الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام المواريث والولاية)
217 -
(1) قوله جل جلاله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4].
* اشتملتْ هذهِ الآيةُ على ثلاثِ جُمَلٍ:
أما الجملة الأولى، فهي تكذيبٌ لِمَنْ قالَ من كُفّارِ قريشٍ (1): إنَّ لي قَلْبَيْن، أَفهمُ بكلِّ واحد منهما أكثرَ مِمَّا يَفهمُ مُحَمَّد.
وأما الجملة الثانية، فهي رَدٌّ لِما كانوا عليه من طَلاق الجاهِلِيَّةِ بالظِّهار، وسيأتي حكمُ الظِّهار -إنْ شاءَ اللهُ تعالى-.
وأما الجملة الثالثة، فهي رَدّ لِما كانوا عليه من التوارُثِ بالتَّبَنِّي، فأبطلَ اللهُ سبحانَه أَنْ يكونَ ابنُ التبني كابنِ النسبِ، فلا يرثُ واحدٌ منهما الآخَرَ، ولا يحرمُ عليه محارمَهُ، ولا منكوحَتَه؛ كما قالَ تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37].
* ثم أمرَ اللهُ سبحانَهُ بدعائِهم إلى آبائِهم، وجعلَ الجُناحَ في دُعائهم
(1) هو أبو معمر جميل بن معمر الفهري، انظر:"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (14/ 116)، و"معالم التنزيل" للبغوي (3/ 505).
بأبِ التبنِّي، إلا أنْ يكونَ على وَجْهِ الخَطَأ، أو يقولَ الرجلُ للآخر: يا بني! على وَجْهِ اللُّطْفِ والشفقةِ، فقال تعالى:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5].
* وكما حَرَّمَ اللهُ تعالى أن يتبنَّى مَنْ ليسَ بولدٍ لهُ، حَرَّمَ على المَرء أن ينتسب لغير (1) أبيه.
روى واثِلَةُ بنُ الأَسْقَع -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ أَفْرى الفِرى مَنْ قَوَّلَنِي ما لم أَقُلْ، ومَنْ أَرَى عَيْنَيْهِ ما لَمْ تَرَ، ومن ادَّعَى إلى غيرِ أبيهِ"(2).
218 -
(2) قوله جل جلاله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6].
أقولُ: اشتملتْ هذهِ الآيةُ على ثلاثةِ أحكام:
الحكم الأول: جعلَ اللهُ سبحانَه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أَوْلى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهم، فإذا دَعاهُم إلى شيءٍ، ودَعَتْهم أَنْفُسُهم إلى شيءٍ آخرَ، كانَتْ طاعةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْلى؛ كما قالَ تعالى في آيةٍ أخرى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، فكان نزولُها
(1) في "أ": "ينسب إلى غير".
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(22/ 171)، وابن حبان في "صحيحه"(32)، والطبراني في جزء "طرق حديث من كذب علي متعمداً"(165)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(4830)، والخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي"(1289)، والرافعي في "التدوين في أخبار قزوين"(3/ 195).
في عبدِ اللهِ بنِ جَحْشٍ وأُخْتِهِ زينبَ لَمّا خطبَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لمولاهُ زيدِ بنِ حارِثةَ، وكَرِها ذلك (1).
* وبينَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأَوْلَوِيَّةَ هذه (2)، وأنّها في البِرِّ والإحسانِ، لا في الميراثِ لأموالهم.
روى أبو هُريرةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "ما مِنْ مُؤمنٍ إلَّا وَأَنا أَوْلى النَّاس بهِ في الدُّنْيا والآخرة، اقْرَؤوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]، فَأَيُّما مُؤْمنٍ تَرَكَ مالاً، فَلْتَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كانوا، وإنْ تَرَكَ دَيْناً أو ضَياعاً، فَلْيَأتِني، وَأَنا مَوْلاهُ"(3).
* وكما خَصَّهُ اللهُ الكريمُ بهذا المَقام الشَّريفِ الأَغلى؛ لكمالِ رحمتِه لهم، وتمامِ شفقتِه عليهم، جعلَ المؤمنينَ في بِرِّهم وإحسانِهم أَوْلى بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم منْ أنْفُسِهم؛ تعظيماً لحرمتِه، وإجلالاً لِقَدرِه؛ كما بينَهُ صلى الله عليه وسلم فقال:"لا يُؤمنُ عَبْدٌ حَتَّى أكونَ أَحَبَّ إليهِ منْ أهلِه ومالِه ووَلَد والنَّاسِ أجمعين"(4).
ويندرجُ في هذا الأصلِ فروع ذكرَها الشافعيةُ:
الأول: يجب على كلِّ أحدٍ (5) بَذْلُ نفسِه دُونَهُ لِمَنْ قَصَدَهُ، وإن عَلِمَ أنهُ
(1) انظر: "السنن" للدارقطني (3/ 301)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 136).
(2)
"هذه" ليست في "أ".
(3)
رواه البخاري (2269)، كتاب: الاستقراض، باب: الصلاة على من ترك دينًا، ومسلم (2176)، كتاب: الكفالة، باب: الدين.
(4)
رواه البخاري (15)، كتاب: الإيمان، باب: حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، ومسلم (44)، كتاب: الإيمان، باب: وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد، عن أنس بن مالك، وهذا لفظ مسلم.
(5)
في "ب": "واحد".
هالِكٌ، وقد فعلَ ذلكَ مَنْ حضرَ عندَه من أصحابِه يومَ أُحُدٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم-.
الثاني: يجبُ على مالكِ الطعامِ بَذْلُه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وإيثارُهُ به، وإنْ كانَ محتاجاً إليه.
الثالث: يجبُ على المرأةِ إجابتهُ إلى نِكاحِها إذا رَغِبَ فيها.
وفي وَجْهٍ: لا يجبُ، وهو ساقِط، لا ينبغي حكايَته، وهذا الفَرْعُ مندرج في الأَصلِ الأَوَّلِ أيضاً (1).
الرابع: يحرمُ خِطْتةُ مرْغوبَتِهِ، وإنْ لم يَخْطِبْها.
الخامس: يجِبُ على الزوجِ طلاقُ زوجَتِه إذا رَغِبَ فيها، على الصحيح.
وفي وَجْهٍ: لا يجبُ، وهو ضعيفٌ باطل (2).
الحكم الثاني: جعلَ اللهُ سبحانَه أزواجَه أمهاتِ المؤمنينَ، وسَمَّاهم بذلكَ تَشْريفاً وتكريماً لهنَّ، وتَعظيماً لحرمَتِهِن على المؤمنينَ، لا أنهُنَّ أمهات حقيقةً، فلا يُقال لبناتِهِن: إنهن أَخَواتُ المُؤْمنين، ولا يَحرمنَ على المُؤمنين؛ ولا يُقال لأزْواجِهَّن: إنهم آباءُ المؤمنين، ولا يقالُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أبو المؤمنين؛ لقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 40]، ولأنَّ الله سبحانَهُ رَزَقَهُ شَرَفاً أكثرَ من ذلكَ، وهو كونه أَوْلى بالمؤمنينَ مِنْ أَنْفُسِهم.
(1)"أيضاً" ليس في "أ".
(2)
ذكر هذه الخصائص وغيرها الماوردي في "الحاوي الكبير"(9/ 18) وما بعدها، والنووي في "روضة الطالبين"(7/ 98).
ونقل عن بعضِ الشافعيةِ (1) أنه يجوزُ أن يُقالَ: أبو المؤمنين، ومعنى الآيةِ ليسَ أحدٌ منْ رجالِكُم وَلَدَ صُلْبِه (2).
* وهل يجوزُ أن يقالَ لهنَّ: أُمَّهاتُ المؤمنات؟
فيه خلافٌ حكاهُ الماورديُّ في "تفسيره"(3)، وقال البغويُّ: كُلُّهُنَّ أُمَّهاتُ المؤمنينَ منَ الرجالِ دُونَ النساءِ (4)، ورُوي ذلكَ عنْ عائشةَ -رضيَ الله تعالى عنها- (5)، وسار هذا الخلافُ في دخول النساءِ في خطابِ الرجال (6).
الحكم الثالث: جعلَ اللهُ سبحانَهُ أُولي الأرحامِ بعضُهم أَوْلى ببعض من المهاجرين والأنصار، وهذا يبطل التوارُثَ (7) بالمهاجرةِ والمؤاخاةِ في الإسلامِ الذي ذكرهُ اللهُ تعالى في آخِرِ "سورةِ الأنفالِ" و"النساءِ"، إلا أَنْ يُوصوا لأوليائهم بشيء، فإنه معروفٌ وبِرٌّ.
وبين اللهُ سبحانَهُ مراتبَ ذَوي الأرحامِ، ومقاديرَ أَنْصِبائِهم في "سورةِ النساء".
(1) في "ب": "نص الشافعي".
(2)
نص على ذلك الشافعي في "الأم"(5/ 141)، ونقله النووي في "الروضة"(7/ 12) عن الواحدي.
(3)
انظر: "النكت والعيون" للماوردي (4/ 374).
(4)
انظر: "تفسير البغوي"(3/ 569).
(5)
روى الشعبي عن مسروق: أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها: يا أمه فقالت عائشة: لست لك بأم، إنما أنا أم رجالكم، انظر:"معالم التنزيل" للبغوي (3/ 507)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (14/ 123)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 70)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 19).
(6)
انظر: "روضة الطالبين" للنووي (7/ 12).
(7)
في "ب": "ناسخ للتوارث".
* فإن قلتَ: أولو الأرحامِ لفظٌ يقع (1) على الأولادِ والوالدينِ والإخوةِ وغيرِهم من العَصَبات، ويقعُ على الخالِ والخالةِ والعمَّةِ وغيرِهم، وهذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ لهم حَقًّا، وأن مَرتبًتَهم بعدَ الأولادِ والوالدينِ والإخوة والعَصَبَةِ، فيكون الله سبحانه قد ذكر في سورة النساء مراتب ذوي الأرحام من الأولاد والوالدين والإخوة نصاً، وذكرَ غيرَهُم من ذوي الأرحام عُموماً.
قلتُ: هذا سؤالٌ حسنٌ، واستدلالٌ قوي، ولأجلِ هذا ذهب الكوفيون إلى تَوْريثهم، وقالَ به أحمدُ، وإسحاقُ، والمُزَنيُّ، وابنُ سريج.
وروي عن كثيرٍ من الصحابةِ كعمرَ، وعلى، وعائشةَ، وابن مسعود، ومُعاذٍ، وأبي الدَّرداءِ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم-.
وذهبَ الحجازيونَ إلى عدمِ توريثهِم، وبه قالَ مالكٌ والشافعيُّ، ويروى عن أبي بكرٍ، وزيدِ بنِ ثابت، وابنِ عمرَ، ورُوي عن عَلِيٍّ أيضاً -رضيَ اللهُ تعالى عنهم- (2).
وأجابوا عن الآيةِ بأنَ الرَّحِمَ مُجْمَلٌ، وليسَ ببيِّنٍ، فيرجعُ في بيانِه إلى غيرِه، وقد بيَنَهُ اللهُ سبحانَهُ، ورسولهُ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ المعنى: وأُولو الأرحامِ بعضُهم أولى ببعضِ على ما فَرَضَ اللهُ تَعالى، وبينَ رسولُه صلى الله عليه وسلم؛ بدليلِ الإجماعِ على توريثِ الزوجِ والزوجةِ والمَوْلى، وليسوا بِذَوي رحم.
(1)"يقع": زيادة من "ب".
(2)
انظر: الخلاف في توريث ذوي الأرحام في: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 59)، و"مصنف ابن أبي شيبة"(31158)، و"مصنف عبد الرزاق"(16196، 16197، 16207، 16208، 16209)، و"فتح الباري" للحافظ ابن حجر (12/ 30)، و "المغني" لابن قدامة (6/ 205)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 73)، و"روضة الطالبين" للنووي (6/ 5)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 255).
وهذا الجوابُ مدخولٌ، فلهم أن يقولوا: الرحم ليسَ بمجملٍ، بل هو عامّ بين في لسانِ العربِ، وإنما المُجْمَلُ المراتِبُ التي أرادَها اللهُ سبحانَه لَمّا عَلِموا أنَّ استحقاقَ الإرثِ يختصُّ به بعضُ الرحمِ دونَ بعضٍ، فَبيَنَ اللهُ سبحانه مَراتِبَ الأَقْربينَ، ومقاديرَ أَنْصِبائِهم أيضاً (1).
وبَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم معَ كتابِ اللهِ سبحانه أَنَّ "ما أبْقَتِ الفرائضُ فَلأَولى عَصَبةٍ ذَكرٍ"(2).
وأما توريثُ الزوجِ والزوجةِ، فإن الله سبحانه أدخلَهم وأَشْرَكَهم مع أُولي الأَرحام، وكذا المَوْلى بَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه داخل في التوريثِ، وأنَّ الوَلاءَ لُحمَة كَلُحمَةِ النَّسَبِ، لا تبُاع ولا تُوَرَّثُ (3)، وقالَ صلى الله عليه وسلم:"إنَّما الوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"(4)، فَخَصَّ الكتابُ والسنَّةُ عُمومَ الكتابِ، والمعنى: وأُولو الأرحامِ بعضُهم أَوْلى ببعضٍ ما لم يكنْ معهُم زوج ولا زوجة ولا مَوْلًى.
وهذا الجوابُ في المَوْلى على رأيِ الكوفيين.
وأما على مذهبِ الصَّحابةِ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم-، فلا يلزمُ الاعتراضُ بالمَوْلى؛ لأن ذا الرَّحِمِ عندَهُم مُقَدَّمٌ على الوَلاء عَلى مُقْتَضى الخِطاب في التَّنْزيلِ، فعن إبراهيمَ قال: كانَ عمرُ وعبدُ الله يُوَرِّثانِ الأرحامَ دُونَ المَوالي، وكان عَلِيّ أشدَّهم في ذلكَ (5)، وأُتِي سُوَيْدُ بنُ غَفَلَةَ في ابنةٍ
(1) في "ب": "نصاً".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
في "ب": "توهب".
(4)
رواه البخاري (444)، كتاب: المساجد، باب: ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، ومسلم (1504)، كتاب: الطلاق، باب:"إنما الولاء لمن أعتق"، عن عائشة.
(5)
رواه الإمام الشافعي في "الأم"(7/ 179)، وسعيد بن منصور في "سننه"=
وامرأةٍ ومولًى، فقال: كان عليٌّ يعطي الابنةَ النصفَ، والمرأةَ الثمُنَ، ويردُّ ما بقيَ على الابنةِ (1).
وأبو حنيفةَ وأصحابُه أحدَثوا قولاً ثالثاً.
وأسَدُّ من هذا في الجواب، -والله أعلم- أن تقول: لَمَّا بَيَّنَ اللهُ سبحانَهُ الفرائضَ، بيَنَ أَهْلَها، وبينَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما لم يذكُرْهُ اللهُ تعالى، فقالَ:"أَلْحِقُوا الفَرائِضَ بأَهْلِها، فَما تقِيَ فَلأَولَى عَصَبة ذَكر"(2)، ثم لم يقلْ بعد ذلكَ: فإن لم يكنْ عصبةٌ ذكرٌ، فذو (3) عصبةٍ أنثى، ولا لِذَوي رحمٍ، ولو كانَ ذلك مُراداً بقوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]، لَبينَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عنِ اللهِ سُبحانهُ؛ لِما فرضَ عليهِ من بيانِ ما أنزلَ إليهِ.
فإن قلت: فقد بَيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم: توريثَهم، فروى واسعُ بنُ حَبّانَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ سألَ عاصمَ بنَ عدي عن ثابتِ بنِ الدحداحِ، وتُوُفِّيَ:"هل تَعلَمُونَ لَهُ نَسَباً فيكُم؟ "، فقال: لا، إنما هو أَتِيٌّ فينا، فقضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بميراثِه لابنِ أختِه (4).
وروى المِقْدادُ الكِنْدِيُّ عنِ النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا وارِثُ مَنْ لا وارِثَ لَهُ، أَعْقِلُ عَنْهُ، وَأَرِثُهُ، والخالُ وارِثُ مَنْ لا وارِثَ لَهُ، يَعْقِلُ عنهُ ويَرِثُهُ"(5).
= (1/ 94)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 400)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 242).
(1)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 242).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
في "ب": "فَلِذي".
(4)
رواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده"(476 - زوائد الهيثمي)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 215).
(5)
رواه أبو داود (2899)، كتاب: الفرائض، باب: في ميراث ذوي الأرحام، وابن ماجه (2634)، كتاب: الديات، باب: الدية على العاقلة، فإن لم يكن عاقلة،=
وروي عن عمرَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه-: أنه كتبَ إلى أبي عُبَيْدَةَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه- في غُلامٍ أصابَهُ سهمٌ فقتلَهُ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ يقولُ: "اللهُ ورَسُولُه مَوْلَى مَنْ لا مَوْلَى لَهُ، والخالُ وارِثُ مَنْ لا وارِثَ لَهُ"(1).
ورويَ نحوُه عن عائشةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنها (2).
قلنا: أما حديثُ واسعٍ، فقالَ الشافعيُّ -رحمه اللهُ تعالى-: ثابتُ بنُ الدّحْداحِ قُتِل يومَ أُحُدٍ قبلَ أَنْ تنزلَ الفرائِضُ، وإنما نزلتِ الفرائضُ فيما بينت أصحابنا في بنات محمودِ بنِ مَسْلَمَةَ، وقُتِلَ يومَ خَيْبَر، وقد قيل: نزلتْ بعدَ أُحُدٍ في بنات سعدِ بنِ الربيع، وهذا كلُّه بعدَ أمرِ ثابتٍ (3).
وكذلكَ آيةُ الصَّيْفِ (4) نَزَلَتْ في جابرِ بنِ عبدِ الله لمّا قال:
= ففي بيت المال، والنسائي في "السنن الكبرى"(6419)، وابن حبان في "صحيحه"(6035)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 397)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 214)، والديلمي في "مسند الفردوس"(124).
(1)
رواه الترمذي (2103)، كتاب: الفرائض، باب: ما جاء في ميراث الخال، وابن ماجه (2737)، كتاب: الفرائض، باب: ذوي الأرحام، والإمام أحمد في "المسند"(1/ 28)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(31127)، والنسائي في "السنن الكبرى"(6351)، وابن حبان في "صحيحه"(6037)، والدارقطني في "سننه"(4/ 84)، وابن الجارود في "المنتقى"(964)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 214)، عن أبي أمامة.
(2)
انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (6/ 215)، و"سنن الدارقطني"(4/ 86).
(3)
انظر: "السنن الكبرى"(6/ 215)، و"معرفة السنن والآثار" للبيهقي (5/ 81980).
(4)
وهي قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء: 176].
يا رسولَ الله! إنما يَرِثنُي كَلالَةٌ، وإنَّما قالَ هذا بعدَ أن قُتِلَ أبوه يومَ أُحُدٍ؛ بدليلِ قوله: وإنَّما يرثنُي كَلالَةٌ] (1)(2).
وهذا الجوابُ لا شِفاءَ فيه؛ لأن آياتِ الفرائضِ لا تُعارِضَ قضاءَ النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى تنسَخَهُ؛ فإنَ النبي صلى الله عليه وسلم لم يقضِ بميراثِه لابنِ أختِهِ إلَّا بعدَ أَنْ سألَ عَنْ نَسَبه، فَقَضاؤه لا يخالِف القرآنَ، ولا يُعارضُه، والأحسنُ أن يقال: إنه مرسَلٌ.
وأما حديثُ المِقدادِ، فقدْ كانَ يَحيى بنُ معينٍ يُضعْفُه (3).
وأما حديثُ عمرَ، فقد قيلَ: إنه من بابِ اختيارِ الإمامِ، فكأنه اختارَ وَضْعَ مالِه فيه إذا لم يكنْ له وارثٌ سِواهُ، ورآهُ من المصلحةِ، وإن كانَ لا يستحق إرثاً (4)؛ كما رويَ عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها-: أنَّ رجلاً وقعَ من نَخْلَةٍ، فماتَ وتركَ شيئا، ولم يَدَعْ ولداً ولا حَميماً، فقالَ النبي صلى الله عليه وسلم:"أَعْطُوا ميراثَهُ رَجُلاً منْ أهلِ قَرابَتِهِ"(5).
وهذا الجوابُ فاسِدٌ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أعطاهُ، وجعلَهُ وارثَ مَنْ لا وارِثَ لَهُ، فسمَّاهُ وارِثاً، وجعله مستحِقًّا.
ورواه عمرُ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- من قولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(1) ما بين معكوفتين ليس في "ب".
(2)
انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (6/ 216).
(3)
انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (5/ 82).
(4)
انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (5/ 83).
(5)
رواه أبو داود (2902)، كتاب: الفرائض، باب: في ميراث ذوي الأرحام، وابن ماجه (2733)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث الولاء، والإمام أحمد في "المسند"(6/ 137)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(31589)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 243).
وحديثُ عائشةَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنها- قَضِيةٌ في عَيْن، ولعلَّ الرجلَ قد كانَ معلوماً عندهم، فيحملُ مطلقُ حديثِ عائشةَ على مُقَيَّدِ حديثِ عمرَ -رضيَ الله تعالى عنهم-، فإن صحَّ حديثُ عمرَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه-، تَعَيَّنَ المَصيرُ إليه.
وقد أرخيتُ القولَ في هذهِ المسألة لِعِظَمِ مَوْقِعِها، وشِدَّةِ الحاجةِ إليها.
وقد عَلِمتَ منَ الآيةِ وَجْهُ الدلالةِ على الردِّ على ذَوي الفروض عندَ منْ يقولُ به ما خلا الزوجَ والزوجةَ، وهذا البيانُ كافٍ، واللهُ أعلمُ.