الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
19
- ثم ذكر مقابل هؤلاء، وهم الذين صدوا عن سبيل الله، وتواصوا بالإثم وتوا صوا بالعدوان ومعصية الرسول، فقال:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} وجحدوا {بِآيَاتِنَا} الكونية وآياتنا السمعية التي جاءت على ألسنة الرسل، كالقرآن وغيره من الكتب السماوية {هُمْ} في الإتيان (1) بضمير الغيبة دلالة على سقوطهم عن شرف الحضور، وأنهم أحقاء بالإخفاء {أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}؛ أي: هم أصحاب الشمال الذين يُعطون كتبهم بشمائلهم ومن وراء ظهورهم، ويُسلَك بهم شمالًا إلى النار، أو أصحاب الشؤم والشر والشقاوة؛ لأن الفساق مشائيم على أنفسهم بمعصيتهم وعلى غيرهم أيضًا؛ أي: هم أهل الشمال الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42)
…
} الآيات.
20
- {عَلَيْهِمْ} خبر مقدم لقوله: {نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} ؛ أي: نار أبوابها مغلقة عليهم، فلا يُفتح لهم باب، فلا يُخرج منها غم، ولا يدخل فيها روح أبد الآباد، إلا أنها جُعلت صفة للنار إشعارًا بإحاطتها بهم، فأصل التركيب مؤصدة الأبواب، فلما تُركت الإضافة عاد التنوين إليها؛ لأنهما يتعاقبان، والمعنى؛ أي: عليهم نار مطبقة مغلقة عليهم، فلا يستطيعون الفكاك منها، ولا الخلاص من عذابها، أعاذنا الله سبحانه وجميع المسلمين منها بمنه وكرمه، وجعلنا من أصحاب الميمنة، يقال: آصدت الباب وأوصدته إذا أغلقته وأطبقته، ومنه قول الشاعر:
تَحِنُّ إِلَى أَجْبَالِ مَكَّةَ نَاقَتِيْ
…
وَمِنْ دُوْيهَا أَبْوَابُ صَنْعَاءَ مُؤْصَدَهْ
وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص (2): {مُؤْصَدَةٌ} بالهمز هنا وفي الهُمزة، فيظهر أنه من أصدت، قيل: ويجوز أن يكون من أوصدت، وهمز على حد من قرأ بـ {السؤق} مهموزًا، وقرأ باقي السبعة بغير همز، فيظهر أنه من أوصدت، وقيل: يجوز أن يكون ومن آصدت، وسهل الهمزة.
وقال الشاعر:
قَوْمًا تُعَالِجُ قُمَّلًا أَبْنَاؤُهُمُ
…
وَسَلَاسِلًا حَلَقًا وَبَابًا مُؤْصَدَا
والحاصل: أنه قُرىء بالواو وبالهمزة مكان الواو، وهما لغتان، والمعنى
(1) روح البيان.
(2)
البحر المحيط.
واحد، وقيل: معنى المهموز: المطبقة، ومعنى غير المهموز: المغلقة انتهى. اهـ "خطيب"، وفي "السمين" والظاهر أن القراءتين من مادتين: الأولى من آصد يؤصد، كأكرم يكرم، والثانية من أوصد يوصد، كأوصل كيوصل. انتهى.
الإعراب
{لَا} : زائدة. {أُقْسِمُ} : فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله سبحانه، والجملة مستأنفة، {بِهَذَا}: جار ومجرور معلق بـ {أُقْسِمُ} . {الْبَلَد} : بدل من اسم الإشارة، {وَأَنْتَ}:{الواو} : حالية، أو اعتراضية. {أنت}: مبتدأ. {حِلٌّ} : خبر {بِهَذَا} : متعلق بـ {حِلٌّ {الْبَلَدِ} : بدل من اسم الإشارة، والجملة في محل النصب حال من {هذا البلد} أو معترضة لا محل لها من الإعراب. {وَوَالِدٍ}: الواو: عاطفة، أو حرف قسم. {والد}: معطوف على القسم السابق. {وَمَا} : {الواو} : عاطفة. {ما} : اسم موصول في محل الجر معطوف على {والد} . {وَلَدَ} : فعل ماض وفاعل مستتر يعود على {والد} ، والجملة صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: وما ولده ذلك الوالد. {لقَد} : {اللام} : موطئة للقسم، {قد}: حرف تحقيق. {خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} : فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب. {فِي كَبَدٍ}: متعلق بمحذوف حال من {الْإِنْسَانَ} ؛ أي: حال كونه مكابدًا للمشاق. {أَيَحْسَبُ} : {الهمزة} : للاستفهام الإنكاري، {يحسب}: فعل مضارع، وفاعلهُ ضمير يعود على {الْإِنْسَانَ} ، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {أَن}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. {لن}: حرف نصب. {يَقْدِرَ} : فعل مضارع منصوب بـ {لن} {عَلَيْهِ} : متعلق بـ {يَقدِرَ} . {أَحَدٌ} : فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لـ {أن} المخففة، وجملة {أَن} المخففة في محل النصب سادة مسد مفعولي {يحسب} ، {يَقُولُ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {الْإِنْسَانَ} ، وجملة القول في محل النصب حال من فاعل {يحسب} ، أو مستأنفة. {أَهْلَكْتُ}: فعل وفاعل. {مَالًا} : مفعول
به. {لُبَدًا} : صفة لـ {مَالًا} ، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {يَقُولُ}. {أَيَحْسَبُ} {الهمزة}: للاستفهام الإنكاري، {يحسب}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {الْإِنْسَانَ} ، والجملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {أَن}: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. {لَمْ}: حرف جزم. {يَرَهُ} : فعل مضارع مجزوم بـ {لَمْ} ، و {الهاء}: مفعول به؛ لأن رأى بصرية. {أَحَدٌ} : فاعل ليرى والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لـ {أَن} المخففة، وجملة {أَن} المخففة في محل النصب سادة مسد مفعولي {يحسب} .
{أَلَمْ} {الهمزة} : للاستفهام التقريري، {لم}: حرف جزم. {نَجْعَلْ} : فعل مضارع مجزوم بـ {لم} . {لَهُ} : متعلق بـ {نَجْعَلْ} ؛ لأنه بمعنى نخلق. {عَيْنَيْنِ} : مفعول به، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)}: معطوفان على {عَيْنَيْنِ} . {وَهَدَيْنَاهُ} {الواو} : عاطفة: {هديناه} : فعل وفاعل ومفعول أول. {النَّجْدَيْنِ} : مفعول ثان له، أو منصوب بنزع الخافض، والجملة معطوفة على جملة قوله:{أَلَمْ نَجْعَلْ} ؛ لأن الاستفهام فيه تقريري، فيكون بمعنى: وجعلنا له عينين. {فَلَا} {الفاء} : عاطفة، {لا}: نافية بمعنى: ما. {اقْتَحَمَ} فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {الْإِنْسَانَ} القائل، والجملة معطوفة على {هديناه}؛ أي: وهديناه النجدين فما اقتحم العقبة، و {الْعَقَبَةَ}: مفعول به، وقيل {لا}: دعائية، دعا عليه أن لا يفعل خيرًا، وهذا أرجح الأقوال الجارية هنا، وقيل:{لا} تحضيضية، والأصل: فألا اقتحم العقبة، ثم حُذفت الهمزة للتخفيف، وهذا القول ضعيف. وإن كان واضح المعنى كما مر، {وَمَا} {الواو}: اعتراضية {ما} : استفهامية في مخل الرفع مبتدأ. {أَدْرَاكَ} : فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على {ما} و {الكاف} مفعول أول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر عن {ما} الاستفهامية، والجملة الاسمية معترضة مقحمة لبيان العقبة، مقررة لمعنى الإبهام والتفسير، فإن قوله:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)} عين تلك العقبة؛ لأن المعرف باللام
والألف إذا أعيد كان الثاني عين الأول. {مَا} : استفهامية في محل الرفع مبتدأ. {الْعَقَبَةُ} : خبر عنها، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد المفعول الثاني لـ {أَدْرَاكَ} معلق عنها بالاستفهام. {فَكُّ رَقَبَةٍ (13)}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو فك رقبة، كأنه قيل: وما هو: اقتحام العقبة، فقيل: هو فك رقبة أو إطعام
…
إلخ، والجملة مفسرة لاقتحام العقبة لا محل لها من الإعراب. {أَوْ إِطْعَامٌ} معطوف على {فَكُّ رَقَبَةٍ (13)}. {فِي يَوْمٍ}: متعلق بـ {أَوْ إِطْعَامٌ} . {ذِي مَسْغَبَةٍ} : صفة لـ {يَوْمٍ} . {يَتِيمًا} : مفعول به لـ {إِطْعَامٌ} : {ذَا مَقْرَبَةٍ} : صفة لـ {يَتِيمًا} . {أَوْ مِسْكِينًا} : معطوف على {يَتِيمًا} . {ذَا مَقْرَبَةٍ} : صفة {مِسْكِينًا} . {ثُمَّ} : حرف عطف وتراخ. {كَانَ} : فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الإنسان المذكور. {مِنَ الَّذِينَ}: جار وجرور خبر {كَانَ} ، وجملة {كَانَ} معطوفة على جملة قوله:{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)} ؛ أي: فهلا اقتحم العقبة، ثم كان من الذين
…
إلخ. {آمَنُوا} : فعل وفاعل صلة الموصول. {وَتَوَاصَوْا} : فعل وفاعل معطوف على {آمَنُوا} . {بِالْمَرْحَمَةِ} : متعلق بـ {تواصوا} . {وَتَوَاصَوْا} : معطوف أيضًا على {آمَنُوا} . {بِالْمَرْحَمَةِ} : متعلق بـ {تواصوا} . {أُولَئِكَ} : مبتدأ. {أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} : خبره، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. {وَالَّذِينَ} {الواو}: استئنافية. {الَّذِينَ} : مبتدأ، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول. {بِآيَاتِنَا}: متعلق بـ {كَفَرُوا} . {هُمْ} : مبتدأ ثان، أو ضمير فصل. {أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}: خبر عن {هُمْ} ومضاف إليه، والجملة خبر عن {الَّذِينَ} ، أو {هُمْ} خبر عن {الَّذِينَ} ، {عَلَيْهِمْ}: خبر مقدم. {نَارٌ} : مبتدأ مؤخر. {مُؤْصَدَةٌ} : صفة لـ {نَارٌ} ، والجملة خبر ثان عن {هُمْ} ، أو عن {الَّذِينَ} ، أو مستأنفة، والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} وفي "القاموس": البلد والبلدة: مكة شرفها الله تعالى، وكل قطعة من الأرض مستحيزة عامرة أو غامرة، والتراب والبلد أيضًا القبر والمقبرة والدار والأثر.
وذكر له معاني إلى أن قال: وبلد بالمكان بلودًا إذا أقام ولزمه، أو اتخذه بلدًا، وفي "روح البيان": البلد: المكان المحدود المتأثر باجتماع قطانه وإقامتهم فيه، وجمعه بلاد وبلدان. انتهى. كما مر في بحث التفسير.
{وَأَنْتَ حِلٌّ} والحل: بمعنى الحال من الحلول؛ وهو النزول، يقال: حل وحلال وحرم وحرام بمعنى واحد، وحل في المكان إذا نزل فيه يحل - بضم الحاء - حلولًا، فهو حال، والمكان محلول فيه، والمعنى: أي: وأنت حال مقيم فيه.
{وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)} ؛ أي: وأقسم لك بأي والد وبأي مولود من الإنسان والحيوان والنبات.
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)} ؛ أي: في نصب ومشقة يكابد مصائب الدنيا وشدائد الاخرة، وفي "المصباح": والكَبَد - بفتحتين - المشقة من المكابدة للشيء، وهو يتحمل المشاق في فعله، يقال: كَبِدَ الرجل كبدًا - من باب طرب - إذا وجعت كبده فانتفخت، ويقال: كبده إذا أصاب كبده، كذكرته إذا قطعت ذكره، ورأيته إذا قطعت رئته، ثم اتسع فيه حتى استُعمل في كل نصب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة بمعنى مقاساة الشدة، ومنه قال لبيد يرثي أخاه أربد:
يَا عَيْنُ هَلْ رَأيْتِ أرْبَدَ إِذْ
…
قُمْنَا وَقَامَ الخُصُوْمُ فِي كَبَدِ
أي: في شدة الأمر وصعوبة الخطب.
{مَالًا لُبَدًا} ؛ أي: مالًا كثيرًا متلبدًا من تلبد الشيء إذا اجتمع، وتكدس بعضه على بعض، ولا يخاف فناؤه من كثرته، يريد كثرة ما أنفقه رياء وسمعة وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم.
{أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} أصله: يرأي بوزن يفعل، نقلت حركة الهمزة عين الفعل إلى الراء، ثم حذفت للتخفيف، ثم قُلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لدخول الجازم، فلم يبق من الفعل إلا فاؤه فوزنه يفه.
{وَشَفَتَيْنِ} : مثنى شفة، فيه إعلال بحذف لامه، وأصله: شفهة، أو شفو لتصغيره على شفيهة، وجمعها على شفاه، حُذفت لامه وعُوّض عنها التاء ونظيره سنة.
{النَّجْدَيْنِ} : والنجدان: طريقا الخير والشر، والنجد في الأصل الطريق المرتفع وجمعه نجود، ومنه سميت نجد لارتفاعها عن انخفاض تهامة، وفي "القاموس" النجد: ما ارتفع من الأرض، وجمعه أنجد وأنجاد ونجاد ونجود ونُجُد، وجمع النجود: أنجدة، والطريق الواضح، وما خالف الغور؛ أي: تهامة، وتضم
جيمه مذكر أعلاه تهامة واليمن، وأسفله العراق والشام، وأوله من جهة الحجاز ذات عرق، وما ينجد به البيت من بسط وفرش ووسادة، والجمع نجود ونجاد، والدليل الماهر، والمكان لا شجر فيه.
{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)} والاقتحام: الدخول في أمر شديد ومجاوزته بصعوبة، وفي "القاموس": قحم في الأمر - كنصر - قحومًا رمى بنفسه فيه فجأة بلا روية، والعقبة: الطريق الوعر.
{فَكُّ رَقَبَةٍ (13)} والفك في الأصل: الفرق بين الشيئين بإزالة أحدهما عن الاخر، كفك القيد والغل، وفك الرقبة: الفرق بينها وبين صفة الرق بإيجاب الحرية، والرقبة: العضو المخصوص، ثم يعبر بها عن جملة الذات، كا مر بسطه.
{مَسْغَبَةٍ} : مصدر ميمي من سَغِب يسغب سغبًا - من باب فرح - إذا جاع، وفي "القاموس": سغب - كفرح ونصر - سَغَبًا وسغْبًا وسغابة وسغوبة ومسغبة جاع، فهو ساغب وسغبان وسَغِب، وهي سغبى، وجمعها سغاب، والسغب أيضًا العطش، وليس بمستعمل.
{ذَا مَقْرَبَةٍ} والمقربة القرابة في النسب تقول: فلان من ذوي قرابتي، ومن أهل مقربتي إذا كان قريبك نسبًا فهو مصدر ميمي بمعنى القرابة.
{ذَا مَتْرَبَةٍ} والمتربة؛ الفقر، تقول: ترب الرجل إذا افتقر، وأترب إذا كثر ماله حتى صار كالتراب، وفي "المختار": ترب الشيء إذا أصابه التراب، وبابه طرب، ومنه ترب الرجل؛ أي: افتقر كأنه لصق بالتراب، وتربت يداه دعاء عليه لا أصاب خيرًا، وتَرَّبَه تتْريبًا فتَترَّب؛ أي: لطخه فتلطخ، وأتربه جعل عليه التراب، وفي الحديث "أتربوا الكتاب فإنه أنجح للحاجة" وأترب الرجل استغنى، كأنه صار له من المال بقدر التراب، والمتربة: المسكنة والفاقة، ومسكين ذو متربة؛ أي: لاصق بالتراب؛ لفقره وضره، فليس فوقه ما يستره، ولا تحته ما يفرشه.
{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ؛ أي: نصح بعضهم بعضًا به، وأصله تواصَيُوا بوزن: تفاعلوا، قُلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين.
{بِالْمَرْحَمَةِ} والمرحمة مصدر ميمي بمعنى الرحمة.
{أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} الميمنة: طريق النجاة والسعادة، وهو اسم مكان أو مصدر ميمي.
{هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} والمشأمة: طريق الشقاء، وهو أيضًا مصدر ميمي، أو اسم مكان.
{عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)} ؛ أي: مطبقة، من أوصدت البالب إذا أطبقته، كأوعدته فهو حينئذ مثال واوي، أو من آصدته بالمد إذا أطبقته وأغلقته وأحكمته، فهو حينئذ من المهموز مثل آمن، فمن قرأها {مُؤْصَدَةٌ} بالهمز جعلها اسم مفعول من آصدت كآمنت، ومن قرأها {موصدة} بالواو من غير همز جعلها اسم مفعول من أوصدت مثل أوعد فهو مُوعِد، وذاك مُوعَد، ويحتمل على هذه القراءة أن يكون أيضًا من آصد مثل آمن، لكنه قُلبت همزته الساكنة واوًا؛ لضم ما قبلها للتخفيف، ففيه لغتان: آصد كآمن، وأوصد كأوعد، كلاهما بمعنى واحد.
وكان أبو بكر بن عياش راوي عاصم يكره الهمزة في هذا الحرف، ويقول: لنا إمام يهمز مؤصدة، فأشتهي أن أصد أذني إذا سمعته، وكأنه لم يحفظه عن شيخه إلا بترك الهمزة، وقد حفظه حفص بالهمزة، وهو أضبط للحروف من أبي بكر على ما نقله القراء، وإن كان أبو بكر أكبر وأتقن وأوثق عند أهل الحديث، والله سبحانه وتعالى أعلم.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: زيادة {لا} في قوله: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} ؛ أي: أقحم بهذا البلد لتكيد القسم، وهو مستفيض شائع في كلام العرب، كقولهم: لا والله ليس بالأمر كذا؛ أي: والله ليس الأمر كذا، قال امرؤ القيس:
لَا وَأَبِيْكِ ابْنَةَ العَامِرِيّ
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)} إظهارًا لمزيد فضلها بحلوله فيه.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)} فكل من الوالد والولد مشتق من الولادة.
ومنها: تنكير {والدٍ} إفادة للتفخيم والتعظيم، أو إفادة للعموم.
ومنها: إيثار {ما} على من في قوله: {وَمَا وَلَدَ} إفادة لمعنى التعجب مما أعطاه الله تعالى من الكمال، كما في قوله:{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} ؛ أي: بأي شيء وضعت يعني: موضوعًا عجيب الشأن، وهو مريم، ويعني هنا: مولودًا عجيب الشأن، وهو إسماعيل، أو محمد عليهما السلام.
ومنها: الاستفهام الإنكاري للتوبيخ في قوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)} ، ومثله قوله:{أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)} .
ومنها: الاستفهام التقريري للتذكير بالنعم في قوله: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)} .
ومنها: التعبير بلفظ الإهلاك في قوله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} إشارة إلى أنه ضائع في الحقيقة؛ إذ لا ينتفع به صاحبه في الآخرة.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)} فقد استعار النجدين للخير والشر، وحذف المشبه؛ وهو الخير والشر، وأبقى المشبه به، فإن قلت: أما تشبيه الخير بالنجد وهو المرتفع من الطريق، فلا غبار عليه؛ لأنه ظاهر بخلاف الشر، فإنه هبوط وارتكاس من ذروة الفطرة إلى حضيض الابتذال .. قلنا: إنه جمع بينهما إما على سبيل التغليب، وإما على توهم المخيلة أن فيه صعودًا وارتكاسًا وإسفافًا، وهذا من أبلغ الكلام وأروعه.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية المرشحة في قوله: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)} فقد رشح بذكر ما يلائم الاستعارة الأولى أعني النجدين بمعنى الطريقين؛ لأن مبنى الترشيح وهو ذكر ما يلائم المشبه دون المشبه به على المبالغة، وادعاء اتحاد الطرفين، ولهذا كان الترشيح أبلغ من التجريد؛ وهو ذكر ما يلائم المشبه به؛ لأن فيه اعترافًا بالتشبيه، فأصل العقبة الطريق الوعر في الجبل، واستعيرت هنا للأعمال الصالحة؛ لأنها تصعب وتشق على النفوس، ففيه استعارة تبعية.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13)} ؛ لأن الفك حقيقة في الفصل بين الشيئين المجتمعين الملتئمين، فاستُعير هنا لتحرير الرقبة وعتقها؛ لما فيه من الفصل بين الرق والرقيق.
ومنها: المجاز المرسل في لفظ {رَقَبَةٍ} ؛ لما فيه من إطلاق الجزء وإرادة الكل؛ لأن الرقبة في الأصل العضو بين الكتف والرأس.
ومنها: الجناس الناقص بين {مَقْرَبَةٍ} و {مَتْرَبَةٍ} ؛ لاختلاف بعض الحروف.
ومنها: المقابلة اللطيفة بين قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)} وقوله: {هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} .
ومنها: الإتيان باسم الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)} دلالة على حضورهم عند الله تعالى في مقام كرامته، وعلو مرتبتهم عنده.
ومنها: الإتيان بضمير الغيبة في قوله: {هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} دلالة على سقوطهم عن شرف الحضور، وأنهم أحقاء بالإخفاء، وهذا من ألطف البلاغة، وأبلغها وأعجبها.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة
اشتملت هذه السورة على خمسة مقاصد:
1 -
ما ابتلي به الإنسان في الدنيا من النصب والتعب.
2 -
اغترار الإنسان بقوته.
3 -
نكران النعم التي أنعم بها عليه من العينين واللسان والعقل والفكر.
4 -
سبل النجاة الموصلة إلى السعادة.
5 -
كفران الآيات سبيل الشقاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (1).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(1) تمت سورة البلد بعون الله الواحد الأحد، منتصف ليلة الثلاثاء الثالثة والعشرين من شهر شوال المحرم من شهور سنة: 1416 هـ. ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.