الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحال ويدل على أنهم لم يقطعوا عليه بالسرقة قولهم وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا يعني ولم نقل ذلك إلا بعد أن رأينا إخراج الصواع وقد أخرج من متاعه وقيل معناه ما كانت منا شهادة في عمرنا على شيء إلا بما علمناه وهذه ليست بشهادة إنما هو خبر عن صنيع ابنك أنه سرق بزعمهم فيكون المعنى أن ابنك سرق في زعم الملك وأصحابه لا أنّا نشهد عليه بالسرقة: وقرأ ابن عباس والضحاك: سرق بضم السين وكسر الراء وتشديدها أي نسب إلى السرقة واتهم بها وهذه القراءة لا تحتاج إلى تأويل ومعناها أن القوم نسبوه إلى السرقة إلا أن هذه القراءة ليست مشهورة فلا تقوم بها حجة والقراءة الصحيحة المشهورة هي الأولى وقوله وما شهدنا إلا بما علمنا يعني وما قلنا هذا إلا بما علمنا فيما رأينا إخراج الصواع من متاعه، وقيل: معناه ما كانت منا شهادة في عمرنا على شيء إلا بما عملناه وليست هذه شهادة وإنما هو خبر عن صنيع ابنك بزعمهم. وقيل: قال لهم يعقوب هب أنه سرق فما يدري هذا الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته إلا بقولكم قالوا ما شهدنا عنده أن السارق يسترق إلا بما علمنا من الحكم وكان الحكم كذلك عند الأنبياء قبله ويعقوب وبنيه.
وأورد على هذا القول كيف جاز ليعقوب إخفاء هذا الحكم حتى ينكر على بنيه ذلك.
وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون ذلك الحكم كان مخصوصا بما إذا كان المسروق منه مسلما فلهذا أنكر عليهم إعلام الملك بهذا الحكم لظنه أنه كافر وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ قال مجاهد وقتادة: يعني ما كنا نعلم أن ابنك سرق ويصير أمرنا إلى هذا ولو عملنا ذلك ما ذهبنا به معنا وإنما قلنا ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه منه سبيل، وقال ابن عباس: ما كنا لليله ونهاره ومجيئه وذهابه حافظين وقيل معناه إن حقيقة الحال غير معلومة لنا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله فلعل الصواع دس في رحله ونحن لا نعلم بذلك وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها يعني واسأل أهل القرية إلا أن حذف المضاف للإيجاز ومثل هذا النوع من المجاز مشهور في كلام العرب والمراد بالقرية مصر، وقال ابن عباس: هي قرية من قرى مصر كان قد جرى فيها حديث السرقة والتفتيش وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها يعني واسأل القافلة التي كنا فيها وكان صحبهم قوم من كنعان من جيران يعقوب وَإِنَّا لَصادِقُونَ يعني فيما قلناه وإنما أمرهم أخوهم الذي أقام بمصر بهذه المقالة مبالغة في إزالة التهمة عن أنفسهم عند أبيهم لأنهم كانوا متهمين عنده بسبب واقعة يوسف قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فيه اختصار تقديره فرجعوا إلى أبيهم فأخبروه بما جرى لهم في سفرهم ذلك وبما قال لهم كبيرهم وأمرهم أن يقولوه لأبيهم فعند ذلك قال لهم يعقوب بل سولت يعني بل زينت لكم أنفسكم أمرا وهو حمل أخيكم معكم إلى مصر لطلب نفع عاجل فآل أمركم إلى ما آل، وقيل: معناه بل خيلت لكم أنفسكم أنه سرق ما سرق فَصَبْرٌ جَمِيلٌ تقدم تفسيره في أول السورة.
وقوله عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً يعني بيوسف وبنيامين والأخ الثالث الذي أقام بمصر وإنما قال يعقوب هذه المقالة لأنه لما طال حزنه واشتد بلاؤه ومحنته علم أن الله سيجعل له فرجا ومخرجا عن قريب فقال ذلك على سبيل حسن الظن بالله عز وجل لأنه إذا اشتد البلاء وعظم كان أسرع إلى الفرج، وقيل: إن يعقوب علم بما يجري عليه وعلى بنيه من أول الأمر وهو رؤيا يوسف وقوله «يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا» فلما تناهى الأمر قال عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ يعني بحزني ووجدي عليهم الْحَكِيمُ فيما يدبره ويقضيه.
[سورة يوسف (12): الآيات 84 الى 86]
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86)
قوله تعالى: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ يعني وأعرض يعقوب عن بنيه حين بلغوه خبر بنيامين فحينئذ تناهى حزنه واشتد بلاؤه وبلغ جهده وهيج حزنه على يوسف فعند ذلك أعرض عنهم وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ الأسف أشد الحزن وإنما جدد حزنه على يوسف عند وجود هذه الواقعة لأن الحزن القديم إذا صادفه حزن آخر كان ذلك أوجع للقلب وأعظم لهيجان الحزن الأول كما قال متمم بن نويرة لما رأى قبرا جيدا جدد حزنه على أخيه مالك:
يقول أتبكي كل قبر رأيته
…
لقد ثوى بين اللوى والدكادك
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى
…
فدعني فهذا كله قبر مالك
فأجاب بأن الحزن يجدد الحزن، وقيل: إن يوسف وبنيامين لما كانا من أم واحدة كان يعقوب يتسلى عن يوسف ببنيامين فلما حصل فراق بنيامين زاد حزنه عليه ووجده وجدد حزنه على يوسف لأن يوسف كان أصل المصيبة، وقد اعترض بعض الجهال على يعقوب عليه السلام في قوله يا أسفا على يوسف فقال هذه شكاية وإظهار جزع فلا يليق بعلو منصبه ذلك وليس الأمر كما قال هذا الجاهل المعترض لأن يعقوب عليه الصلاة والسلام شكا إلى الله لا منه فقوله يا أسفا على يوسف معناه يا رب ارحم أسفي على يوسف وقد ذكر ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال: نداء يعقوب بالأسف في اللفظ من المجاز يعني به غير المظهر في اللفظ وتلخيصه يا إلهي ارحم أسفي أو أنت رائي أسفي أو هذا أسفي فنادى الأسف في اللفظ والمنادى سواه في المعنى ولا مأثم إذ لم ينطلق اللسان بكلام مؤثم لأنه لم يشك إلا إلى ربه عز وجل فلما كان قوله يا أسفا على يوسف شكوى إلى ربه كان غير ملوم في شكواه وقيل إن يعقوب لما عظمت مصيبته واشتد بلاؤه وقويت محنته قال يا أسفا على يوسف أي أشكو إلى الله شدة أسفي على يوسف ولم يشكه إلى أحد من الخلق بدليل قوله إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ أي عمي من شدة الحزن على يوسف قال مقاتل لم يبصر شيئا ست سنين، وقيل:
إنه ضعف بصره من كثرة البكاء وذلك أن الدمع يكثر عند غلبة البكاء فتصير العين كأنها بيضاء من ذلك الماء الخارج من العين فَهُوَ كَظِيمٌ أي مكظوم وهو الممتلئ من الحزن الممسك عليه لا يبثه، قال قتادة: وهو الذي يردد حزنه في جوفه ولم يقل إلا خيرا، وقال الحسن: كان بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقيا ثمانون سنة لم تجف عينا يعقوب وما على وجه الأرض يومئذ أكرم على الله منه. وقال ثابت البناني ووهب بن منبه والسدي: إن جبريل عليه الصلاة والسلام دخل على يوسف وهو في السجن فقال هل تعرفني أيها الصديق قال يوسف أرى صورة طاهرة قال إني رسول رب العالمين وأنا الروح الأمين فقال يوسف فما أدخلك مدخل المذنبين وأنت أطيب الطيبين ورأس المقربين وأمين رب العالمين قال ألم تعلم يا يوسف أن الله يطهر الأرض بطهر النبيين وأن الأرض التي يدخلونها هي أطهر الأرضين وأن الله قد طهر بك الأرض والسجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن الصالحين المخلصين قال يوسف كيف لي باسم الصديقين وتعدني من الصالحين المخلصين الطاهرين وقد أدخلت مدخل المذنبين قال له إنه لم يفتتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربك فلذلك سماك الله من الصديقين وعدك من المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين قال يوسف فهل لك علم من يعقوب أيها الروح الأمين قال نعم قد ذهب بصره وابتلاه الله بالحزن عليك فهو كظيم ووهب له الصبر الجميل قال فما قدر حزنه قال حزن سبعين ثكلاء قال فما له من الأجر يا جبريل قال أجر مائة شهيد قال أفتراني لاقيه قال نعم فطابت نفس يوسف وقال ما أبالي مما لقيت إن رأيته.
قوله عز وجل: قالُوا يعني إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام لأبيهم تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ يعني لا تزال تذكر يوسف ولا تفتر عن حبه يقال ما فتئ يفعل كذا أي ما زال ولا محذوفة في جواب القسم لأن موضعها معلوم فحذفت للتخفيف كقول امرئ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
…
ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
أي لا أبرح قاعدا وقوله حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً قال ابن عباس يعني دنفا وقال مجاهد الحرض ما دون الموت يعني قريبا من الموت، وقال ابن إسحاق: يعني فاسدا لا عقل له والحرض الذي فسد جسمه وعقله وقيل ذائبا من الهم وأصل الحرض الفساد في الجسم والعقل من الحزن أو الهم ومعنى الآية حتى تكون دنف الجسم مخبول العقل يعني لا تنتفع بنفسك من شدة الحزن والهم والأسف أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ يعني من الأموات.
فإن قلت كيف حلفوا على شيء لم يعلموا حقيقته قطعا؟.
قلت: إنهم بنوا الأمر على الأغلب الظاهر أي نقوله ظنا منا أن الأمر يصير إلى ذلك الَ
يعني يعقوب عند ما رأى قولهم له وغلظتهم عليه نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
أصل البث إثارة الشيء وتفريقه وبث النفس ما انطوت عليه من الغم والشر، قال ابن قتيبة: البث أشد الحزن وذلك لأن الإنسان إذا ستر الحزن وكتمه كان هما فإذا ذكره لغيره كان بثا فالبث أشد الحزن والحزن الهم فعلى هذا يكون المعنى إنما أشكو حزني العظيم وحزني القليل إلى الله لا إليكم.
قال ابن الجوزي: روى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه من حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «كان ليعقوب أخ مؤاخ فقال له ذات يوم يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك وما الذي قوس ظهرك قال أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين فأتاه جبريل فقال يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك أما تستحي أن تشكو إلى غيري فقال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فقال جبريل الله أعلم بما تشكو» وقيل: إنه دخل على يعقوب جار له فقال له يا يعقوب مالي أراك قد تهشمت بالضعف وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك فقال هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من هم يوسف فأوحى الله إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي فقال يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي قال قد غفرتها لك فكان بعد ذلك إذا سئل يقول إنما أشكو بثي وحزني إلى الله تعالى وقيل إن الله أوحى إليه وعزتي وجلالي لا أكشف ما بك حتى تدعوني فعند ذلك قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله تعالى ثم قال أي رب أما ترحم الشيخ الكبير أذهبت بصري وقوست ظهري فاردد على ريحانتي أشممها شمة قبل أن أموت ثم اصنع ما شئت فأتاه جبريل فقال يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك أبشر فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك أتدري لم وجدت عليك لأنكم ذبحتم شاة فقام على بابكم فلان المسكين وهو صائم فلم تطعموه منها شيئا وإن أحب عبادي إلي الأنبياء ثم المساكين اصنع طعاما وادع إليه المساكين فصنع طعاما ثم قال من كان صائما فليفطر الليلة عند آل يعقوب وكان بعد ذلك إذا تغدى أمر مناديا ينادي من أراد أن يتغدى فليأت آل يعقوب وإذا أفطر أمر أن ينادي من أراد أن يفطر فليأت آل يعقوب فكان يتغدى ويتعشى مع المساكين، وقال وهب بن منبه أوحى الله تعالى إلى يعقوب أتدري لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة قال يا رب لا قال لأنك شويت عناقا وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه وقيل إن سبب ابتلاء يعقوب أنه ذبح عجلا بين يدي أمه وهي تخور فلم يرحمها.
فإن قلت هل في هذه الروايات ما يقدح في عصمة الأنبياء؟
قلت: لا وإنما عوقب يعقوب بهذا لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين وإنما يطلب من الأنبياء من الأعمال على قدر منصبهم وشريف رتبتهم ويعقوب عليه الصلاة والسلام من أهل بيت النبوة والرسالة ومع ذلك فقد ابتلى الله كل واحد من أنبيائه بمحنة فصبر وفوض أمره إلى الله فإبراهيم عليه الصلاة والسلام ألقي في النار فصبر ولم يشك إلى أحد وإسماعيل ابتلي بالذبح فصبر وفوض أمره إلى الله وإسحاق ابتلي بالعمى فصبر ولم يشك إلى أحد ويعقوب ابتلي بفقده ولده يوسف وبعده بنيامين ثم عمي بعد ذلك أو ضعف بصره من كثرة البكاء