الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقصارى ما سلف: أن أهل الكتاب افترقوا في أصول الدين وفروعه، مع أنهم ما أمروا إلا بأن يعبدوا الله ويخلصوا له في عقائدهم وأعمالهم، وأن لا يقلدوا فيها أبًا ولا رئيسًا، وأن يردوا إلى ربهم وحده كل ما يعرض لهم من خلاف، وهذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب في افتراقهم في دينهم، فما بالنا نحن معشر المسلمين وقد ملأنا ديننا بدعًا ومحدثات، وتفرقنا فيه شيعًا، أفليس ما نحن فيه من ذل وهوان وضعف بين الأمم جزاء من ربنا لما صرنا إليه من انحراف عن منهج الشرع القويم، والسير على الصراط المستقيم.
6
- ثم بيَّن سبحانه حال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} وهذا (1) شروع في بيان مقر الأشقياء وجزاء السعداء، وحكم على الكفار من الفريقين بأمرين:
أحدهما: الخلود في النار.
والثاني: كونهم شر البرية، وبدأ بأهل الكتاب؛ لأنهم كانوا يطعنون في نبوته صلى الله عليه وسلم، فجنايتهم أعظم؛ لأنهم أنكروه مع العلم به، و {شَرُّ الْبَرِيَّةِ} ظاهره العموم، وقيل:{شَرُّ الْبَرِيَّةِ} الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يبعد أن يكون في كفار الأمم الماضية من هو شر من هؤلاء كفرعون وعاقر ناقة صالح عليه السلام اهـ من "البحر"، وذكر المشركين؛ لئلا يتوهم اختصاص الحكم بأهل الكتاب حَسَب اختصاص مشاهدة شواهد النبوة في الكتاب بهم.
وقوله: {فِي نَارِ جَهَنَّمَ} خبر {إِنَّ} ؛ أي: مشتركون (2) في نار جهنم؛ أي: في جنس العذاب لا في نوعه، وهذا جواب عن سؤال مقدر تقديره: أن كفر المشركين أشد من كفر أهل الكتاب؛ لأن المشركين ينكرون التوحيد والرسالة والكتاب والبعث وما يترتب عليها، وأهل الكتاب يؤمنون بأكثرها، كإقرارهم بالبعث، ومقتضى الحكمة أن يزاد في عذاب من زاد كفره على عذاب غيره، وقد سوى بينهم في هذه الآية بحسب الظاهر اهـ "شهاب"، و"زاده".
ومعنى كونهم فيها أنهم يصيرون إليها يوم القيامة، وإيراد (3) الجملة الاسمية
(1) البحر المحيط.
(2)
الفتوحات.
(3)
روح البيان.
للإيذان بتحقق مضمونها لا محالة، من أنهم فيها الآن إما على تنزيل ملابستهم بما يوجبها منزلة ملابستهم لها، وإما على أن ما هم فيه من الكفر والمعاصي عين النار إلا أنها ظهرت في هذه النشأة بصورة عرضية، وستخلعها في النشأة الآخرة وتظهر بصورتها الحقيقية.
وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} حال من المستكن في الخبر، واشتراك الفريقين في دخول دار العذاب بطريق الخلود؛ لأجل كفرهم لا ينافي تفاوت عذابهم في الكيفية، فإن جهنم دركات وعذابها ألوان، فالمشركون كانوا ينكرون الصانع والنبوة والقيامة، وأهل الكتاب نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقط، فكان كفرهم أخف من كفر المشركين، لكنهم اشتركوا في أعظم الجنايات التي هي الكفر، فاستحقوا أعظم العقوبات وهو الخلود، ولما كفروا طلبًا للرفعة صاروا إلى أسفل السافلين، فإن جهنم نار في موضع عميق مظلم هائر يقال: بئر جِهنَّام إذا كانت بعيدة القعر، واشتراكهم في هذا الجنس من العذاب لا يوجب اشتراكهم في نوعه كما مر آنفًا، ولم يقل هنا أبدًا، كما قاله فيما بعد في ثواب أهل الجنة؛ لأن رحمته أزيد من غضبه فلم يتفق الخلودان في الأبدية اهـ. "فتوحات".
والمعنى (1): أي إن هؤلاء الذين دسوا أنفسهم بقبيح الشرك واجتراح المعاصي وإنكار الحق الواضح بعد أن عرفوه، كما يعرفون أبناءهم يجازبهم ربهم بالعقاب الذي لا يخلصون منه أبدًا، فيدخلهم نارًا تلظَّى جزاء ما كسبت أيديهم، وجزاء إعراضهم عما دعا إليه الداعي، وهدت إليه الفطرة، والإشارة بقوله:{أُولَئِكَ} البعداء المذكررون، إلى من تقدم ذكرهم من أهل الكتاب والمشركين المتصفين بالكون في نار جهنم والخلود فيها {هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}؛ أي: شر الخليقة وأخسهم، والبرية جميع الخلق؛ لأن الله سبحانه برأهم؛ أي: أوجدهم بعد العدم، يقال: برأ؛ أي: خلق، والبارىء: الخالق، والبرية: الخليقة (2)، وقرأ الأعرج وابن عامر ونافع وابن ذكوان:{البرئة} بالهمز في الموضعين، من برأ بمعنى خلق، وقرأ الجمهور:{الْبَرِيَّةِ} بشد الياء فيهما، فاحتمل أن يكون أصله الهمز، ثم سُهل بالإبدال وأُدغم، واحتمل أن يكون من البراء وهو التراب، قال الفراء (3): إن أُخذت البرية من البراء؛
(1) المراغي.
(2)
البحر المحيط.
(3)
الشوكاني.