الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة ست وتسعين وثلثمائة
فيها ذكر المسبحي خبر أبي ركوة الوليد بن هشام بن عبد الملك بن عبد الرحمن الأموي ولد بالأندلس وقدم القيروان، فانتصب يعلم الصبيان بها القرآن، ثم دخل إلى مصر فأقام بها وبأريافها يعلم الصبيان مدة، ثم خرج إلى الإسكندرية وقد أكثر الحاكم من الإيقاع ببني قرة وأكثر من قتلهم وتحريقهم بالنار، فخلعوا طاعته. وسبب ذلك أن بني قرة كان شيخهم مختار بن القاسم، فلما بعث الحاكم يحيى بن علي الأندلسي يخرج فلفول بن سعيد بن خزرون بطرابلس على صنهاجة ساروا معه إلى طرابلس، وجرت الهزيمة عليه ورجعوا إلى برقة. فتنكر لهم الحاكم، فامتنعوا عليه، فبعث لهم بالأمان؛ فقدم وفدهم إلى الإسكندرية فقتلهم عن آخرهم سنة أربع وتسعين. وكان عندهم معلم القرآن واسمه الوليد بن هشام، ينسب إلى المغيرة بن عبد الرحمن من بني أمية؛ وكان يزعم أن له أثارة من علم، ويخبر بأنه سيملك ما ملكه آباؤه، وكان يقال له أبو ركوة. فدعاهم إلى نفسه فبايعوه، وتلقب بأمير المؤمنين الناصر لدين الله.
ثم بعث إلى لواتة ومزانة وزناتة فاستجابوا له؛ ورحل إلى برقة، والناس يباركونه في كل يوم فيسلمون عليه بالخلافة ويقبلون له الأرض، فيجلس في وسطهم ويقول: أنا واحد منكم وما أريد شيئا من هذه الدنيا: ولا أطلبها إلا لكم، وليس معي مال أعطيكم
وإنما لي عليكم طاعة، وإن نصرتموني نصرتم أنفسكم، وإن قاتلتم معي أخذتم حقكم بأيديكم فيقولون له: يا أمير المؤمنين نحن مبايعون لأمرك مطيعون لك، فمرنا بأمرك.
فلم يزل معهم يطوف قرى برقة ويأخذ البيعة، إلى أن عظم أمره وهو فيما بين الإسكندرية وبرقة. فبعث إليه الحاكم جيشا عليه ينال الطويل التركي في نصف شعبان سنة خمس وتسعين، فواقعه أبو ركوة وقتله ومعظم عسكره، وظفر من الأموال والخيل والسلاح والنعم الجليلة بما قوى به، واشتد بأسه.
وكان في ظهور أبي ركوة طلع كوكب الذؤابة، فكان يضئ كالقمر وله بريق ولمعان، ويقوى ويكثر نوره وأمر أبي ركوة يشتد ويعظم. فأقام هذا الكوكب شهورا، ثم اضمحل نوره وضعف لمعانه وأخذ أمر أبي ركوة ينقص ويضعف إلى أن أخذ أسيراً، فغاب الكوكب ولم ير بعد ذلك؛ فكان شأن هذا الكوكب في دلالته على أبي ركوة من أعجب العجب.
وابتدأ الحاكم في تجريد العساكر شيئا بعد شيء، ونزل أبو ركوة بعد ظفره على برقة فحاصرها، وصندل الحاكم أميرها يقاتله، حتى اشتد الحصار ومنع أهل برقة من الميرة، ففر صندل، ومعه شيوخ البلد، إلى الحاكم، وحثه على بعث الجيوش، وأعلمه بقوة أبي ركوة واستفحال أمره. ودخل أبو ركوة إلى مدينة برقة واستخرج الأموال، وأقطع بني قرة أعمال مصر، مثل دمياط وتنيس والمحلة وغيرها، وكتب خطه بذلك؛ وأقطع دور القواد والأكابر التي بالقاهرة ومصر؛ وجدد البيعة لنفسه. فندب الحاكم لقتاله القائد أبا الفتوح فضل بن صالح في ربيع الأول سنة ست وتسعين، وأتبعه بالعساكر فاجتمعت
بالإسكندرية، وسار بها، فلقيه أبو ركوة بذات الحمام. وكانت بينهما حروب آلت إلى هزيمة العسكر والاحتواء على ما فيه من مال وسلاح؛ فعظم شأن أبي ركوة.
ووردت الجند على الحاكم بذلك للنصف من رمضان، فكان من تدبير الحاكم أن دعا بوجوه رجاله وقواده، فأمرهم أن يكاتبوا أبا ركوة ويعرفوه أنهم على مذهبه ورأيه، وانه إن توجه إليهم وقرب منهم صاروا في جملته وقاتلوا معه؛ وذكروا ما يقاسونه من قتل وجوههم وأكابرهم، وأنهم لا يأمنون في ليلهم ولا نهارهم، مع ما يسمعونه من انتقاص الشرف ونحو هذا. فكتبوا بذلك وأنفذوا إليه عدة كتب من كل واحد منهم كتابا مع رسوله.
فلما تواتر ذلك عليه وثق به ولم يشك فيه، وحشد جموعه ووعدهم بأموال مصر ونعمها، وسار. فخلع الحاكم على أبي الحسن علي بن فلاح، وسيره إلى ضبط بركة الحبش في عسكر، فأقام بها أياما؛ ثم عدى إلى الجيزة، وتلاحقت به العساكر براً وبحراً. واضطربت الأسعار بمصر، وعدم الخبز وبيع مبلولاً ستة أرطال بدرهم، وكان يباع عشرة أرطال بدرهم، وأنفق في العساكر المتوجهة لكل واحد أربعةً وعشرين دينارا.
وكوتب على بن صفوح بن دغفل بن الجراح الطائي، فحضر في سابع عشر شوال، وخلع عليه، وطرق بطوق من ذهب، وحمل.
وتزايد سعر الدقيق والخبز وروايا الماء، وازدحم الناس عليها.
وخلع على القائد فضل بن صالح ثوب ديباج مثقل طميم أحمر ومنديل ذهب، وقلد بسيف وحمل على فرس بمركب ذهب، وبين يديه تسعة من الخيل وثلاثون بندا مذهبة
وأربعة عشر سفطا فيها أنواع الثياب. وسار إلى الجيزة، وأكمل لكل واحد من العساكر السائرة خمسون دينارا. ونزلت إليه خزانة السلاح.
وورد الخبر بنهب الفيوم؛ فجهزت إليها سرية، فأوقعوا بأصحاب أبي ركوة وبعثوا إلى القاهرة بعدة رؤوس طيف بها.
وسار القائد فضل من الجيزة في رابع ذي القعدة والغلاء بالعسكر، فبيعت الويبة من الشعير بخمسة دراهم والخبز ثلاثة أرطال بدرهم.
وأقام على بن فلاح في مضاربه بالجيزة، وحمل إليه خيمة وخمسة أفراس بمراكبها، وسيف، وألفا دينار وثلاثون ثوبا، فأنفق في أصحابه.
فلما كان في ثامن عشر ذي القعدة وقع في الناس خوف في الليل وضجيج، فنزلت العساكر طائفة بعد طائفة، والناس جلوس في الشوارع وعلى أبواب الدور ليلهم كله، يبتهلون بالدعاء بالنصر، فلحقت هذه العساكر بابن فلاح وهو بالجيزة؛ فسير عسكراً إلى الفيوم، وأقام على خوف ووجل. فبلغ أبا ركوة إقامة علي بن فلاح بالجيزة، فأسرع إليه وكبس عسكره ونهب سواده؛ وأخذت خزائن السلاح؛ ووقع القتال الشديد فقتل خلق كثير من أصحابه وجرح خلق لا يحصى. ولما نزلت خزائن السلاح من عند الحاكم مع قائد القواد، وعظم البكاء والضجيج على شاطىء النيل لكثرة القتلى في العسكر، منع ابن فلاح من حمل الموتى إلى مصر، وأمر بدفنهم في الجيزة. وافتقد كثير من العسكر فلم يعلم لهم خبر، ولم يسلم من العسكر إلا القليل؛ فغلقت الأسواق، وجلس الناس بالشوارع
غما لما جرى على العسكر؛ وتزايد البكاء من الناس على فقد آبائهم ومعارفهم. وباتوا وأصبحوا يوم السبت العشرين منه، فورد الخبر بدخول أبي ركوة في جموعه إلى الفيوم؛ وسار فضل بن صالح لقتاله، فالتقى معه في ثالث ذي الحجة وحاربه، فكانت وقعة عظيمة قتل فيها ما لا يحصى كثرة. وانهزم أبو ركوة، واستأمن بنو كلاب وغيرهم من العرب. فسارت العساكر في طلب أبي ركوة، وحضرت الرؤوس من الفيوم ومعها الأسرى، وهي تجاوز ستة آلاف ومائة أسير، فطيف بها بالبلد، وقتل الأسرى بالسيوف بع ما لحقهم أنواع البلاء بيد العامة، يصفعون أقفيتهم وينتفون لحاهم، ويضربونهم، حتى تفتحت أكتاف كثير منهم، فكان أمراً مهولاً. وتواتر مجيء من أخذ من عسكر أبي ركوة فجيء بخلق كثير وعدة رؤوس.
ودخل ابن فلاح من الجيزة فخلع عليه. واستمر القائد فضل في طلب أبي ركوة هو يبعث بمن قبض عليه من الرجال وبرؤوس من يقتلهم شيئاً بعد شيء. وعاد علي بن الجراح من عند القائد فضل فخلع عليه.
وفي الثاني من جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين ورد الخبر من القائد الفضل بن صالح بحصول أبي ركوة ووقوعه في يده، فابتهج الناس لذلك؛ وخلع على قائد القواد وعلى أولاده وعلى البدوي الذي خرج في طلب أبي ركوة حتى أدركه ببلد النوبة؛ وعلى أبي القاسم علي بن القائد فضل، وعلى ابنه. وذلك أن أبا ركوة دخل بعد هزيمته إلى بلد النوبة، فتبعه القائد فضل وبعث إلى ملك النوبة بالقبض على أبي ركوة، وسير إليه عسكراً مع الكتاب. فلما بلغوا أطراف النوبة وجدوا أبا ركوة قد اختفى بدير هناك وله فيه أربعة عشر يوماً؛ فدلهم عليه رجل من العرب، فقبضوا عليه في ربيع الأول منها
وأتوا به إلى القائد فضل. فسار به إلى مصر ونزل بركة الحبش يوم الجمعة للنصف من جمادى الآخرة، فخرج إليه قائد القواد بسائر رجال الدولة، وسلم عليه، وأبو ركوة في مضرب ومعه القائد فضل؛ فأقام هناك إلى بكرة يوم الأحد سابع عشره؛ فصار من بركة الحبش بعساكره وأبو ركوة على حمل فوق سرير، وعليه ثوب مشهر، وفوق رأسه طرطور طويل ومعه رجل يمسكه. وذلك أنه لما ألبس الطرطور صاح: يا فضل، يا أبا الفتوح، ما كذا ضمنت لي. فصفع صفعة منكرة وأمسك يديه هذا القائد خلفه، وقد اجتمع الناس من كل جهة، فكان جمعا لم ير مثله كثرة، وأوجرت الدور والحوانيت بحمله وبات الناس على الطرقات حتى وصل به إلى القصر، فأوقف ساعة على باب القصر وهو يشير بأصبعه ويطلب العفو، والصفع في قفاه؛ ويقال له قبل الأرض فيقبل؛ ثم سير به إلى مسجد تبر. فلما خرج من باب القاهرة أشار إلى الناس يرجمونه بالحجر والاجر، ويصفعونه وينتفون لحيته، حتى عاين الموت مرارا، إلى أن بلغ مسجد تبر، فضرب عنقه وصلب جسده؛ وحل رأسه إلى الحاكم؛ فخلع على القائد فضل وغيره من القواد والعرفاء الذين كانوا معه، وخلع على قائد القواد. فكان يوماً عظيما مهولاً لكثرة اجتماع الناس.
وأقاموا ليلتين في الحوانيت والشوارع وعلى أبواب الدور يظهرون المسرة والفرح.
وأظهر أبو ركوة في مواقف الألم صبرا وتجلدا؛ وكان لا يخاطب القائد الفضل إلا باسمه أو بكنيته. ولما أقام في بركة الحبش، وخرج الناس ورأوه، كان يسأل من يلقاه عن اسمه وكان يتلو القرآن ويترحم على السلف. وكان شاباً أسمر تعلوه حمرة، مستن الوجه طويل الجبهة، أشهل بزرقة، أقنى، صغير اللحية، أصهب إلى الشقرة ظاهر القلوب تبين فيه الجد، لا يكاد يتجاوز ثلاثين سنة يوم قتل. ويقال إنه ولد رجل من موالي بني أمية.
ولما قتل أبو ركوة نفذت الكتب إلى الأعمال كلها بخبر الفتح. فلما كان في رجب ورد شيوخ كل ناحية وقضاتها، وقضاة الشام وشيوخه، لتهنئة الحاكم بالظفر وأخذ أبي ركوة. وقدم أبو الفتوح حسن بن جعفر الحسني أمير مكة في شعبان لتهنئته، فخلع عليه وأكرمه، وأنزل بدار برجوان.
وفيه أرجف الناس بأن القائد فضل بن صالح ينظر في أمور الدولة وتدبيرها بدل قائد القواد حسين بن جوهر؛ وكان بينهما في الباطن تباعد من جهة الرتبة والحسد عليها: وكان القائد فضل قد تفاقم وعظم تيهه وترفعه على قائد القواد في قوله وفعله: قال المسبحي: قال لي الحاكم بأمر الله وقد جرى حديث أبي ركوة: ما أردت قتله ولكن جرى في أمره
ما لم يكن عن اختياري، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ما قصر عبدك الفضل بن صالح في خدمته، قال: وإيش تظن أن فضل أخذ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، هذا قول الناس. فقال: والله العظيم ما أفلح فضل في حركته تلك، ولا أنجح ميزاننا. أنفقنا ألف ألف دينار ذهبا صناعا، وإنما أخذه ملك النوبة وأنفذ به إلي. فقلت صدقت يا أمير المؤمنين وعلمت أن هذا مما قرر قائد القواد الحسين بن جوهر في نفسه ليبطل فعل فضل وخدمته، فاستقر.
وأما خبر القاهرة فإنه جرى الأمر في يوم عاشوراء على العادة من تعطيل الأسواق وخروج المنشدين والناحة إلى جامع القاهرة، فتظاهروا فيه بسب السلف، فقبض على رجل ونودي عليه: هذا جزاء من سب عائشة وزوجها؛ وضربت عنقه. وتقدم الأمر إلى أصحاب الشرطة ألا يتعرض أحد لسب السلف، ومن فعل ذلك قبض عليه، فانكف الرعاع عن السب والتعرض للحاج.
وللنصف من صفر وردت قافلة الحاج.
وفي نصف ربيع الأول جمع الحاكم نحو ألفي باقة نرجس وأتحف بها الأولياء.
واستهل رجب بيوم الأربعاء، فخرج أمر الحاكم إلى أصحاب الدواوين بأن يؤرخوه بيوم الثلاثاء.
وفيه هبت ريح عاصفة، ثم أرعدت ونزل المطر وفيه برد كهيئة الصفائح إذا سقط إلى الأرض تكسر، فكان فيه ما يبلغ وزنه زيادة على أوقيتين، وفيه ما هو قدر البيضة، فغطى الأرض؛ وأقام الناس أياما يتبعونه في الأسواق. ولم يعهد مثل ذلك بمصر.
وجرى الرسم في شهر رمضان كل ليلة على العادة، وصلى الحاكم فيه بالناس صلاة الجمعة وخطب ثلاث مرات. وصلى يوم عيد الفطر بالناس وخطب بالمصلى على عادته.
وللنصف من ذي القعدة سارت قافلة الحاج بكسوة الكعبة وصلات الأشراف وغيرها على ما جرى به الرسم.
وفتح الخليج في السابع والعشرين من مسرى والماء على خمس عشرة ذراعاً وأصابع، فلم يركب الحاكم لفتحه؛ ولم يوف ست عشرة ذراعاً إلى ثامن توت؛ فخلع على ابن أبي الرداد، وحمل.
واجتمع الناس الذين جرت عادتهم بحضور القصر لسماع ما يقرأ من كتب مجالس الدعوة، فضربوا بأجمعهم، ولم يقرأ عليهم شيء.
وفيها رجل بنو قرة من البحيرة بأرض مصر إلى ناحية من عمل برقة مع كبيرهم مختار بن قاسم.