلاشفة بنوع خاص أن يثيروا الاضطرابات المشاكل في كل بلد شرقى ذى صلة مباشرة أو غير مباشرة بالامبراطورية البريطانية لأنهم يرون في هذه الامبراطورية عدوهم الطبيعى وهم يشجعون روح العداء للانجليز في أفغانستان وايران والشرق الأوسط.
وأشارت الأهرام إلى "أن مصر محاطة بالدعاية الشيوعية من معظم أطرافها ففى فلسطين حزب شيوعى خارج من صميم الحركة الصهيونية وملازم لها وهو يعمل في السر والعلانية. وفي تونس تعمل الحركة الشيوعية وفي جدة وصل بلشفى مسلم يعمل في الخفاء وعلقت على ذلك بأن مركز مصر الجغرافى يجعلها عرضة لجميع ما يقذفه الغرب من العلل المادية والاجتماعية إلى الخارج".
وفي هذه الفترة جرت مساجلات بشأن الشيوعية والاشتراكية، حيث قامت فئتان، احداهما تدعو إلى الشيوعية علانية والأخرى تدعو إلى الاشتراكية. وفتحت جريدة الأهرام منذ عام 1921 صفحاتها للكتابات المختلفة حول هذا الموضوع قائلة (16/ 8/1921) أن حاجة البلد الاجتماعية تقضى علينا (أى الأهرام) وعلى كل عامل برقابة حزب كهذا لا لأننا نكره التعاليم والمذاهب الاشتراكية العلمية والعملية، بل لأننا نكره النظريات المتطرفة التي تقضى بالطفرة ونحن نود التطور رويدا رويدا. وقالت: أن لكل أمة أخلاقها وعوائدها ومنافعها وما يصح أن يجرى في ايطاليا ورومانيا لا يصح أن يتبع في مصر - وقال سلامة موسى وعلى العنانى ومحمد عبد الله عنان: أنهم يستهجنون الطرق البواشفية وأعلنوا تأكيد الاعتدال في خطتهم (س. م - 4/ 7/1922) وأن البولشفية الروسية أخفقت اخفاقا يكاد يكون تاما ونشرت في ربوع البلاد الروسية الخراب والدمار وأن عددا كبيرا من الاشتراكيين قد أعلنوا عدم موافقتهم عليها لأنها لجأت إلى تحقيق غايتها طفرة وغالت في تطبيقها .. وأن الغرض هو المذاكرة في أغراض هذا المذهب (الاشتراكية) وتطبيقه على الأحوال المصرية (س. م
-8/ 8/1921) وطالب روزنتال بحقوق المستأجرين ثم باتحاد النقابات، وكان سلامة موسى قد ألف عام 1914 رسالة في الدعوة إلى الاشتراكية عن طريق النشوء والارتقاء والتطور لا عن طريق الثورة، وقال أنه كان عضوا في الجمعية الغابية الانجليزية وعرف من أعضائها مستر سدنى وب، أصدر عزيز ميرهم بيان بتأليف الحزب الاشتراكى المصري في 29 أغسطس 1921 غير أنه في عام 1924 وبعد صدور الدستور وقيام الحكم النيابى المصري بدأت حملات متعددة على اتباع هذا الحزب واعتقل عدد كبير منهم في الاسكندرية، وقدموا للمحاكمة ثم تجددت الدعوة إلى مقاومة الشيوعية في فترات متوالية منها 1927 و 1931. وقد ثبت اتصال دعاة الحزبين الشيوعى والاشتراكى في مصر بجهات خارجية وأن دعوتهم لم تكن مستقلة لصالح مصر ومثل هذا يقال عن الأحزاب الأخرى التي ظهرت في سوريا ولبنان وفلسطين تحت حماية الدول المستعمرة البريطانية والفرنسية.
وقد قاوم الرأى العام الفكر في مصر هذه الدعوة، وأنكر "أحمد حلمي" هذه الدعوة وبين خطرها على نظامنا الاجتماعى ومخالفتها للتعاليم الدينية، ودعا رجال الدين والحكومة إلى محاربة هذا الخطر وقال (20/ 8/1921 - الأهرام) أنه ليس في مصر مشكلة توصف بحق بمشكلة رأس المال حتى يقال أننا لسنا في حاجة إلى تأليف مثل تلك الأحزاب، ولا ندرى كيف أن الحكومة التي لم يتسع صدرها لاصدار الصحف اليومية الجديدة، تتسع اليوم لتأليف حزب اشتراكى في مصر على الأنماط المتطرفة وقال:"هل نسوا أن الاشتراكية التي يدعون اليها تكفر بجميع الأديان وتجعل الأملاك من عقار وأطيان ملكا لواضع اليد عليها والمناجم لعمالها والمصانع لصانعيها. أن كارل ماركس مع اعتدال أفكاره لم تطقه حكومة بلاده بل حاكمته على نشر تعاليمه وأخيرا نفقته".
وقال الشيخ التفتازانى (24/ 9/1921 - الأهرام) أى نقص في الأديان التي تعرض للفقير من مال الغنى قدرا وتحتم على أولى الأمر البذل بين الجميع. أنها لاحدى الكبر أن يقوم فينا نفر من الذين بهرتهم زخارف النظريات الخيالية فيستهينون فينا بقوة العقيدة والأثر على حسن ظن منهم، ولو أنهم كانوا على حصافة في الرأى لدعونا إلى أحياء موات أحكام أدياننا ولرددنا إلى الكتب السماوية والسنن النبوية" ورد عزيزهم ميرهم عن الحزب فقال "أن خصوم الاشتراكية بمصر لم يقوموا حتى الآن بدليل وجيه في سبيل معارضتها وقال أنهم يحاربون أصحاب الثروة ويحاربون الاشتراكية باسم الدين للتأثير على عقول السذج ويحاربونها لا حبا في الدين ولكن لأن جشعهم في حب المال يجعلهم يظنون أن الدين يدافع عن مالهم.
وقال التفتازانى (7/ 9/1921 - الأهرام) هل جاءت الاشتراكية لتكمل نقصا في الأديان السماوية. لقد صارت روسيا معملا كيماويا لعدة تجارب أسفر كل منها عن خيبة وفشل.
وقال عزيز ميرهم ردا عليه (13/ 9/1921): لا تظن أن التعصب للملكية الفردية يصل بانسان فيدعى بأنها ركن من أركان الدين. أن النظم الاجتماعية تتغير وتتبدل وتتطور في أشكال مختلفة حسب الزمان والمكان.
وقال الشيخ عبد اللطيف بخيت (الأهرام - 11/ 9/1921) أن الاشتراكية ليست مخالفة للدين بل على العكس من ذلك نجد روح القرآن والسنة تتمشى مع الاشتراكية. ولما فتح عمرو بن العاص مصر وزع أرضها على الجند وغيرهم حسب ما يرى ولم يجد من الدين ما يمنعه" وترددت مناقشات طويلة بين سلامة موسى وعلى العنانى ومحمد عبد الله عنان وعزيز ميرهم (سبتمبر 1921 - الأهرام) وقال سلامة موسى في ختام هذه المناقشات (29/ 9/1921) أن الاشتراكية في نظره تستدعى حالة عليا من الرقى في الأمة لم تصل اليها بعد الأمة الروسية، وقال أن اشتراكية الروس هى اشتراكية عجلة وارهاق تشبه كل الشبه تلك الشيوعية التي فشلت في باريس في حصارها المشهور 1870، ولاشك أن الاشتراكية المصرية ستكتسب لونا خاصا بتأثير الوسط المصري والمزاج المصري. والاشتراكية بانقسامها حقوق الغنى من الجهة الواحدة ستزيد في حقوقه من الجهة الأخرى" وأن ما ذكر من أمن الملكية مبدأ مقدس يجب أن تدافع عنه الحكومة وتحميه من كل اعتداء هو قول مثير للضحك عند عارفى تاريخ الملكية المصرية وعدد الملاك الآن، ويكفينى أن أذكر أن نحوا من ثلاثة عشر ألف نفس أى أقل من عدد طلبة الأزهر يملكون أكثر من نصف ثروة القطر الزراعية وأن هذا العدد الصغير من الناس يملك ويتصرف في أرزاق نحو ثمانية ملايين مصري، وأشار إلى ما فعله محمد على في نزع ملكية الأرض فقال "لقد نزع محمد على ملكية الأرض ليشغلها على نفقته الخاصة فلما هم بابراز هذه الفكرة قامت في وجهه صعوبات استعمل ازاءها كل أنواع التهديد حتى أصبح المالك الوحيد لأكثرها فقد استولى على أملاك "المماليك"، والأراضى الموقوفة
ونزع ملكية الأراضى التي كانت لبقية الأفراد مدعيا حق التسلط على كل الأراضى لأنه الحاكم النائب على الخليفة المالك للأرض، فاستحضر كل الملاك وطلب منهم ابراز حقوق ملكيتهم فقدموا اليه حججهم رغم أنوفهم، فكان يضرب ببعضها عرض الحائط ويظهر بطلان بعضها الآخر، ويملى بعض الملاك بعوض، ولما أصبحت جميع الأملاك في قبضته أعدم كل ما لديه من الحجج وأصبحت كل الأرض في قبضته واستخدام الفلاحين في زراعتها".
ومن جملة هذه الآراء يظهر أن السجال لم يكن علميا ولا قوميا فلم يفرق الدعاة بين الاشتراكية والشيوعية، كما أن دعوتهم ارتبطت بعوامل خارجة وباتصالات الأحزاب الشيوعية في أوربا، ولم تكن دعوة اشتراكية وطنية متصلة بالواقع المصري أو العربي أو خالصة للهدف القومى المتحرر من المذاهب الغربية أو الاتصال بالشيوعية الدولية.
وكان خصوم هذه الآراء يتحدثون من الناحية الدينية وحدها، ويعارضون المذهب دون مناقشته علميا ولم يكن الرأى العام يحتمل في هذه الفترة مواجهة مثل هذه المذاهب على نحو يحقق الاستفادة من الصالح منها.
وقد كان الاستعمار وراء السماح بهذه الآراء اذ كان في هذه الفترة (1921 - 1923) يسيطر بالحماية والأحكام العرفية وقوة الاحتلال على توجيه الرأى العام في ميدان الصحافة والفكر والاجتماع، ولم ترفع الحماية الا بعد صدور تصريح 28 فبراير 1922 وقد ظل المعتمد البريطانى الذي أصبح المندوب السامى بعد اعلان الاستقلال هو صاحب الرأى الأول في كل هذه الأمور، كما أن افساح جريدة الأهرام الصفحات الأولى والمقالات الافتتاحية منها لهذه الدعوة من ناحية تأييدها ومعارضتها انما كان يهدف إلى خلق جو من البلبلة والتمزق وضرب الأفكار بعضا ببعض على نحو يحقق أهداف الغزو الثقافي والتغريب وتحطيم مقومات الفكر العربي الإسلامي والشخصية العربية الإسلامية.
غير أنه في خلال هذه الفترة التي نؤرخ لها - حتى الحرب العالمية الثانية - لم يتوقف الحديث عن الشيوعية على نحو أو آخر في مقالات وأبحاث تتناول شخصيات لينين وتروتسكى وستالين أو مذهب التفسير المادى للتاريخ أو ثورة 1917 وسقوط القيصرية. كما جرت محاولات متعددة لتنظيم العلاقة بين أصحاب العمل والعمال وقامت نقابات العمال وجرى بحث مختلف المسائل المتصلة بالرأسمالية والاقطاع، غير أن الاستعمار كان حريصا على دعم نظامه القائم على تسلط الاتجاهات الرأسمالية الغربية على مختلف التشريعات والقوانين، وكان نفوذ الاقطاعيين من رؤساء الحكومات ورجال القصر والأحزاب يحول دون أى اتجاه نحو الاشتراكية الحقيقية المستمدة من الواقع العربي.
وقد واجه الفكر العربي الإسلامي الدعوة الماركسية الشيوعية في مختلف مراحلها كما واجه مختلف النظريات الغربية، وكان في كل أدوار هذه الرحلة يكتشف في عقائده وتراثه خير ما في هذه الدعوات لو أتيح له أن يحقق الاصلاح دون أن يتخلى عن معتقداته، غير أن الاشتراكية الإسلامية كانت لا تزال تحارب من قيادة حركة التغريب في سبيل الابقاء على أنظمة الاقطاع وسلطان رأس المال وفوارق الطبقات وحجب العدالة الاجتماعية.
وقد ظل دعاة الشيوعية أو الاشتراكية الغربية في نظر الفكر العربي غرباء عنه على أساسين واضحين: أحدهما أن لدينا في الإسلام وتراثه وشريعته ما يحقق تنظيم المجتمع واشتراكيته ويحقق العدالة الاجتماعية دون الحاجة إلى اقتباس نظم الآخرين فضلا عن أن التجربة التي حاولت الشيوعية تحقيقا في روسيا لم تحقق النجاح الذي يكسبها القبول، هذا بالاضافة عن نفوذ الفكر العربي من استبعاد "الإسلام" عن مجال النظم الاجتماعية.
وقد كان الفكر العربي الإسلامي يرى في الشيوعية وجها آخر من الغزو الغربي لأمتنا لأنها تحمل أفكارا. ومذاهب بعيدة عن طبيعته فضلا عما كانت تتسم به الدعوة الشيوعية من الارتباط بموسكو، وعدم قدرتها على التحرر من هذا القيد، واستحالة مواجهة الاشتراكية كتظلم يمكن أن نقبل منه ما يتفق مع حاجة أى أمة من الأمم، وهى في هذا تحمل نفس الخطأ التطبيقى الذي يطالب به الغزو الاستعمارى من أن تقبل الأمة العربية الحضارة كاملة أو ترفضها جميعا.
وقد كشفت التجربة الشيوعية أمام الفكر العربي الإسلامي نتائج خطيرة زادت حذرها منها فقد الدين والحرية والمساواة. وصلب النظام الشيوعى حرية الفرد ووضعه تحت الوصاية القاهرة والرقابة الشديدة. ولم تنجح الشيوعية في الغاء نظام الطبقات وعجزت عن أن تقرب بينها وبين سلطان الحكام شبيها بسلطان القيصرية وهى ان استطاعت أن تمحو طبقات قديمة فقد أحلت محلها طبقات جديدة.