الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام الأيمان)
260 -
261 (1 - 2) قوله تَعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)} [التحريم: 1 - 2].
* أقول: الكلامُ في هذهِ الآيةِ صَعْبٌ شديدٌ، ولهذا اختلفَ الصَّدْرُ الأولُ في هذهِ المسألةِ على بِضْعَةَ عَشَرَ قولاً، وهي تَتَّضِحُ -إنْ شاءَ اللهُ تَعالى- بالكلامِ في أمرينِ:
الأمر الأول: سببُ نزولِ هذه الآية.
فالذي ذهبَ إليهِ أهلُ التفسيرِ، واشْتُهِرَ عندَهُم أَنَّها نزلَتْ في مارِيَةَ جاريةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
يروى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخلَ على حَفْصَةَ في يومِ نَوْبَتِها، فخرجت لبعضِ شَأْنِها، فأرسلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى ماريَةَ، وأدخَلَها بيتَ حَفْصَةَ، وواقَعَها، فلما رَجَعَتْ حَفْصَةُ، علمتْ بذلك، فغضبتْ، وبكتْ، وقالتْ: مالِي حُرْمَةٌ وحقٌّ عندكَ؟ فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اسْكُتي، فَهِيَ حَرامٌ عَلَيَّ"، فأنزلَ اللهُ تَعالى هذهِ الآيةَ (1).
والذي ذَهَبَ إليهِ أهلُ الحديثِ أَنَّها نَزَلَتْ في تركِه لِشُرْبِ العسل.
(1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 353)، عن الضَّحَّاك.
روينا في "الصحيحين" عن عطاءٍ أَنَّه سمعَ عُبَيْدَ بنَ عُمَيْرٍ يقولُ: سَمِعْتُ عائشةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنها- تقولُ: إن النَّبي صلى الله عليه وسلم كانَ يمكُثُ عندَ زينبَ بنتِ جَحْشٍ، ويشربُ عندَها عَسَلاً، فتواصَيْتُ أنا وحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنا دخلَ عليها النَّبي صلى الله عليه وسلم، فَلْتَقُلْ: إنِّي أجدُ منكَ ريحَ مَغافيرَ، هلْ أكلتَ مغافيرَ؟ (1) فدخلَ على إحداهُما، فقالتْ له ذلكَ، فقالَ:"لا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً عِنْدَ زَينبَ بنْتِ جَحْشٍ، ولَنْ أعودَ لَهُ"، فنزلَتْ:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (2)[التحريم: 1].
وفي بعضِ ألفاظ البُخاريّ: "ولكنِّي شربْتُ عَسَلاً عندَ زينبَ بنتِ جَحْشٍ، ولَنْ أعودَ لَهُ، وقدْ حَلَفْتُ لا تُخْبري بِذلِكَ أحدًا"(3).
قال بعضُ أهلِ العلمِ بالحديثِ: والصحيحُ في نزولِ هذهِ الآية أَنَّها في قِصَّةِ العَسَلِ، لا في قِصَّةِ مارِيَةَ، فلمْ تأتِ قِصَّةُ ماريةَ -رضيَ اللهُ تُعالى عنها - من طريقٍ صَحيح (4).
الأمر الثَّاني: هل التحريمُ الذي فرضَ اللهُ سبحانَهُ تَحِلَّتَهُ يمين، أو ليسَ بيمينٍ، وإنَّما صدرَ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم مطلَقُ التحريمِ؟
(1) مغافير: واحدها مُغفُور -بالضم-، وله ريح كريهة منكرة، ويقال أيضاً: المغاثير.
"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 374).
(2)
رواه البُخاريّ (4966)، كتاب: الطلاق، باب:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ومسلم (1474)، كتاب: الطلاق، باب: وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق.
(3)
رواه البُخاريّ (4628)، كتاب: التفسير، باب: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ
…
}، عن عائشة.
(4)
نقله الإمام النووي عن القاضي عياض في "شرح مسلم"(10/ 77).
الظاهرُ مِنَ القرآن أَنَّه لمْ يصدُرْ منَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يمينٌ، وإنَّما جَعَلَه اللهُ سبحانَه يَميناً؛ لما فيهِ منَ الامتناعِ والحَثِّ على التَّرْكِ.
روى سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عباس -رضيَ اللهُ تعالى عنهما- أنهُ قالَ في الحَرام: يمينٌ يُكفِّرُها، لقدْ كانَ لكمْ في رسولِ اللهِ أُسوِةٌ حسنةٌ، يعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم، كانَ حَرَّمَ جاريتَه، قال الله تعالى:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1 - 2] فَكَفَّرَ عن يمينهِ، وَصَيَّرَ الحَرام يميناً (1).
وروي عن عُمَرَ وعائِشَةَ أنهما قالا في الحَرامِ: يمينٌ يُكَفِّرُها (2).
وقال قومٌ: آلى النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وَحرَّمَ (3).
قالَ قتادةُ: هو أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لحفصَةَ: "اسكُتي، فواللهِ لا أَقْرَبُها، وهيَ عَلَيَّ حَرامٌ (4).
وكذا قالَ زيدُ بنُ أسلمَ من أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ أُمَّ إبراهيمَ، قال:"أنتِ عَلَيَّ حَرامٌ، والله، لا أَمَسُّكِ"(5)، (فأنزلَ اللهُ في ذلك).
وقال مسروقٌ: آلى النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وحَرَّمَ، فأنزلَ اللهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ
(1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 350)، بهذا السياق، والحديث في الصحيحين مختصراً.
(2)
انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة (4/ 96)، و "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (5/ 487).
(3)
رواه التِّرمذيُّ (1201)، وابن ماجه (2072) عن عائشة رضي الله عنها.
(4)
رواه أبو داود في "المراسيل"(240)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 353).
(5)
رواه ابن سعد في "الطبقات"(8/ 213).
تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، فجعلَ الحَرام حَلالاً، وجعلَ في اليمين كَفَّارَةً (1)(2).
إذا تقررَ هذا، فالذين قالوا: إنَّ التحريمَ يمينٌ بكلِّ حالٍ، ولم يذكروا عن النَّبي صلى الله عليه وسلم يميناً غيرَ التحريم، أَوْجَبوا فيه كفارةَ يمينٍ بكلِّ حالٍ، وإن نَوى الطلاقَ، أو الظِّهارَ أو التحريم، فلا شيءَ إلَّا كفارَةُ يمينٍ.
وهو ظاهِرُ القرآنِ، وهذا مذهبُ ابنِ عباسٍ وجماعَةٍ من التّابعين.
روينا في "صحيح البخاري" عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ أَنَّه سمعَ ابنَ عباسٍ يقولُ: إذا حَرَّمَ امرأته، ليسَ بشيء، وقالَ: لقدْ كانَ لكمْ في رَسولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (3).
وفي "صحيحِ مسلم" عن ابن عباسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما- قال: إذا حَرَّمَ الرجلُ امرأتهُ فهيَ يمين يُكَفِّرُها (4).
والذين قالوا: صدرَ منهُ يمين كما وردَ في بعضِ ألفاظِ البُخاري، اختلفوا.
فمنهم من رآه كَذِباً، فهو كتحريمِ الماءِ، فلا شيءَ عليهِ؛ لقوله تعالى:{لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87].
(1) رواه التِّرمذيُّ (1201)، كتاب: الطلاق واللعان، باب: ما جاء في الإيلاء، وابن ماجه (2072)، كتاب: الطلاق، باب: الحرام، وابن حبان في "صحيحه"(4278)، والبيهقيّ في "السنن الكبرى"(7/ 352)، عن مسروق، عن عائشة.
(2)
روي عن مسروق موقوفاً عليه. انظر: "المدونة الكبرى"(3/ 106)، و "تفسير الطبري"(28/ 256)، و "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 352).
(3)
رواه البُخاريّ (4965)، كتاب: الطلاق، باب:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} .
(4)
رواه مسلم (1473)، كتاب: الطلاق، باب: وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق.
وبهذا قالَ مسروقٌ، وأبو سَلَمَةَ بنُ عبدِ الرَّحمن، والشعبيُّ (1).
ومن أهلِ العلمِ من شَبَّهَهُ بالظِّهارِ؛ لِما فيه من المُنْكَرِ وقولِ الزُّورِ والعَوْدِ إلى ما قالَ وهو قولُ إسحاقَ بنِ راهويه (2).
وذهبَ الجُمهور من أهلِ العلمِ إلى أنَّه لفظٌ صريحٌ في التحريمِ مصروفٌ (3) بالنيةِ إلى وجوهِ التحريمِ من البَيْنونَةِ والطَّلاقِ الرَّجْعِيِّ والظِّهارِ والامتناعِ باليمين، فحينئذ اختلفَتْ بهمُ الطرقُ:
فذهبَ مالكٌ إلى أنَّه يقعُ بهِ ثلاثُ طلقاتٍ، سواءٌ كانَتِ المرأةُ مَدْخولاً بها، أم لا، لكن إن نوى أقلَّ من الثلاثِ في غيرِ المَدْخولِ بها قُبِلَ؛ لحصولِ البينونة (4).
ويروى هذا القولُ عن عَلِي، وزيدِ بنِ ثابتٍ، وبهِ قالَ الحَسَنُ، والحَكَمُ (5).
وهذا من مالِكٍ على أصلهِ في الكناية الظاهرة؛ كقوله: حَبْلُكِ على غاِربِكِ، وأنتِ خَلِيَّةٌ؛ فإنَّه لا يقبلُ دعوى الزوجِ فيما دونَ الثلاثِ في المدخول بِها، ويقبلُ دعواهُ في غيرِ المدخول بها.
وقيل: لا تقبلُ الدَّعوى سواءٌ كانتِ الزوجةُ مَدْخولاً بها، أم لا.
وهو قولُ عبدِ الملكِ بنِ الماجشون، ويروى عنِ ابنِ أبي ليلى،
(1) انظر: "شرح صحيح البُخاريّ " لابن بطال (7/ 402)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 58)، و "شرح مسلم" للنووي (10/ 74).
(2)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 18)، و "شرح مسلم" للنووي (10/ 74).
(3)
في "ب": "ينصرف".
(4)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 17).
(5)
انظر: "شرح صحيح البُخاريّ" لابن بطال (7/ 401)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 58).
ويروى عنهُ مثلُ قولِ مالِكٍ الأَوَّلِ (1).
وقيل: يقعُ به في المدخولِ بها ثلاثٌ، وفي غيرِ المدخولِ بها واحدةٌ، وبه قال أبو مُصْعَبٍ، ومحمدُ بنُ الحَكَم المالكيان (2)، ونُقِلَ عن مالكٍ قولٌ أنَّه يقعُ به طلقة واحدةٌ بائنةٌ سواءٌ المدخولُ بها وغيرُها (3)، وهو ضعيفٌ مخُالِفٌ لقواعدِه؛ فإنَّه إنَّما ذهبَ إلى إيقاعِ الثلاثِ في الكناية الظاهرة، وإن كانَ لا يوقعُ الثلاثَ باللفظِ الصريحِ؛ لأنَّ الظاهرَ من هذهِ الألفاظِ البَيْنُونة، والبينونةُ لا تحصلُ إلَّا بالثلاثِ، أو بعِوَضٍ، ولم يكنْ هناك عِوَضٌ، فتعينَ الثلاثُ، وأمَّا البينونةُ بطلقةٍ واحدةٍ بغيرِ عِوَضٍ، فغيرُ معروفٍ في الشرع.
وقال عبدُ العزيز بنُ سَلَمَةَ المالكي: تقعُ بهِ طلقة رجعيةُ (4)، وهو مخالفٌ لمذهبِ مالكٍ في الكنايةِ الظاهرة.
وذهب أبو حنيفةَ إلى أَنَّه إن نَوى الطلاقَ، وقعتْ طلقة واحدةٌ، بائنةٌ، وكذا إن نَوى ثلاثاً أو اثنتين، فلا تقعُ إلَّا واحدةٌ (5)، وهذا على أصله أَنَّ الطلاقَ بالكِناية لا يقعُ إلَّا بالنيَّةِ، وأنه إذا نَوى العددَ بالطَّلْقَةِ الواحدةِ، فلا يفيد العدد.
وأمَّا كونُها بائنةً، فلأنّ المرادَ بهذا اللفظ قطعُ العصمة، وقطعُها لا يحصُل إلَّا بالبينونة، ولم تكن ثلاثَ تطليقاتٍ، ولا اللفظُ يصلحُ للثلاثِ عنده، فجعله طلقةً بائنةً، وإن لم ينوِ شيئاً، فهو يمين، وإن نَوى الكَذِبَ، فَلَغْوٌ.
(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 18)، و "شرح مسلم" للنووي (10/ 74).
(2)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (18/ 182)، و "شرح مسلم" للنووي (10/ 74).
(3)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (18/ 181).
(4)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 18).
(5)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 363)، و "المبسوط" للسرخسي (6/ 70).
وقالَ زُفَرُ مثلَ هذا القول، إلَّا أنَّه إنْ نَوى اثنتين، وقعتا (1).
وذهبَ الشافعيُّ إلى أنَّه إن نوى الطلاقَ، كانَ طلاقاً، فإن نوى واحدةً، فواحدةً، وإن نَوى اثنتين أو ثَلاثاً، فما نوى، وإن نوى الظِّهارَ، كانَ ظهارًا؛ لانصراف الكنايات بالنية، ولأن أصلَه أنَّ اللفظَ في صريحِ الطلاقِ وكنايتهِ يقعُ للواحدةِ وللاثنتينِ وللثلاثِ بالنيَّة، بدليلِ حديثِ رُكانَةَ المشهورِ.
وإن نوى تحريمَ عَيْنِها بغير طَلاقٍ ولا ظِهارٍ، لزمَهُ بنفسِ اللفظِ كفارةُ يميني كَما هو ظاهرُ القرآن، وإن لم يَنْوِ شيئًا، ففيه قولان:
أظهرهما (2): أن عليه كَفَّارةَ يمين.
والثاني: قولُه لغوٌ لا شيءَ فيهِ (3).
ويروى مثلُ قوله عن أبي بكرٍ، وعمرَ، وغيرِهما من الصحابةِ والتابعينَ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم- (4).
وذهب الثوريُّ إلى أنَّه إن نَوى الطلاقَ، فطلاقٌ، وإن نوى واحدة أو عددًا، فما (5) نوى، أو يَميناً، فهو ما نوى (6)، وإلَّا، فلغوٌ؛ كأحدِ قولَي الشَّافعيِّ (7).
وذهبَ الأوزاعيُّ إلى مثلِ قولِ الثوريِّ، إلَّا أنَّه قال: إذا لم ينوِ شيئًا،
(1) انظر: "المبسوط" للسرخسي (6/ 70).
(2)
في "أ": "أحدهما".
(3)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 73).
(4)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 74).
(5)
في "ب": "فهو ما".
(6)
"فهو ما نوى" ليس في "ب".
(7)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 363)،و "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 18).
لزمَهُ كفارَةُ يمينٍ، وهو كأحدِ قولَي الشَّافعيِّ أيضاً -رحمهم اللهُ تعالى- (1).
* فإن قلتَ: هذا الذي شرحتَه في الزوجة، فما حكمُ الأَمَةِ إذا قال: هيَ عَلَيَّ حَرامٌ كَما ورد ذلك في مارية.
قلتُ: ذهبَ الشافعيِّ إلى أنَّه إن نوى عتقَها، عتقَتْ، وإن نوى تحريمَ عينها، لزمَهُ كفارَةُ يمينٍ، وإن لم ينوِ شيئًا، وجب كفارَةُ يمينٍ، على الصَّحيح (2).
وقال مالك: هذا في الأَمَةِ لَغْوٌ لا يترتَّبُ عليه شيءٌ (3).
وفي هذا ضَعْفٌ لإخراجِهِ السَّبَبَ عن الحُكْمِ، إلَّا أن يكونَ مذهبُه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم آلى كما قالَهُ بَعْضُ مَنْ قَدَّمْتُ ذكرَهُ.
وقالَ عامَّةُ أهلِ العلمِ: عليه كفارةُ يمينٍ بنفسِ التحريمِ؛ لظاهرِ القرآنِ (4).
ولكن قالَ أبو حنيفةَ: يحرُمُ عليهِ ما حَرَّمَهُ من أَمَةِ وطعامٍ وغيرِهِ، ولا شيءَ عليه حَتَّى يتناوله، فيلزمُهُ حينئذٍ كفارةُ يمينِ (5).
وذهبَ مالكٌ والشافعيُّ والجُمهورُ إلى أنَّه لَغْوٌ في غيرِ الزَّوجةِ
(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 18)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 58).
(2)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 183)، و "شرح مسلم" للنووي (10/ 74).
(3)
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (4/ 190)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (17/ 275).
(4)
انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 11)، و "شرح مسلم" للنووي (10/ 74).
(5)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (2/ 302).
والأَمَةِ (1)، والدليلُ عليه ما رُوي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بأبي إسرائيل وهو قائِمٌ في الشَّمسِ، فسألَ عنهُ، فقالوا: هذا أبو إسرائيلَ نذرَ أن يقومَ ولا يقعدَ، ولا يستظِلَّ ولا يتكلَّمَ، ويصومَ ولا يفطر، فقال:"مُروهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، ولْيَسْتَظِلَّ، ولْيَقْعُدْ، ولْيُتِمَّ صَوْمَهُ"(2)، ولم يأمرْهُ بكَفَّارَةٍ.
* * *
(1) انظر: "الأم" للإمام الشَّافعي (5/ 262)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/ 265)، و "حاشية الدسوقي"(2/ 135).
(2)
رواه البُخاريّ (6326)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: النذر فيما لا يملك، وفي معصية، عن ابن عباس.