الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة تسع وثلاثين وأربعمائة
فيها عمل الوزير أبو منصور الفلاحي على أبي سعيد سهل بن هرون التستري اليهودي وقتله عند خان العبيد. وذلك أن أم المستنصر كانت جارية أبي سعيد هذا، فأخذها منه الظاهر وتسراها، فولدت له ابنه المستنصر، فرقت أبا سعيد درجةً عليه بعد وفاة الظاهر. وكان يخاف الوزير الجرجرائي، فلم يظهر ما في نفسه. فلما مات الجرجرائي وتولى الفلاحي انبسطت كلمة أبي سعيد في الدولة، بحيث لم يبق للفلاحي معه في الوزارة أمر ولا نهي، سوى الاسم فقط وبعض التنفيذ لا غير، وأبو سعيد يتولى ديوان أم الخليفة المستنصر. فغض الفلاحي بأبي سعيد وشغب عليه الجند حتى قتلوه. وذلك أن بني قرة، عرب البحيرة، أفسدوا في الأعمال، فخرج إليهم الخادم عزيز الدولة ريحان، وأوقع بهم وقتل منهم، وعاد وقد عظم في نفسه لمعالجة النصر على بني قرة والظفر بهم. فثقل على أبي سعيد أمره واستمال المغاربة وزاد في واجباتهم، ونقص من أرزاق الأتراك ومن ينضاف إليهم؛ فجرى بين الطائفتين حرب بباب زويلة. واتفق مرض ريحان وموته، فاتهم أبو سعيد أنه سمه؛ وتجمع الطوائف المنحرفة عنه على قتله. فركب من داره على العادة يريد القصر، في يوم الأحد لثلاث خلون من جمادى الأولى، في موكب عظيم؛ فلما قرب من القصر اعترضه ثلاثة من الأتراك وضربوه حتى مات. فأمر المستنصر بإحضار من قتله، فاجتمع الطوائف وقالوا نحن قتلناه. فلم يجد المستنصر بداً من الإغضاء. وقطع الأتراك أبا سعيد قطعاً، وتناولت الأيدي أعضاءه فتمزقت؛ واشترى أهله ما قدروا على تحصيله من جثته بمال. وجمع الأتراك ما قدروا عليه من أعضائه ورمته، وحرقوا ذلك بالنار، وألقوا عليه من التراب
ما صار به تلا مرتفعا. وضم أهله ما وصل إليهم منه في تابوت وأسدلوا عليه ستراً، وتركوه في بيت مؤزر بالستور وأوقدوا الشموع، وأقاموا عزاءه. فتعلقت من بعض الشموع شرارة في الستور التي هناك ومضت فيها، فاحترق التابوت بما فيه.
وكان مقدار ما حصل في بيت المال البراني على يدي أبي نصر صدقة الوزير وأبي سعيد إبراهيم التستري من يوم مات الوزير علي بن أحمد الجرجرائي وإلى أن قتل أبو سعيد سبعمائة ألف دينار. والذي مات عنه الجرجرائي، وهو حاصل بيت المال المذكور برسم النفقات، ألف وسبعمائة ألف وستمائة وواحد وعشرون ديناراً ونصف ونصف ثمن دينار. فصار حاصل بيت المال برسم النفقات إلى أن قتل أبو سعيد ألقى ألف دينار وأربعمائة ألف دينار وستمائة دينار وواحد وعشرون ديناراً ونصف ونصف ثمن دينار.
ورد المستنصر لأبي نصر، أخي أبي سعيد، خزانة الخاص، ولولدي أبي سعيد النظر في بعض الدواوين. وحقدت أم المستنصر على الوزير أبي منصور صدقة بن يوسف الفلاحي بسبب قتل أبي سعيد، وما زالت به حتى صرفته عن الوزارة واعتقلته بخزانة البنود. وقيل كان صرفه في سادس المحرم سنة أربعين.
واتفق أنه لما قبض عليه وسجن بخزانة البنود وأمر بقتله بها، حفرت له حفيرة ليوارى فيها، فظهر للفعلة عند الحفر رأس، فلما رفع سئل عنه الفلاحي، فقال هذا رأس ابن الأنباري، وأنا قتلته ودفن في هذا الموضع؛ وأنشد:
ربّ لحدٍ قد صار لحداً مراراً
…
ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
وكان أبوه أحد الكتاب البلغاء؛ وتولى ديوان دمشق.
ومن أحسن ما قيل في أبي سعيد، وقد كره أذاه للمسلمين أنه كان يحلف: وحق النعمة على بني إسرائيل، قول الرضي فيه:
يهود هذا الزّمان قد بلغوا
…
غاية آمالهم، وقد ملكوا
العزّ فيهم والمال عندهم
…
ومنهم المستشار والملك
يأهل مصر إنّي قد نصحت لكم
…
تهوّدوا قد تهوّد الفلك
وفيها استقر في الوزارة بعد الفلاحي أبو البركات الحسين بن عماد الدولة بن محمد بن أحمد الجرجرائي، ابن أخي الوزير صفي الدين، ولقب بالوزير الأجل الكامل الأوحد، علم الكفاة، سيد الوزراء، ظهير الأئمة، عماد الرؤساء، فخر الأمة، ذي الرئاستين، صفى أمير المؤمنين.
وفيها ابتدأ أمر أبي محمد الحسن بن علي بن عبد الرحمن اليازوري. وكان من خبره أن أباه علي بن عبد الرحمن كانت له حال واسعة ببلد يعرف بيازور، من ضياع فلسطين، وكان مقدماً فيها؛ فلما كبرت حاله انتقل إلى الرملة واستوطنها، وصارت له وكلاء في الضياع. فاشتهر هناك وعرف بالعفة والصدق وسماح النفس، فرد إليه قضاء بعض أعمال الرملة. ونشأ له ابنان نجيبان، ولي أحدهما الحكم بعد أبيه إلى أن توفى، ثم خلفه أخوه عبد الرحمن هذا من بعده، فعرف بسعة النفس وسعة الأخلاق؛ فاتصل بخدمة الوزير الجرجرائي، فصر بذلك ممنوعاً ممن يريده بسوء.
واتفق أنه حج قبل قدومه إلى مصر، فلما زار قبر رسول الله نام في الحجرة الشريفة، فسقط عليه خلوق من الزعفران الملطخ في حوائط الحجرة، فجاء بعض الخدام وأيقظه من نومه وقال: أيها الرجل، إنك تلي ولايةً عظيمة وقد بشرتك، فلي منك الحباء والكرامة.
ثم انتقل بتلطفه وكثرة مداخلته إلى خدمة السيدة أم المستنصر، فتقرب بخدمتها، ولازم بابها عندما صرف عن الحكم بفلسطين يسأل عوده إلى وطنه وخدمته فيها؛ وهو مع ذلك يواصل الوزير الفلاحي ويؤانسه، فيبدأه بما في نفسه من أبي سعيد التستري، فيفاوضه في التدبير على المذكور، ويفتح له من العمل عليه ما يظهر له صوابه. فثقل مكانه على أبي منذر لقربه من أم المستنصر ولمما لأنه الوزير الفلاحي؛ وهم به، ثم تراخى عنه، حتى كان من أمره ما كان؛ وأمر اليازوري في كل يوم يتزايد وحاله يقوى. إلا أن قاضي القضاة وداعي الدعاة قاسم بن تاميلا كان يمتنع من رد الحكم إليه ببلده، لما يعلم من سوء رأي أبي سعيد فيه، وأنه يريد القبض عليه؛ فكان ينحرف عنه ولا يلتفت إليه.
واتفق أن حضر قاضي القضاة ذات يوم بباب البحر من القصر، على عادته في كل يوم اثنين، لتقبيل الأرض والسلام أو خروج السلام عليه، ويجلس معه من الشهود من جرى رسمه بذلك. فلما جلس بباب البحر وخليفتاه القضاعي وابن أبي زكرى والشهود دخل أبو محمد اليازوري وجلس معهم؛ فقال له قاضي القضاة: بأمر من جلست ههنا! أتظن أن المجالس كلها مبذولة لكل أحد أن يجلس فيها؟ هذا مجلس لا يجلس فيه إلا من أذنت له حضرة الإمامة وشرفته به؛ اخرج، فوالله لا تضرفت على أيامي أبدا. فخرج ورجلاه لا تكادان تحملانه، فوقف بباب البحر إلى أن خرج قاضي القضاة، فسار وخليفتاه والشهود معه، فسار في أعقابهم، وسبقهم ووقف بباب دار القاضي؛ فلما نزل صنع له استعطافا، فلم يعره طرفه وانصرف. فلقيه القضاعي وقال: يا أبا محمد، كان يجب ألا تريه وجهك عقب ما جرى لك معه. وفارقه. فلقيه ابن زكرى وخطابه بجفاء. فرد إلى داره مغموماً، فوجد ثلاثين حملاً من تفاح قد وصلت إليه من ضياعه لتباع بمصر، فأنفذ منها خمسة أحمال إلى الوزير، ولقاضي القضاة خمسة أحمال، وللقائد الأجل عدة الدولة رفق خمسة أحمال، ولمعز الدولة معضاد خمسة أحمال، ولابن أبي زكريا ثلاثة أحمال، وللقضاعي
خمسة أحمال، وفرق حملين على حراسهم. فلم يلتفت أحد منهم إليه، ولا عطف عليه، ما خلا القائد الأجل عدة الدولة رفق فإنه شكره وأثنى عليه. وهو مع ذلك يقف بباب البحر، فإذا أقبل عدة الدولة رفق يريد القصر تلقاه وسلم عليه، فيكرمه ويسأل عن حاله، ثم يدخل إلى القصر؛ فإذا خرج وجده واقفاً على حاله فيسلم عليه ويتبعه إلى داره؛ فإذا دخل انصرف عنه. فأقام على ذلك أياما، فخف على قلبه ورغب في اصطناعه؛ فصار إذا وصل إلى داره أمره بالنزول معه، فينزل، ويتحدثان وكان حلو الحديث فيطيل عنده، ثم ينصرف. فصار يشتاقه إذا غاب، ويمسكه إذا أراد الانصراف حتى تحضر المائدة.
وكانت أم المستنصر لما هلك أبو سعيد توقفت أمور خدمتها، فأحضرت أخاه وأمرته بخدمتها، فامتنع خوفا من الوزير والأتراك؛ واستمرت ثلاثة أشهر تسأله وهو يمتنع. فحضر أبو محمد اليازوري يوماً، فجلس عدة الدولة رفق، وجرى بينهما امتناع أبي نصر، أخي أبي سعيد، من خدمة أم المستنصر، فقال له رفق: أرى أن تكتب رقعة تلتمس خدمتها وتعرض نفسك عليها. فقال أبو محمد: قد كنت أظن جميل رأيك فيّ وإيثارك مصلحة حالي، وأكذبني ظني. فقال: بماذا؟ فقال: الهزء بي، فإني قد أجهدت في العود إلى قرية كنت فيها فبخل علي بها. فكيف أتعرض لهذا الأمر الكبير ومناوأة الوزراء! فقال له: أما ترضاني سفيراً لك في هذا الأمر، وعلي استفراغ الوسع فيه، لوجوب حقك علي، فإن قضت الأقدار ببلوغ الغرض في ذلك فقد أدركنا ما نؤثره، وإن تكن الأخرى فقد أكثر من العطلة ما تحصل. فأجاب إلى ذلك، وكتب إلى السيدة رقعة يعرض نفسه وماله عليها، ويخطب خدمتها، ويبذل الاجتهاد فيها؛ وأخذها منه رفق.
فلما كان من الغد ركب إلى القصر، ودخل إلى السيدة وقد أحضر أبو نصر، وعاودته الخطاب في خدمتها وهو يمتنع؛ حتى أضجرها؛ فانتهز عز الدولة رفق الفرصة بضجرها وقال: يا مولاتنا، قط طال غلق بابك ووقف خدمتك في امتناع الشيخ أبي نصر
مما نريده منه؛ وههنا من أنت تعرفينه، وهو رجل مسلم وقاض، وكبير المروءة، وهو مستغن بماله وأملاكه عن التعرض لما لك، وهو ثقة ناهض كاف فقالت: من هو؟ فقال القاضي أبو محمد اليازوري، وهذه رقعته. فأمرته بتسليمها إلى أبي نصر، وقالت: ما تقول فيه؟ فلم يصدق بذلك. فقال يا مولاتنا، هو والله الثقة الأمين الناهض الذي يصلح لخدمتك، وفيه لها جمال، وما تظفرين بمثله. فوقع ذاك منها بالموافقة. فقال لرفق: قل له يجلس في داره غداً حتى أنفذ إليه؛ فسر بذلك وخرج، فإذا أبو محمد في انتظاره على عادته، فسار، ولحق به أبو محمد، فقال له: أقمح أم شعير؟ فقال: بل بر يوسفي، وقص عليه الخبر. فلما كان الغد جاء الرسول مستدعياً له، فركب إلى بابها، فأحضرته وأدخلته وراء المقطع وردت إليه أمر بابها والنظر في ديوانها، الذي هو باب الريح، وجميع أحوالها؛ ونزل. فبلغ ذلك الوزير، فكبر عليه وأقلقه أن تم على غير يده، وأنه لا يقبل قوله عند السيدة لما في نفسها منه لقتل أبي سعيد.
وأقبل الأمراء الأتراك إلى القاضي أبي محمد، فهنئوه بما صار إليه؛ فقام إليهم وتلقاهم، وأعظم سعيهم إليه وشكرهم، وقال: ما أنا إلا خادم ونائب لموالي الأمر، أسأل في تشريفي بما يعين لهم من خدمة لأنهض فيها. ثم لما قاموا نهض قائما لوداعهم. وأخذ الوزير الفلاحي في العمل عليه، فلم يمض إلا أيام حتى قبض عليه وقتل.