الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قدمنا الكلام في {سِجِّيلٍ} في سورة هود.
والمعنى: أي إنه تعالى (1) أرسل عليهم فرقًا من الطير تحمل حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش، فابتُلي بمرض الجدري، أو الحصبة حتى هلكوا، وقد يكون هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، أو تكون هذه الحجارة من الطين اليابس المسموم الذي تحمله الرياح، فيعلق بأرجل هذا الطير، فإذا اتصل بجسم دخل في مسامه، فأثار فيه قروحًا تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه، ولا شك أن الذباب يحمل كثيرًا من جراثيم الأمراض، فوقوع ذبابة واحدة ملوثة بالمكروب على الإنسان كافية في إصابته بالمرض الذي يحمله، ثم هو ينقل هذا المرض إلى الجم الغفير من الناس، فإذا أراد الله أن يُهلك جيشًا كثير العدد ببعوضة واحدة .. لم يكن ذلك بعيدًا عن مجرى الإلف والعادة، وهذا أقوى في الدلالة على قدرة الله وعظيم سلطانه من أن يكون هلاكهم بكبار الطيور وغرائب الأمور، وأدل على ضعف الإنسان وذله أمام النهر الإلهي، وكيف لا وهو مخلوق تبيده ذبابة، وتقض مضجعه بعوضة، ويؤذيه هبوب الريح.
قال الإِمام: فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت أرسل الله عليه ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة، فأهلكته وأهلكت قومه قبل أن يدخل مكة، وهي نعمة من الله غمر بها أهل حرمه على وثنيتهم حفظًا لبيته حتى يُرسل إليه من يحميه بقوة دينه صلى الله عليه وسلم، وإن كانت نقمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت بدون جرم اجترمه ولا ذنب اقترفه اهـ.
5
- وقوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} معطوف على {أرسل} ؛ أي: فجعل ربك أولئك الأقوام الذين قصدوا بيته المشرف، يعني: أصحاب الفيل كعصف؛ أي: كزرع مأكول؛ أي: كزرع وقع فيه الأكال، وهو السوس الدود المعروف الذي يأكل الحبوب حتى يصير دقيقًا، والكلام على حذف مضاف؛ أي: كحب (2) زرع مأكول حبه، وسُمي ورق الزرع بالعصف؛ لأن شأنه أن يُقطع، فتعصفه الرياح؛ أي: تذهب به إلى هنا وهاهنا، شبههم به في فنائهم وذهابهم بالكلية، أو من حيث إنه حدثت فيهم بسبب رميهم منافذ وشقوق كالزرع الذي أكله الدود، ويجوز أن
(1) المراغي.
(2)
روح البيان.
يكون المعنى: كورق زرع أُكل حبه، فبقي صفرًا منه، فيكون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أيضًا، شبههم بزرع أُكل حبه، في ذهاب أرواحهم وبقاء أجسادهم، أو كتبن أكلته الدواب وألقته روثًا فيبس وتفرقت أجزاؤه، شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث، وفيه تشويه لحالهم ومبالغة حسنة، وهو أنه لم يكتف بجعلهم أهون شيء في الزرع وهو التبن الذي لا يُجدي طائلًا، حتى جعلهم رجيعًا إلا أنه عبر عن الرجيع بالمأكول، أو أشير إليه بأول حاله على طريق الكناية مراعاةً لحسن الأدب، واستهجانًا لذكر الروث، كما كنى بالأكل في قوله تعالى:{كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} عما يلزم الأكل من التبول والتغوط لذلك، فدأب القرآن هو العدول عن الظاهر في مثل هذا المقام.
قال بعضهم: من كان اعتماده على غير الله أهلكه الله بأضعف خلقه، ألا ترى أصحاب الفيل لما اعتمدوا على الفيل من حيث أنه أقوى خلق الله تعالى بأضعف خلق من خلقه، وهو الطير.
وقرأ الجمهور (1): {مَأْكُولٍ} بسكون الهمزة وهو الأصل؛ لأنه صيغة مفعول من فعل، وقرأ أبو الدرداء فيما نقل ابن خالويه بفتح الهمزة إتباعًا لحركة الميم وهو شاذ، وهذا كما أتبعوا في قولهم: محموم بفتح الحاء لحركة الميم.
المعنى الإجمالي لهذه السورة: ذكَّر الله (2) سبحانه نبيه ومَن تبلغه رسالته بعمل عظيم دال على بالغ قدرته، وأن كل قدرة دونها فهي خاضعة لسلطانها، ذاك أن قومًا أرادوا أن يتعززوا بفيلهم ليبلغوا بعض عباده على أمرهم، ويصلوا إليهم بشر وأذى، فأهلكهم الله تعالى ورد كيدهم، وأبطل تدبيرهم بعد أن كانوا في ثقة بعددهم وعددهم، ولم يفدهم ذلك شيئًا.
قصص أصحاب الفيل كما رواه أرباب السير
حادث الفيل معروف متواتر لدى العرب، حتى إنهم جعلوه مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث، فيقولون: وُلد في عام الفيل، وحدث كذا لسنتين بعد عام الفيل، ونحو ذلك، وخلاصة ما أجمع عليه رواتهم كما سيأتي بسطه: أن قائدًا
(1) البحر المحيط.
(2)
المراغي.
حبشيًا ممن كانوا قد غلبوا على اليمن أراد أن يعتدي على الكعبة المشرفة ويهدمها؛ ليمنع العرب من الحج إليها، فتوجه بجيش جرار إلى مكة، واستصحب معه فيلًا أو فيلة كثيرة زيادةً في الإرهاب والتخويف، ولم يزل سائرًا يغلب من يلاقيه، حتى وصل إلى المغمَّس، وهو موضع بالقرب من مكة، ثم أرسل إلى أهل مكة يخبرهم أنه لم يأت لحربهم، وإنما جاء لهدم الكعبة، ففزعوا منه وانطلقوا إلى شعف الجبل ينظرون ما هو فاعل، وفي اليوم الثاني فشا في جند الحبشي داء الجدري والحصبة، قال: عكرمة: وهو أول جدري ظهر ببلاد العرب، ففعل ذلك الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله، فكان لحمهم يتناثر ويتساقط، فذُعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين، وأصيب الحبشي، ولم يزل لحمه يسقط قطعة قطعة، وأنملة أنملة حتى انصدع صدره ومات في صنعاء.
فصل
وحاصل تفصيل قصة أصحاب الفيل: أن ملك (1) حمير وما حولها وهو ذو نواس اليهودي لما أحرق المؤمنين بنار الأخدود ذات الوقود على ما سبق في سورة البروج .. هرب رجل منهم إلى ملك الحبشة، وهو أصحمة بن بحر النجاشي - بتخفيف الياء - جد النجاشي الذي آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، وحرّضه على قتال ذي نواس، فبعث أصحمة سبعين ألفًا من الحبشة إلى اليمن، وأمَّر عليها أرياطًا، ومعه في جنده أبرهة بن الصباح الأشرم، فركبوا البحر حتى نزلوا ساحلًا مما يلي أرض اليمن، وهزم أرياط ذا نواس، وقتله في المعركة، أو ألقى هو نفسه في البحر فهلك، واستمر أمر أرياط في أرض اليمن زمانًا، وأقام فيها سنين في سلطانه ذلك، ثم نازعه أبرهة في أمر الحبشة، فكان من أمراء الجند، فتفرقت الحبشة فرقتين فرقة مع أرياط وفرقة مع أبرهة، فكان الأمر على ذلك إلى أن سار أحدهما إلى الآخر، فلما تقارب الفرقتان للقتال .. أرسل أبرهة إلى أرياط أنك لا تفعل شيئًا بأن تُغري الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها، فابرز لي وأبرز لك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده، فأرسل إليه أرياط أن قد أنصفت فأخرج، فخرج
(1) روح البيان.
إليه أبرهة وكنيته أبو يكسون، وكان رجلًا قصير الجثمان لحيمًا ذا دين في النصرانية، وخرج إليه أرياط وكان رجلًا طويلًا عظيمًا وفي يده حربة، وخلف أبرهة غلام يقال له: عتودة يمنع ظهره، فرفع أرياط الحربة، فضرب أبرهة يريد يافوخه، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته؛ أي: شقت وقطعت وخدشت، فبذلك سمي أبرهة الأشرم، وحمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله، وانصرف جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة في اليمن بلا منازع، وكان ما صنع أبرهة من غير علم النجاشي، فلما بلغه ذلك غضب غضبًا شديدًا، فقال: عدا على أميري فقتله بغير أمري، ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته، فلما بلغ هذا الخبر أبرهة حلق رأسه، وملأ جرابًا ترابًا من تراب اليمن، ثم بعث به إلى النجاشي مع هدايا جليلة كثيرة، وكتب إليه: أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك، فاختلفنا في أمرك، وكل طاعة لك إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة وأضبط له، وأسْوَس منه، وقد حلقت رأسي حين بلغني حلف الملك، وبعثت إليه بجراب من أرض ليضعه تحت قدميه فيبر قسمه فيَّ، فلما وصل كتاب أبرهة إلى النجاشي لان ورضي عنه، وكتب إليه أن أثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري، فأقام أبرهة باليمن، ثم إنه رأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة لحج بيت الله الحرام، فتحرك منه عرق الحسد، فبنى بصنعاء كنيسة من رخام ملون وجواهر مرصع؛ أي: مزين.
وفي "إنسان العيون": واجتهد في زخرفتها، فجعل فيها الرخام المجذع، والحجارة المنقوشة بالذهب، وكان ينقل ذلك من قصر بلقيس صاحبة سليمان عليه السلام، وجعل فيها صلبانًا من الذهب والفضة، ومنابر من العاج والأبنوس، وسماها القُلَيْس - كجميز - لارتفاع بنائها وعلوها، ومنها القلانيس؛ لأنها في أعلى الرأس، وأراد أن يصرف إليها الحجاج، وكتب أبرهة إلى النجاشي: أيها الملك إني بنيت لك كنيسة لم يُبْنَ مثلها لملك قبلك، ولست أرضى حتى أصرف إليها حجاج العرب، فلما تحدث العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من بني كنانة يقال له: مالك بن كنانة، فخرج لها ليلًا، فدخل إليها فقعد فيها، ولطخ بالعذرة قبتها، فبلغ ذلك أبرهة، فقال: من اجترأ علي؟ فقيل له: صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت قد سمع بالذي قلت، فحلف أبرهة عند ذلك ليسيرن
إلى الكعبة ثم يهدمها، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، وسأله أن يبعث إليه بفيله، وكان فيلًا يقال له: محمود، وكان فيلًا لم ير مثله عظمًا وجسمًا وقوةً، فبعث به إليه، فخرج أبرهة سائرًا إلى مكة وخرج معه بالفيل، فسمعت العرب بذلك فعظموه ورأوا جهاده حقًا عليهم، فخرج ملك من ملوك اليمن يقال له: ذو نفر بمن أطاعه من قومه، فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ ذا نفر، فقال لأبرهة: يا أيها الملك استبقني، فإن بقائي خير لك من قتلي، فاستحياه وأوثقه، وكان أبرهة رجلًا حليمًا، ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج إليه نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم ومن اجتمع من قبائل اليمن فهزمهم، وأخذ نفيلًا، فقال نفيل: أيها الملك إني دليل بأرض العرب، فاستبقاه وخرج معه يدله؛ إذ مر بالطائف فخرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف، فقال: أيها الملك نحن عبيدك ليس عندنا خلاف لك، إنما تريد البيت الذي بمكة نحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه أبارغال مولى لهم، وأبو رغال - بوزن كتاب - وهو رجل من ثمود، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال، وهو الذي يرجم قبره الآن.
وفي "القاموس": المغمس - كمعظم ومحدث - موضع بطريق الطائف، فيه قبر أبي رغال، دليل أبرهة، وُيرجم، وبعث أبرهة رجلًا من الحبشة، يقال له: الأسود بن مسعود مقدمة خيله، وأمره بالغارة على نَعَم الناس، فجمع الأسود إليه أموال أصحاب الحرم، وأصاب لعبد المطلب مئتي بعير، ثم إن أبرهة أرسل حناطة الحميري إلى أهل مكة، وقال له: سل عن شريفها، ثم أبلغه ما أرسلك به إليه أخبره أني لم آت لقتال، إنما جئت لإهدام هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكة، فلقي عبد المطلب، فقال له: إن الملك أرسلني لأخبرك أنه لم يأت لقتال، ولا أن تقاتلوه، وإنما جاء لهدم هذا البيت، ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال، ولا لنا يد أن ندفعه عما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام، وبيت إبراهيم خليله عليه السلام، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يحل بينه وبين ذلك، فوالله ما لنا بدفعه قوة، قال: فانطلق معي إليه، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة كان عليها، وركب معه بعض بنيه حتى قدم العسكر، وكان ذو نفر صديقًا لعبد المطلب، فقال: ياذا نفر هل عندك من غناء؟ أي: نفع فيما نزل بنا، قال: أنا رجل أسير، لا آمن أن أقتل بكرة أو عشية، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل،
فإنه لي صديق، فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير ويعظم حظوتك ومنزلتك عنده، قال: فأرسل إلى أُنيس، فأتاه فقال: إن هذا سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب الملك له مئتي بعير، فإن استطعت أن تنفعه فانفعه، فإنه صديق لي أحب ما وصل إليه من الخير، فدخل أُنيس على أبرهة، فقال: أيها الملك هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يُطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال يستأذن عليك، وأنا أحب أن تأذن له فيكلمك، فقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف عليك، فأذن له وكان عبد المطلب رجلًا جسيمًا وسيمًا، فلما رآه أبرهة عظمه وأكرمه عن أن يجلس تحته، وكره أن تراه الحبشة أن يجلسه معه على سريره، فجلس على بساطه، وأجلس عبد المطلب بجنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك إلى الملك؟ فقال له الترجمان ذلك، فقال له عبد المطلب: حاجتي إلى الملك أن يرد إلى مئتي بعير أصابها، فقال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت الآن فيك، قال: لم؟ قال: جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك، وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمه، لم تكلمني فيه وتكلمني في مئتي بعير غصبتها لك، قال عبد المطلب: أنا رب هذه الإبل، ولهذا البيت رب سيمنعه منك، قال: ما كان ليمنعه منى، قال: فأنت وذاك، فأمر بإبله فرُدَّت عليه، فلما رُدت الإبل على عبد المطلب خرج، فأخبر قريشًا الخبر، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب، ويتحرزوا في رؤوس الجبال خوفًا عليهم من معرة الجيش ففعلوا، وأتى عبد المطلب وأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من رجال قريش يدعون الله، ويستنصرون على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لَاهُمُّ إِنَّ أثمَرْءَ يَمْـ
…
ـنَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكْ
فَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِيْـ
…
ـبِ وَعَابِدِيْهِ الْيَوْمَ آلَكْ
لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيْبُهُمْ
…
وَمِحَالُهُمْ غَدْوًا مِحَالَكْ
إِنْ كُنْتَ تَارِكَهُمْ وَكَعْـ
…
ـبَتَنَا فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكْ
وقالَ:
يَا رَبِّ لَا أَرْجُوْ لَهُمْ سِوَاكا
…
يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمُ حِمَاكا
إِنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكَا
…
امْنَعْهُمُ أَنْ يَخَرُبُوَا حِمَاكا
ولا هم أصله: اللهم، فإن العرب تحذف الألف واللام وتكتفي بما بقي، والحِلال - بكسر الحاء المهملة - جمع حلة، وهي البيوت المجتمعة، والمحال - بكسر الميم - الشدة والقوة، والغَدْوُ - بالغين المعجمة - أصل الغد، وهو اليوم الذي بعد يومك الذي أنت فيه.
فلما فرغ من دعائه توجه في بعض تلك الوجوه مع قومه، وأصبح أبرهة بالمغمَّس قد تهيأ للدخول وهيأ جيشه، وهيأ فيله، وكان فيلًا لم ير مثله في العظم والقوة، ويقال: كانت الأفيال اثني عشر فيلًا، فأقبل أنيس إلى الفيل الأعظم، ثم أخذ بأذنه وقال له: ابرك محمودًا وارجع رشيدًا، فإنك ببلد الله الحرام، فبرك، فبعثوه فأبى، فضربوه بالمعول في رأسه، فأدخل محاجنه تحت مراقه ومرافقه، ففزعوه ليقوم، فأبى، فوجهوه راجعًا إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى قدامه ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، فصرفوه إلى الحرم فبرك وأبى، وخرج أنيس يشتد حتى صعد الجبل، وأرسل الله سبحانه طيرًا من البحر مثل الخطاطيف، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار، حجران في رجليه وحرج في منقاره، أكبر من العدسة وأقل من الحمصة، فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم، فلم تُصب تلك الحجارة أحدًا إلا هلك، وخرجوا هاربين لا يهتدون إلى الطريق الذي جاءوا منه، وصرخ القوم وماج بعضهم في بعض يتساقطون بكل طريق، ويهلكون على كل منهل، وبعث الله على أبرهة داء في جسده فجعل تتساقط أنامله، كلما سقطت أنملة أتبعها المدة من قيح ودم، فانتهى إلى صنعاء، وهو مثل فرخ الطير، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، ثم هلك وانفلت وزيره أبو يكسوم، وطائره فوق رأسه حتى وقف بين يدي النجاشي، فلما أخبره الخبر سقط عليه الحجر، فمات بين يديه، وأما محمود فيل النجاشي فربض، ولم يشجع على الحرم، فنجا لما وقع منه من الفعل الجميل الذي لم يقع مثله من العقلاء، ولذا قال البوصيري في همزيته:
كَمْ رَأَيْنَا مَا لَيْسَ يَعْقِلُ أُلْهِـ
…
ـمَ مَا لَيْسَ يُلْهَمُ الْعُقَلَاءُ
إِذْ أَبَى الْفِيْلُ مَا أَتَى صَاحِبُ الْفِيْـ
…
ـلِ وَلَمْ يَنْفَعِ الْحِجَا وَالذَّكَاءُ
وأما الفيلة الأخرى فشجعت على دخول الحرم، فرُميت بالحصباء فهلكت.
الإعراب
{أَلَمْ} : {الهمزة} : للاستفهام التقريري، و {لم}: حرف نفي وجزم. {تَر} : فعل مضارع مجزوم بـ {لم} وعلامة جزمه حذف حرف العلة وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد صلى الله عليه وسلم أو على كل من يصلح للخطاب، والجملة مستأنفة، {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب على المصدرية والعامل فيه ما بعده؛ لأنه في تقدير أيَّ فعلِ فَعَل ربك، {فَعَلَ رَبُّكَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب سدت مسد مفعولي {تَرَ} معلقة عنها، بالاستفهام لأن الرؤية هنا قلبية {بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {فَعَلَ} . {أَلَمْ} : {الهمزة} : للاستفهام التقريري، {لم}: حرف جزم. {يَجْعَلْ} : فعل مضارع مجزوم بـ {لم} ، وفاعله ضمير يعود على {رَبُّكَ} {كَيْدَهُمْ}: مفعول به أول. {في تَضْلِيلٍ} : في موضع المفعول الثاني، والجملة مستأنفة إنشائية لا محل لها من الإعراب. {وَأَرْسَلَ}: فعل، وفاعل مستتريعود على الله معطوف على {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ}: لأن الاستفهام فيه تقريري، فيكون المعنى: قد جعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم إلخ. {عَلَيْهِمْ} : متعلق بـ {أَرْسَلَ} . {طَيْرًا} : مفعول به. {أَبَابِيلَ} : صفة أولى لـ {طَيْرًا} ؛ لأنه اسم جمع مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف؛ لكونه على صيغة منتهى المجموع. {تَرْمِيهِمْ} : فعل، وفاعل مستتر يعود على {طَيْرًا} ومفعول به. {بِحِجَارَةٍ}: متعلق بـ {تَرْمِيهِمْ} ، والجملة الفعلية في محل النصب صفة ثانية لـ {طَيْرًا}. {مِنْ سِجِّيلٍ}: صفة لـ {حجارة} . {فَجَعَلَهُمْ} : {الفاء} : عاطفة، {جعلهم}: فعل، وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول أول معطوف على {أرسل}. {كَعَصْفٍ}: في موضع المفعول الثاني. {مَأْكُولٍ} : صفة لـ {عصف} .
التصريف ومفردات اللغة
{أَلَمْ تَرَ} وأصل {تَرَ} : تَرْأَي بوزن تفعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فصارت ألفًا لفظًا، وياءً خطًا، ونقلوا فتحة الهمزة إلى الراء وأسقطوها تخفيفًا؛ لأن
الماضي من ترى رأيت مهموزًا، والمصدر من ذلك الرؤية، تقول: رأيت زيدًا بعيني أراه رؤية، فأنا راءٍ - بوزن فاعٍ - أصله: رائي بوزن فاعل، فاستثقلوا الضمة على الياء المتطرفة، فحذفوها، فالتقى ساكنان الياء والتنوين، فأسقطوا الياء لالتقاء الساكنين، فصار راء بوزن فاع كقاض وراع وباغ، فالهمزة في راء بإزاء الضاد في قاض، فإن شئت أثبته خطًا، فجعلت بعد الألف ياء عوضًا عن الهمزة، وإن شئت كتبته بألفٍ، ولم تثبت الهمزة؛ لأن الهمزة، إذا جاءت بعد الألف تخفى وقفًا، فحذفوها خطًا، وكذلك جاء وشاء وساء ومراء جمع مراءة، كل ذلك أنت مخير فيه في الحذف والإثبات، فإذا أمرت من رأيت قلت: رِ يازيد براء واحدة، فإذا وقفت قلت: ره، وإنما صار الأمر فيه على حرف واحد، والأصل ثلاثة؛ لأن الهمزة سقطت تخفيفًا، والألف سقطت للجزم، فبقي الأمر على حرف واحد، ومثله قوله: عِ كلامي، شِ ثوبك، قِ زيدًا، لِ الأمر، فِ الوعدَ، أمرًا من وعى ووشى ووقى وولي ووفى، كما هو مبسوط في كتب النحو والصرف.
{الْفِيلِ} حيوان من أضخم الحيوانات جسمًا، له خرطوم طويل يرفع به العلف والماء إلى فمه ويضرب به، وهو مع عظم جسمه ضعيف يخاف من السنور ويفزع منه، ومعنى بروك الفيل في القصة السابقة: سقوطه على الأرض لما جاءه من أمر الله، أو لزوم موضعه كالذي برك، وإلا فالفيل لا يبرك، كما قال عبد اللطيف البغدادي: الفيلة تحمل سبع سنين، وإذا تم حملها وأرادت الوضع دخلت النهر حتى تضع ولدها؛ لأنها تلد وهي قائمة ولا فواصل لقوائمها، فتلد والذكر عند ذلك يحرسها وولدها من الحيتان. انتهى.
وقال بعضهم: الفيل صنفان صنف لا يبرك وصنف يبرك كالجمل، انتهى، ويُجمع على أفيال وفِيْلة وفيول، ومؤنثه فِيْلة، والفيل أيضًا الخسيس الثقيل، وداء الفيل مرض يحدث منه غلظ كثيف في القدم والساق، تتخلله عجر صغيرة ناتئة، والفيَّال صاحب الفيل، والجمع فيالة، وقال الرأي وفائله وفيله ضعيفه، والفيالة ضعيف الرأي.
{كَيْدَهُمْ} والكيد: إرادة وقوع ضرر بغيرك على وجه الخفاء.
{في تَضْلِيلٍ} والتضليل: التضييع والإبطال، تقول: ضلَّلت كيد فلان إذا جعلته
باطلًا ضائعًا، والمعنى: جعل كيدهم في ضياع وخسار وهلاك، وقيل لامرىء القيس الملك الضليل؛ لأنه ضلل ملك أبيه؛ أي: ضيَّعه، ما مر.
{طَيْرًا} والطير: كل ما طار في الهواء صغيرًا كان أو كبيرًا، وهو اسم جنس يذكر ويؤنث.
{أَبَابِيلَ} قال ابن خالويه: وأبابيل نعت للطير؛ أي: جماعات جماعات، جمع إبَّوْلٍ مثل عجَّول وعجاجيل، والعِجَّول - بوزن سكيت - لغة في العجل ولد البقرة، وقال أبو جعفر الرؤاسي: واحدتها أبيل، وقال آخرون: أبابيل لا واحد لها، ومثلها أساطير، والإبِّيل في غير هذا الموضع الراهب، والوبيل العصا، يقال: رأيت إبِّيلًا؛ أي: راهبًا متكئًا على وبيل يسوق أفيلًا، والأفيل ولد الناقة، قال عدي:
أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّيْ مَأْلَكًا
…
قَوْلَ مَنْ خَافَ آظّنانًا وَاعْتَذَرْ
إِنَّنِيْ وَاللهِ فَأقْبَلْ حَلِفِيْ
…
بِإِبيْلٍ كُلَّمَا صَلى جَأَرْ
{بِحِجَارَةٍ} : جمع حجر بالتحريك بمعنى الصخرة.
{مِنْ سِجِّيلٍ} والسجيل: طين مطبوخ محرق كالآجر، واشتقاقه من الإسجال، وهو الإرسال كما مر؛ لأن العذاب موصوف بذلك.
{كَعَصْفٍ} والعصف: ورق الزرع الذي يبقى بعد الحصاد، وتعصفه الرياح فتأكله الماشية.
{مَأْكُولٍ} ؛ أي: أكلت الدواب بعضه، وتناثر الآخر من بين أسنانها.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستفهام التقريري التعجيبي في قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} .
ومنها: الإضافة في قوله: {فَعَلَ رَبُّكَ} ؛ لتشريف المضاف إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه التعبير بعنوان الربوبية، إشارة بشأن قدرة الله سبحانه وتعالى.
ومنها: تعليق الرؤية بكيفية فعله تعالى لا بنفسه بأن يقال: ألم تر ما فعل ربك إلخ؛ لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئات عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى، وكمال علمه وحكمته وعزة بيته، وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك من الإرهاصات، كما مر.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} ؛ لأن فيه ذكر الأداة، وحذف وجه الشبه حيث شبههم في فنائهم وذهابهم بالكلية بورق الزرع المأكول؛ لأن شأنه أن يقطع فتعصفه الرياح؛ أي: تذهب به إلى هاهنا وهاهنا، أو شبههم بزرع أُكِل حَبُّه في ذهاب أرواحهم، وبقاء أجسادهم، فالكلام على حذف مضاف؛ أي: كعصف مأكول الحب، كما مر.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (1).
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب
* * *
(1) إلى هنا تم تفسير الفيل بتوفيقه وتيسيره تعالى عصر يوم الخميس اليوم الثالث عشر من شهر الله المحرم من شهور سنة: 1417 هـ ألف وأربع مئة وسبع عشرة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، ومن شهور سنة: 7633 سبعة آلاف وست مئة وثلاث وثلاثين من هبوط آدم عليه السلام من الجنة. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. آمين.