الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام قيام الليل)
263 -
262 (1 - 4) قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 1 - 4].
* أمر اللهُ عز وجل نبيَّه مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم بقيامِ الليلِ إلَّا قليلاً منهُ، ثم بَيَّنَ القَدْرَ المأمورَ بهِ الذي اسْتبهَمَ لدخولِ الاستثناءِ، فقال:{نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 3 - 4] فيكونُ المأمورُ به إما النِّصْفُّ، أو الثلثُ، أو الثُّلُثانِ، على وَجْهِ التخيير لَه صلى الله عليه وسلم.
فإن قلتَ: فهل المُبَيَّنُ المستثنى أو المستثنى منه؟
قلت: الحكمُ واحدٌ، سواءٌ جعلْنا التبيينَ للمستثنى منه، أو للمستثنى؛ للتلازمِ الذي بين المستثنى والمستثنى منه، ولكنه لا يجوز صرف البدلِ والبيانِ إلَّا إلى المستثنى منه؛ لأنَّه الفعل المأمورُ بهِ، وقد أمرَ اللهُ سبحانَهُ بالزيادةِ عليه، والنُّقصانِ منه، وأمَّا المستثنى، فإنه تركُ القيامِ، والتركُ ليسَ بمأمورٍ به؛ بدليل قوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل: 20].
وهذا الأمرُ كانَ في صَدْرِ الإسلام، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه يقومون الليلَ حتَّى انتفخَتْ أقدامُهُم (1).
(1) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (4/ 326)، و "زاد المسير" لابن الجوزي (8/ 388)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (19/ 35).
* والمتعلِّقُ بهذهِ الأُمَّةِ من الأحكامِ خمسةٌ:
الأول: الأمرُ هل هو للوُجوبِ أو الندبِ؟
ذهبَ أكثرُ أهلِ العلمِ أو عامَّتُهم إلى أنهُ للوجوبِ والحَتْمِ.
وقالَ مَنْ لا يُعْتَدُّ بقوله: إنه للندب.
وهو باطلٌ لا دليلَ عليه، بل الدليل واجبٌ على أنَّه للوجوبِ، وهو قولُه تعالى:{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، ولا تكونُ التوبةُ والتخفيفُ إلَّا مِنْ واجِبٍ (1).
الحكم الثَّاني: هل هذا الحكمُ خاصٌّ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو شاملٌ لأمتَّهِ معه؟
فذهب أكثرُهُم أو عامَّتُهم إلى دخولِ أمتهِ في هذا الخِطاب (2)؛ بدليل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل: 20]، وبدليل قوله تعالى:{عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20].
وذهبَ مَنْ لا يُعْتَدُّ بقولهِ إلى خُروج أُمَّتِهِ منْ هذا الخِطاب (3)، وهو باطلٌ، لِما ذكرتُه.
(1) انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 751)، و "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 387)، و "التفسير الكبير" للرازي (30/ 152).
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(29/ 131)، و "شرح مشكل الآثار" للطحاوي (1/ 430)، و "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 751)، و "روضة الناظر" لابن قدامة (ص: 208).
(3)
انظر: "اللمع في أصول الفقه" للشيرازي (ص: 22)، و "الإحكام" للآمدي (2/ 279).
الحكم الثالث: أجمعَ أهلُ العلم على أنَّ هذا الحكمَ منسوخٌ (1) في حَقِّ أُمَّتِهِ صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20].
قال ابنُ عباسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما:- كانَ بينَ أَوَّلِ المُزَّمِّلِ وآخرِها قريبٌ من سنَةٍ (2).
ثمّ يحتملُ أن يكونَ الناسخُ الذي أُمروا به، وهو ما تيَسَّرَ من القرآنِ أن يكونَ حَتْماً لازِماً.
ويحتملُ أن يكون نَدْباً، ويكون هذا مِمَّا نسخَ الوجوبُ فيهِ بالندب (3).
فإن كانَ نَدْباً، فقد أجمعتِ الأُمَّةُ على [استحبابِ التهجدِ بالليلِ لكلِّ أحدٍ من الأمَّةِ، وإن كان حتماً -وهو الظاهرُ- فقد أجمعتِ الأُمَّةُ على](4) أنَّه لا يجبُ على أحدٍ من الأمةِ قيامُ شيءٍ من اللَّيل؛ لما روى طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ الله -رضيَ الله تعالى عنه- قال: جاءَ أعرابيٌّ من أهلِ نجدٍ ثائرَ الرأسَ يُسْمَعُ دَوِيُّ صوته ولا نَفْقَهُ ما يقولُ حتَّى دَنا من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسألُ عن الإِسلام، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"خَمْسُ صَلَواتٍ في اليومِ واللَّيلَةِ"، قال: هلْ
(1) انظر: "الناسخ والمنسوخ"(ص: 50)، و "الناسخ والمنسوخ" للزهري (ص: 34)، و "المصفى بأكف أهل الرسوخ" (ص: 58)، و "ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه" (ص: 55)، و "قلائد المرجان" (ص: 173).
(2)
رواه أبو داود (1305)، كتاب: الصَّلاة، باب: نسخ قيام الليل، وابن أبي شيبة في "المصنف"(35942)، والطبراني في "المعجم الكبير"(12877)، والحاكم في "المستدرك"(3864)، والبيهقيّ في "السنن الكبرى"(2/ 500)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(440).
(3)
في "أ": "الندب".
(4)
ما بين معكوفتين ليس في "أ".
على غيرُها؟ قال: "لا، إلَّا أن تَطَوَّعَ"(1)، خَرَّجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ.
ثم هذا الحكمُ منسوخٌ بغيرهِ كما نُسِخَ بهِ غيرُه، وعلى هذا أكثرُ النَّاسِ (2)؛ بدليل الإجماعِ على أنَّه لا يجبُ أكثرُ من خَمْسِ صلواتٍ، وبدليلِ حديثِ طلحةَ بنِ عبيدِ اللهِ.
قال الشافعيُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-: ويقال: نُسِخَ ما في المُزَّمِّلِ بقولهِ عز وجل: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 78 - 79] فأعلمَه أنَّ صلاةَ الليلِ نافلة لا فريضة، وأن الفرائضَ فيما ذكرَ من ليلٍ أو نهارٍ (3).
الحكم الرابع: دخولُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم معَ أُمَّتِهِ في النَّسخِ لقيامِ الليلِ.
اختلفَ فيه أهلُ العلمِ: فالصحيحُ عندَ الشافعيةِ أنَّ الوجوبَ منسوخ في حَقِّه (4).
وذهبتِ المالكيةُ إلى بقاءِ الوجوبِ عليه (5) صلى الله عليه وسلم (6)، قال ابنُ عباس -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما-:{نَافِلَةً لَكَ} معناهُ: فرضٌ عليكَ خاصَّةً (7).
(1) رواه البُخاريّ (46)، كتاب: الإيمان، باب: الزكاة من الإسلام، ومسلم (11)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام.
(2)
انظر: "الرسالة" للإمام الشافعي (ص: 115)، و "الفصول في الأصول" للجصاص (2/ 281).
(3)
انظر: "الأم" للإمام الشَّافعي (1/ 68)، و "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 358).
(4)
انظر: "الأم" للإمام الشَّافعي (1/ 68)، و "تفسير الثعلبي"(6/ 123).
(5)
في "ب": "في حقه" بدل "عليه".
(6)
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (3/ 213)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (19/ 55).
(7)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 39). وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 323).
الحكم الخامس: أمرَ اللهُ سبحانَه بترتيلِ القرآنِ، وهو أن يُبيِّنَ القارىُء القرآنَ، ويتبعَ بعضَه بَعْضاً في تُؤَدَةٍ؛ بحيثُ يكونُ مُصَحّحاً للحروفِ، مُقيماً لَها بإخراجها من مَخارِجِها، فلا يجوزُ للقارئِ أن يتركَ هذا الترتيلَ، فيدرجَ بعضَ كلماتِه أو بعضَ حروفِه في بعضٍ، فبالترتيل يتفقَّهُ القارئُ، ويفهمُ مرُادَ الله عز وجل (1).
قالَ أبو الدَّرْداءِ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه-: إياكم والهَذَّاذين الذين يَهُذُّون القرآنَ، ويُسرعون بقراءته؛ فإنَّما مثلهُ كمثلِ الأَجَمَةِ (2) التي لا أَمْسَكَتْ ماءً، ولا أنبتَتْ كَلاً (3).
وعن إبراهيمَ، عن (4) علقمة قال: قال ابنُ مسعودٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه-: لا تنثُروهُ نثرَ الدَّقَل (5)، ولا تَهُذوهُ هَذَّ الشِّعْر، قِفوا عندَ عجائِبِه، وحَرِّكوا بهِ القُلوبَ، ولا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورة (6).
* * *
وهذا ما يَسَّرَ اللهُ الكريُم تعليقَه من آياتِ الأحكامِ، وإنْ كانَ قدْ بقيَ في القرآنِ المجيدِ آياتٌ كثيرة تتعلَّقُ بالأَحْكام تركْتُ الكلامَ عليها طَلَباً للاختصار، وذلكَ إمَّا لاندراجِها في أحكامِ الناسِخِ، أو في أحكامِ المنسوخ،
(1) انظر: "تفسير الطبري"(29/ 127)، و "أحكام القرآن" لابن العربي (4/ 327).
(2)
الأجمة: الشجر الملتف، والجمع أجم وآجام.
"المُغرب"(1/ 30).
(3)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(2651). عن نصر بن علقمة الحضرمي.
(4)
في "ب": "بن" وهو خطأ.
(5)
الدّقَل: هو رديء التمر ويابسه، وما ليس له اسم خاص، فتراه ليُبسه ورداءته لا يجتمع ويكون منثوراً. "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 127).
(6)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(2/ 256)، والبيهقيّ في "شعب الإيمان"(2041).
أو لذكرِ أحكامِها في غيرِها، أو لغيرِ ذلكَ.
والحمدُ للهِ الذي هدَانا لهذا، وما كُنا لنهتَدِيَ لولا أن هدانا الله.
وأسألُ اللهَ الكريمَ البَرِّ الرحيمَ أن ينفعَني بهِ والمسلمينَ في الآخِرَةِ والأولى، ويجعلَه سببًا وزُلْفى إليهِ ربِّ العالمين، إنه كريمٌ وَهَّابٌ، والحمدُ للهِ رَبِّ العالمين.
وكانَ الفراغُ من تعليقهِ صبيحةَ يومِ الثلاثاءِ لخمسٍ بَقِيْنَ من شَهْرٍ جُمادى الأولى سنةَ ثمانٍ وثماني مئةٍ، وأرجو من فضلِ اللهِ الكريمِ وتمامِ نعمتِه أن يُيَسِّرَ لي وضعَ الكِتاب الذي أَهُمُّ بهِ في "أحكامِ القرآنِ المجيدِ المتعلقةِ بأصولِ الدِّياناتِ، وصَحيحِ الاعتقاداتِ" بطريقٍ قَدْ دَرَسَتْ، وآثارٍ قد طُمِسَتْ، ألا وهيَ طريقُ السَّلَفِ الصالحِ، والأَئِمَّةِ الناصحينَ، الخاليةِ من أضاليلِ الضالين، وزخرفةِ المُبْتَدِعين.
ونسألك اللَّهُمَّ الهدايةَ والعِصْمَةَ وحُسْنَ الاتِّباعِ لكتابك، والاقتداءَ بسُنَّةِ رسولِكَ محمدٍ النَّبي الأميِّ (1)، اللهمَّ صَلِّ عليهِ وعلى آلَهِ كما صَلَّيْتَ عَلى إبْراهيمَ، وعَلى آلِ إبراهيمَ، إنَّكَ حَميدٌ مجيد، يا كريم.
* * *
(1) جاء في خاتمة النسخة الخطية المرموز لها بـ "ب": "تم الجزء الثَّاني من تيسير البيان
…
".
وجاء في الحاشية: "قال في هامش
…
وجملة آيات الأحكام على ما قيل خمس مائة آية
…
بعدد ما ذكره المصنف".
وجاء في خاتمة النسخة الخطية المرموز لها بـ "أ": "تمَّ لي تحصيلُه بفضل اللهِ ومَنِّهِ عَلَيَّ صُبْحَ الجُمُعَةِ، ولعلهُ ثالثَ عَشَرَ في شَهْرِ ذي القَعْدَة سنةَ (1157) وأنا العبدُ الفقيرُ المعترفُ بالتقصيرِ، أسيرُ ذنبِه القاسمُ بنُ الحُسَينِ الحَجِّيُّ بلداً، غفَر اللهُ لي ولإِخواني منَ المؤمنين، ومشايخي في الدِّينِ بحَقِّ محمدٍ وآلهِ صلى الله عليه وآله وسلم، وحَسْبِيَ اللهُ وكَفى، ونِعْمَ الوكيلُ، وَلا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ العَلِي العظيم".