الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام الظهار)
242 -
(1) قولُه عز وجل: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2].
* سببُ نزولِ هذهِ الآيةِ ما روينا أَنَّ أوسَ بنَ الصَّامِتِ ظاهَرَ منِ امرأتِه خَوْلَةَ بنتِ مالكِ بنِ ثَعْلَبةَ، قالت: فجئتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَشْكو إليه، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُجادِلُني فيه، ويقولُ:"اتَّقِ الله، فإنَّهُ ابْنُ عَمِّكِ"، فما برحْتُ حَتَّى نزلَ القرآنُ:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} (1)[المجادلة: 1].
قال الشافعيُّ - رحمَهُ اللهُ تَعالى-: سمعْتُ مَنْ أَرْضى منْ أهلِ العلمِ بالقُرآن يَذْكُرُ أَنَّ أهلَ الجاهليةِ كانوا (2) يُطَلقونَ بِثَلاثٍ: الظِّهارِ، والإيلاءِ، والطَّلاقِ، فأقرَّ اللهُ سبحانَه الطَّلاقَ طَلاقًا، وحَكَم في الإِيلاءِ أَنْ يُمْهَلَ المُؤْلي أربعةَ أَشْهُرٍ، ثم جَعَلَ عليهِ أن يَفيءَ، أو يطلقَ، وحَكَمَ في الظهارِ بالكَفَّارة.
(1) رواه أبو داود (2214)، كتاب: الطلاق، باب: في المظاهر، وإسحاق بن راهويه في "مسنده"(2208)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 391).
(2)
"كانوا" ليس في "ب".
فإذا تظاهرَ الرجلُ من امرأتِه يريدُ طَلاقَها، أو يريدُ تحريمَها بلا طَلاق، فلا يقعُ بهِ طلاقٌ بحالٍ، وهو مُظاهِرٌ (1).
* والظَّهارُ أن يقولَ لزوجته: أنتِ على كَظَهْرِ أُمِّي؛ كما ذكرَ اللهُ تَعالى، فيكونُ مشبَّهًا بالظَّهْر الذي هُوَ مَحَل الرُكوبِ، ويُشَبِّهونَ بهِ المرأةَ، كما أنَّ الزوجةَ موطوءة للزوج، فَكَنَّوا بالظّهارِ عَمَّا يُسْتَهْجَنُ ذِكْرُهُ، وأضافُوا الظَّهْرَ إلى الأُمِّ؛ لأَنَّها أُمُّ المُحَرماتِ.
* فأبطلَ اللهُ سبحانَهُ الظَّهارَ، وحَرَّمَهُ تَحْريمًا مُغَلظاً؛ لما فيهِ من المُنْكَرِ والزورِ والكذبِ.
* وعلى تحريمِ هذهِ الصفَةِ منَ الظَّهار أَجْمَعَ المسلمون (2).
* واختلفوا فيما إذا شبه امرأته بغيرِ ظَهْر أمَّهِ: فقالَ مالكٌ (3)، وكذا الشافعيُّ في أَظْهَرِ قولَيْه: هو ظِهار.
وقالَ في القول الآخرِ: لا يكونُ ظِهارًا (4).
وقال أبو حنيفةَ: يكون الظهارُ بكل عُضْو يحرُمُ النظرُ إليه (5).
(1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 277).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 301)، و "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 413).
(3)
انظر: "المدونة الكبرى"(6/ 49)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 79).
(4)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 77)، و "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 429).
(5)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 309)، و "الهداية" للمرغيناني (2/ 18).
* واختلفوا (1) فيما إذا شَبَّهَها بغيرِ الأمِّ منَ المَحارِمِ:
فقالَ مالكٌ والشافعيُّ: هو ظِهارٌ (2).
وقال قومٌ: لا ظِهارَ إِلَّا في الأُمِّ (3).
فمالِكٌ ومَنْ وافَقَهُ في المسألتينِ نَظَروا إلى المعنى، ومخالِفُهم إلى إيماءِ الخِطابِ.
* وعُمومُ الخِطاب يقْتَضي أن يَصِحَّ الظِّهارُ من كلِّ زوجٍ مكلَّفٍ (4)، فيصحُّ الظِّهارُ من الحُرِّ والعبدِ، ومن المُسلمِ والكافِر، ومن الخَصِيّ والمَجْبوب (5).
وهو كذلك.
* ويقتضي بعُمومه أنْ يصحَّ في الأَمَةِ؛ لأَنَّها من جماعَةِ النساءِ كالزوجة.
وبهِ قالَ مالِكٌ (6)، والثوريُّ، وجماعةٌ (7).
(1) في "ب" زيادة: "أيضًا".
(2)
وهو مذهب الحنفية.
انظر: انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 277)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 432).
(3)
وهو قول الظاهرية. انظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 53)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 55).
(4)
"مكلف": زيادة من "ب".
(5)
انظر: "الكافي" لابن عبد البر (1/ 282)، و "روضة الطالبين" للنووي (8/ 261).
(6)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 59)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 81).
(7)
انظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 50)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 59).
وبه قالَ عطاءٌ أيضًا، إلا أنَّه لم يوجِبْ إلَّا نِصْفَ الكَفارَةِ (1).
وقالَ أبو حنيفةَ، والشافعي، وأحمدُ (2)، وأبو ثَوْرٍ (3): لا يصحُّ في الأمةِ، وأوقعوا النساءَ المُقيداتِ بالإضافةِ على الزوجاتِ (4)؛ اعتبارًا بالوِفاق في الإيلاءِ في قوله تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] فإنهن ذواتُ الأزواج اتفاقًا، وبه قالَ عكرمة (5).
وقال الأوزاعي: إن كانَ يَطَأُ أَمَتَهُ، فهو مُظاهِر منها، وإنْ لم يَطَأ، فهو يمين، وفيه كفارةُ يمينٍ (6).
* ثم اختلفوا في حقيقةِ هذهِ الإضافةِ، هل هيَ في المُزَوَّجاتِ، وهو الأقربُ، أو فيمَنْ يصحُّ للمظاهِر نكاحُهُن، وإن لم يكن في نِكاح؟
وبالأولِ قالَ الشافعيُّ (7)، وداود (8)، وأبو ثورٍ (9)، وهو قولُ ابنِ عَبّاسٍ (10) -رضيَ اللهُ تعالى عنه -.
(1) انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 10).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 307)، و"روضة الطالبين" للنووي (8/ 261)، و "المغني" لابن قدامة (8/ 10).
(3)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 59).
(4)
في "ب": "المزوجات".
(5)
انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 10).
(6)
ونقل عن سعيد بن المسيب والحسن البصري في أحد قوليهما. انظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 50)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 81).
(7)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (7/ 159).
(8)
انظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 56. 205)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 81).
(9)
انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 34).
(10)
رواه الطبري في "التفسير"(8/ 28).
وبالثاني قالَ مالِكٌ، وأبو حنيفةَ (1)، والثوريُّ، والأوزاعيُّ (2)، وهو قولُ عُمَرَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم- (3).
وفرقَ قومٌ بينَ أن يطلِّقَ بأنْ يقولَ: كُلُّ امرأةٍ أتزوجُها فهيَ عليَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فلا يَصِح، وبينَ أن يعيِّنَ أو يُقَيِّدَ بأنْ يقولَ: إن تزوجْتُ فلانَة، أو من قريةِ كَذا، أو قبيلةِ كذا، فيصحُّ.
وبه قالَ ابنُ أبي ليلى (4).
* إذا تَمَّ هذا، فقد اختلفوا في حقيقةِ الظّهارِ، هل هوَ كالطَلاقِ، أو كاليمين؟
ومن أجلِ هذا ثارَ بينَهُمُ اختلافٌ في تَظاهُرِ المرأةِ من زوجِها.
فمن جعلَهُ كالطَّلاقِ قال: لا يَصِحُّ، ولا يلزمُ بهِ شيءٌ، وبهِ قالَ مالكٌ والشافعيُّ (5).
ومن جعلَهُ كاليمينِ، أوجبَ عليها كَفَّارَةَ الظّهارِ (6).
ومنَ العُلماء مَنْ أوجبَ عليها كفارةَ يَمينٍ (7).
(1) انظر: "المدونة الكبرى"(6/ 56)، و"أحكام القرآن" للجصاص (5/ 233).
(2)
انظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 206)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 50).
(3)
رواه عنه سعيد بن منصور في "السنن"(1/ 290).
(4)
وهو قول الحسن بن حي كذلك. انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 81).
(5)
وهو قول الحنفية والحنابلة. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 310)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 55)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 433)، و"المغني" لابن قدامة (8/ 35).
(6)
وهو قول الحسن البصري. انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 55)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 82).
(7)
وهو قول الأوزاعي. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 310)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 55).
243 -
(2) قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)} [المجادلة: 3].
* اختلفَ أهلُ العلمِ بالقرآنِ في حَقيقة العَوْدِ الذي ذَكَرَهُ اللهُ تَعالى:
فقالَ مجاهدٌ وطاوسٌ: لَمّا كانَ الظّهارُ منْ طَلاقِ الجاهليةِ، وأبطلَهُ اللهُ سبحانَهُ، وحَرَّمَهُ؛ لما فيهِ من المُنْكَرِ والزورِ، أوجبَ فيهِ على الَّذين يعودونَ إلى فِعْلِهِ في الإِسلامِ الكفارةَ، فالموجبُ (1) للكَفَّارةِ هو الظِّهارُ الَّذي حَرَّمَهُ اللهُ سبحانَهُ، لا أمر زائد عليه، وحمل العودَ على هذا، وهو قولٌ منقاسٌ، واللفظُ يحتمِلُه (2).
وخالَفَهُما جمهورُ أهلِ العلمِ، وقالوا: لا يجبُ الكَفَّارَةُ إلا بالظِّهارِ والعَوْدِ (3).
ثمَّ اختلفَ هؤلاءِ: فقالَ داودُ وأصحابهُ: العَوْدُ أَنْ يذكُرَ (4) لفظَ الظّهارِ مَرَّة ثانية (5).
وضُعفَ بأنه تأكيدٌ، والتأكيدُ لا يَصْلُحُ موجِبًا للكَفارة.
قال البخاري في "جامِعِه": ولأن اللهَ سبحانه لم يدلَّ على المُنْكَرِ وقولِ الزورِ (6).
(1) في "أ": "فالواجب".
(2)
انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 79).
(3)
انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 13)، و"تفسير ابن كثير"(4/ 322).
(4)
في "ب": "يكرر".
(5)
انظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 52)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 79).
(6)
انظر: "صحيح البخاري"(5/ 2027)، و "فتح الباري"(9/ 435).
* ولمّا رأى الباقونَ أَنَّ مُرادَ المُتَظاهِرِ بالظِّهارِ تحريمُ الزوجةِ على نَفْسِه وَطْئاً أَوْ إمْساكاً، وأَنَّه إذا حَقَّقَ ما أرادَهُ من تَحْريِمها بالطلاقِ عَقِبَ الظِّهارِ، فلا كَفَّارَةَ عليه، جَعَلوا عَوْدَ المُتَظاهِرِ نَقْضَ ما قالَ من التحريمِ (1).
وتكونُ اللامُ بمعنى (في) أي: فيما قالوا؛ كما في قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] أي: في يوم القيامة، وكما في قوله تعالى:{لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187].
واختلفوا في تعيينِ هذا النَّقْضِ: فقالَ مالكٌ -في رواية-: العودُ هُوَ الوطْءُ نفسُه (2)، تشبيها له بالحِنْثِ في اليمين، فكما لا تجبُ الكَفَّارَةُ إلا بالحِنْثِ، لا تجبُ الكَفَّارةُ في الظِّهار إِلاّ بالوطْءِ (3).
وهذا القولُ باطلٌ؛ لأنَّ الله سبحانَهُ أوجبَ الكَفّارَةَ من قبلِ أَنْ يَتَماسَّا، فلو كانَ العَوْدُ هوَ الوطْءُ لوجبَ الشيءُ قبلَ وُجوبِهِ، فدلَّ على أن الَّذي تجبُ بهِ الكَفَّارَةُ أمرٌ غيرُ الوطْءُ.
والروايةُ المشهورةُ الصحيحةُ أنَّ العَوْدَ هو إرادةُ الوطْءِ، لا الوطْء (4)، وبهذا قالَ أبو حنيفةَ، وأحمدُ؛ لأنه عادَ فيما قالَ من تحريمِ المرأة (5).
وقال الشافعيُّ: العَوْدُ هو إمساكُ المرأةِ بعدَ الظِّهارِ زمانًا يمكِنُ فيه
(1) انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 443)، و"المبسوط" للسرخسي (6/ 224)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (4/ 192).
(2)
"نفسه" ليس في "ب".
(3)
انظر: "الكافي" لابن عبد البر (1/ 283)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (17/ 280).
(4)
انظر: "المدونة الكبرى"(6/ 65)، و "أحكام القرآن" لابن العربي (4/ 192).
(5)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 302)، و"المغني" لابن قدامة (8/ 13).
الطَّلاقُ، فهذا لم يُحَققْ ما أرادَ من تَحْريمِها بالطَّلاقِ، فإمساكُه يدلُّ على أنه عائدٌ فيما قالَ؛ بدليلِ أَنَّ رفعَ الإمساكِ يرفعُ الكَفارَةَ، وهو إذا طَلَّقَ عقيبَ الظهارِ، فبقاءُ الإمساكِ يدلُّ على بَقاءِ الكَفارَةِ (1).
قالَ الشافعي - رحمَهُ اللهُ تَعالى-: الذي حَفِظْتُ مِمَّا سمعت في الذين يعودون لِما قالوا أَنَّ المُتَظاهِرَ حَرَّمَ امرأتهُ بالظهارِ، فإذا أتتْ عليهِ مدةٌ بعدَ القولِ بالظهار، لم يُحَرِّمْها بالطَّلاقِ الَّذي يحرمُ بهِ، ولا بشيءٍ يكونُ له مخرجٌ من أن يحرم به، فقد وجبتْ عليهِ كَفارَةُ الطهارِ، كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسَكَ ما حَرَّمَ على نَفْسِه أنه حَلالٌ، فقد عادَ لِما قالَ، فخالَفَهُ، فأَحَلَّ ما حَرَّمَ.
قال: ولا أعلمُ مَعْنًى أَوْلى بهِ من هذا.
قال: ولا أعلمُ مُخالفًا في أَنَّ عليهِ كفارةَ الظهارِ، وإنْ لمْ يتظاهَرْ ظِهاراً آخَرَ (2).
ولما رأى مالكٌ رحمه الله عدمَ ظُهور مَعْنى العَوْدِ في الإمساكِ، جعلَ العَوْدَ إرادةَ الوطْءِ والإمساكَ جميعًا.
وقولُ مالِكٍ أقربُ إلى المَعْنى، وقولُ الشافِعيِّ أَحْوَطُ في وجُوبِ (3) الكَفارَةِ، واللهُ أعلمُ.
* ثمَّ بينَ اللهُ سبحانَهُ هذهِ الكَفارَةَ وخِصالَها، وأنها إِعْتاقٌ، فإن لمْ يجدْ، فصيامُ شهرينِ مُتَتابِعَيْنِ، فإن لم يَسْتَطعْ، فإطعامُ سِتينَ مسكيناً.
(1) انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 433).
(2)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 279).
(3)
في "ب": "إيجاب".
وقد أجمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّها على التَّرتيبِ كما بيَنَها اللهُ تَعالى (1).
وأطلقَ اللهُ سبحانَهُ الرَّقَبةَ، ولم يُقيِّدْها بالإِيمان كما قَيدَها في كَفّارَةِ القَتْلِ: فأخذ أبو حنيفةَ -رحمهُ اللهُ تَعالى- بالإطلاقِ، فأجازَ عتقَ الرقبةِ الكافرةِ ما لم تكنْ وثنيةً ولا مرتدة (2).
والشافعي -رحمهُ اللهُ تَعالى- حملَ هذا الإطلاقَ على التقييدِ في القَتْل؛ كما هو مذهبُه، في حَمل المطلقِ على المقيدِ عندَ اختلافِ السبَبِ (3).
ووافقَهُ مالكٌ على اشتراطِ الإيمانِ (4).
فإن قلتَ: فهل تجدُ في السُّنَّةِ دليلاً على اشتراطِ الإيمانِ؟
قلت: نعم، رُوي عن معاويةَ بنِ الحَكَم قال: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ الله! إنَّ جاريةً لي كانَتْ ترعى غَنَماً، فَجِئْتُها وفقدتُ شاةً من الغنمِ، فسألتُها عَنْها، فقالَتْ: أكلَها الذئبُ، فأسِفْتُ عليها، وكنتُ من بني آدمَ، فلطَمْتُ وَجْهَها، وعليَّ رقبة (5)، أَفَأُعْتِقُها؟ فقالَ لَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أينَ الله؟ "، قالت: في السَّماءِ، فقال:"مَنْ أَنا؟ " فقالت: أنتَ رسولُ اللهِ (6)، قالَ: "فَأَعْتِقْها؛
(1) انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 512)، و"المبسوط" للسرخسي (6/ 225)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 83).
(2)
انظر: "الهداية" للمرغيناني (2/ 19).
(3)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 280)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (15/ 322).
(4)
انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 84).
(5)
في "أ": "رقبتها".
(6)
في "ب" زيادة: "فصلَّى الله عليك".
فإنَّها مُؤْمِنَةٌ" (1)، فسؤالُ النبي صلى الله عليه وسلم لها عنِ الإيمانِ، وعدمُ سؤالِه عنْ صِفَةِ الكَفَّارَةِ وسَبَبِها، وتركُ الاستِفْصال معَ قيامِ الاحتمالِ يُنْزَلُ منزلَةَ العُموم في المقالِ.
ثم إطلاقُ الرقبةِ تقْتَضي أن تُجْزِئَ المَعيبةُ.
وبالإطلاقِ قالَ قوم من أهلِ العلمِ.
والجُمهورُ ذهبوا إلى تقييدِ هذا الإطلاقِ بالقياسِ على الهَدايا والضَّحايا؛ لكونِ الجميعِ قربةَ لله تعالى.
ثم اختلفَ هؤلاء في تفصيلِ العَيْبِ الذي يَضُرُّ، والَّذي لا يَضُرُّ، وتفصيلُ ذلكَ مذكورٌ في كتبِ الفقهِ (2).
* وذكرُ الرقبةِ يقتضي أنه لا يجوزُ (3) أن يعتقَ نصفَ رقبةٍ: وبهذا قالَ مالكٌ (4).
والأصَحُّ عندَ الشافعيةِ الإِجْزاء إذا كانَ الباقي حُرًّا؛ لأنه في مَعْنى الرقبةِ الواحدةِ (5).
(1) رواه مسلم (537)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته.
(2)
انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 18)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 84).
(3)
في "ب" زيادة "له".
(4)
انظر: "المدونة الكبرى"(6/ 74).
(5)
هذه المسألة في الإعتاق والمكاتبة، أما في كفارة الظهار فقد صرح الشافعي بعدم الجواز حيث قال: ولا يكون له أن يبغض الكفارة ولا يكفر إلا كفارة كاملة من أي الكفارات كفر لا يكون له أن يعتق نصف رقبة ثم لا يجد غيرها فيصوم شهرًا ولا يصوم شهرًا ثم يمرض فيطعم ثلاثين مسكينًا ولا يطعم مع نصف رقبة حتى يكفر أي الكفارات وجبت عليه بكمالها. انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 285)، و "التنبيه" للشيرازي (ص: 187).
* ثمَّ بينَ اللهُ سبحانَهُ مَحَلَّ هذهِ الكَفّارةِ، وأنه من قَبْلِ أنْ يَتَماسّا:
فحملَ مالك وأبو حنيفةَ والشافعيُّ -في أحد قوليه- المماسَّةَ على حَقيقَتِها منَ المُلامَسَةِ التي هيَ دُونَ الجِماع (1)، ومَعْلومٌ أنه إذا حَرَّمَ عليهِ المباشرةَ فيما دونَ الفرجِ، فتحريمُ الوَطْءِ في الفرج أَوْلى، فيحرمُ الجميعُ عندَهُ، إما لفَحْوى الخِطاب كما ذكَرْنا، وإما لحَمْلِ الاسمِ المشتركِ على جميعِ معانيهِ.
وأَلْحَقَ مالكٌ التَّلَذُّذَ بالنَّظَرِ بالمُباشرةِ (2).
وحَمَلَ الشافعيُّ -رحمهُ اللهُ تعالى- المُماسَّةَ في القَوْلِ الآخرِ، وهو الجديدُ، على الوطْءِ في الفَرْجِ (3)، وبهِ قالَ الثوريُّ (4)، وأحمدُ (5).
فإن قيلَ: فإذا خالفَ المُتَظاهِرُ ومَسَّ امرأتَهُ قبلَ أن يُكَفرَ، فكيفَ الحكمُ؟
قلنا: ذهبَ قوم إلى أَنَّه لا يلزَمُه شيءٌ؛ لأنَّ وقتَ الكَفّارة قد فاتَ، ولا يجبُ قَضاؤُها إلَّا بأمرٍ جَديدٍ، وهو معدومٌ (6).
وذهبَ الجمهورُ إلى وجوبِ الكفارةِ (7)، واستدلُوا بما رَوى ابنُ عباسٍ
(1) انظر "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 310)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 452)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 82).
(2)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 54)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 82).
(3)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 452).
(4)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 310)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 54).
(5)
انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 33).
(6)
انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 86).
(7)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 279)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 52).
رضيَ اللهُ تَعالى عنهما-: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقد ظاهَرَ منِ امرأتِهِ، فوقَعَ عليها، فقال: يا رسولَ الله! إني ظاهَرْتُ منِ امرأتي، فوقعتُ عليها من قبلِ أن أُكَفِّرَ، قالَ:"فما حَمَلَكَ على ذلكَ يَرْحَمُكُ الله؟ "، فقال: رأيتُ خَلخالَها في ضَوْءِ القَمَرِ، قال:"فلا تَقْرَبْها حتى تَفْعَلَ ما أَمَرَ الله"(1).
ثم اختلفوا:
فذهبَ قومٌ إلى أَنَّ عليهِ كَفارتينِ: كفارةً عن العَزْمِ على الوطْءِ، وكفارة عن الوطْءِ، ويُروى عن عَمْرِو بنِ العاصِ، وقبيصة (2) بنِ ذُؤيب، وسَعيدِ بنِ جبير، وابنِ شهابٍ (3).
وذهب جمهورُ فقهاءِ الأمصارِ؛ كمالِكٍ، والشافِعي، وأبي حنيفَةَ، وأحمدَ (4)، والثوريِّ، والأوزاعيّ، وإسحاقَ، وأبي ثَوْرٍ (5)، وداودَ إلى أنَّ الواجبَ كفارةٌ واحدةٌ، واستدلُوا بأنَّ سَلَمَةَ بنَ صَخْرٍ البَياضِيَّ ظاهَرَ مِنِ
(1) رواه الترمذي (1199)، كتاب: الطلاق، باب: ما جاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفِّر، وابن ماجه (2065)، كتاب: الطلاق، باب: المظاهر يجامع قبل أن يكفِّر، والطبراني في "المعجم الكبير"(11600)، والحاكم في "المستدرك"(2817)، وابن الجارود في "المنتقى"(747)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 386).
(2)
في "أ": "سعد".
(3)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 52)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 86).
(4)
انظر: "المبسوط" للسرخسي (6/ 225)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 52)، "الحاوي "الكبير" للماوردي (10/ 451)، و"المغني" لابن قدامة (8/ 33).
(5)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 53)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 86).
امرأتِه، ثم وَقَعَ عليها قبلَ أن يكفِّرَ، فأتى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وذكر لهُ ذلكَ، فأمرَهُ أن يُعْتِقَ رقبةً، فإنْ لمْ يجدِ الرقبةَ، فَلْيَصُمْ شَهرينِ مُتتابعين من قبلِ أن يتماسّا، فإن لم يستطعِ الصَّوْمَ، فليطعمْ ستينَ مِسكينًا (1).
* وأطلقَ اللهُ سبحانه وتعالى الإطعامَ، ولم يقيدْ مَحَلَّهُ، وإطلاقُه محمولٌ على تقييدِ غيرِه منْ أنواعِ هذهِ الكَفَّارَةِ عندَ عامةِ أهلِ العلمِ (2)؛ خلافًا لابنِ حَزْمٍ؛ فإنه قالَ: من فَرْضُهُ الإطعامُ يجوزُ لهُ المَسُّ قبلَ التكفيرِ (3).
* وأطلق اللهُ سبحانَهُ الإطعامَ، ولم يبينْ مقدارَ طعامِ كلِّ مسكينٍ:
فقالَ الشافعيُّ: طعامُهُ مُدٌّ بِمُدِّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم (4):
واستدلَّ عليهِ بما رُوي أن سَلَمَة بنَ صَخْرٍ البَياضِيَّ جَعَلَ امرأتَه عليهِ كظهرِ أُمِّه إِنْ غَشِيَها حَتَّى يَمْضيَ رَمضانُ، فَلمّا مَضى النصفُ منْ رمضانَ، سَمِنَتِ المَرْأَةُ وتَرَبَّعَتْ، فأعجبَتْهُ، فَغَشِيَها ليلاً، ثم أَتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكرَ ذلكَ لهُ، فقالَ لهُ:"أَعْتِقْ رَقَبَةً"، فقال: لا أجدُ، قال:"صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتابعَيْن"، قال: لا أستطيعُ، قال:"أطعمْ ستينَ مسكيناً"، قال: لا أجدُ، قال: فَأتِي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعَرَقٍ فيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صاعًا، أو سِتَّةَ عَشَرَ صاعًا، قال:"فَتَصَدَّقْ بِهذا على سِتِّينَ مِسكيناً"(5).
ويستدلُّ عليه أيضًا بحديثِ الذي جامَعَ امرأتَه في شَهْرِ رمضانَ (6).
(1) انظر تخريج الحديث الآتي.
(2)
انظر: "الكافي" لابن عبد البر (ص: 285)، و"المهذب" للشيرازي (2/ 114).
(3)
انظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 50).
(4)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 285).
(5)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 390)، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وأبي سلمة، بهذا السياق.
(6)
تقدم تخريجه.
وبهذا قالَ مالِكٌ في روايةٍ، والروايةُ المشهورةُ عنه أنهُ مُدٌّ بِمُدِّ هِشامٍ (1)(2)، ومُذُ هِشامٍ بِمُدٍّ ونصْفِ مُدٍّ بِمُدِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: مُدَّانِ، وقيل: مُدٌّ وثُلُثٌ؛ لأن به تحصل الكفاية في الغداءِ والعشاءِ (3).
وأنكرَ الشافعيُّ هذا على مالكٍ، وقالَ: مَنْ شَرَعَ لكمْ مُدَّ هِشامٍ؟ وقد أنزلَ اللهُ تبارك وتعالى الكفاراتِ على رسولهِ قبلَ أن يولَدُ هشام، وكيفَ ترى المسلمين كَفروا في زَمَنِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وبعدَه قبل أن يكونَ هشامٌ (4)؟
وقال أبو حنيفةَ: طعامُه مُدَّانِ؛ اعتبارًا بِفِدْيَةِ الأَذى، واستدلُوا بحديثِ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - (5).
ولو اعتبروا هذهِ الكفارةَ بكفارةِ الفِطْر في رَمَضانَ، لكانَ أَحْرَى وأوْلى، فاعتبارُ الكَفَّارَةِ بِالكَفَّارَةِ أَشْبَهُ وأوْلى به، وأَمّا فِدْيَة الحَجِّ، فلا تشبهُ ما سِواها من الكفاراتِ في شيءٍ، واللهُ أعلم.
* * *
(1) انظر: "الموطأ" للإمام مالك (1/ 284)، و"المدونة الكبرى"(6/ 72).
(2)
هو هشام بن إسماعيل بن الوليد بن المغيرة المخزومي عامل كان بالمدينة لبني مروان. انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 271).
(3)
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (4/ 196)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 85).
(4)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (7/ 257).
(5)
مذهب الحنفية أن مقدار الطعام هو نصف صاع بر أو صاع تمر أو شعير. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 313)، و"المبسوط" للسرخسي (7/ 16)، و "الهداية" للمرغيناني (2/ 21).