الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن عباس: لا يحملنكم. وقيل: معناه لا يكسبنكم ولا يدعوكم شَنَآنُ قَوْمٍ يعني بغض قوم وعداوتهم أَنْ صَدُّوكُمْ يعني لأن صدوكم عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ والمعنى: لا يحملنكم عداوة قوم على الاعتداء، لأن صدوكم عن المسجد الحرام، لأن هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية، فكان الصدّ قد تقدم أَنْ تَعْتَدُوا عليهم يعني: بالقتل وأخذ المال وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى يعني ليعن بعضكم بعضا على ما يكسب البر والتقوى قال ابن عباس: البر متابعة السنة وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ يعني ولا يعن بعضكم بعضا على الإثم وهو الكفر والعدوان هو الظلم. وقيل: الإثم المعاصي، والعدوان البدعة (م) عن النواس بن سمعان، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: البر «حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس» وَاتَّقُوا اللَّهَ أي احذروا الله أن تعتدوا ما أمركم به أو تجاوزوا إلى ما نهاكم عنه إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ يعني لمن خالف أمره ففيه وعيد وتهديد عظيم.
[سورة المائدة (5): آية 3]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
قوله عز وجل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ بيّن الله تعالى في أول السورة ما أحل لنا من بهيمة الأنعام بقوله أحلت لكم بهيمة الأنعام ثم إنه تعالى استثنى من ذلك بقوله: إلا ما يتلى عليكم. فذكر ذلك المستثنى بقوله حرمت عليكم الميتة فكل ما فارقته الروح مما يذبح بغير ذكاة فهو ميتة. وسبب تحريم الميتة، أن الدم لطيف جدا، فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس ذلك الدم وبقي في العروق فيفسد ويحصل منه ضرر عظيم والدم هو المسفوح الجاري، وكانت العرب في الجاهلية تجعل الدم في المصارين وتشويه وتأكله، فحرم الله ذلك كله. ولحم الخنزير، أراد به جميع أجزائه وأعضائه. وإنما خص اللحم بالذكر، لأنه المقصود بالأكل وقد تقدم في سورة البقرة أحكام هذه الثلاثة أشياء وما استثنى الشارع من الميتة والدم وهو السمك والجراد والكبد والطحال وذكرنا الدليل على إباحة ذلك واختلاف العلماء في ذلك.
وقوله تعالى: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ يعني ما ذكر على ذبحه غير اسم الله وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يذكرون أسماء أصنامهم عند الذبح فحرم الله بهذه الآية وبقوله: ولا تأكلوا مما لا يذكر اسم الله عليه وَالْمُنْخَنِقَةُ.
قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها فحرم الله ذلك. والمنخنقة: جنس الميتة لأنها لما ماتت لم يسل دمها. والفرق بينهما، أن الميتة تموت بلا سبب أحد، والمنخنقة تموت بسبب الخنق. وَالْمَوْقُوذَةُ: يعني المقتولة بالخشب. وكانت العرب في الجاهلية يضربون الشاة بالعصا حتى تموت ويأكلونها فحرّم الله ذلك وَالْمُتَرَدِّيَةُ يعني التي تتردى من مكان عال فتموت أو في بئر فتموت. والتردي: هو السقوط من سطح أو من جبل ونحوه وهذه المتردية تلحق بالميتة فيحرم أكلها ويدخل في هذا الحكم إذا رمى بسهمه صيدا فتردى ذلك الصيد من جبل أو من مكان عال فمات فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم هل مات بالتردي أو بالسهم وَالنَّطِيحَةُ يعني التي تنطحها شاة أخرى حتى تموت وكانت العرب في الجاهلية تأكل ذلك، فحرمها الله تعالى لأنها في حكم الميتة. فأما الهاء في الكلمات التي تقدمت أعني المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، فإنما دخلت عليها، لأنها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة. كأنه قال: حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة
والمتردية. وخصت الشاة، لأنها من أعم ما يأكله الناس، والكلام إنما يخرج على الأعم الأغلب ثم يلحق به غيره.
فإن قلت: لم أثبتت الهاء في النطيحة مع أنها في الأصل منطوحة فعدلوا بها إلى النطيحة وفي مثل هذا الموضع تكون الهاء محذوفة تقول: كف خضيب وعين كحيل يعني كف مخضوبة وعين مكحولة. قلت: إنما تحذف الهاء من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف يتقدمها، فإذا لم يذكر الموصوف وذكرت الصفة وضعتها موضع الموصوف تقول: رأيت قبيلة بني فلان بالهاء لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف أرجل هو أم امرأة. فعلى هذا، إنما دخلت الهاء في النطيحة لأنها صفة لموصوف غير مذكور وهو الشاة.
وقال ابن السكيت: قد تأتي فعيلة بالهاء وهي في تأويل مفعول بها تخرج مخرج الأسماء ولا يذهب بها مذهب النعوت نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع ومررت بقبيلة بني فلان. وقوله تعالى: وَما أَكَلَ السَّبُعُ قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئا فقتله أو أكل منه أكلوا ما بقي منه، فحرمه الله تعالى.
والسبع اسم يقع على كل حيوان له ناب ويعدو على الناس والدواب فيفترس بنابه كالأسد والذئب والنمر والفهد ونحوه وفي الآية محذوف تقديره وما أكل السبع منه لأن ما أكله السبع فقد فقد فلا حكم له، إنما الحكم للباقي منه.
إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ يعني إلا ما أدركتموه وقد بقيت فيه حياة مستقرة من هذه الأشياء المذكورة والظاهر أن هذا الاستثناء يرجع إلى جميع المحرمات المذكورة في الآية من قوله تعالى: والمنخنقة، إلى، وما أكل السبع. وهذا قول علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن وقتادة.
قال ابن عباس: يقول الله تعالى ما أدركتم من هذا كله وفيه روح فاذبحوه فهو حلال. وقال الكلبي: هذا الاستثناء مما أكل السبع خاصة. والقول هو الأول وأما كيفية إدراكها، فقال أكثر أهل العلم من المفسرين: إن أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف أو ذنب يتحرك فأكله جائز. قال ابن عباس: إذا طرفت بعينها أو ركضت برجلها أو تحركت فاذبح فهو حلال. وذهب بعض أهل العلم إلى أن السبع إذا جرح فأخرج الحشوة أو قطع لجوف قطعا تيأس معه الحياة فلا ذكاة لأن ذلك وإن كان به حركة ورمق إلا أنه قد صار إلى حالة لا يؤثر في حياته الذبح وهو مذهب مالك واختاره الزجاج وابن الأنباري، لأن معنى التذكية أن يلحقها وفيها بقية تشخب معها الأوداج وتضطرب اضطراب المذبوح لوجود الحياة فيه قبل ذلك وإلا فهو كالميتة. وأصل الذكاة في اللغة تمام الشيء، فالمراد من التذكية، تمام قطع الأوداج وانهار الدم ويدل عليه ما روي عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر «وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة» أخرجاه في الصحيحين.
وأقل الذبح في الحيوان المقدور عليه قطع المريء والحلقوم وأكمله قطع الودجين مع ذلك والحلقوم بعد الفم، وهو موضع النفس والمريء مجرى الطعام والودجان عرقان يقطعان عند الذبح وأما آلة الذبح فكل ما أنهرا الدم وفرى الأوداج من حديد وغيره إلا السن والظفر لما تقدم من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
قوله تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ يعني وحرم ما ذبح على النصب. والنصب يحتمل أن يكون جمعا واحده نصاب وأن يكون واحدا وجمعه أنصاب وهو الشيء المنصوب. قيل: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون حجرا منصوبة كان أهل الجاهلية يعبدونها ويعظمونها ويذبحون لها وليست هذه الحجارة بأصنام إنما الأصنام الصور المنقوشة. وقال ابن عباس: هي الأصنام المنصوبة. والمعنى: وما ذبح على اسم النصب أو لأجل النصب
فهو حرام وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ يعني وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام وهو طلب القسم والحكم من الأزلام وهي القداح وكانت أزلامهم سبع قداح مستوية مكتوب على واحد منها أمرني ربي وعلى واحد نهاني وعلى واحد منكم وعلى واحد من غيركم وعلى واحد ملصق وعلى واحد العقل وعلى واحد غفل أي ليس عليه شيء. وكانت العرب في الجاهلية، إذا أرادوا سفرا أو تجارة أو نكاحا أو اختلفوا في نسب أو أمر قتيل أو تحمل عقل أو غير ذلك من الأمور العظام جاءوا إلى هبل وكانت أعظم صنم لقريش، بمكة وجاءوا بمائة درهم وأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم. فإن خرج أمرني ربي فعلوا ذلك الأمر وإن خرج نهاني ربي ولم يفعلوه وإن أجالوا على نسب فإن خرج منكم كان وسطا فيهم وإن خرج من غيركم كان حلفا فيهم وإن خرج ملصق كان على حاله وإن اختلفوا في العقل وهو الدية فمن خرج عليه قدح العقل تحمله وإن خرج الغفل أجابوا ثانيا حتى يخرج المكتوب عليه فنهاهم الله عن ذلك وحرمه وسماه فسقا. وقيل: الأزلام كعاب فارس والروم التي كانوا يقامرون بها.
وقيل: كانت الأزلام للعرب. والكعاب للعجم وهي: النرد وكلها حرام لا يجوز اللعب بشيء منها.
عن قطن بن قبيصة عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «العيافة والطيرة والطرق من الجبت» أخرجه أبو داود وقال: الطرق الزجر والعيافة الخط. وقيل: العيافة زجر الطير والطرق الضرب بالحصى والجبت كل ما عبد من دون الله عز وجل. وقيل: الجبت الكاهن. وروى البغوي بسند الثعلبي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تكهن أو استقسم بالأزلام أو تطيّر طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى يوم القيامة وقوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ يعني ما ذكر من هذه المحرمات في هذه الآية لأن المعنى حرم عليكم تناول كذا وكذا فإنه فسق والفسق ما يخرج من الحلال إلى الحرام وقيل إن الإشارة عائدة على الاستقسام بالأزلام والأول أصح الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ يعني يئسوا أن ترجعوا عن دينكم إلى دينهم كفارا، وذلك أن الكفار كانوا يطمعون في أن يعود المسلمون إلى دينهم، فلما قوي الإسلام، أيسوا من ذلك وذلك هو اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام حجة الوداع فعند ذلك يئس الكفار من بطلان دين الإسلام. وقيل: إن ذلك هو يوم عرفة فنزلت هذه الآية والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة.
وقيل: لم يرد يوما بعينه وإنما المعنى الآن يئس الذين كفروا من دينكم فهو كما تقول: اليوم قد كبرت.
تريد: الآن قد كبرت. وتقول: فلان كان يزورنا وهو اليوم يجفونا ولم ترد يوما بعينه. يعني: وهو الآن يجفونا ولم تقصد به اليوم قال الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا
…
ويوم نساء ويوم نسرّ
أراد فزمان علينا وزمان لنا ولم يقصد اليوم واحد معين فَلا تَخْشَوْهُمْ فلا تخافوا الكفار أيها المؤمنون الذين آمنوا أن يظهروا على دينكم فقد زال الخوف عنكم بإظهار دينكم وَاخْشَوْنِ أي وخافوا مخالفة أمري وأخلصوا الخشية لي.
قوله عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نزلت هذه الآية في يوم الجمعة بعد العصر في يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء فكادت عضد الناقة تندق وبركت لثقل الوحي وذلك في حجة الوداع سنة عشر من الهجرة (ق).
عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا نزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال: فأي آية؟ قال: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات في يوم الجمعة أشار عمر إلى ذلك اليوم يوم عيد لنا. وعن ابن عباس
أنه قرأ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً وعنده يهودي فقال: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذناها عيدا فقال ابن عباس: «فإنها نزلت في يوم عيدين في يوم جمعة ويوم عرفة» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
قال ابن عباس: كان في ذلك اليوم خمسة أعياد يوم جمعة، ويوم عرفة، وعيد لليهود، وعيد للنصارى، وعيد للمجوس. ولم تجتمع أعياد لأهل الملل في يوم واحد قبله ولا بعده.
وروي أنه لما نزلت هذه الآية، بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«ما يبكيك يا عمر؟ فقال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا. فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص قال: صدقت» فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعدها أحدا وثمانين يوما ومات صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول وقيل: لاثنتي عشر ليلة وهو الأصح سنة إحدى عشرة من الهجرة. وأما تفسير الآية فقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يعني بالفرائض والسنن والحدود والأحكام والحلال والحرام ولم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض هذا معنى قول ابن عباس.
وقال سعيد بن جبير وقتادة: معنى أكملت لكم دينكم، أي حيث لم يحج معكم مشرك وخلا الموسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين. وقيل: معناه أني أظهرت دينكم على الأديان وأمنتكم من عدوكم بأن كفيتكم ما كنتم تخافونه. وقيل: إكمال الدين لهذه الأمة أنه لا يزول ولا ينسخ وإن شريعتهم باقية إلى يوم القيامة. وقيل: إكمال الدين لهذه الأمة أنهم آمنوا بكل نبي وكل كتاب ولم يكن هذا لغير هذه الأمة. وقال ابن الأنباري: اليوم أكملت شرائع الإسلام على غير نقصان كان قبل هذا الوقت وذلك أن الله تعالى كان يتعبد خلقه بالشيء في وقت ثم يزيد عليه في وقت آخر فيكون الوقت الأول تاما في وقته، وكذلك الوقت الثاني تاما في وقته فهو كما يقول القائل:
عندي عشرة كاملة. ومعلوم أن العشرين أكمل منها والشرائع التي تعبد الله عز وجل بها عباده في الأوقات المختلفة مختلفة وكل شريعة منها كاملة في وقت التعبد بها فكمل الله عز وجل الشرائع في اليوم الذي ذكره وهو يوم عرفة ولم يوجب ذلك أن الدين كان ناقصا في وقت من الأوقات ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن القفال واختاره أن الدين ما كان ناقصا البتة بل كان أبدا كاملا كانت الشرائع النازلة من عند الله كافية في ذلك الوقت إلا أنه تعالى كان عالما في أول وقت البعثة بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد لا يصالح فيه لا جرم كان ينسخ بعد الثبوت وكان يزيل بعد التحتم.
وأما في آخر زمان البعثة، فأنزل الله شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة، فالشرع أبدا كان كاملا إلا أن الأول كمال إلى يوم مخصوص، والثاني كمال إلى يوم القيامة، فلأجل هذا المعنى قال: اليوم أكملت لكم دينكم. ثم قال تعالى: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي يعني بإكمال الدين والشريعة، لأنه لا نعمة أتم من الإسلام.
وقال ابن عباس: حكم لها بدخول الجنة. وقيل: معناه أنه تعالى أنجز لهم ما وعدهم في قوله ولأتم نعمتي عليكم فكان من تمام النعمة أن دخلوا مكة آمنين وحجّوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً يعني واخترت لكم الإسلام دينا من بين الأديان وقيل: معناه ورضيت لكم الإسلام لأمري والانقياد لطاعتي فيما شرعت لكم من الفرائض والأحكام والحدود ومعالم الدين الذي أكملته لكم وإنما قال تعالى:
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً يوم نزلت هذه الآية وإن كان الله تعالى لم يزل راضيا بدين الإسلام فيما مضى قبل نزول هذه الآية لأنه لم يزل يصرف نبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين من حال إلى حال وينقلهم من مرتبة إلى مرتبة أعلى منها حتى أكمل لهم شرائع الدين ومعالمه وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه ثم أنزل عليهم هذه الآية:
ورضيت لكم الإسلام دينا، يعني بالصفة التي هو اليوم بها وهي نهاية الكمال وأنتم الآن عليه فالزموه ولا