الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5
- {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)} ؛ أي: وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته وهو الله تعالى، فليس في السورة تكرار.
وقيل: هاتان الجملتان لنفي العبادة حالًا، كما أن الأوليين لنفيها استقبالًا، وإنما لم يقل (1): ما عبدت ليوافق ما عبدتم؛ لأنهم كانوا موسومين قبل البعثة بعبادة الأصنام، وهو عليه السلام لم يكن حينئذ موسومًا بعبادة الله ومشتهرًا بكونه عابدًا لله على سبيل الامتثال لأمره يعني ما يقتضيه جعل العبادة صلة للموصول، ثم عدم الموسومية بشيء لا يقتضي عدم ذلك الشيء، فلا يلزم أن لا يكون صلى الله عليه وسلم عابدًا لله قبل البعثة، بل يكون ما وقع منه قبلها من قبيل الجري على العادة المستمرة القديمة، وفي "القاموس": كان صلى الله عليه وسلم على دين قومه على ما بقي فيهم من إرث إبراهيم وإساعيل عليهما السلام في حجهم ومناكحهم وبيوعهم وأساليبهم، وأما التوحيد فإنهم كانوا بذلوه والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا عليه. انتهى.
وإيثار {مَا} في {أَعْبُدُ} على من؛ لأن المراد هو الوصف، كأنه قيل: ما أعبد من المعبود العظيم الشأن الذي لا يقادر قدر عظمته قال (2): الأخفش والفراء، المعنى: لا أعبد الساعة ما تعبدون، ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد، قال الزجاج: نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال وفيما يستقبل، ونفى عنهم عبادة الله في الحال وفيما يستقبل، وقيل: إن كل واحد من الجملتين يصلح للحال والاستقبال، ولكنا نخص أحدهما بالحال، والثاني بالاستقبال رفعًا للتكرار.
وكل هذا فيه من التكلف والتعسف ما لا يخفى على منصف، فإن جعل قوله:{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} للاستقبال وإن كان صحيحًا على مقتضى اللغة العربية، ولكنه لا يتم جعل قوله:{وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} للاستقبال؛ لأن الجملة تفيد الدوام والثبات في كل الأوقات، فدخول النفي عليهما يرفع ما دلت عليه من الدوام والثبات في كل الأوقات، ولو كان حملها على الاستقبال صحيحًا للزم مثله في قوله:{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)} وفي قوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)} فلا يتم ما قيل من حمل الجملتين الأخريين على الحال، وكما يندفع هذا يندفع ما
(1) روح البيان.
(2)
الشوكاني.
قيل من العكس؛ لأن الجملة الثانية والثالثة والرابعة كلها جمل اسمية مصدرة بالضمائر التي هي المبتدأ في كل واحد منها، فكيف يصح القول مع هذا الاتحاد بأن معانيها في الحال والاستقبال مختلفة؟ وأما قول من قال: إن كل واحد منها يصلح للحال والاستقبال، فهو إقرار منه بالتكرار؛ لأن حمل هذا على معنى، وحمل هذا على معنى آخر مع الاتحاد يكون من باب التحكم الذي لا يدل عليه دليل.
وإذا تقرر لك هذا (1): فاعلم أن القرآن نزل بلسان العرب، ومن مذاهبهم التي لا تجحد واستعمالاتهم التي لا تُنكر أنهم إذا أرادوا التأكيد كرروا، كما أن من مذاهبهم أنهم إذا أرادوا الاختصار أوجزوا، وهذا معلوم لكل من له علم بلغة العرب، وهذا مما لا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه؛ لأنه يستدل على ما فيه خفاء، ويبرهن على ما هو متنازع فيه، وأما ما كان من الوضوح والظهور والجلاء بحيث لا يشك فيه شاك ولا يرتاب فيه مرتاب، فهو مستغن عن التطويل غير محتاج إلى تكثير القال والقيل، وقد وقع في القرآن من هذا ما يعلمه كل من يتلو القرآن، وربما يكثر في بعض السور، كما في سورة الرحمن وسورة المرسلات، وفي أشعار العرب من هذا ما لا يأتي عليه الحصر، ومن ذلك قول الشاعر:
يَا لَبَكْرٍ انْشُرُوْا لِيْ كُلَيْبَا
…
يَا لَبَكْرٍ أَيْنَ أيْنَ الْفِرَارُ
وقول الآخر:
هَلَّا سَأَلْتِ جُمُوْعَ كِلْـ
…
ـدَةَ يَوْمَ وَلَّوْا أَيْنَ أَيْنَا
وقول الآخر:
يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ
…
خَيْرَ تَمِيْمٍ كُلِّهَا وَأَكْرَمَهْ
وقول الآخر:
لَا يَا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِيْ
…
ثُلَّاثَ تَحْيَاتٍ وإنْ لَمْ تُكْلَمِ
وقول الآخر:
(1) الشوكاني.
يَا جَعْفَرٌ يَا جَعْفَرٌ يَا جَعْفَرُ
…
إِنْ أَكُ دَحْدَاحًا فَأَنْتَ أَقْصَرُ
وقول الآخر:
فَأيْنَ إِلَى أَيْنَ النَّجَاةُ بِبَغْلَتِي
…
أَتَاكِ أَتَاكِ اللَّاحِقُوْنَ احْبِسِ احْبِسِ
وقد ثبت عن الصادق المصدوق؛ وهو أفصح من نطق بلغة العرب أنه كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاث مرات، وإذا عرفت هذا ففائدة ما وقع في السورة من التأكيد هو قطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما سألوه من عبادة آلهتهم، قلت التأسيس كما قالوا أولى من حمله على التأكيد، لما في التأسيس من أهمية كل جملة بفإدتها لعلم لم تفده الأخرى، كما أشرنا إليه في سورة الرحمن والمرسلات، وإنما عبر سبحانه بـ {ما} التي لغير العقلاء في المواضع الأربعة؛ لأنه يجوز ذلك، كما في قوله: سبحان ما سخركن لنا ونحوه.
والنكتة في ذلك أن يجري الكلام على نمط واحد ولا يختلف، وقيل: إنه أراد الصفة كما مر، كأنه قال: لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق، وقيل: إن ما، في المواضع الأربعة هي المصدرية لا الموصولة؛ أي: لا أعبد عبادتكم، ولا أنتم عابدون عبادتي، إلخ. انتهى من "الشوكاني".
وعبارة أبي حيان هنا: وللمفسرين في هذه الجمل أقوال (1):
أحدها: أنها للتأكيد، فقوله:{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)} توكيد لقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} ، وقوله:{وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)} ثانيًا تأكيد لقوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} أولًا، والتوكيد في لسان العرب كثير جدًّا نثرًا ونظمًا، وفائدة هذا التوكيد: قطع أطماع الكفار، وتحقيق الإخبار بموافاتهم على الكفر، وأنهم لا يسلمون أبدًا.
والثاني: أنه ليس للتوكيد، واختلفوا فقال الأخفش: المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون، ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد، فزال التوكيد؛ إذ قد تقيَّدت كل جملة بزمان مغاير.
(1) البحر المحيط.
وقال أبو مسلم (1): {مَا} في الأوليين بمعنى الذي، والمقصود المعبود، و {مَا} في الأُخريين مصدرية؛ أي: لا أعبد عبادتكم المبنية على الشك وترك النظر، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين، وقال ابن عطية: لما كان قوله: {لَا أَعْبُدُ} محتملًا أن يراد به الآن، ويبقى المستأنُف منتظرًا ما يكون فيه جاء البيان بقوله:{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)} أبدًا وما حييت، ثم جاء قوله:{وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)} الثاني حتمًا عليهم أنهم لا يؤمنون به أبدًا، كالذي كشف الغيب، فهذا كما قيل لنوح عليه السلام:{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} ولكن {مَا} هنا في قوم معينين، وقوم نوح عموا بذلك، لهذا معنى الترديد الذي في السورة، وهو بارع الفصاحة وليس بتكرار فقط، بل فيما ذكرته. انتهى.
وقد ذكر النحاة: أن دخول لا على المضارع يراد به الحال، ودخول ما على المضارع يراد به الاستقبال، وذلك مذكور في المبسوطات من كتب النحو اهـ من "البحر".
وخلاصة معنى السورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} ؛ أي: قل لهم يا محمد (2): إن الإله الذي تزعمون أنكم تعبدونه ليس هو الذي أعبده؛ لأنكم تعبدون من يتخذ الشفعاء أو الولد، أو يحل في شخص، أو يتجلى في صورة معينة، أو نحو ذلك مما تزعمون، وأنا أعبد إلهًا لا مثيل له ولا ند، وليس له ولد ولا صاحبة، ولا يحل في جسم، ولا تُدرك كنهه العقول، ولا تحويه الأمكنة، ولا تمر به الأزمنة، ولا يُتقرب إليه بالشفعاء، ولا تقدم إليه الوسائل، وعلى الجملة فبين ما تعبدون وما أعبد فارق عظيم وبون شاسع، فأنتم تصفون معبودكم بصفات لا يجمل بمعبودي أن يتصف بها.
{وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} ؛ أي: إنكم لستم بعابدين إلهي في أدعو إليه لمخالفة صفاته لإلهكم، فلا يمكن التوفيق بينهما بحال، وبعد أن نفى الاختلاف في المعبود نفى الاختلاف في العبادة من قبل أنهم كانوا يظنون أن عبادتهم التي يؤدونها أمام شفعائهم، أو في المعابد التي أقاموها لها، أو في خلواتهم، وهم على اعتقادهم بالشفعاء عبادة خالصة لله، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفضلهم في شيء، فقال:
(1) البحر المحيط.
(2)
المراغي.