الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن قلت: لم سأله عن المانع له من السجود وهو أعلم به؟
قلت: إنما سأله للتوبيخ والتقريع له ولإظهار معاندته وكفره وافتخاره بأصله وحسده لآدم عليه الصلاة والسلام ولذلك لم يتب الله عليه قالَ يعني قال إبليس مجيبا لله تعالى عما سأله عنه أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ.
فإن قلت قوله أنا خير منه ليس بجواب عما سأله عنه في قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ فلم يجب بما منعه من السجود فإنه كان ينبغي له أن يقول منعني كذا وكذا ولكنه قال أنا خير منه.
قلت: استأنف قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم وفيها دليل على موضع الجواب وهو قوله خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ والنار خير من الطين وأنور وإنما قال أنا خير منه لما رأى أنه أشد منه قوة وأفضل منه أصلا وذلك لفضل الجنس الذي خلق منه وهو النار على الطين الذي خلق منه آدم عليه الصلاة والسلام فجهل عدو الله وجه الحق وأخطأ طريق الصواب لأن من المعلوم أن من جوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب، وهذا الذي حمل الخبيث إبليس مع الشقاء الذي سبق له من الله تعالى في الكتاب السابق على الاستكبار على السجود لآدم عليه الصلاة والسلام والاستخفاف بأمر ربه فأورده ذلك العطب والهلاك ومن المعلوم أن في جوهر الطين الرزانة والأناة والصبر والحلم والحياة والتثبت وهذا كان الداعي لآدم عليه الصلاة والسلام مع السعادة السابقة التي سبقت له من الله تعالى في الكتاب السابق إلى التوبة من خطيئته ومسألته ربه العفو عنه والمغفرة، ولذلك كان الحسن وابن سيرين يقولان: أول من قاس إبليس فأخطأ وقال ابن سيرين أيضا:
ما عبدت الشمس والقمر لا بالمقاييس وأصل هذا القياس الذي قاسه إبليس لعنه الله تعالى لما رأى أن النار أفضل من الطين وأقوى فقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ولم يدر أن الفضل لمن جعله الله فاضلا وأن الأفضلية والخيرية لا تحصل بسبب فضيلة الأصل والجوهر وأيضا الفضيلة إنما تحصل بسبب الطاعة وقبول الأمر، فالمؤمن الحبشي خير من الكافر القرشي فالله تعالى خص صفيه آدم عليه الصلاة والسلام بأشياء لم يخص بها غيره وهو أنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلّمه أسماء كل شيء وأورثه الاجتباء والتوبة والهداية إلى غير ذلك مما خص الله تعالى به آدم عليه الصلاة والسلام للعناية التي سبقت له في القدم وأورث إبليس كبره اللعنة والطرد للشقاوة التي سبقت له في القدم.
[سورة الأعراف (7): الآيات 13 الى 17]
قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17)
وقوله تعالى: قالَ فَاهْبِطْ مِنْها يعني قال الله تعالى لإبليس لعنه الله اهبط من الجنة. وقيل: من السماء إلى الأرض. والهبوط الإنزال والانحدار من فوق على سيل القهر والهوان والاستخفاف فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها يعني فليس لك أن تستكبر في الجنة عن أمري وطاعتي لأنه لا ينبغي أن يسكن في الجنة أو في السماء متكبر مخالف لأمر الله عز وجل فأما غير الجنة والسماء فقد يسكنها المستكبر عن طاعة الله تعالى وهم الكفار الساكنون في الأرض فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ يعني: إنك من الأذلاء المهانين والصّغار الذل والمهانة. قال الزجاج: استكبر عدو الله إبليس فابتلاه الله تعالى بالصغار والذلة. وقيل: كان له ملك الأرض فأخرجه الله تعالى منها إلى جزائر البحر الأخضر وعرشه عليه فلا يدخل الأرض إلا خائفا كهيئة السارق مثل شيخ عليه أطمار رثة يروع فيها حتى يخرج منها قالَ يعني: قال إبليس عند ذلك أَنْظِرْنِي يعني أخّرني وأمهلني فلا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يعني من قبورهم وهي النفخة الآخرة عند قيام الساعة وهذا من جهالة الخبيث إبليس لعنه الله لأنه
سأل ربه الإمهال وقد علم أنه لا سبيل لأحد من خلق الله تعالى إلى البقاء في الدنيا ولكنه كره أن يكون ذائقا للموت فطلب البقاء والخلود فلم يجب إلى ما سأل به قالَ الله تعالى إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ يعني من المؤخرين الممهلين وقد بين الله تعالى مدة النظرة والمهلة في سورة الحجر فقال تعالى: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وذلك هو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم.
فإن قلت: فما وجه قولك إنك من المنظرين وليس أحد ينظر سواه؟
قلت: معناه إن الذين تقوم عليهم الساعة منظرون إلى ذلك الوقت بآجالهم فهو منهم قالَ يعني إبليس فَبِما أَغْوَيْتَنِي يعني فبأي شيء أضللتني فعلى هذا تكون ما استفهامية وتم الكلام عند قوله أغويتني ثم ابتدأ فقال لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ وقيل: هي باء القسم تقديره فبإغوائك إياي وقيل معناه فيما أوقعت في قلبي الغي الذي كان سبب هبوطي إلى الأرض من السماء وأضللتني عن الهدى لأقعدن لهم صراطك المستقيم يعني لأجلسن على طريقك القويم وهو طريق الإسلام. وقيل المراد بالصراط المستقيم الطريق الذي يسلكونه إلى الجنة وذلك بأن أوسوس إليهم وأزين لهم الباطل وما يكسبهم المآثم. وقيل: المراد بالصراط المستقيم هنا طريق مكة يعني يمنعهم من الهجرة. وقيل: المراد به الحج. والقول الأول أولى لأنه يعم الجميع ومعنى لأردنّ بني آدم عن عبادتك وطاعتك ولأغوينهم ولأضلنّهم كما أضللتني. عن سبرة بن أبي الفاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقة قعد له في طريق الإسلام فقال تسلم وتذر دين آبائك وآباء آبائك فعصاه وأسلم، وقعد له بطريق الهجرة فقال تهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول فعصاه فهاجر وقعد له بطريق الجهاد فقال تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد قال فمن فعل ذلك كان حقا على الله أن يدخله الجنة وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة» أخرجه النسائي، وقوله تعالى إخبارا عن إبليس ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ قال ابن عباس: من بين أيديهم يعني من قبل الآخرة فأشككهم فيها، ومن خلفهم يعني من قبل الدنيا فأرغبهم فيها، وعن أيمانهم يشبه عليهم أمر دينهم، وعن شمائلهم أشهي لهم المعاصي. وإنما جعل الآخرة من بين أيديهم في هذا القول لأنهم منقلبون إليها وصائرون إليها فعلى هذا الاعتبار فالدنيا خلفهم لأنها وراء ظهورهم. وقال ابن عباس في رواية عنه: من بين أيديهم من قبل دنياهم يعني أزينها في قلوبهم، ومن خلفهم من قبل الآخرة، فأقول لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار، وعن أيمانهم من قبل حسناتهم، وعن شمائلهم من قبل سيئاتهم وإنما جعل الدنيا من بين أيديهم في هذا القول لأن الإنسان يسعى فيها ويشاهدها فهي حاضرة بين يديه والآخرة غائبة عنه فهي خلفه. وقال الحكم بن عتبة: من بين أيديهم يعني من قبل الدنيا فأزينها لهم ومن خلفهم من قبل الآخرة فأثبطهم عنها وعن أيمانهم يعني من قبل الحق فأصدهم عنه وعن شمائلهم من قبل الباطل فأزينه لهم وقال قتادة: أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ومن خلفهم من أمر الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها وعن إيمانهم من قبل حسناتهم فبطأهم عنها وعن شمائلهم زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها. أتاك يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك فلم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله تعالى. وقال مجاهد: يأتيهم من بين أيديهم وعن أيمانهم حيث يبصرون، ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون. ومعنى هذا من حيث يخطئون ويعلمون أنهم يخطئون ومن حيث لا يبصرون أنهم يخطئون ولا يعلمون أنهم يخطئون، وقيل: من بين أيديهم يعني فيما بقي من أعمارهم فلا يقدمون فيه طاعة ومن خلفهم يعني ما مضى من أعمارهم فلا يتوبون عما أسلفوا فيه من معصية عن أيمانهم يعني من قبل الغنى فلا ينفقون ولا يشركون ومن خلفهم يعني من قبل الفقر فلا يمتنعون فيه من محظور نالوه. وقال شقيق البلخي: ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع من بين يديّ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي