الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة اثنتين وستين وأربعمائة
فيها بعث ناصر الدولة حسين بن حمدان الفقيه أبا جعفر محمد بن أحمد بن البخاري رسولاً منه إلى السلطان ألب أرسلان، ملك العراق، يسأله أن يسير إليه العساكر ليقيم الدعوة العباسية بديار مصر، وتكون مصر له. فتجهز ألب أرسلان من خراسان في عساكر عظيمة، وبعث إلى محمود بن ثمال بن صالح بن مرداس، صاحب حلب، أن يقطع دعوة المستنصر ويقيم الدعوة العباسية، فقطعت دعوة المستنصر من حلب ولم تعد بعد ذلك. وانتهى ألب أرسلان إلى حلب في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وحاصرها شهرا، فخرج إليه صاحبها محمود بن ثمال بن صالح بن مرداس، فأكرمه وأقره على ولايته. وأخذ يريد المسير إلى دمشق ليمر منها إلى مصر، وإذا بالخبر قد طرقه أن متملك الروم قد قطع بلاد أرمينية يريد أخذ خراسان، فشغله ذلك عن الشام ومصر ورجع إلى بلاده؛ فواقع جمائع الروم على خلاط وهزمهم. وكان قد ترك طائفة من عسكره الأتراك ببلاد الشام فامتدت أيديهم إليها وملكتها كلها، فخرجت عن أيدي المصريين ولم تعد إليهم.
وبلغ المستنصر إرسال ناصر الدولة إلى ألب أرسلان، فجهز إليه ثلاث عساكر من الأتراك وغيرهم، وتقدم أحد العساكر إليه وهو في أهل البحيرة، فجمع له ابن حمدان وأوقع به وقعة انكشفت عن أسر مقدم العسكر، وقتل كثير من أصحابه، وانهزام من بقي، والاستيلاء على ما بقي معهم؛ فتقوى به. ووافاه العسكر الثاني ولا علم عندهم بما اتفق على من تقدم، فكانت الدائرة لابن حمدان عليهم أيضا؛ فسار وهجم على العسكر الثالث وقتل منهم وأسر،
وانتهب عامة ما كان معهم، فكثرت أمواله، وكبرت نفسه، واستأسد على المستنصر واستخف به وبمن معه، فقطع الميرة عن القاهرة ومصر، وعاث في البلاد؛ ونهب أكثر الوجه البحري. وقطع خطبة المستنصر من الإسكندرية ودمياط وجميع الوجه البحري، وخطب للخليفة القائم بأمر الله العباسي. وامتدت الحرب بين الأتراك وعبيد الشراء ثمانية أشهر يتحاربون ليلا ونهارا، فامتنع الناس من الحركة؛ وجاء النيل ووفى فلم يقدروا على الزرع، فتفاقم البلاء بالناس واشتد جوعهم وعظمت رزاياهم. وفشا مع ذلك الموت في الناس فكان يموت الواحد من أهل البيت في القاهرة أو مصر، فلا يمضي ذلك اليوم أو تلك الليلة حتى يموت سائر من في ذلك البيت. وعجز الناس عن مواراة الأموات فكفنوهم في الأنخاخ؛ ثم عظمت شناعة الموت وتضاعف العجز، فصاروا يحفرون الحفائر الكبار ويلقون فيها الأموات بعضهم على بعض، حتى تمتلئ الحفيرة بالرمم من الرجال والنساء والصغار والكبار، ثم يهال عليها التراب. ومع هذا تكاثر انتهاب الجند للعامة واختطافهم من الطرقات فخرج أهل القوة من القاهرة ومصر يريدون بلاد الشام والعراق هرباً من الجوع والفتن، فصار إلى تلك البلاد عامة التجار وأصحاب القوة، ومعهم ثياب المستنصر وذخائره وآلاته التي تقدم ذكر طرف منها.
وفيها حاصر أمير الجيوش بدر مدينة صور وبها عين الدولة أبو الحسن علي، الملقب بالناصح، ثقة الثقات ذي الرئاستين، ابن عبد الله بن علي بن عياض بن أحمد بن أبي عقيل القاضي، وضايقها؛ فسير عين الدولة إلى الأمير لواء مقدم الأتراك الواردين من العراق إلى بلاد الشام لينجده؛ واتصل ذلك بأمير الجيوش، فخاف من الأتراك، فرحل عن صور. ثم لما اطمأن عاد إلى صور ونازلها فلم يظفر منها بشيء.
وفيها قطعت دعوة المستنصر من مكة ودعي بها للقائم العباسي وللسلطان عضد الدولة ألب أرسلان بن داود بن ميكال بن مسلجوق بن دقاق. وكان سبب انقطاع دعوة المستنصر بها أنه كان ينفق في كل سنة على القافلة المجهزة إلى مكة في الموسم مائة ألف وعشرون ألف دينار، منها عن الطيب والخلوق والشمع راتباً في كل سنة عشرة آلاف دينار، ونفقة الوفد الواصلين إلى الحضرة أربعون ألف دينار، وعن الجرايات والصدقات وأجرة الجمال
ومعونة من يسير من العسكرية وأمير الموسم وخدم القافلة والضعفاء وحفر الآبار ونفقات العربان ستون ألف دينار. ثم زادت النفقة في وزارة اليازوري حتى بلغت إلى مائتي ألف دينار في السنة؛ ولم تبلغ النفقة على موسم الحج مثل ذلك في دولة من دول الإسلام قط. فلما ضعفت الدولة في هذه السنين وزحف عضد الدولة من خراسان إلى حلب بعث إلى محمد ابن أبي القاسم الحسني أمير مكة بثلاثين ألف دينار وبخلع سنية وأجرى له في كل سنة عشرة آلاف دينار؛ وبعث إلى صاحب المدينة عشرين ألف دينار؛ فقطع خطبة المستنصر بعدما قامت الدعوة والخطبة للمستنصر ولآبائه بمكة والمدينة مائة سنة، ودعا للقائم العباسي ولعضد الدولة؛ وقرر عضد الدولة ما يحمل إلى الحرمين على ارتفاع واسط.