الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)}.
3 -
قوله في سورة البقرة: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} .
4 -
قوله في سورة الأنفال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4
1)}
.
فآية القدر صريحة في أن إنزال القرآن كان في ليلة القدر، وآية الدخان تؤكد ذلك وتبين أن النزول كان في ليلة مباركة، وآية البقرة ترشد إلى أن نزول القرآن كان في شهر رمضان، وآية الأنفال تدل على أن إنزال القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم كان في ليلة اليوم المماثل ليوم التقاء الجمعين في غزوة بدر التي فرق الله سبحانه فيها بين الحق والباطل، ونصر حزب الرحمن على حزب الشيطان، ومن ذلك يتضح أن هذه الليلة هي ليلة الجمعة لسبع عشرة خلت من شهر رمضان.
التفسير وأوجه القراءة
1 -
{إِنَّا} نحن {أَنْزَلْنَاهُ} ؛ أي: أنزلنا هذا القرآن الكريم جملة واحدة. {فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} إلى سماء الدنيا من اللوح المحفوظ في مكان يقال له: بيت العنة، ثم نزل به جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم نجومًا متفرقة في مدة ثلاث وعشرين سنة، فكان ينزل بحَسَب الوقائع والحاجة إليه.
وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} النون (1) فيه للعظمة، من للدلالة على الذات مع الصفات والأسماء، والضمير للقرآن؛ لأن شهرته تقوم مقام تصريحه باسمه، وإرجاع الضمير إليه، فكأنه حاضر في جميع الأذهان، وعظمه بأن أسند إنزاله إلى جنابه مع أن نزوله إنما يكون بواسطة الملك، وهو جبريل على طريقة القصر بتقديم الفاعل المعنوي، إلا أنه اكتفى بذكر الأصل عن ذكر التبع، قال في بعض التفاسير:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} : مبتدأ وخبر في الأصل بمعنى: نحن أنزلناه، فأدخل {إنَّ} للتحقيق، فاختير
(1) روح البيان.
اتصال الضمير للتخفيف، ومعنى صيغة الماضي أنا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، وقضينا به وقدرناه في الأزل.
ثم إن الإنزال (1) يُستعمل في الدفعي، والقرآن لم ينزل جملة واحدة، بل أُنزل منجمًا مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة، وهذه السورة من جملة ما أنزل، وجوابه أن المراد أن جبريل نزل به جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت العنة في السماء الدنيا، وأملاه على السفرة؛ أي: الملائكة الكاتبين في تلك السماء، ثم كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجمًا على حَسَب المصالح، وكان ابتداء تنزيله أيضًا في مثل تلك الليلة.
وفيه إشارة (2) إلى أن بيت العزة أشرف المقامات السماوية بعد اللوح المحفوظ لنزول القرآن منه إليه، ولذلك قيل بفضل السماء الأولى على أخواتها؛ لأنها مقر الوحي الرباني، وقيل: لشرف المكان بالمكين، وكل منهما وجه، فإن السلطان إنما ينزل على أنزه مكان، ولو فرضنا نزوله على مسبخة .. لكفى نزوله هناك شرفًا لها، فالمكان الشريف يزداد شرفًا بالمكين الشريف، كما سبق في سورة البلد.
ففي نزول القرآن بالتدريج إشارة إلى تعظيم الجانب المحمدي، كما تدخل الهدايا شيئًا بعد شيء على أيدي الخدام تعظيمًا للمُهدى إليه بعد التسوية بينه وبين موسى عليهما السلام بإنزاله جملة إلى بيت العزة، وفي التدريج أيضًا تسهيل للحفظ وتثبيت لفؤاده، كما قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} ، وكلام الله المنزل قسمان: القرآن، والخبر القدسي؛ لأن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن، ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى، لأن جبريل أداها بالمعنى، ولم تجز القراءة بالمعنى؛ لأن جبريل أداها باللفظ.
والسر في ذلك التعبد بلفظه، والإعجاز به فإنه لا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه من الإعجاز لفظًا، ومن الأسرار معنى، فكيف يقوم لفظ الغير ومعناه مقام حرف القرآن.
(1) روح البيان.
(2)
روح البيان.
ومعناه: ثم إن اللوح المحفوظ قلب هذا التعين، ولكن قلب الإنسان ألطف منه؛ لأنه زبدته وأشرفه؛ لأن القرآن نزل به الروح الأمين على قلب النبي المختار.
وهنا سؤال: وهو أن الملائكة بأَسْرِهِم صعقوا ليلة نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى بيت العنة، كما ورد فيما وجهه.
والجواب: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم عندهم من أشراط القيامة، والقرآن كتابه، فنزوله دل على قيام الساعة، فصعقوا هيبة منه، وإجلالًا لكلامه ووعده ووعيده، ثم إن القرآن كلامه القديم أنزله في شهر رمضان، كما قال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ، وهذا هو البيان الأول، ولم ندر نهارًا أنزل فيه أم ليلًا، فقال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} وهذا هو البيان الثاني، ولم ندر أي ليلة هي، فقال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} ، فهذا هو البيان الثالث الذي هو غاية البيان.
فالصحيح أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، وينسخ فيها أمر السنة وتدبير الأحكام إلى مثلها هي ليلة القدر، ولتقدير الأمور فيها، سميت ليلة القدر؛ أي: ليلة تقدير الأحكام، والأمور السفلية، ويشهد التنزيل لما ذكرنا؛ إذ في أول الآية:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} ، ثم وصفها فقال:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} ، والقرآن إنما نزل في ليلة القدر، فكانت هذه الآية بهذا الوصف في هذه الليلة مواطئة لقوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} ، كذا في "قوت القلوب" للشيخ أبي طالب المكي رحمه الله تعالى.
فإن قلت (1): ما الحكمة في إنزال القرآن ليلًا؟
قلت: لأن أكثر الكرامات ونزول النفحات والأسرار في السموات يكون بالليل، والليل من الجنة؛ لأنها محل الاستراحة، والنهار من النار؛ لأن فيه المعاش والتعب، والنهار حظ اللباس والفراق، والليل حظ الفراش والوصال، وعبادة الليل أفضل من عبادة النهار؛ لأن قلب الإنسان فيه أجمع، والمقصود من
(1) روح البيان.