الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صباحاه، أي: يا قوم احذروا من شر توجه إلينا صباحًا.
4
- وقوله: {فَأَثَرْنَ} ؛ أي: هيجن {بِهِ} ؛ أي: في وقت الصباح {نَقْعًا} ؛ أي: غبارًا معطوف على الفعل الذي دل عليه اسم الفاعل، إذ المعنى: والخيول اللاتي عدون فأورين فأغرن {فَأَثَرْنَ بِهِ} ؛ أي: فهيجن في ذلك الوقت وأصله أَثْوَرْن، من الثور وهو الهيجان، كما سيأتي بسطه في مبحث التصريف، والنقع: الغبار المرتفع، من نقع الصوت إذا ارتفع، سمي الغبار نقعًا لارتفاعه، أو من النقع في الماء، فكان صاحب الغبار خاض فيه كما يخوض الرجل في الماء. وتخصيص إثارة النقع بالصبح لأنه لا يثور ولا يظهر ثورانه بالليل، وبهذا يظهر أن الإيراء الذي لا يظهر في النهار واقع في الليل، ولله در شأن التنزيل. قال سعدي المفتي: وإثارة النقع لأنهم يكونون حال الإغارة مختلفين يمينًا وشمالًا وأمامًا وخلفًا، بحَسَب الكر والفر في المجاولة إثر المدبر الهارب، والمصاولة مع المقبل المحارب، فينشأ الغبار الكثير. ويجوز أن يجعل الضمير في {بِهِ} لفعل الإغارة فـ {الباء} للسببية أو للملابسة؛ أي: فأثرن بسبب الإغارة، أو حال كونها متلبسات بالإغارة.
والمعنى: فهيجن في وقت الصبح غبارًا لشدة عدوهن،
5
- {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)} من الأعداء؛ أي: تواسطن جمعًا من جموع الأعداء ففرقنه وشتتن شمله، أي: دخلن في وسطهم في وقت الصباح فوسطن بمعنى توسطن و {الباء} في {به} للظرفية، والضمير عائد إلى صبحًا، من للملابسة، والضمير للنقع؛ أي: توسطن - حال كونهن متلبسات بالنقع والغبار - جمعًا من الأعداء، أي: دخلن بينهم للقتل والأسر والنهب، وقوله:{جَمْعًا} مفعول به، والفاءات (1) في المواضع الأربعة للدلالة على ترتب ما بعد كل منها على ما قبلها، فإن توسط الجمع مترتب على الإثارة المترتبة على الإغارة المترتبة على الإيراء المترتب على العدو،
6
- وقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} جواب القسم؛ أي: أقسمت بتلك الخيول الموصوفات بالصفات المذكورة على أن جنس الإنسان لشديد الكفران لنعم ربه، حيث خلقه وأنعمه بنعمة الإيجاد والتربية، فجعل له شريكًا. وقرأ الجمهور (2):{فَأَثَرْنَ} {فَوَسَطْنَ} بتخفيف الثاء والسين، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بشدهما، وقرأ علي
(1) روح البيان.
(2)
البحر المحيط.
وزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى بشد السين، وقال الزمخشري: وقرأ أبو حية: {فأثَّرن} بالتشديد، بمعنى: فأظهرن غبارًا؛ لأن التأثير فيه معنى الإظهار، أو قلب ثورن إلى وثرن، وقلب الواو همزة. وقرىء:{فوسَّطن} بالتشديد للتعدية، و {الباء} مزيدة للتوكيد، كقوله: وأُتُوا به، وهي مبالغة في وسطن، انتهى. أما قوله: من قلب فتمحُّلٌ بارد. وأما إن التشديد للتعدية .. فقد نقلوا أن وسط مخففًا ومثقلًا بمعنى واحد، وأنهما لغتان.
وعبارة الخازن هنا: قوله عز وجل: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)} فيه (1) قولان:
أحدهما: أنها الإبل في الحج، قال علي كرم الله وجهه:(هي الإبل تعدو من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى). وعنه أيضًا قال: (كانت أول غزاة في الإِسلام بدرًا. وما كان معنا إلا فَرَسان، فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون العاديات فيها؟) فعلى هذا القول يكون معنى ضبحها: مد أعناقها في السير، وأصله من حركة النار في العود. {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)}؛ يعني: أن أخفاف الإبل ترمي بالحجارة من شدة عدوها، فيضرب بعض الحجارة حجرًا آخر فيوري النار. وقيل: هي النيران بجَمْعٍ {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)} ؛ يعني: الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى، والسُّنَة أن لا يدفع حتى يصبح. والإغارة: سرعة السير، ومنه قولهم: أشرق ثبير كيما نغير. {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)} ؛ أي: هيجن بمكان سيرها غبارًا، {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)}؛ أي: وسطن بالنقع جمعًا، وهو مزدلفة، فوجه القسم على هذا القول: أن الله تعالى أقسم بالإبل لما فيها من المنافع الكثيرة، وتعريضه بإبل الحج للترغيب، وفيه تقريع لمن لم يحج بعد الاستطاعة عليه، فإن الكُنود هو الكفر ومن لم يحج بعد الوجوب موصوف بذلك.
والقول الثاني: في تفسير {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)} قال ابن عباس وجماعة: هي الخيل العادية في سبيل الله، والضبح: صوت أجوافها إذا عدت، قال ابن عباس: وليس شيء من الحيوانات يضبح سوى الفرس والكلب والثعلب. وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغير حالها من فزع من تعب، وهو من قول العرب: ضبحته النار، إذا غيرت لونه. {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)}؛ يعني: أنها توري النار بحوافرها إذا سارت في
(1) الخازن.
الحجارة، وقيل: هي الخيل تهيج الحرب ونار العداوة بين فرسانها، وقال ابن عباس: هي الخيل تغزو في سبيل الله ثم تأوي بالليل فيوري أصحابها نارًا ويصنعون طعامهم. وقيل: هو مكر الرجال في الحرب، والعرب تقول - إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه -: أما والله لأقدحن لك ثم لأورين لك. {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)} ؛ يعني: الخيل تغير بفرسانها على العدو عند الصباح؛ لأن الناس في غفلة في ذلك الوقت عن الاستعداد. {فَأَثَرْنَ بِهِ} ؛ أي: المكان {نَقْعًا} : غبارًا. {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)} ؛ أي: دخلن به؛ أي: بذلك النقع، وهو الغبار. وقيل: صرن بعدوهن وسط جمع العدو، وهم: الكتيبة.
وهذا القول في تفسير هذه الآيات أولى بالصحة وأشبه بالمعنى؛ لأن الضبح من صفة الخيل، وكذا إيراء النار بحوافرها وإثارة الغبار أيضًا. وإنما أقسم الله سبحانه بخيل الغزاة لما فيها من المنافع الدينية والدنيوية، الأجر والغنيمة، وتنبيهًا على فضلها وفضل رباطها في سبيل الله عز وجل، ويؤيده ما سبق في أسباب النزول من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى أناس من بني كنانة سرية، واستعمل عليها المنذر بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه وكان أحد النقباء، فأبطأ عليه صلى الله عليه وسلم خبرها شهرًا، فقال المنافقون: إنهم قتلوا، فنزلت السورة إخبارًا للنبي صلى الله عليه وسلم بسلامتها، وإشارة له بإغارتها على القوم، ونعيًا على المرجفين في حقهم ما هم فيه من الكفر والكفران. فـ {اللام} في {العاديات} إن كانت للعهد .. كان المقسَمُ به خيلَ تلك السرية، وإن كانت للجنس .. كان ذلك قسمًا بكل خيل عدت في سبيل الله تعالى واتصفت بالصفات المذكورة، وعلى التقديرين فهي مستحقة لأن يقسم لاتصافها بتلك الصفات الشريفة. وفي تخصيص خيل الغزاة بالإقسام بها من البراءة ما لا مزيد عليه، كأنه قيل: وخيل الغزاة التي فعلت كيت وكيت، وإذا كان شرف خيل الغزاة بهذه المرتبة حتى أقسم الله بها .. فما ظنك بشرف الغزاة وفضلهم عند الله تعالى؟.
والحاصل: أن الله سبحانه أقسم (1) بالخيل التي لها هذه الصفات والتي تعمل تلك الأعمال ليُعِلي من شأنها في نفوس عباده المؤمنين أهل الجد والعمل؛ وليُعْنوا بتربيتها وتعويدها الكر والفر، وليحملهم على العناية بالفروسية والتدرب على ركوب
(1) المراغي.
الخيل والإغارة بها على العدو؛ ليكون كل امرىء مسلم منهم عاملًا ناصبًا إذا جد الجد واضطرت الأمة إلى صد عدو أو بعثها باعث على كسر شوكته، يرشد إلى ذلك قوله في آية آخرى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وفي إقسام الله بها بوصف العاديات المغيرات الموريات إشارة إلى أنه يجب أن تقتنى الخيل لهذه الأغراض والمنافع لا للخيلاء والزينة، وأن الركوب الذي يحمد ما يكون لكبح جماح الأعداء وخضد شوكتهم وقد عدوانهم.
وقصارى ذلك: أن للخيل في عدوها فوائد لا يحصى عدها، فهي تصلح للطلب وتسعف في الهرب، وتساعد جِد المساعدة في النجاء والفر والكر على الأعداء وقطع شاسع المسافة في الزمن القليل.
ثم ذكر المحلوف عليه بتلك الإيمان الشريفة {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} ؛ أي: إن جنس (1) الإنسان طبع على نكران الحق وجحوده، وعدم الإقرار بما لزمه من شكر خالقه والخضوع له، إلا من عصم الله تعالى وهم الذين روَّضوا أنفسهم على فعل الفضائل وترك الرذائل ما ظهر منها وما بطن. وعبارة الرازي: لما ذكر المقسم به، وهو ثلاثة أمور: ذكر المقسم عليه، وهو أمور ثلاثة، أولها: قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} ، ثانيها: قوله: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)} ثالثها: قوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} ، وقوله: {أَفَلَا يَعْلَمُ
…
} إلخ، شروع في تخويف الإنسان بعد تعديد قبائح أفعاله عليه، فأقسم بثلاثة على ثلاثة اهـ. وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكَنود: الذي يأكل وحده، ويضرب عبده، ويمنع رفده"؛ أي: عطاءه، أي: أنه لا يعطي شيئًا مما أنعم الله به عليه، ولا يرأف بعباده كما رأف به، فهو كافر بنعمته مجانف لما يقتضي به العقل والشرع. وسر الجِبِلَّة: أن الإنسان يحصر همه فيما حضره وينسى ماضيه وما عسى أن يستقبله، فإذا أنعم الله عليه بنعمة .. غرته غفلته، وقسا قلبه، وامتلأ جفوة على عباده. وقال ابن عباس: الكنود: الكفور الجحود لنعمة الله تعالى. وقيل: {الكنود} العاصي، وقيل: هو الذي يعد المصائب وينسى النعم، وقيل: هو قليل الخير، مأخوذ من الأرض الكنود وهي التي لا تنبت شيئًا. وقال الفضيل بن
(1) روح البيان.