الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما تفسير الآية: فقوله تعالى: وآخرون اعترفوا بذنوبهم قال أهل المعاني: الاعتراف عبارة عن الإقرار بالشيء ومعناه أنهم أقروا بذنبهم وفيه دقيقة وهي أنهم لم يعتذروا عن تخلفهم بأعذار باطلة كغيرهم من المنافقين ولكن اعترفوا على أنفسهم بذنوبهم وندموا على ما فعلوا.
فإن قلت: الاعتراف بالذنب هل يكون توبة أم لا؟
قلت: مجرد الاعتراف بالذنب لا يكون توبة فإذا اقترن الاعتراف بالندم على الماضي من الذنب والعزم على تركه في المستقبل يكون ذلك الاعتراف والندم توبة.
وقوله سبحانه وتعالى: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً قيل: أراد بالعمل الصالح إقرارهم بالذنب وتوبتهم منه والعمل السيئ هو تخلفهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: العمل الصالح هو خروجهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سائر الغزوات والسيئ هو تخلفهم عنه في غزوة تبوك. وقيل: إن العمل الصالح يعم جميع أعمال البر والطاعة والسيئ ما كان ضده فعلى هذا تكون الآية في حق جميع المسلمين والحمل على العموم أولى وإن كان السبب مخصوصا بمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.
وروى الطبري عن أبي عثمان قال ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله وآخرون اعترفوا بذنوبهم.
فإن قلت قد جعل كل واحد من العمل الصالح والسيئ مخلوطا فما المخلوط به.
قلت: إن الخلط عبارة عن الجمع المطلق فأما قولك خلطته فإنما يحسن في الموضع الذي يمتزج كل واحد من الخليطين بالآخر ويتغير به عن صفته الأصلية كقولك خلطت الماء باللبن وخلطت الماء واللبن فتنوب الواو عن الباء فيكون معنى الآية على هذا خلطوا عملا صالحا بآخر ذكره غالب المفسرين وأنكره الإمام فخر الدين الرازي. وقال: اللائق بهذا الموضع الجمع المطلق لأن العمل الصالح والعمل السيئ إذا حصلا معا بقي كل واحد منهما على حاله كما هو مذهبنا فإن عندنا القول بالإحباط باطل فالطاعة تبقى موجبة للمدح والثواب والمعصية تبقى موجبة للذم والعقاب فقوله سبحانه وتعالى خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فيه تنبيه على نفي القول بالمحابطة وأنه بقي كل واحد منهما كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر فليس إلا الجمع المطلق.
وقال الواحدي: العرب تقول خالطت الماء باللبن وخلطت الماء واللبن كما تقول جمعت زيدا وعمرا. والواو في الآية أحسن من الباء لأنه أريد معنى الجمع لا حقيقة الخلط. ألا ترى أن العمل الصالح لا يختلط بالسيء كما يختلط الماء باللبن لكن قد يجمع بينهما وقوله سبحانه وتعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ قال ابن عباس وجمهور المفسرين: عسى من الله واجب والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى: فعسى الله أن يأتي بالفتح وقد فعل ذلك. وقال أهل المعاني: لفظة عسى هنا تفيد الطمع والإشفاق لأنه أبعد من الاتكال والإهمال.
وقيل: إن الله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بل كل ما يفعله على سبيل التفضل والتطول والإحسان فذكر لفظة عسى التي هي للترجي والطمع حتى يكون العبد بين الترجي والإشفاق ولكن هو إلى نيل ما يرجوه منه أقرب لأنه ختم الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وهذا يفيد إنجاز الوعد قوله سبحانه وتعالى:
[سورة التوبة (9): آية 103]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها. قال ابن عباس: لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة وصاحبيه انطلق أبو لبابة وصاحبه فأتوا بأموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: خذ أموالنا وتصدق بها عنا وصل علينا يريدون
استغفر لنا وطهرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا آخذ شيئا منها حتى أومر به، فأنزل الله عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً الآية، وهذا قول زيد بن أسلم وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك. ثم اختلف العلماء في المراد بهذه الصدقة فقال بعضهم: هو راجع إلى هؤلاء الذين تابوا وذلك أنهم بذلوا أموالهم صدقة فأوجب الله سبحانه وتعالى أخذها وصار ذلك معتبرا في كمال توبتهم لتكون جارية مجرى الكفارة. وأصحاب هذا القول يقولون ليس المراد بها الصدقة الواجبة. وقال بعضهم: إن الزكاة كانت واجبة عليهم فلما تابوا من تخلفهم عن الغزو وحسن إسلامهم وبذلوا الزكاة أمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذها منهم وقال بعضهم إن الآية كلام مبتدأ والمقصود منها إيجاب أخذها من الأغنياء ودفعها إلى الفقراء وهذا قول أكثر الفقهاء واستدلوا بها على إيجاب أخذ الزكاة.
أما حجة أصحاب القول الأول، فإنهم قالوا: إن الآيات لا بد وأن تكون منتظمة متناسبة فلو حملناها على أخذ الزكاة الواجبة، لم يبق لهذه الآية تعلق بما قبلها ولا بما بعدها، ولأن جمهور المفسرين ذكروا في سبب نزولها أنها نزلت في شأن التائبين وأما أصحاب القول الأخير فإنهم قالوا: المناسبة حاصلة أيضا على هذا التقدير وذلك أنهم لما تابوا وأخلصوا وأقروا أن السبب الموجب للتخلف وحب المال أمروا بإخراج الزكاة التي هي طهرة فلما أخرجوها علمت صحة قولهم وصحة توبتهم. ولا يمنع من خصوص السبب عموم الحكم فإن قالوا: إن الزكاة قدر معلوم لا يبلغ ثلث المال وقد أخذ منهم ثلث أموالهم قلنا: لا يمنع هذا صحة ما قلناه لأنهم رضوا ببذل الثلث من أموالهم فلأن يكونوا راضين بإخراج الزكاة أولى. ثم في هذه الآية أحكام: الأول قوله سبحانه وتعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً، الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم أي خذ يا محمد من أموالهم صدقة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذها منهم أيام حياته ثم أخذها من بعده الأئمة فيجوز للإمام أو نائبه أن يأخذ الزكاة من الأغنياء ويدفعها إلى الفقراء.
الحكم الثاني: قوله من أموالهم، ولفظة «من» تقتضي التبعيض وهذا البعض المأخوذ غير معلوم ولا مقدر بنص القرآن فلم يبق إلا الصدقة التي بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدرها وصفتها في أخذ الزكاة.
الحكم الثالث: ظاهر قوله خذ من أموالهم صدقة يفيد العموم فتجب الزكاة في جميع المال حتى في الديون وفي مال الركاز.
الحكم الرابع: ظاهر قوله تطهرهم، أن الزكاة إنما وجبت لكونها طهرة من الآثام وصدور الآثام لا يمكن حصولها إلا من البالغ دون الصبي فوجب أن تجب الزكاة في مال البالغ دون الصبي وهذا قول أبي حنيفة ثم أجاب أصحاب الشافعي: بأنه لا يلزم من انتفاء سبب معين انتفاء الحكم مطلقا.
وللعلماء في قوله سبحانه وتعالى تطهرهم أقوال:
الأول: أن معناه خذ يا محمد من أموالهم صدقة فإنك تطهرهم بأخذها من دنس الآثام.
القول الثاني: أن يكون تطهرهم متعلقا بالصدقة تقديره خذ من أموالهم صدقة فإنها طهرة لهم وإنما حسن جعل الصدقة مطهرة لما جاء أن الصدقة من أوساخ الناس فإذا أخذ الصدقة فقد اندفعت تلك الأوساخ وكان ذلك الاندفاع جاريا مجرى التطهير: فعلى هذا القول يكون قوله سبحانه وتعالى وتزكيهم بها متقطعا عن قوله تطهرهم ويكون التقدير: خذ يا محمد من أموالهم صدقة تطهرهم تلك الصدقة وتزكيهم أنت بها.
القول الثالث: أن تجعل التاء في قوله تطهرهم وتزكيهم ضمير المخاطب ويكون المعنى تطهرهم أنت يا محمد بأخذها منهم وتزكيهم أنت بواسطة تلك الصدقة.
القول الرابع: أن معناه تطهرهم من ذنوبهم وتزكيهم يعني ترفع منازلهم عن منازل المنافقين إلى منازل