الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(3)
منهج البحث العلمي الحديث
إزاء العقل العربي
كان من اهم ما دعا اليه الفكر الغربي وحمل لوائه المستشرقون منهج "البحث العلمى الحديث" وهو سليم الاسس يقتضى ان تمحو من نفسك كل راى وكل عقيدة سابقة من هذا البحث. وان يبدا البحث بالملاحظة والتجربة ثم بالموازنة والترتيب ثم بالاستنباط القائم على المقدمات العلمية للوصول إلى نتيجة علمية خاضعة للبحث والتمحيص.
ولم يكن الغرب الذي دعا إلى هذا المنهج محدثا في مذهبه، وانما كان قد اتخذ اساسا له من مذهب الفكر العربي الإسلامي القديم في البحث الذي دعا إلى العقل والبرهان "قل هاتوا برهانكم" والاقناع بالحجة وتقديم العقل على ظاهر النص.
وقد جرى "الغزالى" على هذه الطريقة حيث اعلن في كتبه انه جرد نفسه من جميع الاراء ثم فكر واستدل حتى وصل إلى ما وصل اليه من راى على اساس الدليل والبرهان.
ولذلك فان ما ادعاه الغرب من ايمان العرب بالعقلية الغبية محض امتراء لا اساس له، فقد وصفت العقلية الشرقية بأنها جزئية تنتقل من الجزء إلى الجزء الاخر دون ان تربط بين الاجزاء، ولا تبحث في المقدمات والنتائج ولا تعنى بالتحليل وهذا ما لا يتفق مع مقدمات العقل العربي ولا الفكر العربي الإسلامي عامة الذي اثبت على طول القرون علميته وبراعته في الشك والنقد والبحث عن البرهان للوصول إلى الحقائق على اساس المنطق والمقدمات والنتائج ووفق اسلوب التحليل.
يقول "ابن رشد" في تصوير منهج البحث العلمى العربي: يجب علينا اذا الفينا ممن تقدموا من الامم السالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها بحسب ما اقتضه شرائط البرهان ان ننظر إلى هذا الذي تال من ذلك، وما اثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه. وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرناهم منه وعذرناهم ان كل ما ادى اليه البرهان والعقل وخالفه ظاهر الشرعة فان ذلك الظاهر يقبل التاويل".
ويقول الامام الثافعى في تصوير منهج البحث العلمى كما يراه: ان هذا العلم دين فانظروا عمن تاخذون منه، لقد ادركت سبعين ممن يقولون: قال رسول الله عند هذه الاساطين فما اخذت منهم شيئا. وان احدهم لو وتمن على بيت المال لكان امينا، الا انهم لم يكونوا من اهل هذا الشان".
وهذا يعنى في نظر الفيلسوف العربي الاندليسى والفقيه العربي القاهرى ان يقوم البحث العلمى على اساس اهلية من يحمل العلم، والقدرة على فحص النصوص ومطابقتها الحق على اساس البرهان والعقل، وبذلك وضع الفكر العربي الإسلامي قواعد البحث العلمي واصول التفكير وحصرها في الملاحظة والاستقراء وتحكيم العقل.
ولقد تخلف الفكر العربي الإسلامي من بعد عن منهجه وعلاه التراب ثم جاء الغرب فوضعه في قالب جديد دون ان يخرج به عن مضمونه ولذلك فان نظريات باكون وديكارت ليست الا صورة مما جاء في اقوال ابن رشد والغزالى والشافعى.
وقد اعلن الفكر العربي الإسلامي "تطرية المعرفة" قبل الفكر الغربي بسبعة قرون، هذه النظرية القائمة على اساس الاختبار المحسوس، والاستقلال والتجربة دون التقليد، قال ابن حزم "ان المعرفة تكون اولا بشهادة الحواس، أي: باختيار لما تقع عليه الحواس وما يقول
العقل أي: بالضرورة من غير حاجة إلى استعمال الحواس الخمس، وببرهان راجع من قرب او بعد إلى شهادة الحواس واولها العقل.
وقال ابن حزم: ان التقليد حرام.
وعلى أساس نظريته التي هى من صميم الفكر العربي الإسلامي خالف كثيرا من الاقوال التي كانت معتمدة في زم وهو القائل بان الغرض من الفلسفة والشريعة انما هو "أصلاح النفس".
وفيما يتصل بهذا ما عرف الفكر العربي الإسلامي من اصول النظريات السياسية المستقلة عن الفكر الاغريقى والرومانى. وقد سبقت ما انتجه العقل الاوربى.
وأبحاث الامامة والعقد السياسى والعدل وتطبيقات الشيعة والمعتزلة والمرجئة وشئون المعاملات والبيعة، كلها غير مسبوقة وان كان ما ادعاه الغرب من اليونان هم وحدهم الذين عرفوا النظريات السياسية هى دعوى تغريبية تكذبها الوقائع الصحيحة.
وقد صور الغزالى في كتابه (المنقذ من الضلال) أسلوبه العلمى في فهم الإسلام فقال انه رأى "صبيان النصارى ينشئون على النصرانية، وصبيان اليهود ينشئون على اليهودية، وصبيان المسلمين على الإسلام وانه لم يقتنع بهذا الدين التقليدي اليقينى ولذلك اتجه إلى ان يعلم حقائق الامور، وان يبنى دينه على يقين، ولذلك بدأ بالشك في كل ذلك حتى يقوم البرهان على صحته، وقال بالنص: كل ما اعلمه على هذا الوجه ولا اتيقنه هذا النوع من اليقين فهو علم لا ثقة به ولا امان معه وكل علم لا امان معه فليس بعلم يقينى".
وتطبيقا لنظرية "المنهج العلمى العربي" نقد الفيلسوف "النظام" اراء ارسطو كما نقضها الجاحظ ايضا ونقد "البيرونى" نظريات اليونان والهند في الرياضيات. ووقف الغزالى في كتابه "المنقذ" موقف ديكارت الذي جاء من بعده.
وبعد فهل طبق الغرب منهج البحث العلمى الحديث عندما بحث تاريخ الامة الإسلامية ودينها ولغتها وتراثها.
وهل تجرد كتاب الغرب ومحوا من انفسهم احقادهم وخصوماتهم وتعاليهم عندما نظروا إلى تاريخ البلاد العربية ام تاثروا بنظريات جيب ورين في الفرق بين السامية والارية ونظريات الاجناس والعنصرية ورسالة الرجل الابيض.
الواقع ان من ينظر إلى ما كتبه علماء الغرب يجده مليئا بالانتراءات والاكاذيب على الإسلام والنبى والقرآن وتاريخ العرب واصول دينهم وحضارتهم فهو في اغلبه جائح اصد الجنوح عن مذهب البحث العلمى الذي لا يريد الغرب حين يفرضه علينا الا اثارة الصكوك والاتهامات ومحاولة التصغير من شان بطولاتنا وامجادنا.
والواقع ان نظرية قصر العلم على اساس البحث والملاحظة والاستقراء أنها وضعت اول الامر للنظريات العلمية وحدها، ثم انسحبت على الفكر والتاريخ والعقيدة غير ان الايمان بقدرة العلم المطلقة لم تلبث ان تراجعت امام الجوانب الغيبية واقدرنها بعد ان انكرتها اول الامر انكارا مطلقا.
وكان "اوحست كمط" العالم الفرنسي اول من قدر ذلك حين قرن بفلسفته العلمية ديانة الانسانية.
ثم تحرر العلماء من قيد النظرية وأعلنوا إلى أن العلم قد عجز عن ان يعد غذاء نفسيا للشعوب الغربية وأنه لا مفر من الالتجاء إلى اديان الشرق ومذاهبه، وقد نشات على اثر ذلك نظرية "اقتراض" الغرب لثقافات الشرق الروحية وظهر مذهب الثيوصونهية.