المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌سُوْرَةُ الحَجِّ

- ‌(من أحكام البيت الحرام)

- ‌(من أحكام الحج)

- ‌سُوْرَةُ النُّورِ

- ‌(من أحكام الحدود)

- ‌(من أحكام السلام والاستئذان)

- ‌(من أحكام النظر)

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌(من أحكام الاستئذان)

- ‌سُورَةُ القَصَصِ

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌سُورَةُ الأَحْزَابِ

- ‌(من أحكام المواريث والولاية)

- ‌(من أحكام الطلاق)

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌(من أحكام الاستئذان)

- ‌(من أحكام الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(من أحكام اللباس)

- ‌سُورَةُ ص

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌سُورَةُ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌سُورَةُ الفَتْحِ

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌سورة الحجرات

- ‌(من أحكام الأضحية)

- ‌(من أحكام الردة)

- ‌(من أحكام الشهادات)

- ‌(من أحكام البغاة)

- ‌(آداب وفضائل)

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌سورة النجم

- ‌(من أحكام النيابة في العبادات)

- ‌سورة الواقعة

- ‌(من أحكام مس المصحف)

- ‌سورة المجادلة

- ‌(من أحكام الظهار)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌سورة الحشر

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌سورة الممتحنة

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الطلاق)

- ‌سورة الجمعة

- ‌(من أحكام صلاة الجمعة)

- ‌سورة الطلاق

- ‌(من أحكام الطلاق)

- ‌سورة التحريم

- ‌(من أحكام الأيمان)

- ‌سورة المزمل

- ‌(من أحكام قيام الليل)

- ‌تراجم الأعيان في تيسير البيان

الفصل: ‌(من أحكام الجهاد)

(من أحكام الجهاد)

246 -

(1) قوله عز وجل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5].

* روى البخاريّ في "صحيحه" عن ابنِ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حرقَ نخلَ بني النضير، وقطع، وهي البُوَيْرَةُ، فأنزلَ اللهُ عز وجل:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} (1)[الحشر: 5].

فأخذ بالآيةِ في قطعِ الأشجار، وبما قبلَها في تَحْريقِ البيوت مالكٌ والشافعيُّ (2)؛ لبيانِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذلك بفِعْلِه.

وثبتَ عن أبي بكرٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه -: أنه قال: لا تقطعن شجراً ولا تخربن عامرًا (3).

فذهبَ الليثُ بنُ سعدٍ، وأبو ثورٍ، وكذا الأوزاعيّ إلى منع ذلك (4)، وقال: أبو بكرٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه - كانَ أعلمَ بتأويلِ هذهِ الآيةِ،

(1) رواه البخاري (3807)، كتاب: المغازي، باب: حديث بني النضير، ومسلم (1746)، كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها.

(2)

انظر: "المدونة الكبرى"(3/ 8)، و"الأم" للإمام الشافعي (4/ 257).

(3)

رواه الإِمام مالك في "الموطأ"(2/ 447)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(33121).

(4)

انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 234)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 50).

ص: 213

وقد نَهى عن ذلك، وعملَ بهِ أئمةُ المسلمين.

قال الشافعي: لعل أمرَ أبي بكرِ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه - إنما هو لأنهُ سمعَ النبي صلى الله عليه وسلم يُخْبرُ أَنَّ بلادَ الشامِ تفُتح على المسلمينَ، فلما كانَ مُباحًا له أن يقطع ويَترك، أجازَ التركَ نَظَرًا للمسلمين بالأصلحِ (1)، وقد قطعَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ بني النَّضير، فلما أشرع (2) في النخلِ قيل له: قدْ وعدَكَها اللهُ تَعالى، فلو استبقَيْتَها لنفسك (3)، فكف القطعَ استبقاءَ، لا أن القطعَ مُحرم، وقد قطعَ بِخَيْبَرِ، ثم قطعَ بالطائفِ.

ثم قال: قال أبو يوسفُ: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، عن يزيدَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ قسيطِ قال: لما بعثَ أبو بكرِ خالدَ بنَ الوليدِ إلى طُلَيْحَةَ وبَني تميمٍ، قالَ لهُ: وأَيُّما دارٍ غَشيتها، فَأمسِكْ عنها إنْ سمعْتَ أذانًا حتى تسأَلهُم ما يريدون، وما ينقمون، وأَيُّما دارٍ غَشيتَها فلم تسمعْ فيها أَذانا، فَشُنَّ عليها الغارةَ، واقتلْ، واحرق.

قالَ أبو يوسف: ولا نرى أن أبا بكرِ نَهى عن ذلك بالشامِ إلَّا لعلمِه بأنَّ المسلمينَ سَيَظْهرون عليها، ويبقى ذلكَ لهمْ (4).

وهذا التأويلُ الذي ذكرَهُ الشافعي وأبو يوسفَ متعين، فقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"زُوِيَتْ لِيَ الأَرْضُ، فَرَأَيْتُ مَشارِقَ الأَرْضِ ومَغارِبَها، وسَيَبْلُغُ مُلْكُ أمَّتي ما زُوِيَ لِي مِنْها"(5).

(1)"بالأصلح" ليس في "ب".

(2)

في "ب": "أسرع".

(3)

"لنفسك""ليس في "أ".

(4)

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (7/ 356) وما بعدها، و"السنن الكبرى" للبيهقي (9/ 85).

(5)

رواه أبو داود (4252)، كتاب: الفتن والملاحم، باب: ذكر الفتن ودلائلها، =

ص: 214

247 -

(2) قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7].

* نزلتْ هذه السورةُ والآياتُ في بني النَّضيرِ حينَ أجلاهُم (1) رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

خَرَّجَ البخاريُّ في "صحيحه" عن سعيدِ بنِ جبيرٍ قال: قلتُ لابن عباسٍ: سورةُ الحَشْرِ، قال: لا، بل سُورةُ النَّضيرِ (2).

وخَرَّجَ عن الزُّهْرِيِّ عن عروةَ: كانَتْ على رأس ستةِ أشهُرٍ من وقعةِ بدرٍ قبلَ أُحُدٍ، ثم قالَ: جعلَه ابنُ إسحاقَ بعدَ بئرِ معونةَ (3).

وقد قدمتُ في "سورةِ الأنفالِ" اختلافَ الناسِ في الغنيمةِ، وأنَّ منهم مَنْ زعمَ أن الفيءَ والغنيمةَ سَواءٌ، وبه قالَ قتادَةُ، حتى زعمَ أن هذهِ الآيةَ ناسخةٌ لآية الأنفالِ والذي عليهِ عامَّةُ أهلِ العلمِ أن الآيتينِ مُحْكمتان، وأن الفيءَ غيرُ الغَنيمة، فالفيءُ ما أصابَه المسلمون بغيرِ قِتال؛ كما إليهِ الإشارةُ بقوله تعالى:{فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6].

وهو ينقسمُ إلى ضربين:

= والترمذي (2176)، كتاب: الفتن، باب: ما جاء في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا في أمته، وابن ماجه (3952)، كتاب: الفتن، باب: ما يكون من الفتن، وابن حبان في "صحيحه"(6714)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(8397)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(1113)، عن ثوبان.

(1)

في "أ": "جلاهم".

(2)

رواه البخاري (5/ 38)، كتاب: المغازي، باب: حديث بني النضير.

(3)

ذكره البخاري في "صحيحه"(4/ 1478) تعليقاً بصيغة الجزم.

ص: 215

الضربُ الأول: ما تركهُ المشركون خَوْفًا من المسلمين؛ كما فعلَ بنو النضير، فهذا كانَ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في حياتِه.

روينا في "صحيح البخاري" عن مالكِ بنِ أوسِ بنِ الحدثانِ: أن عمرَ بنَ الخَطَّابِ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - دعاه إذ جاءه حاجبه يرفأ، فقال: هل لكَ في عُثمانَ، وعبدِ الرحمنِ، والزبيرِ، وسعدٍ يستأذنون؟ قال: نعم، فأدخلهم، فلبثَ قليلاً، ثم جاءَ فقالَ: هل لكَ في عَبّاسٍ وعَلِيٍّ يستأذنان؟ قال: نعم، فلما دخلا، قال عباس: يا أميرَ المؤمنين! اقْضِ بيني وبينَ هذا، وهما يَخْتَصمان في التي أفاءَ اللهُ على رسولهِ من بني النضيرِ، فاسْتَبَّ عليٌّ وعباسٌ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما -، فقالَ الرهطُ: يا أميرَ المؤمنين! اقضِ بينَهما، وأَرِحْ أحدَهُما من الآخَرِ، فقالَ عمرُ: اتئدوا، وأَنْشُدُكُمْ (1) بالذي بِإذْنِه تقومُ السماواتُ، هل تعلمونَ أَن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:"لا نُورثُ ما تركنا صدقة" يريدُ بذلكَ نفسَه؟ قالوا: قدْ قال ذلكَ، فأقبلَ عمرُ على عليٍّ وعباسٍ، فقال: أنشدكم بالله هل تعلمانِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك؟ قالا: نعم، قال: فإني أحدثُكم عن هذا الأمرِ، إنَّ اللهَ كانَ خَصَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيءِ بشيءٍ لم يعطِهِ أحدًا غيرَه، فقال:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} إلى قوله: {قَدِيرٌ} [الحشر: 6] ، فكانت هذهِ خالصةً لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، واللهِ ما اختارَها دونَكُم، ولا استأثَرَ بِها عليكم، لقدْ أعطاكُموها، وقَسَمَها فيكم حتى بقيَ هذا المالُ منها، فكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ينفقُ على أهلهِ نفقةَ سنتهِ من هذا المالِ، ثم يأخذُ ما بقي فيجعلُه مَجْعَلَ مالِ اللهِ، فعملَ بذلكَ عليهِ في حياتهِ، ثم تُوُفِّيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكرٍ: فأنا وليُّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقبضَه أبو بكرٍ فعملَ بهِ بما عَمِل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأنتم حينئذ، وأقبل على علي وعباسٍ:

(1) في "ب": "أنشدكما".

ص: 216

تذكران أنَّ أبا بكرٍ عمل فيه كما تقولان، واللهُ أعلمُ إنه فيه لَصادقٌ بارٌّ راشدٌ تابعٌ للحَقِّ، ثم تَوَفَّى اللهُ أبا بكر، فقلتُ: أنا وليُّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ، فَقَبَضْته سنتين من إمارتي، أعملُ فيه بما عملَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، واللهُ يعلم إني فيه لَصادقٌ بارٌّ راشدٌ تابع، ثم جِئْتُماني كلاكُما، وكلمتكُما واحدةٌ، وأمركما جميعًا، فجئتني -يعني عباسًا- فقلت لكما: إن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورثُ ما تركناهُ صدقةٌ"، فلما بدا لي أنْ أدفعَه إليكما، قلتُ: إن شئْتَ دفعتُه إليكُما على أنَّ عليكُما عهدَ الله وميثاقَه لتعملانِ فيه بما عملَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ، وما عملتُ فيه منذ وليتُ، وإلَّا فَلا تُكَلِّماني، فقلتما: ادفعْه إلينا بذلكَ، فدفعتُه إليكما، أفَتَلْتَمِسانِ مني قضاءً غيرَ ذلكَ؟ فواللهِ الذي بإذنهِ تقومُ السماواتُ والأرضُ لا أقضي فيهِ بقضاءٍ غيرِ ذلكَ حتى تقومَ الساعَةُ، فإن عَجَزْتُما عَنْه، فادفعاه إليَّ؛ فإني أكفيكُماه (1).

فإنْ قلتَ: فهل يدلُّ القرآنُ على أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يملكُ كلَّ الفيءِ، أو يملكُ أربعةَ أخماسِهِ وخُمُسَ خُمُسِهِ، أو يملكُ خُمُسَهُ فقطْ، وأربعةُ أخماسِه لمن سَمّى اللهُ تعالى من ذَوي القربى واليتامى والمساكينِ وابنِ السبيل؟

قلت: أما الاحتمالُ الثالثُ، فلم يقلْ به أحدٌ علمتُه، وإن كانَ لفظُ القرآن يحتملُه (2).

(1) رواه البخاري (2927)، كتاب: الخمس، باب: فرض الخمس، ومسلم (1757)، كتاب: الجهاد والسير، باب: حكم الفيء.

(2)

عزاه الماوردي في "الحاوي الكبير"(8/ 389) إلى الإِمام مالك، لكن نص الإِمام مالك كما في "المدونة الكبرى"(3/ 26) أن الفيء والخمس سواء يجعلان في بيت المال.

ص: 217

وأما الاحتمالُ الثاني، فذهبَ أبو عبدِ اللهِ الشافعي إلى أنه صلى الله عليه وسلم لا يملكُ إلَّا بعضَ الفيءِ، فلهُ أربعةُ أخماسِه وخُمُسُ خُمُسِهِ، والباقي لمن سماه الله تعالى فقط (1).

والغنيمةُ والفيءُ يجتمعان في أَنَّ فيهما الخُمُسَ في جميعِهما لمنْ سماهُ اللهُ تعالى له في الآيتين معًا، ثم يفترق الحكمُ في الأربعةِ الأخماس كما (2) بيَّنَ اللهُ تعالى على لسانِ نبيهِ صلى الله عليه وسلم، وفي فعله؛ فإنه قَسَمَ أربعةَ أخماسِ الغنيمةِ، والغنيمةُ هي المُوجَفَ عليهِ بالخيلِ والرِّكاب لِمَنْ حَضَرَ مِنْ غَنِيٍّ وفقيرٍ، والفيءُ هو ما لم يُوجَفْ عليه بخيلٍ ولا رِكابٍ، فكانَتْ سنةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في القُرى التي أفاءَ اللهُ عليه أَنَّ أربعةَ أَخْماسها لرسولِ اللهِ دَونَ المسلمينَ، يضعُها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حيثُ أرادَ اللهُ عز وجل (3).

وهذا التقسيمُ لا يدلُّ عليهِ لفظُ القرآن، وإنما أخذَهُ الشافعي استدلالاً منَ الغنيمةِ، والذي يدلُّ عليه القرآنُ والسنةُ والاستنباطُ، وقالَ بهِ عامَّةُ أهلِ العلمِ أنه صلى الله عليه وسلم كان يملكُ الكُل (4).

فإن قلت: ما وجهُ الدليلِ من الكِتاب والسنةِ؟

قلتُ: أما دلالةُ الكِتاب، فإن الله سبحانَه مَنَّ بهِ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وجعلَهُ من فَيْئه عليه، لا من فَيْءِ أحدٍ منَ المقاتلين، بل جعلهُ اللهُ مما أخذَهُ بتسلُّطِه عليهم كما يتسلط الغانمون على عَدُوِّهم، فقالَ تبارك وتعالى:

(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (20/ 70).

(2)

في "أ": "بما".

(3)

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (4/ 139)، و "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (5/ 111).

(4)

انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 389)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 295).

ص: 218

{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6].

فإن قلتَ: فقد خصَّ اللهُ سبحانه ذوَي القُرْبى واليتامى والمساكينَ وابنَ السبيل بالذكْرِ، وأشرَكَهُمْ معهُ، وأضافَهُ إليهم بِلام التمليكِ في الآية التي تليها.

قلت: الإضافةُ إليهم معناه بيانُ المَصْرِف، لا حقيقةُ التمليكِ والتشريكِ، وإنما خَصَّهم اللهُ بالذكرِ ليقطعَ طمعَ المقاتِلين.

ألمْ تَرَ إلى كيفيةِ صدورِ الخِطابِ معهم كيفَ قالَ اللهُ تبارك وتعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6].

ثم أعلمهم بعدَ أَنْ مَنَّ بها عليهِ صلى الله عليه وسلم بوجوهِ البِرّ والإنفاقِ التي كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يفعلُها، فقال:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7].

ثم بيَّنَ وجهَ العِفَةِ في حِرْمانِهم، وأَنهم ليس لهم في الفيءِ نصيبٌ؛ لئلاّ يملكوه ويتداولوه بينهم، فقال تَعالى:{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7].

ثم أمرهُم بطاعتِه؛ لأن طاعته من طاعتِه صلى الله عليه وسلم، فقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

ثم بيَّنَ القومَ المستحقينَ، وأنهم فقراءُ المهاجرينَ والأَنْصار، والذينَ مِنْ بعدِهم، فقالَ تعالى:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} الآيات إلى قوله: {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 8 - 10].

وكل هذا يدلُّ دلالةً صريحةً على أن الفيءَ ليسَ كالغنيمةِ.

ص: 219

وأما دلالةُ السنَّةِ فواضحةٌ من قولِ عمرَ وقَضائه الذي قَضى به، وقضى به أبو بكرٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما- فجعلَه خاصًّا برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وجعلَهُ مالًا تَرَكَهُ وخَلَّفَهُ، وإنما احتج عليهم بكونهِ لا يورَثُ، وقال: إن الله تَعالى خَصهُ في هذا الفيء بشيءٍ لم يعطِه أحدًا غيرَه، واستدل بالآيةِ الأَوى كما استدلَلْتُ بها، وقال: كانَتْ (1) خالصةً لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم (2)، ولم يقلْ علِيٌّ وعباسٌ ولا أحدٌ من الصحابةِ الذين حَضَروا، وهم من عُلماء أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تكنْ خالصةً لهُ، بل ذوو قرابته واليتامى والمساكينُ مشاركونَ لهُ، ولو علمَ العباسُ وعَلِيٌّ لهم معه قسمًا ونصيبًا، لذكروه.

وأمّا الاستنباطُ، فالذي يحيطُ بهِ العلمُ والنظرُ أنه لو كانَ أحدٌ مِمَّنْ سَمّاه الله سبحانه مُشاركاً لهُ، لكانَ لِذوي قرابته سَهْمٌ من خمسةٍ وعشرينَ سَهْماً يأخذونه من المالِ الذي كان بَيدِه وتركَه من مالِ الفيء صلى الله عليه وسلم يأخذونه مُلْكاً لا إرْثاً، واليتامى كذلك، وللمساكينِ وابنِ السبيل كذلك، ولم يقلْ بهذا قائلٌ، ولم يُعْرَفْ له أصلٌ.

وأيضًا لو كانَ أحدٌ مشاركاً، لهُ لما فُضلَ سهمُ سبيلِ الله على غيرِه من السِّهام، ويدل على التفضيلِ قولُ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه -: وكانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ينفقُ منها على عِياله نفقَةَ سنتِه، وما فَضَلَ جعلَه في الكُراع والسِّلاحِ عُدَّةً في سبيل الله، وفي لفظٍ آخرَ: ثم يأخذُ ما بقيَ فيجعلُه مَجْعَلَ مالِ الله (3).

(1) في "ب": "فكانت".

(2)

تقدم تخريجه من قول عمر في قضية العباس وعلي رضي الله عنهم لما طلبا عمر بما كان في يد النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

رواه النسائي (4140)، كتاب: قسم الفيء، في أوله، والإمام الشافعي في "مسنده"(322)، والإمام أحمد في "مسنده"(1/ 48)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(32979)، وابن حبان في "صحيحه"(6357)، وابن الجارود في =

ص: 220

وقد تبيَّنَ بهذا أن ما قلناهُ هو الحَقُّ، وقضى به الشيخانِ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-، ولم يخالفْهما أحدٌ من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وما قاله الشافِعِيُّ فغفلة من عالِمٍ، وقد أنكرَ أبو بكرِ بنُ المنذرِ على الشافعيِّ مقالَتهُ، قال: ولا نعلمُ أَحَداً قبلَ الشافعيِّ قالَ بالخمسِ في الفيء (1).

الضرب الثاني من الفيء: ما أخِذَ من الكُفّارِ من غيرِ حربٍ، كالجِزْيةِ وعُشورِ تِجاراتهم:

فقالَ الجُمهورُ: هو كالضَّرْبِ الأولِ (2).

وقالَ الشافعيُّ في الجديدِ: يُخَمَّسُ كالغنيمة.

وقالَ في القديم: يقسَمُ الجميعُ على خَمْسَةِ أَسْهُمٍ (3).

فإن قلتَ: فقد حكيتَ عن مجاهدٍ أن الغنيمةَ تختصُّ بالأموالِ المنقولةِ، وأن الفَيْءَ يختصُّ بالأَرَضين، وإن أُخِذَتْ قَسْراً؛ لأن الله سبحانَهُ ذكر الفَيْءَ في القُرى، وذكرَ الغنيمةَ مُطْلَقا، ووعدْتَ بالكلام معه (4).

قلت: لا حُجَّةَ له فيما ذَكَرَ، بلِ الحُجَّةُ في فِعْلِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبتَ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قسمَ خَيْبَرَ بينَ الغانِمين، ولم يجعلْها فيئًا (5)، وبهذا أخذَ الشافعيُّ (6).

= "المنتقى"(1097)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 295).

(1)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (12/ 69).

(2)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 400)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 297)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 2).

(3)

انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 442)، و"روضة الطالبين" للنووي (6/ 354).

(4)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 400).

(5)

تقدم تخريج حديث قسم غنائم خيبر.

(6)

انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 406).

ص: 221

وذهبَ مالكٌ إلى أنَّ الأرضَ لم تُخَمَّسْ، بل تكونُ كما فعلَ عمرُ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - في أرضِ السَّوادِ (1)، وللإمام أن يَمُنَّ بها على أهلِها كَما فعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في أهلِ مَكَة (2).

والجوابُ ما قدمتُه في "سورة الحَجِّ"، وأن المختارَ ما ذهبَ إليه الشافعيُّ أنها فُتِحَتْ صُلْحاً، فلم تغنَمْ.

فإن قلتَ: فقد جعلَ عمرُ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - أرضَ السَّوادِ بين المسلمين، ولعل مصرفَ الأرضِ إلى اجتهادِ الإمامِ، فإمّا أن يقسِمَها، وإما أن يجعلَها فيئًا كما ذهبَ إليهِ أبو حنيفة (3).

قلنا: قال الشافعي -رحمَهُ اللهُ تعالى-: لا أعرفُ ما أقولُ في أرضِ السوادِ إلا ظَنًّا مقروناً إلى علم، وذلك أني وجدتُ أصحَّ حديثٍ يرويه الكوفيونَ عندَهم في السَّوادِ ليسَ فيه بيان، ووجدْتُ أحاديثَ من مُحَدّثيهم تخالِفُه (4)، منْها أنهم يقولون: السوادُ صُلْحٌ، ويقولون: السوادُ عَنْوَةٌ، ويقولون: إن بعضَ السوادِ صلحٌ، وبعضه عَنْوَةٌ، ويقولون: إن حديثَ جريرٍ البَجَلِيِّ وهو أثبتُ حديثٍ عندهم: أخبرنا الثقةُ، عن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ، عن قيسِ بنِ أبي حازمٍ، عن جريرِ بنِ عبدِ اللهِ قال: كانت بَجيلَةُ ربعَ الناسِ، فقسمَ لهم ربعَ السوادِ، فاستغلوه ثلاثًا أو أربعَ سنين -أنا شككْتُ- ثم قدمتُ على عمرَ بنِ الخطابِ، ومعي فلانةُ بنتُ فُلانٍ منهم -وسماها- لا يحضرُني ذكرُ اسمِها الآنَ، فقالَ عمرُ بنُ الخطابِ: لولا أني

(1) انظر: "المدونة الكبرى"(3/ 26)، و "التمهيد" لابن عبد البر (6/ 459).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (3/ 246)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 293).

(4)

في "ب": "مخالفة".

ص: 222

قاسِمٌ، لتركتكم على ما قُسِمَ لكمْ، ولكنّي أرى أن تَرُدُّوا على الناس.

قال: وكان في حديثه: فأعاضني من حَقِّي نَيِّفًا وثمانين دينارًا.

وكانَ في حديثه: فقالتْ فلانةُ: شهدَ أبي القادسيةَ، وثبتَ سهمُه، ولا أُسلّمه حتى يُعْطِيَني كذا، ويعطيني كذا، فأعطاها إياه.

قال الشافعيُّ: وفي الحديثِ دَلَالةٌ إذْ أعطى جَريرًا عِوَضاً عن سَهْمِه، والمرأةَ عِوَضاً عن سهمِ أبيها أنه استطابَ أَنْفُسَ الباقين، وهذا حلالٌ للإمامِ إذا افتتحَ القومُ أرضا عَنْوَةً، فأحصى من افْتَتَحَها، فطابوا أَنْفُساً عنْ حقوقِهم مِنْها، أن يجعَلَها الإمامُ وَقْفًا، وحقوقُهم منها الأربعةُ الأخماسِ، ويوفي أهلَ الخُمُسِ حَقَّهم (1)، إلَّا أن يدعَ البالغونَ منهم حقوقَهم، فيكونَ ذلك لهمْ، والحكمُ في الأرضِ كالحُكْم في المالِ.

قال: وهذا أولى الأمورِ بعمرَ بنِ الخطابِ -رضي الله تعالى عنه- عندنا في السَّواد وفُتوحِه، وإنما منعَنا أن نجعلَهُ يَقيناً بالدَّلالة؛ لأن الخبر الذي فيه متناقضٌ، واللهُ أعلمُ (2).

* * *

(1) في "ب": "حقوقهم".

(2)

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (4/ 279 - 280)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (9/ 133).

ص: 223