الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام الحدود)
201 -
(1) قوله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2].
أقول: قد بَيَّنْتُ فيما مضَى أَنَّ هذهِ الآيةَ مُبيِّنَةٌ لآيةِ الحَبْسِ والأَذى الَّذي أَمَرَ اللهُ سبحانَهُ به في أمرِ الزُّناة في صَدْرِ الإسلام، لا أَنَّها ناسِخَةٌ لهُ.
وبيَنَ اللهُ سبحانَهُ في هذهِ الآية أَنَّ حَدَّ الزاني والزانية أَنْ يُجْلَدوا مئةَ جَلْدَةٍ، وهذا عَامٌ في كُلِّ زانٍ، مسلما كانَ أو كافِراً، مُحْصَنا أو غيرَ مُحْصَنٍ، حُرًّا أو غيْرَ حُرٍّ.
لكنْ قد أجمعَ أهلُ العلم على تخصيصِ عُمومها بالبكْرَيْنِ الحُرَّيْنِ، وأَنَّ الزانيَ إذا كانَ مُحْصَناً، فَحَدُّهُ الرَّجْمُ؛ خلافاً لقومٍ من أَهلِ الأَهْواءِ؛ حيثُ زَعَموا أَنَّ حَدَّ كُلِّ زانٍ الجَلْدُ (1).
ولا التفاتَ إليه؛ لثبوتِ الرَّجْمِ من فعلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفعلِ أبي بكرٍ وعُمَرَ وعلي (2) -رضيَ اللهُ تعالى عنهم- ولما روَى عُبادَةُ بنُ الصَّامِتِ -رضيَ الله
(1) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 39)، و"بداية المجتهد"(2/ 325)، و"التفسير الكبير" للرازي (23/ 117)، و" الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (12/ 160 - 162).
(2)
"وعلي" ليس في "أ".
تعالى عنه-: أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبيلاً، البِكْر بالبِكْرِ جَلْدُ مِئَةٍ وتَغْريبُ عامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثيِّبِ جَلْدُ مِئَةٍ والرَّجْمُ"(1)، ولما رَوى أبو هُريرةَ وزيدُ بنُ خالدٍ الجُهَنِيُّ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-: أَنَّ رجلاً منَ الأَعرابِ أتى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله! أَنْشُدُكَ اللهَ إلَّا ما قَضَيْتَ لي بِكتابِ اللهِ، فقال الخَصْمُ، وهو أَفْقَهُ منهُ: نعم، اقْضِ بيننا بكتابِ اللهِ، وإِيذَنْ لي أتكلم، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"قل"، قال: إن ابني كانَ عَسيفاً على هذا، فَزَنى بامرأتِه، وإني أُخْبِرْتُ أَنَّ على ابني الرَّجْمَ، فافْتَدَيْتُ بِمِئةِ شاةٍ ووَليدَةٍ، فسألتُ أهلَ العلمِ، فَأَخبروني أَنَّمَا على ابني جَلْدُ مِئَةٍ وتغرِيبُ عامٍ، وأَنَّ على امْرَأَةِ هذا الرَّجْمَ، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَالَّذي نَفْسِي بيَدِهِ! لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكمُا بكِتابِ اللهِ تَعالى، الوَليدَةُ والغَنَمُ رَدٌّ عليكَ، وعلى ابنِكَ جَلْدُ مِئة وتَغْريبُ عَامٍ، واغْدُ يا أُنَيْسُ على امْرَأةِ هذا، فإِنِ اعترفَتْ، فارْجُمْها"، قال فَغَدا عليها، فاعترفَتْ، فأمرَ بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَرُجمَتْ (2).
وقالَ ابنُ عباس: سمعتُ عمرَ بنَ الخَطَّابِ يقولُ: الرَّجْمُ في كتابِ اللهِ عز وجل حَقّ عَلى مَنْ زنى إذا أحصن من الرجال والنِّساء إذا قامَتْ عليه البَيِّنَةُ، أو كانَ الحَبَلُ، أو الاعترافُ (3).
وقال أيضاً: قالَ عمرُ: خشيتُ أن يطولَ بالناس زَمانٌ حَتَّى يقولَ قائِلٌ:
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه البخاري (2549)، كتاب: الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود، ومسلم (1697)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى.
(3)
رواه البخاري (6442)، كتاب: المحاربين، باب: رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت.
ما نجدُ الرَّجْمَ في كِتابِ اللهِ، فَيَضِلُّونَ بتركِ فَريضةٍ أَنزلَها اللهُ، ألا إن الرَّجْمَ إذا أَحْصنَ الرجلُ، وقامَتِ البينةُ، أو كانَ الحَبَلُ أوِ الاعترافُ، وقد قرأناها:(الشيخُ والشَّيخَةُ إذا زَنيَا فارجُموهُما ألبَتَّةَ)، وقَدْ رَجَمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ورَجَمْنا (1).
ثمَّ اختلفَ أهلُ السنةِ.
فقالَ قومٌ ببقاءِ عُموم الآيةِ، فأوجَبوا الجَلْدَ معَ الرَّجْمِ في حَقِّ المُحْصَنِ، وإليه ذهبَ الحَسَنُ وأَحْمَدُ وإسحاقُ وداودُ (2)، واحتجُّوا بحديثِ عُبادَةَ بنِ الصَّامِتِ (3)، ولما رُويَ: أَنَّ عَلِيًّا -رضي اللهُ تعالى عنه- جَلَدَ شُرَيْحَةَ الهَمْدانِيَّةَ يومَ الخَميسِ، ورجَمَها يومَ الجُمُعة، وقال: أَجْلِدُها بكتابِ اللهِ، وأرجُمُها بِسُنَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم (4).
وقالَ جُمهورُهم: نُسِخَ الجَلْدُ عن المُحْصَنِ (5)؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَمَ ماعِزاً، ولَمْ يَجْلِدْهُ (6)، وأَمَر أُنَيْساً أن يغدوَ على امرأةِ الرجلِ، فإن اعترفَتْ
(1) رواه البخاري (6441)، كتاب: المحاربين، باب: الاعتراف بالزنا، والبخاري أيضاً (6442) كتاب: المحاربين، باب: رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت، ومسلم (1691)، كتاب: الحدود، باب: رجم الثيب في الزنا.
(2)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 478)، وعن الإمام أحمد روايتان، انظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 39 - 40).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
انظر: "الأم" للشافعي (6/ 134)، و"روضة الطالبين" للنووي (10/ 86)، و"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 146)، و"أحكام القرآن" للجصاص (5/ 97)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 478)، و"بداية المجتهد"(2/ 325)، و"القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 232).
(6)
تقدم تخريجه.
فليَرْجُمها (1)، ولم يأمرْهُ بجلدِها، ومعلومٌ أنَّ حديثَ عُبادَةَ قَبْلَهُما؛ لقولهِ صلى الله عليه وسلم:"خُذُوا عَني، خُذُوا عَني، قَدْ جعلَ اللهُ لَهُن سَبيلاً"، فيكونُ مَنْسوخاً.
فإن قلتَ: لا يجوزُ نَسْخُ حديثِ عُبادة بما روي من فِعْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبحديثِ أُنَيْسٍ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبرَ عنِ اللهِ سُبْحانه أَنَّه قدْ جعلَ لهن سبيلاً، والسبَّيلُ الذي جَعَلَهُ في كتابِه الذي ثبَتَ رَسْمُهُ وحُكْمُهُ جَلْدُ مِئةٍ، والسَّبيلُ الذي جَعَلَهُ فيما نُسِخَ لفظُه وبقيَ حكمُه الرَّجْمُ للشيخ والشيخَةِ، فيجبُ حينئذِ جَلْدُ المُحْصَنِ ورَجْمُهُ بالآيتينِ، ويجبُ جلدُ غيرِ المُحْصَن بإحدى الآيتين، وقد تقرَّرَ عندَ المُحَقِّقين من أهلِ النظر أَن السُّنَةَ لا تنسَخُ الكِتابَ، فلو جازَ نسخُ حديثِ عُبادةَ، لجازَ نَسْخُ الكِتابِ؛ لأنه مُخْبِرٌ عنِ اللهِ سبحانه.
قلنا: يجوز نسخه؛ لأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُخْبِرْنا أنَّ اللهَ سبحانَهُ أنزلَ ذلكَ في كتابِه وجَعَلهُ سبيلاً للزُّناة في القرآنِ، وإنما أخبرَ أنَّ اللهَ تَعالى جعلَهُ سَبيلاً لهم، والظاهرُ أنه بِوَحْي منه سبحانَهُ، لا بقرآنِ أنزلَهُ؛ بدليلِ قولهِ صلى الله عليه وسلم:"خُذُوا عَني"، فأضاف الأَخْذَ إليه صلى الله عليه وسلم، وبدليلِ ذكرِهِ للتَّغْريب، ولمْ يكنْ فيما أنزلَ اللهُ من القرآنِ، فحينئذِ يكونُ القرآنُ نزل بعدما أعلمَهُ اللهُ بشرعهِ وَحْياً، وبعدَ أَنْ نسخَ ما تضمَّنَهُ حديثُ عُبادة، واستقرَّ الحُكْمُ والشرعُ على عمله صلى الله عليه وسلم.
فإن قلتَ: لو تَمَّ هذا، أو صَحَّ (2)، لَزِمَكَ (3) أَنْ تجعلَ السُّنَةَ، وهيَ حديثُ عُبادَةَ، ناسِخَة للكتابِ من قوله تَعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ
(1) تقدم تخريجه.
(2)
"أو صح" ليس في "ب".
(3)
في "ب": "للزمك".
حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، فتكونَ فارًّا مِنْ نَسْخِ الكتابِ بالسنَّةِ إلى نَسْخِ الكتابِ بالسنَّةِ.
قلتُ: قد بَيَّنْتُ في "سورةِ النساءِ" أَنَّ آيةَ الحَبْسِ لَيْسَتْ بمنسوخةٍ، لا بكتابٍ، ولا سُنَةٍ، وإنَّما هي مُبَيِّنَةٌ؛ خِلافاً لما تَوَهَّمهُ أبو عبدِ اللهِ الشافعيُّ وكثيرٌ من الناسِ معهُ، وهذا تحقيقٌ عزيزٌ، فاسْتَمْسِكِ به، هداك اللهُ الكريمُ وإيّانا، وللهِ الحَمْدُ رَبِّ العالمين.
* إذا تَمَّ هذا، فقد أجمعوا على تَخْصيص عُمومِها بأنَّ حَدَّ الأَمَةِ خَمسونَ جلدةً؛ لقوله تعالى {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25].
* واختلفوا في تَخْصيصِ عُمومها بتقييدِ قولي تَعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: 16]، وقد تقدَّمَ الكلامُ عليه في "سورةِ النساء".
* وكذلك اختلفوا في وُجوبِ التغريبِ مع الجَلْدِ:
فأوجَبَهُ الشافعيُّ (1)؛ لحديث عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ وأَبي هُريرةَ وزَيْدِ بنِ خالدٍ الجُهَنِيِّ، ولثبوتِه عن أبي بكرٍ وعمرَ، وعُثمان، وعَليٍّ، وعبدِ الله، وأَبي الدَّرْداءِ -رضي الله تَعالى عنهم -.
ومنعه أبو حنيفةَ وأصحابهُ بناءً على أصلِهم من أنَّ الزيادَةَ على النَّصِّ نَسْخٌ، والكتابُ لا يُنْسَخُ بخبرِ الواحِد (2)، وبأنَّ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه -
(1) انظر: "الأم" للشافعي (6/ 133)، و"المهذب" للشيرازي (2/ 267)، و"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 147).
وهو مذهب الإمام أحمد، انظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 45)، و"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 91).
(2)
انظر: "الهداية" للمرغيناني (2/ 99)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 39)، لكن يجمع بينهما إذا رأى الإمام مصلحة في ذلك.
نَفَى رجلاً، وقالَ: لا أنفي بعدَهُ (1).
ورُدَّ بأنَّ عمرَ نَفى في الخَمْرِ، ثم رأى أنه (2) بدعةٌ، فليسَ الخمر كالزنا (3).
وقالَ مالكٌ: يغرَّبُ الرجلُ دُونَ المرأةِ؛ لأَنَّها تُعَرَّضُ بالغُرْبَةِ لأكبرَ مِنَ الزنى (4)؛ بناءً على أصلهِ من العملِ بالمَصالحِ المُرْسَلَةِ التي هيَ ضَرْبٌ منَ الاسْتِحْسان.
* وأَمْرُ اللهِ سبحانَهُ بجلدِ الزُّناةِ مُطْلَقٌ في جميعِ الأحوالِ، ولا شَكَّ في أَنَّ حال الإنسان مختلفٌ بالصِّحَّةِ والمَرَضِ، والحَرِّ والبَرْدِ:
فذهبَ قومٌ إلى حملِ الأمرِ على إطلاقِه، فأقاموا الحَدَّ في جَميعِ الأحوال؛ لأنه فريضةٌ واجبةٌ، فلا تُؤَخَّرُ عن وَقْتِها، ولأنَّ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - أقام الحَدَّ على قُدامَةَ وهو مريضٌ، ولأنه أبعدُ منَ الرأفَةِ بالزَّاني، واللهُ تَعالى يقول:{وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2].
وبه قالَ أحمدُ وإسحاقُ (5).
وذهبَ الجمهورُ إلى تقييدِ هذا الإطلاقِ بالمعنى، فلا يُقامُ عليهِ إلا عندَ اعتدالِ الحالِ والهواءِ؛ لما فيه من خوفِ الهَلاكِ عليه، ولشهادَةِ الأُصولِ بتأخيرِ الفَرائِضِ عندَ خَوْفِ الهلاكِ (6).
(1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (6/ 135).
(2)
في "ب": "رآه".
(3)
في "أ": "الأمر في الزنا".
(4)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 480)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 326)، و "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 232 - 233).
(5)
انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 48)، و"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 82).
(6)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 213 - 214)، و"مغني المحتاج" =
* ثم أمرَ اللهُ سبحانَه بأنْ يشهدَ عَذابَهُما طائِفَةٌ منَ المؤمنين، وهذا الأمرُ عندَ أهلِ العلمِ للاسْتِحباب، وإنَّما اختلفوا في أَقَلِّ الطَّائِفَةِ، فقيلَ: أربعةٌ، وقيل: ثلاثةٌ، وقيل: اثنان (1).
* * *
202 -
(2) قوله عز وجل: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3].
أقول: مثلُ هذهِ الآيةِ في الحَصْرِ ما روى أبو هُريرةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه -: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَنْكِح الزَّاني المَجْلودُ إلَّا مِثْلَهُ"(2).
* وقد اختلفَ الناسُ في هذهِ؛ لمخالفةِ ظاهِرِها القواعدَ المتقررَةَ في الشريعةِ المُجْمَعَ عليها:
فذهبَ قومٌ إلى الأَخْذ بظاهرِها وظاهرِ الحديثِ، فَحَرَّموا نِكاحَ الزانيةِ المجلودةِ إلَّا على مِثْلِها زانٍ مَجْلودٍ، وحَرَّموا نِكاحَ الزاني إلا على زانيةٍ (3)، ورويَ عنِ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنه-: أنه قال في الآية: هو حكمٌ
= للشربيني (4/ 154)، و"الهداية" للمرغيناني (2/ 99)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 59)، و"القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 233).
(1)
انظر: "تفسير الطبري"(18/ 68 - 70)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (12/ 166)، و"الدر المنثور" للسيوطي (6/ 126).
(2)
رواه أبو داود (2052)، كتاب: النكاح، باب: في قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} ، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 324)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(2/ 410)، والحاكم في "المستدرك"(2700)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 156).
(3)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (12/ 167)، و"الدر المنثور" للسيوطي (6/ 130).
بينَهُما. حتى قالَ قومٌ: طَرَآنُ الزنى يَفْسَخُ النكاحَ (1).
والأخذُ بظاهرِ الآيةِ ضعيفٌ؛ للإجماعِ على أنه لا يجوزُ للمسلمةِ الزانيةِ أن تنكحَ مُشْرِكاً، وأنه لا يجوزُ للزاني المسلمِ أن ينكحَ مشركةً غيرَ كتابية، ولِما رُوي: أن رجلاً قال: يا رسولَ الله! إن زوجتي لا تَرُدُّ يدَ لامِسٍ، فقال لهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"طَلِّقْها"، فقال له: إني أريدُها، فقالَ له:"فَأَمْسِكْها"(2).
ثم اختلفَ الآخرونَ:
فمنهُم مَنِ ادَّعى أنها منسوخةٌ (3) بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]، فدخلَتِ الزانيةُ في أيامى المُسلِمين.
وبه قالَ سعيدُ بنُ المُسَيِّبِ، واختارَهُ الشافعيُّ، قال: أنا سُفيانُ، عن يحيى بنِ سعيدِ، عن سعيد بنِ المسيِّبِ: أنه قالَ في قول الله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3]: إنها منسوخةٌ، نسخَها قولُ اللهِ عَر وجَل:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]، فهي من أيامى المسلمين.
ثم قال: والذي يشبه -والله أعلم- ما قالَ ابنُ المسيِّبِ (4).
وهذا القولُ ضعيفٌ جِدًّا لوجهينِ:
(1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(8/ 2524).
(2)
رواه النسائي (3465)، كتاب: الطلاق، باب: الظهار، والإمام الشافعي في "مسنده"(2891)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 154)، والخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي والسامع"(2/ 296)، عن ابن عباس.
(3)
انظر: "المصفى بأكف أهل الرسوخ"(ص: 45)، و"ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه" (ص: 42)، و"قلائد المرجان" (ص: 133).
(4)
رواه الإِمام الشافعي في "الأم"(5/ 148)، وفي "مسنده"(273)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 154) من طريق الشافعي، به.
أحدهما: عدمُ التعارُضِ من وَجْهين أيضًا (1):
أحدهما: أن الأمرَ بإنكاحِ الأيامى لا يُعارِضُ إنكاحَ الزانيةِ بالزاني؛ فإنا إذا أنكَحْنا الزانيةَ بالزاني، فقدِ امتثلْنا أمرَ اللهِ تعالى، وأنكحْنا أَيِّماً من أيامانا.
وثانيهما: أن الآية الأولى نهيٌ عن النكاح، والآية الثانية أمرٌ بالإنكاحِ، والإنكاحُ غيرُ النكاح.
والثاني: أن النسخَ لا يكونُ إلا بخبرٍ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعِلْم بالمتأخِّرِ منهما، أو بإجماعٍ من عامَّةِ أهلِ العلمِ يدلُّ على الناسخُ منهما، وليسَ هذا بواحدٍ منهما.
ومنْ أهلِ العلمِ مَنْ وَقَفَها على سبَبِها، فقالَ: نزلتْ في قومٍ من فُقَراءِ المُهاجرين هَمُّوا أن يَتَزَوَّجوا بَغايا كُنَّ بالمدينة لَهُنَّ راياتٌ، فأنزلَ اللهُ تحريمَ ذلكَ (2)؛ لأنهنَّ كُنَّ زانياتٍ ومشركاتٍ، وبينَ أنه لا يتزوَّجُ بهنَّ إلا زانٍ أو مشركٌ، وأن ذلكَ حرامٌ على المؤمنين.
ورُويَ أسبابٌ أُخَرُ في نُزولِها بمثلِ هذا المعنى (3).
ومنهم مَنْ تَأَوَّلَها، وقالَ: خرج هذا النهيُ مخرجَ الذَّمِّ والتَّحقيرِ للزُّناةِ، والتشريفِ لذَوي العِفَّةِ، فهوَ كقولهِ تعالى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26]، وهذا أحسنُ، وأَحْسَنُ منهُ ما رُوي عن ابن عباس (4) -رضي الله تعالى عنهما -: أنَّ المُرادَ
(1)"أيضًا" ليس في "أ".
(2)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 11)، و"المصنف" لابن أبي شيبة (16925)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2522)، عن عروة بن الزبير.
(3)
انظر: "تفسير الطبري"(18/ 70) وما بعدها.
(4)
في "ب" زيادة: "وعكرمة".
بالنِّكاح في هذهِ الآيةِ الوطءُ، فقال: أما إنه ليسَ بالنِّكاح، ولكنْ لا يجامِعُها إلا زانٍ أو مشركٌ، وحُرِّمَ ذلكَ على المؤمنين (1)، أي: وحُرِّم الزنى على المؤمنين، ومعناه أَنَّ الزانيَ لا يَزْني إلا بزانيةٍ مثلِهِ منْ أهلِ القبلَةِ لا تستحِلُّ الزنى، أو مشركَةِ تستحلُّ الزنى، وكذلكَ الزانيةُ من المسلماتِ لا تزني إلَّا معَ زانٍ من المسلمينَ لا يَسْتَحِلُّ الزنى، أو مَعَ مشركٍ يستحلُّ الزنى.
والقولُ بوقفِ الآيةِ على سببِها حسن متعيِّنٌ إن صَحَّ السببُ، ولكنه يحتاجُ إلى تأويل وتوضيحٍ.
ومَعْناه: (الزاني) المشركُ (لا ينكحُ إلا زانيةً)، وهي مشركةٌ، (أو مشركةً)، وهي عفيفةٌ (2) -كما كانَ ذلكَ عادةَ المشركينَ في أنكحَتِهم- وهذه الجملةُ ليستْ محل السبب والنهي.
(والزانيةُ) أي: المشركةُ - كما هي صفةُ البغايا اللاتي وَرَدَ فيهنَّ النهيُ - (لا يَنْكِحُها إلا زانِ أو مشركٌ)، وإن لمْ يكنْ زانياً، وهذهِ الجملةُ هي مَحَلُّ السببِ.
وإنَّما احْتَجْنا إلى هذا التأويلِ؛ لأَنَّا لو أَطْلَقْنا الزانيَ في المسلمِ والكافرِ؛ لَجَوَّزْنا للمسلمِ نكاحَ المشركَةِ الوثنيةِ، ولو أطلقنا الزانيةَ في المسلمةِ والكافرةِ، لَجوَّزْنا للمسلمةِ الزانيةِ أن تنكحَ مُشْرِكاً، ولم تردْ شريعَتُنا بهذا قَط، قالَ اللهُ تعالى:{لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، وقد عُلِمَ بهذا التَّحقيقِ أَنَّ الآية وردَتْ لبيانِ أنكحةِ المُشركين وصِفَتِها.
ثم قال الله تعالى بعد بيانه (3): {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3].
(1) رواه الحاكم في (المستدرك)(2786)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 154).
(2)
في "ب": "أو مشركة، وهي مشركة وهي عفيفة".
(3)
"بعد بيانه" ليس في "أ".
203 -
204 (3 - 4) قوله جَلَّ ثَناؤُهُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 4 - 5].
* أمرنا اللهُ سبحانَهُ أن نَجْلِدَ قاذِفَ المُحْصَناتِ ثَمانينَ جَلْدَةً؛ عقوبةً وزَجْراً.
* واقْتَضى الخِطابُ بمَفْهومِهِ أَلَّا نجلِدَ قاذفَ غيرِ المُحْصَناتِ، وعلى العملِ بهذا المَفْهومِ أجمعَ أهلُ العِلْمِ (1).
* وقد ذكرتُ فيما مضى أنَّ الإحْصانَ يقعُ على مَعانٍ: على الحُرِّيَّةِ، وعلى العِفَّةِ، وعلى الإسلام، وعلى النكاح.
وقد اتفقَ أهلُ العلمِ على أَنَّ النكاحَ غيرُ مُرادٍ بهذهِ الآية، لأنه يلزمُ منه أَلَّا يُجْلَدَ مَنْ قَذَفَ مَنْ لَمْ تنكحْ، ولا قائلَ بذلك.
وعلى أن العفةَ مُرادَةٌ؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4]، ومفهومُهُ أن مَنْ قامَتْ عليهِ الشهادةُ أن لا حَدَّ على قاذفِه، ولقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ} [النور: 23].
واختلفوا في الحريةِ والإسلامِ، هل هُما مُرادان، أو لا؟
فذهبَ الجمهورُ إلى أنهما مُرادان؛ لوقوعِ الإحصانِ عليهِما، وبهذا أخذَ الشافعيُّ -رحمه الله تعالى - (2).
(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 514)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (12/ 173)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 76).
(2)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 255)، و"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 371)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 76)، و"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 105)، و"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 353)، و"الهداية" للمرغيناني (2/ 112)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 40).
وذهبَ قومٌ إلى أَنَّ قاذفَ الأَمَة والكافرةِ غيرُ مَجْلودِ، وبهِ قالَ مالكٌ، وخَصَّصوا الإحصانَ بالعِفَّة (1).
واستدلَّ الجُمهورُ بما رُوي عنِ ابنِ عُمَرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما -: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ أَشْرَكَ باللهِ، فَلَيْسَ بمُحْصَنٍ"(2)، وبأن العبدَ إذا قذفَ المُحْصَنَ لا يَجِبُ عليهِ الحَدُّ كامِلاً؛ لنقَصانهِ، فوجبَ أن يسقطَ الحَدُّ عن قاذفِه؛ كقاذف الصبيِّ.
فإن قلتم: فهل نجدُ في القرآنِ دليلاً على أنهما غيرُ مراديْنِ؟
قلت: نعمِ، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} ، فوَصَفَهُنَّ بثلاثةِ أوصافٍ: الإيمانِ، والغَفْلَةِ عن الفاحِشَةِ، والإحْصانِ الذي هو الحريةُ، فإطلاقهُ هنا محمولٌ على هذا التقييد.
* واتفقوا - فيما أَحْسِبُ - على اشتراطِ بُلوغِ المُحْصَنِ؛ لنقصانِ الصبيِّ (3)، لكن اعتبرَ مالكٌ في سِنِّ المرأة أن تطيق الوطْءَ (4).
* وأوجبَ اللهُ سبحانَه هذهِ العُقوبَةَ على كُلِّ مَنْ يَصْلُحُ للخِطاب،
(1) انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 330).
(2)
رواه الدارقطني في "سننه"(3/ 147)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 216)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(28/ 265).
(3)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 255)، و"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 371)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 76)، و"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 353)، و"الهداية" للمرغيناني (2/ 112)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 40).
(4)
انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 330)، و"مواهب الجليل" للحطاب (6/ 298).
ويدخُلُ في التكليف، وعلى هذا أجمعَ أهلُ العلم، فلم يوجبوا الحَدَّ على الصَّبيِّ (1).
* واختلفوا في تَخْصيصِ هذا العُموم في تَنْصيفِ حَدِّ الأمة بقياسِه على تَنْصيفِ حَدِّ الزنى، فذهبَ جمهورُ فقهاء (2) الأمصارِ إلى تَنْصيفِهِ، وأنه يُجْلَدُ في القَذْفِ أَرْبعين، ورُويَ عن الخُلفاءِ الأربعةِ، وعنِ ابنِ عباس -رضي اللهُ تعالى عنهم - (3).
وذهبَ قومٌ إلى أن حَدَّهُ كالحُرِّ، وبهِ قالَ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والأوزاعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأَهْلُ الظاهِرِ (4).
* وكذلكَ اختلفوا في تخصيصِه بالوالدِ إذا قَذَفَ وَلَدَهُ.
فقال الجُمْهورُ: لا يُحَدُّ لقذفِه؛ كما لا يُقْتَلُ بهِ إذا قَتَلَه.
وقالَ أبو ثَوْرٍ بالعُمومِ، فَأَوْجَبَ عليه الحَدَّ (5).
(1) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 76)، و"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 105)، و"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 353)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 255)، و"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 371)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 330)، و"مواهب الجليل" للحطاب (6/ 298)، و"الهداية" للمرغيناني (2/ 112)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 40).
(2)
"فقهاء" ليس في "أ".
(3)
انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 78)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 256)، و"الهداية" للمرغيناني (2/ 112)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 513) وما بعدها.
(4)
انظر: "المحلى" لابن حزم (11/ 162).
(5)
انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 79)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 23)، و"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 156)، و"الهداية" للمرغيناني (2/ 113)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 55).
* واتفق أهلُ العلمِ على أن المرادَ برمي المحصناتِ هو الرميُ بصريح الفاحشة، واختلفوا في التَّعْريضِ بها، ووقع ذلكَ بينَ الصحابةِ في زمنِ عُمَرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه -، فاستشارَهُم، فاختلفوا عليه: فرأى عمرُ أنَّ عليهِ الحَدَّ، وبهِ قالَ مالكٌ (1).
ورأى ابنُ مسعودٍ سقوطَ الحَدِّ، وبهِ قالَ عَطاءٌ، والثوريُّ، وابنُ أبي ليلى، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ (2)؛ لِما فيه من دَرْءِ الحَدِّ بالشُّبْهَةِ، ولأنَّ اللهَ سبحانَه أباحَ التعريضَ بالخِطْبَةِ في العِدَّةِ، فدلَّ على مُخالَفَةِ التَّعْريضِ للتصريحِ في الحُكْمِ.
والقرآنُ وردَ في قذفِ المُحْصَناتِ من النساءِ، والمُحْصَنونَ من الرِّجالِ في مَعْناهم بإجماعِ أَهْلِ العلمِ بالقرآن (3).
* ثم حكمَ اللهُ سبحانَهُ في القاذِفِ بأنه لا تُقْبَلُ شهادَتُه أبداً، وسَمَّاه فاسِقاً، ولعنَهُ في آيةٍ أخرى (4)، ثم رفع الله عنه سِمَةَ الفسقِ بالتوبةِ، فقال:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5].
* واتفقوا على أن الحَدَّ لا يسقطُ بالتوبة؛ لأنه حَقٌّ متعلِّقٌ بالآدميِّ.
(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 518 - 519)، و"أحكام القرآن" للجصاص (5/ 111)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (12/ 173).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 111)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 43)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 261 - 262)، وعن الإمام أحمد روايتان، انظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 81).
(3)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 514)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 125)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (12/ 209).
(4)
وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23].
* واختلفوا في قَبولِ شهادتِه:
فذهبَ أبو حنيفةَ إلى رَدِّ شَهادتِه أبداً (1).
وذهبَ مالِكٌ والشافعيُّ إلى قَبولها إذا تابَ (2).
قالَ جَماعةٌ منْ أهلِ العلمِ بالأُصول: والسببُ في اختلافِهم هذا هو اختلافُهم في الاستثناءِ إذا تعقبَ جُمَلاً، هل يعودُ إلى الجملَةِ الأخيرةِ، أو إلى الجميع، إلا ما أخرجه الدليل؟
وعندي أنَّ المُلجِئَ لأبي حنيفةَ إلى رَدِّ شهادته ذكرُ التأبيدِ الذي ذَكَرَهُ اللهُ سبحانَهُ، وجعلهُ عقوبةً للشهادةِ (3) المفتريةِ الكاذبةِ، فلا تقبلُ أَبَداً.
ولكنَّ الجمهور من الأصوليين على أن النسخ يرفَعُ الحُكْمَ الذي قَبْلَهُ، وإنْ كانَ مَقْروناً بلفظِ التأبيدِ، وينبغي أن يكونَ مثلَهُ التخصيصُ؛ لأن النسخَ تخصيصُ الأزمانِ، وتَخْصيصُ العُمومِ تَخْصيصُ الأعيانِ.
فإن قلتم: فقدِ استدلَّ أبو حنيفةَ بحديثِ عمرِو بنِ شُعَيْبٍ عن أبيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوزُ شهادَةُ خائنٍ، ولا خائِنَةٍ، ولا مَحْدودٍ في الإسلام، ولا ذي غِمْرٍ على أخيهِ"(4)، فما الجواب عنُه، وما دليلُ الشافعيِّ من السنَّةِ؟
(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 118)، و"الهداية" للمرغيناني (3/ 122).
(2)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 105)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 332)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (12/ 180)، و"الأم" للشافعي (7/ 90)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (17/ 24)، وهو مذهب الإمام أحمد، انظر:"المغني" لابن قدامة (10/ 190 - 191).
(3)
في "ب": "للسانه".
(4)
تقدم تخريجه.
قلْنا: هذا حديثٌ لم يَرْوِهِ عَنْ عَمْرِو ثقةٌ، والَّذي رواهُ عن عَمْرٍو، وهو ثقةٌ، لم يذكرْ فيهِ المَحْدودَ، وإن صَحَّ، فالمرادُ بهِ قبلَ أن يتوبَ؛ كما هو المرادُ بسائرِ مَنْ ذكرَ معهُ من ذَوي الغِمْرِ والخِيانَةِ.
وأمّا حُجَّةِ الشافعيِّ، فإنه قالَ: أنا سُفيانُ بنُ عيينة قال: سمعتُ الزُّهْرِيَّ يقولُ: زعمَ أهلُ العراقِ أَنَّ شهادَةَ القاذِفِ لا تجوزُ، أشهدُ لأَخْبَرَني سعيدُ بنُ المسيِّبِ أَنَّ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - قال لأبي بَكْرَةَ: تُبْ تُقْبَلْ شَهادَتُكَ، أو: إنْ تُبْتَ تقبلْ شَهادَتُكَ.
قال: وأخبرني مَنْ أثقُ بهِ من أهلِ المدينةِ عنِ ابنِ شهابِ عن سعيدِ بنِ المسيِّبِ: أن عُمَرَ بنَ الخَطّابِ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - لَمَّا جَلَدَ الثلاثةَ، استتابهم، فرجع اثنان، فقبلَ شهادَتَهُما، وأبى أبو بكرةَ أنْ يرجعَ، فردَّ شهادَتَه.
قال: وبلغَني عن ابن عباسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما -: أَنَّه كانَ يجيزُ شهادةَ القاذفِ إذا تابَ.
وقال بقبولِ شهادتِه عطاءٌ، وطاوسٌ، ومجاهدٌ، والشعبيُّ (1).
* فإن قلتُم: فهل هذا الحَدُّ حَقٌّ للهِ عز وجل وللمَقْذوفِ جَميعاً، أو للمقذوفِ وَحْدَهُ؟
قلنا: اختلفَ الفقهاءُ في ذلك: فذهبَ أبو حنيفةَ، والثوريُّ، والأوزاعيُّ إلى أنه حَقٌّ للهِ تَعالى، فلا يَسْقُطُ بِعَفْوِ المقذوفِ (2).
(1) انظر: "الأم" للأمام الشافعي (7/ 89)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (10/ 152 - 153).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 114)، و"الهداية" للمرغيناني =
وذهب الشافعيُّ إلى أنه حَقٌّ للمقذوف وَحْدَهُ، ويَسْقُطُ بعفوِه (1).
وقال قومٌ: حَقٌّ لهما، لكنْ إن بلغَ الإمامَ، غلبَ حَقُّ، فلم يَجُزِ العفوُ، وإن لم يبلغْهُ، جازَ؛ كما وردَ ذلكَ في السرقةِ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وعن مالكٍ روايتان كالقولين الأخيرين (2)، والله أعلم.
* * *
205 -
206 (5 - 6) قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 6 - 7]، الآيتان.
روينا في "صحيحِ البخاري" عن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ: أَنَّ عُوَيْمِراً أتى عاصمَ بنَ عَدِيٍّ، وكان سَيِّدَ بَني عَجْلانَ، فقال: كيفَ تقولونَ في رجلٍ وَجَدَ معَ امرأتِه رجلاً، أيقتُلُه فتقتلونَهُ، أمْ كيفَ يَصْنَعُ؟ سَلْ لي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأتى عاصِمٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فسألَهُ، فكرهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسائِلَ، فسأله عويمرٌ، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ المسائِلَ وعابَها، قالَ عُوَيْمِرٌ: واللهِ لا أَنتهي حَتَّى أسألَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلكَ، فجاء عويمرٌ فقالَ: يا رسولَ اللهِ! رجلٌ وجدَ مع امرأتِه رجلاً، أيقتُله
= (2/ 113)، و"شرح فتح القدير" للكمال بن الهمام (5/ 327).
(1)
انظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 345)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 375)، و"التفسير الكبير" للرازي (23/ 139).
وهو مذهب الإمام أحمد، انظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 77)، و"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 105).
(2)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 515 - 516)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 331).
فتقتلونَهُ، أم كيفَ يصنعُ؟ فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قَدْ أنزلَ اللهُ فيكَ وفي صاحِبَتِكَ"، فأمرَهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالمُلاعَنَة بِما سَمَّى اللهُ في كتابِه، فلاعَنَها، ثم قال: يا رسولَ اللهِ! إن حبستُها فقد ظلمتُها، فطلَّقَها ثلاثاً، فكانتْ سُنَّةً لِمَنْ كانَ بعدَهما في المتلاعنين، ثم قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"انظُروا، فإنْ جاءَتْ بهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ العَيْنَينِ عَظيم الإلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ الساقَيْنِ، فَلا أَحْسَبُ عُوَيْمِراً إلّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْها، وإنْ جاءَتْ بهِ أَحْمَرَ كأنهُ وَحَرَةٌ، فلا أَحْسَبُ عُوَيْمِراً إلا قَدْ كَذَبَ عَلَيْها"، فجاءَتْ بهِ على النَّعْتِ الذي نعتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم من تصديقِ عويمرٍ، فكان بَعْدُ يُنْسَبُ إلى أمِّهِ (1).
ورويناه فيه أيضاً عنِ ابنِ عَبّاسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما -: أَنَّ هلالَ بنَ أُمَيَّةَ قذفَ امرأتَهُ عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَريكِ بنِ سَحْماءَ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"البيَّنَةَ أو حَدٌّ في ظَهْرِكَ"، قال: يا رسولَ اللهِ! إذا رأى أحدُنا على امرأتِهِ رَجُلاً ينطلِقُ يَلْتَمِسُ البَيِّنَةَ؟! فجعلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: "البيَّنَةَ وإلاّ حَدٌّ في ظَهْرِكَ"، فقال هلالُ بنُ أميةَ: والذي بعثك بالحَقِّ! إني لصادقٌ، ولَيُنْزِلَنَّ اللهُ ما يُبَرِّئُ ظَهْري منَ الحَدِّ، فنزل جبريلُ، وأنزل اللهُ عليه:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} ، فقرأ حتى بلغ:{إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6 - 9]، فانصرفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأرسلَ إليها، فجاءَ هلالٌ فشهدَ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول:"إنَّ اللهَ يعلمُ أَنَّ أَحَدَكُما كاذبٌ، فهلْ منكما (2) تائِبٌ؟ "، ثم قامت فشهدَتْ، فلما كان عندَ الخامسةِ وَقَفُوها وقالوا: إنها مُوجِبَةٌ، قال ابنُ عباسٍ: فَتَلَكَّأَتْ ونَكَصَتْ حتى ظَنَنَّا أنها ترجعُ، ثم قالَتْ: لا أَفْضَحُ قومي سائرَ اليومِ، فمضت، وقال النبيُّ: صلى الله عليه وسلم: "انْظُروها، فإنْ جاءَتْ به أَكحَلَ العَيْنَيْنِ سابغَ
(1) رواه البخاري (4468)، كتاب: التفسير، باب: قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ
…
}.
(2)
في "أ": "منكم".
الإلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ الساقَيْنِ، فهو لِشَريكِ بنِ سَحْماءَ"، فجاءَتْ به كذلك، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلا ما مَضَى مِنْ كتابِ اللهِ، لَكانَ لِي وَلَها شَأْنٌ" (1).
والظاهِرُ عندي - واللهُ أعلمُ - أنَّ هذه القصةَ (2) والتي قبلَها سببُ نُزولِ هذهِ الآية؛ كما هو مُصَرَّحٌ بهِ في القِصَّتينِ (3) من لَفْظِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومن لَفْظِ الراوي في حَديثِ ابنِ عَبّاسٍ، فقد يتفقُد السؤالُ من رَجُلَيْنِ، ويُنزل اللهُ الحكمَ جواباً لهما، والتشبيهُ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم في إحدى القصتين (4) بشَريكِ بْنِ سَحْماء، وفي الأُخْرى بِصِفَتِه يحتملُ أن يكونَ السائلانِ قذفا امرَأَتيهِما به، ويحتملُ أَنَّ أحدَهما قذفَ امرأتَهُ بهِ، والآخر قذفَ امرأتَهُ برجلٍ يشبههُ، ولست أعلم فيه شيئاً، واللهُ أعلمُ.
فَبَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حُكْمَ المتلاعِنَيْنِ كما بينهُ اللهُ سبحانَه، وأجمعتِ الأمةُ عليهِ.
واختلفوا في هذا البَيانِ، هلْ هوَ بطريقِ النَّسْخِ، أو بطريقِ التخصيصِ؟
فقال قومٌ: هو بطريقِ النَّسْخِ، فهذهِ الآيةُ ناسخةٌ (5) لوجوبِ الحَدِّ على الزوجِ بِقَذْفِ زَوْجَتِه.
واحتجُّوا بحديثِ ابنِ عباس -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما -، فإنَّه يدلُّ دَلالةً بينةً على أن الحَدَّ كان واجِباً على القاذِفِ لزوجتِه، أو لغيرِها؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم
(1) رواه البخاري (4470)، كتاب: التفسير، باب: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ
…
}.
(2)
في "ب": "القضية".
(3)
في "ب": "القضيتين".
(4)
في "ب": "القضيتين".
(5)
انظر: "ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه"(ص: 42)، و"قلائد المرجان" (ص: 135).
أوجبَ عليهِ الحَدَّ، ويدلُّ على أنَّ الآيةَ الأولى كانَتْ عامَّةً في القاذفِ لزوجتِه ولغيرِها، ثم أخرج منها القاذف لزوجته، وحكي هذا عن ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما -، وهذا القولُ لا يستقيمُ إلَّا على قولِ مَنْ يقولُ: إنَّ البيانَ لا يتأخَّرُ عنِ الخِطاب.
وذهبَ قومٌ من المُحَقِّقين إلى أنه بطريقِ التَّخصيصِ، وأن هذهِ الآيةَ تدلُّ على أن المُرادَ بالآيةِ الأولى القاذفُ لغيرِ زوجَتِه، وأنها منَ الخِطاب الذي يردُ عامًّا، ويُرادُ به الخاصُّ، ولهذا قالَ الشافعيُّ -رحمه اللهُ تعالى -: فيفرقُ بينَهما كما فَرَّقَ اللهُ، ويجمعُ بينَهما حيثُ جمعَ اللهُ.
ولهؤلاءِ أنْ يقولوا: إنما أوجبَ عليهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحَدَّ اتِّباعاً لِعُمومِ كتابِ اللهِ تعالى، لا أنه حكمٌ قدِ استقرَّ، وذلكَ باجتهادٍ واستدلالٍ منه صلى الله عليه وسلم، والاجتهادُ جائزٌ لهُ، وواجبٌ عليهِ عندَ أكثرِ أهلِ العلمِ.
* وعُمومُ هذهٍ الآيةِ كعُموم الآيةِ الأولى، فيدخلُ فيها كُلُّ مَنْ كانَ يصلُح لهُ الخِطابُ من ذوي التكليف، فَيَصِحُّ اللِّعانُ من كل زوجٍ يَصِحُّ طلاقُهُ ويمينُهُ، سواءٌ كانا حُرَّيْنِ، أو عَبْدَينِ، مُسلمين أو كافرين، أو أحدُهما حُرًّا والآخرُ عبداً، أو أحدُهُما كافراً، والآخرُ مسلماً، أو أحدُهما محدوداً، والآخرُ غيرَ محدود، وبهذا قالَ مالكٌ والشافعيُّ -رحمهما الله تعالى - (1).
وذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابُه إلى تخصيص هذا العُموم، فلا يجوزُ اللِّعانُ إلا لمسلمينِ حُرَّينِ عَدْلَينِ (2)؛ لأن اللهَ سبحانه وتعالى سَمّاهما شُهَداء،
(1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (12/ 186)، و"القوانين الفقهية"لابن جزي (ص 161)، و"المهذب" للشرازي (2/ 124)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (11/ 12).
وعن الإمام أحمد روايتان، انظر:"المغني" لابن قدامة (8/ 40).
(2)
انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (3/ 241).
فاشترَطَ فيهما ما يشترطُ في الشهود، حتى منعَ لِعانَ الأخرسِ؛ كشهادته.
ولقائلِ أن يقولَ للحنفيَّةِ: الحُرُّ العَدْلُ المسلمُ إذا قذفَ زوجتَهُ الأَمَةَ أو الكتابِيَّةَ، فلا لِعانَ عليهِ، والشهادَةُ مقبولةٌ، فإن قالوا: إنَّما لم يَجُزِ اللِّعانُ لأنه إنَّما وُضِعَ لِدَرْءِ الحَدِّ، والحُرُّ لو قذفَ عَبْداً، أو المسلمُ قذفَ كافِراً، فلا حَدَّ عليهِ، فكذلكَ لا لِعانَ عليهِ، أَبْطَلْنا قولَهم بأنَّ هذا زيادةٌ في النَّصِّ بالقِياس، والزيادةُ نسخٌ، والقياسُ لا ينسخُ الكتابَ، ولكنَّهم احتجُّوا بما رواه عَمْرو بنُ شُعَيْبٍ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو -رضيَ اللهُ تعالى عنهما -: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أربعةٌ لا لِعانَ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ أَزْواجِهِم: اليَهودِيَّةُ، والنَّصْرانِيَّةُ تَحْتَ المُسلِمِ، والحُرَّةُ تَحْتَ العَبْدِ، والأَمَةُ عندَ الحُرِّ، والنَّصْرانِيَّةُ عِنْدَ النَّصْرانِيِّ"، وفي بعضِ طرقِه: عَنْ عمرِو بنِ شعيبٍ عن أبيهِ، عن جَدِّهِ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم (1).
وردَّهُ الشافعيةُ بأن عَمْرَو بنَ شعيبِ عن عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو منقطعٌ، وبأنّ روايته عن رجلٍ مجهولٍ، وهو يَزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، ورجلٍ مشهورٍ بالغلطِ، وهو عَطاءٌ الخراسانيُّ (2).
وأمّا هذهِ الشهادةُ فهي أيمانٌ في الحَقيقةِ، وإنْ سَمَّى اللهُ سبحانَهُ الأزواجَ شُهَداءَ؛ بدليلِ قوله تَعالى:{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 107]، وقوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ
(1) رواه ابن ماجه (2071)، كتاب: الطلاق، باب: اللعان، والدارقطني في "سننه"(3/ 163)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 396)، والديلمي في "مسند الفردوس"(1502)، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص. ورواه عبد الرزاق في "المصنف"(12508)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 395).
(2)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 133)، و "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 395).
لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1]، ثم قال:{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2]، وقد وردَ في بعضِ ألفاظِ حديثِ هلالِ بنِ أُميَّةَ:"لولا الأَيمانُ لكانَ لي ولَها شَأْنٌ"(1).
* وجعل اللهُ سبحانَهُ شهادةَ الزوجِ لنفسِه أضعفَ من شهادةِ الشُّهداءِ، فإنه إذا شهدَ أربعةُ شهداءَ، وجبَ الحدُّ على المقذوفِ، وليسَ لَهُ دَرْؤُهُ ولا دَفْعُهُ بحالٍ، وإذا شَهِدَ الزوجُ خَمْسَ شَهاداتٍ بالله، وَجَبَ على الزوجةِ الحَدُّ، ولكنَّها يمكنُها دَرْؤُهُ بشهادتِها أيضاً، وعلى هذا أجمعَ أهلُ العلمِ.
ولكنَّهم اختلفوا فيما إذا لم يأتِ الزوجُ بأربعةِ شُهَداء، أو لَمْ يشهدْ بنفسِه خَمْسَ شهاداتٍ، بل نَكَلَ عن اليمينِ.
فقالَ الجمهورُ: يُحَدُّ كالقاذِفِ الأجنبيِّ إذا لم يأتِ بأربعةِ شُهَداءَ (2)، فيُجمعُ بين القاذفِ الأجنبيِّ وبينَ القاذفِ سِواهُ فيما جمعَ اللهُ، ويفرَّقُ بينَهما فيما فرَّقَ اللهُ تعالى، ويدلُّ عليه أيضًا قولُه صلى الله عليه وسلم:"البَيِّنَةَ أو حَدٌّ في ظَهْرِكَ"(3).
وقال أبو حنيفةَ: لا يُحَدُّ، بلْ يُحْبَسُ (4)؛ لأنه لا ذِكْرَ لِحَدِّ الزَّوْجِ في
(1) رواه أبو داود (2256)، كتاب: الطلاق، باب: في اللعان، والإمام أحمد في "المسند"(1/ 238)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده"(2740)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 395)، عن عبد الله بن عباس، بهذا اللفظ.
(2)
انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 48)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (11/ 82)، و"روضة الطالبين" للنووي (8/ 347)، و "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 380)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 89)، و"القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 162).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 147)، و"الهداية" للمرغيناني (2/ 23)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (3/ 238)، و"شرح فتح القدير" للكمال بن الهمام (4/ 281).
الآية، والتعرُّضُ لإيجابِه زيادةٌ في النَّصِّ، والزيادةُ في النصِّ نَسْخٌ، والنسخُ غيرُ جائزٍ بالقياسِ، ولا بأخبارِ الآحادِ.
ولقائلٍ أن يقولَ: قد ذكرَهُ اللهُ سبحانَهُ في كتابهِ، ودلَّ عليه بطريقِ التفهيم، فإنَّه لما أقامَ اللهُ سبحانَهُ شهادةَ الأزواجِ لأنفسِهم مقامَ الشهداءِ الأجانبِ، فهمْنا أنَّ عدمَ هذهِ الشهادةِ كعدمِ تلكَ الشهادةِ، وأن الحكمَ فيهما واحدٌ، وأن الله سبحانه قال:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8]، فدلَّ على أن هذا العذابَ قد وجبَ عليها، فكذلكَ الزوجُ إذا لم يَدْرَأْ عن نفسِه العذابَ، فقد وجبَ عليهِ.
* وكذلكَ اختلفوا في العذابِ الواجِبِ عليها إذا لم تَشْهَدْ خَمْسَ شهاداتٍ.
فقال مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ وجمهورُ أهلِ العلمِ: هو حَدُّ الزنى (1).
وقال أبو حنيفةَ: العذابُ هو الحبسُ حتى تُلاعِنَ (2)، واحتجَّ لهُ بقولِه صلى الله عليه وسلم:"لا يَحِلّ دَمُ امرئٍ مسلمٍ إلا بإحْدى ثلاثٍ: كفرٌ بعدَ إيمانٍ، أو زِنىً بعدَ إِحْصانٍ، أو قَتْلُ نَفْسِ بغيرِ حَقٍّ"(3)، وبأن القاعدةَ المقررةَ في الشريعةِ أنَّ الأموالَ لا توجبُ بالنُّكولِ، فبطريقِ الأَوْلى لا تُسْفَكُ بِها الدماءُ، وتزهقُ بها الأرواحُ.
(1) انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (11/ 80)، و"التمهيد" لابن عبد البر (15/ 33)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 91)، و"القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 162).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 147)، و"الهداية" للمرغيناني (2/ 23)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (3/ 238)، و"شرح فتح القدير" للكمال بن الهمام (4/ 281).
(3)
تقدم تخريجه.
واختار قولَهُ إمامُ الحرمينِ من الشافعيَّةِ في كتابِه "البرهان"، وابنُ رُشْدٍ من المالكية (1).
والقولُ بهذا ضعيفٌ، واختيارُه غَفْلَةٌ عن سِرِّ الشريعة؛ فإنَّ هذا ليسَ حُكْماً بالنُّكولِ؛ لأنَّ اللهَ سبحانَهُ جعلَ شهادةَ الزوجِ خَمْسَ مَرّاتٍ كشهادَةِ أربعةِ شُهداءَ في دَفْعِ حَدِّ القذفِ عنهُ، وفي إيجابِ الحَدِّ عليها، فلو شهدَ عليها أربعةُ شهداءَ، لسقطَ الحدُّ عن قاذِفها، وَلَوجَبَ الحَدُّ عليها، فكذلك شهادتُه تُسقطُ الحَدَّ عنهُ، وتوجبُ الحَدَّ عليها، فهو من القتلِ بالزنى بعدَ الإحصان، وإنما أوجبَ اللهُ سبحانه شهادةَ أربعةٍ على القاذفِ غيرِ الزوج؛ لعظمِ هذهِ الجريمةِ والافتراء، وهو في غُنْيَةٍ عن القَذْفِ، بخِلاف الزوج؛ فإن بهِ ضرورةً إلى ذكرِها بالفاحشةِ لهتكِ فراشِهِ وحفظِ نسبِه، فجعلَ اللهُ شهادتَه خمسَ مَرَّاتٍ كشهادَةِ أربعةِ شُهداءَ، ولم يوجبْ عليه شهادَةَ الأجانبِ؛ لعسرِ ذلك عليه، وعِظَمِه لديه، ألم يرو هؤلاءِ إلى قولِ هلالِ بنِ أميةَ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حيثُ قال: يا رسول الله! إذا رأى أحدُنا على امرأتِه رجلاً ينطلقُ يلتمسُ البينة (2)؟! ثم أتمَّ اللهُ لطفَه بالمرأةِ لاحتمالِ كذبِ الزوجِ عليها بأنْ جعلَ لها أن تدرأَ عنها العذابَ بخمسِ شَهاداتٍ بالله، وهذا من مَحاسِنِ هذه الشريعةِ، وعجائِب لطفِ الله تعالى بهذه الأمة في حفظِ أنسابِها، ولا يحسُنُ إطلاقُ العذابِ على الحَبْس؛ لأنه ليس هنا أمرٌ معهودٌ بالعذابِ للزاني إلا الحَدّ، فالألفُ واللامُ في العذابِ للعَهْدِ، لا للجِنْسِ، ألم يرَ هؤلاءِ إلى قوله صلى الله عليه وسلم:
(1) انظر: "البرهان في أصول الفقه" لإمام الحرمين (2/ 798)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 90).
(2)
تقدم تخريجه من حديث ابن عباس في قصة هلال بن أمية.
"لَوْلا ما مَضى من كتابِ اللهِ، لَكان لي ولَها شأنٌ"(1)، فهل يرى أن هذا الشأنَ الذي أشارَ إليهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وَنوَّهَ بهِ هوَ الحبسُ؟ كَلاً بل هو أمرٌ فوقَهُ وأكبرُ منه.
* وسَنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مع كتابِ اللهِ تَعالى الفُرْقَةَ بينَ المُتَلاعِنَيْنِ، فقالَ للزوجِ:"لا سَبيلَ لكَ عليها"(2).
وقد اختلَفَ أهلُ العلمِ في حقيقةِ تفريقِه صلى الله عليه وسلم.
فقالَ أبو حنيفةَ: هو بطريقِ الحُكْمِ منُه صلى الله عليه وسلم، فلم تقعِ الفرقةُ إلا بحُكْمِهِ وأمرِه، فكذلكَ لا تقعُ الفرقةُ بعدَهُ إلا بحُكْمِ حاكِمٍ (3).
وقال مالكٌ والشافعيُّ: هو شَرْعٌ، وليسَ بحكمٍ، فتقعُ الفرقةُ بنفسِ اللِّعانِ، ثم قالَ مالكٌ: تقعُ بعدَ الفَراغِ من لِعانِها؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يفرقْ بينَهما إلا بعدَ تمامِ اللِّعانِ، وقالَ الشافعيُّ: بعدَ الفراغِ من لِعانِ الزوجِ؛ لأنَّ لعانَها لدرءِ العذابِ عَنْها (4).
* وقد بينَ اللهُ سبحانه اللِّعانَ، وأتم ترتيبَه وبيانَه، ولهذا لم ينقلْ في شيءٍ من رواياتِ الحديثِ لفظٌ لاعَنَ بهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بين المُتلاعنين، وإنَّما وردَ: فأمرَهُما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالمُلاعَنَةِ بما سَمَّى اللهُ في كتابِه، فلو بدأتِ
(1) تقدم تخريجه من حديث ابن عباس في قصة هلال بن أمية.
(2)
تقدم تخريجه من حديث ابن عباس في قصة هلال بن أمية.
(3)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 150)، و"الهداية" للمرغيناني (2/ 42)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (3/ 244).
(4)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 97)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 90 - 91)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (12/ 193)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 159).
وعن الإمام أحمد روايتان، انظر:"المغني" لابن قدامة (8/ 52).
المرأةُ قبلَ الرجلِ، لم يجزْ عندَ الشافعيةِ (1)، وفيهِ عند المالكية خِلافٌ (2)، ولو أبدلَ الزوجُ أو الزوجةُ ألفاظَهُ التي ذكرَها اللهُ تَعالى؛ كإبدالِ الشَّهادَةِ بالحلفِ، وإبدالِ اسمِ الله بالرَّبِّ، وإبدالِ اللَّعْنَةِ بالغَضَبِ، أو تركَ الترتيبَ، فقدم الشهادةَ باللَّعنةِ على غيرها، لم يَصِحَّ على الأَصَحِّ عندَ الشافعيةِ (3).
* إذا تَمَّ هذا، فقد اتفقَ أهلُ العلمِ على أن الرَّمْيَ الذي شُرِعَ لهُ اللِّعانُ هو الرميُ بصريحِ الفاحشةِ، ثم هو لا يخلو إمّا أن يكونَ قذفاً مطلَقاً، أو قذفاً مقيَّداً بالمشاهدة لها تزني:
فذهب مالكٌ إلى اشتراطِ التقييدِ في الدَّعوى، كما وردَ في القصةِ من قوله: الرجلُ يَجِدُ مع امرأتِه رَجُلاً (4).
وذهبَ الجُمهورُ كأبي حنيفةَ، والشافعيِّ، وأحمدَ، وداودَ، والثوريِّ إلى عدمِ اشتراطِ التقييدِ؛ لظاهرِ إطلاقِ القرآنِ (5).
(1) انظر: "الأم" للشافعي (5/ 289)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (11/ 57)، و"روضة الطالبين" للنووي (8/ 352).
وهو مذهب الإمام أحمد، انظر:"المغني" لابن قدامة (8/ 56)، و"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 391).
(2)
انظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص 161).
(3)
انظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 375)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 89).
(4)
انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 87)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (12/ 185)، و"حاشية الدسوقي"(2/ 458).
(5)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 140)، و"روضة الطالبين" للنووي (8/ 328)، و"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 373)، و"المغني" لابن قدامة (8/ 40)، و"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 397).
واختلفوا في نَفْيِ الحَمْلِ من غيرِ ذكرِ الفاحشةِ:
فذهب الجُمهور إلى إلحاقِهِ بالتَّصريحِ بالفاحشة.
وقال بعضُهم: لا يجوزُ نفيُه من غيرِ ذكرِ قذفٍ.
ثم على قولِ الجُمهورِ لا يخلو إما أن ينفيَه نَفْياً مطلَقاً، أو نفياً مقيَّداً بالاستبراءِ، فأما النفيُ المقيَّدُ، فلا خلافَ فيه، وأما النفيُ المطلَقُ، فمنعَهُ مالكٌ، وجَوَّزه الشافعيُّ، وداودُ، وأحمدُ (1).
* فإن قيلَ: فإذا كانَ للزوجِ شهداءُ، فهل لهُ اللِّعانُ، أو ليسَ لهُ؛ لأن اللهَ سبحانَه شرطَ عدمَهم؟ قلنا: ذهبَ إلى اعتبارِ الشرطِ أبو حنيفةَ وداودُ (2)، فلا يجوزُ اللِّعانُ عندَهما إذا قامتِ البينةُ بِزِناها.
وذهبَ مالكٌ والشافعيُّ إلى أنَّ الشرطَ خرجَ على غالب الوُجود، وأنه يجوزُ له اللِّعانُ، وإن قامَتِ البينةُ (3).
* فإن قيل: فالمرأةُ إذا قامتْ عليها البينةُ هل لها درءُ العذابِ عنها باللعان، وتكونُ البينةُ كشهادتِه باللهِ، أو ليسَ لَها؛ كما لو قامت عليها البينةُ بدعوى غير الزوج؟ قلت: أما مذهبُ الشافعيِّ، فلها، ولستُ أعلمُ في حالِ كتابي لهذا الكتابِ قولَ غيرِه، والله أعلمُ.
(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 95 - 96)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 87)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (12/ 185).
(2)
انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (3/ 238).
(3)
انظر: "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 381).