الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة خمس عشرة وأربعمائة
أهل المحرم بيوم السبت. وفي تاسعه أخذ رجل يقال له أبو زكريا، كان نصرانيا فأسلم، وكتب الحديث وقرأ القرآن، وحج، ثم ارتد إلى النصرانية وقال: ما عمل فيّ سحر نبيكم؛ فضرب عنقه بعد ما ثبت عليه هذا. وفي ثالث عشره أخذ كتابي يعرف بأحمد بن طاطوا وعليه أثر السفر، فزعم أنه ورد من الكوفة، وأنه كان مع الحاكم بأمر الله، أرسله إلى الناس لينتهوا عما هم عليه؛ فضرب عنقه.
ولسبع عشرة بقيت منه سار أبو القاسم بن رزق البغدادي إلى صقلية بسجل وهدية فيها مغنيات من القصر. وفيه ركب الظاهر إلى نواحي عين شمس وعليه ثوب بنكي أحمر معلم مذهب، على رأسه عمامة شرب بنكي مذهب؛ وعاد.
ولعشر بقين منه امتنع شمس الملك الأمين المكين أبو الفتح مسعود بن طاهر الوزان من النظر في الوساطة حنقا من الشريفين العجميين. لأنهما يتوليان الأمر دونه، ومكاتبة أعمال الشام وغيره، وقراءة التخريج، وعرض كتب البريد وكتب المطلقات؛ وأقام في داره ثلاثة أيام. فاستدعاه الظاهر وأمره بالعود إلى خدمته، فعاد إلى النظر، وجلس على رسمه على باب الذهب يأمر وينهي.
ولخمس بقين منه كان ثالث فصح النصارى، فاجتمع بقنطرة المقس من النصارى والمسلمين في الخيام المنصوبة وغيرها خلق كثير طول نهارهم في لهو وتهتك قبيح، واختلط الرجال بالنساء وهم يعاقرون الخمر، حتى حملت النساء في قفاف الحمالين من شدة السكر؛ فكان المنكر شديدا في هذا اليوم.
وركب الظاهر في موكب إلى المقس بعمامة شرب مفوطة بسواد، وثوب دبيقي مدير بسواد، فدار هناك طويلا وعاد.
ولثلاث بقين منه ورد من أهل الريف زيادة على خمسة آلاف رجل فارين من عدة الدولة وعمادها، رفق الخادم، متولى السيارة بأسفل الأرض لعسفه. وقدم الخبر باجتماع العرب الهلاليين والكلابيين وبني قرة وجهينة على الخارجي بالصعيد؛ وبعث حيدرة بن نقيايان، متولى الصعيد، يطلب عسكرا، فسير إليه خلق من العبيد، والباطلية، والبرقية، وغيرهم.
وأهل صفر وأوله الاثنين. في ثلاث قدم الحاج وفيه خلائق من أهل خراسان، معهم أمتعة، ورسول صاحب خراسان بهدية إلى الظاهر؛ فأكرم وأنزل. وكان من خبرهم أن حاج خراسان تأخر عن الحج في سنتي عشرة وإحدى عشرة، فاستغاث الناس بالسلطان يمين الدولة أبي القاسم محمود بن سبكتكين، فتقدم إلى قاضي مملكته أبي محمد الناصحي في الحج، ونادى بذلك في أعمال خراسان، وأطلق للعريان ثلاثين ألف دينار سوى ما سيره للصدقات؛ فساروا وحجوا، وعادوا سالمين. ثم حجوا بعد ذلك في سنة
أربع عشرة، ومنهم أبو علي الحسن بن محمد المعروف بحسنك، صاحب عين الدولة والخصيص به، وفي مهمته ما يدفع إلى العرب في طريق مكة وغيرها من رسومهم؛ فدفع كل من استضعفه، ووعد من قوي جانبه وخيفت أذيته بإزاحة علتهم عند مرجعه، واحتج عليهم بالوقت وضيقه وخيفة الفوت؛ فأخروا مطالبته. فلما قضي الحج وعاد ممن معه إلى المدينة النبوية اجتمع هو وأبو الحسن محمد بن الحسن الأقساسي العلوي، أمير الحاج البغدادي، وعدة من وجوه الناس، للنظر في أمر العرب، فاستقر رأيهم على السير إلى الرملة من وادي القرى والمضي على الشام إلى بغداد. فساروا إلى الرملة، وقدم الخبر بقدومهم إليها على الظاهر في ثاني عشر صفر، وقالوا إنهم في ستين ألف جمل ومائتي ألف إنسان بكتاب بعث به إليه الأقساسي يستأذنه فيه على عبور بلاد الشام. فسر بذلك وكتب إلى جميع ولاة الشام بتلقيهم وإنزالهم، وإكرام مقدمهم، وعمارة البلاد لهم بالطعام والعلف، وإطلاق الصلات للفقهاء والقراء وإقامة الأنزال الكثيرة لحسنك، صاحب عين الدولة، والتناهي في إكرامه. وتقدم إلى مقدمي عساكر الشام بحفظهم والمسير في صحبتهم، وأن يتسلمهم صالح بن مرداس من دمشق ويوصلهم الرحبة، ويدفع إلى الأقساسي ألف دينار وعدةً كثيرة من الثياب، وإلى حسنك مثل ذلك؛ وقيد إليه فرس بمركب ذهب. فساروا من الرملة موقورين مجبورين شاكرين حتى وصلوا إلى بغداد، وعرج حسنك عنها خوفا من الإنكار عليه. فاشتد ما فعله الظاهر على الخليفة القادر بالله، وأنكر عودتهم على الشام، وصرف الأقساسي عما كان إليه وقبضه؛ وأنكر على حسنك، وكتب فيه إلى عين الدولة، واستدعى منه الفرس والقماش والخلع الواصلة إلى حسنك
لتحرق ببغداد؛ فبعث بها في جمادى الآخرة سنة ست عشرة؛ فأحرقت بمحضر من الناس وسبك الذهب وفرق على الفقراء، وغنم الظاهر حسن الثناء عليه من حاج خراسان وما وراء النهر، لما كان من إحسانه إليهم وزيارتهم بيت المقدس.
وفي ثاني عشره وافى عماد الدولة رفق من السيارة بعدة عظيمة وثلاثمائة رأس من الخيل والبغال فإنه أخذ كل فرس وجده، وبين يديه سبعون بنداً مذهبة، وعشرون منجوقاً، فتلقاه جميع أهل الدولة. وكانت عدة من قتله في هذه السفرة، وهي خمسة وثلاثون يوما، مائتين وثلاثة أنفس. وقدم زين الملك إبراهيم بن علي بن مسعود مصروفا عن مدينة منور، فتلقى وأكرم.
وفي سادس عشره ركب الظاهر إلى ناحية عين شمس وعاد. وقدم الخبر من حسن بن جعفر الحسني أنه أقام الدعوة للظاهر بعرفات وغيرها، ومنع أهل خراسان من الدعوة لصاحبهم. ولثلاث عشرة بقيت منه ركب الظاهر إلى المشتهى، ودخل حمام نجاح الطولوني، ثم ركب العشاريات في النيل إلى المعتوق بالكوم الأحمر، وقطع له الجسر حتى عبره، ثم عاد إلى القصر.
وفي يوم الجمعة لإحدى عشرة بقيت منه جمع الناس كافة إلى الإيوان بالقصر، فلما اجتمع الناس في صحن الإيوان خرج القائد أبو الفوارس معضاد، الخادم الأسود، وعليه ثوب طميم حسن وعلى رأسه عمامة شرب، طائرة كثيرا، بالذهب محرق اللون، ومعه سجل قرىء على العامة والخاصة بتلقيبه بالقائد عز الدولة وسنانها أبي الفوارس معضاد الظاهري،
وأن أمير المؤمنين لقبه وكناه؛ وهو سجل بليغ. ثم حمل بعد قراءته على أربعة من الخيل بسروج مصفحة ثقال، وعليه سيف ذهب تقلد به؛ وخرج جميع المصطنعة وسائر القواد والناس معه إلى داره؛ فكان يوما حسنا.
وفيه ورد الخبر بأن الثائر الذي قام بالصعيد الأعلى أنزل حيدرة بن نقيايان حتى حصل في يده، وكان شريفاً حسنيا، فأقر أنه قتل الحاكم بأمر الله في جملة أربعة أنفس تفرقوا في البلاد، فمنهم من مضى إلى برقة ومنهم من مضى إلى العراق، وأنه أظهر له قطعة من جلد رأسه وقطعة من الفوطة التي كانت عليه. فقال له حيدرة ولم قتلته؟ فقال: غرت لله وللإسلام؛ فقال: وكيف قتلته؟ فأخرج سكينا فضرب بها فؤاد نفسه، فمات بعدما قال هكذا قتلته. فقطع حيدرة رأسه وأنفذه إلى الحضرة مع ما وجده معه.
وقدم الخبر بوقوع الحرب بين بني قرة ببرقة.
ولعشر بقين منه جلس الظاهر في قصر الذهب بعد أن زين وبسط وعلقت فيه الستائر الديباج والستور المذهبة، وعلق جميع السقائف كلها بالستور وفرشت بالفروش. وحضر أمراء الأتراك وقد لبسوا أفخر ثياب من المثقل والطميم، وحضر جميع الكتاميين وسائر الجند؛ ودخل الناس أجمعون؛ ووقف شمس الملك مسعود بن طاهر الوزان على يمين السرير، وبقية الناس وكافة عبيد الدولة قيام، فلم يجلس أحد. وجي بالرسول الوارد من خراسان ومعه ابن له صغير فقبل التراب للظاهر، ثم أمر أن يطوف به القصر كله، فطاف جميع القصور المعمورة؛ وقام الظاهر وانصرف الناس. ولثمان بقين منه أهدى
هذا الرسول إلى الحضرة المطهرة نحو خمس عشرة ناقة محملة ورقاً طلحا وإهليلجا وغير ذلك، فقبل منه.
ولسبع بقين منه تسلم ديوان الكتاميين من الأمير شمس الملك مسعود بن طاهر الوزان، ورد النظر فيه إلى القائد عز الدولة معضاد، فاستخدم في تدبير أمواله أبا اليسر اصطخر بن مينا الأسيوطي شركةً بينه وبين صدقة بن يوسف الفلاحي اليهودي الوافد، ونظر هو في أمر رجاله وفي التوقيع في أيامهم. ثم بعد أيام أخذ من شمس الملك بعض إقطاعه، وقبض منه، ورد إلى يمين الدولة سعادة وبقيت في يده بقية الأعمال. وفي هذا الشهر سار ذو القرنين ابن حمدان إلى دمشق.
شهر ربيع الأول؛ أوله الثلاثاء. في خامسه وصلت هدية والي الفيوم، وهي مائة وخمسون فرسا بأجلة. وفي سادسه خرج الأمر لابن خالد الغرابيلي، متولى ديوان البريد، بأن يسلم إلى صاحب ديوان الشام جميع ما يرد من حساب الشام، ورفعت يد شمس الملك عنه. ورسم أن يكون الشيخ العميد محسن بن بدواس زماماً على أبي عبد الله محمد بن أحمد الجرجرائي في ديوان الشام، مفرداً عن نظر شمس الملك؛ كما أفرد ديوان الكتاميين عن نظره. فصارت هذه العصبة منفردة بمعضاد في التدبير والتقرير، وهم الشريفان العجميان
والجرجرائيان عصب الدولة أبو القاسم علي بن أحمد وأخوه أبو عبد الله محمد بن أحمد، ومحسن بن بدواس وابن خيران. وفي رابع عشره خلع على جناح بن يزيد الكتامي، وحمل على فرسين، وقلد طبرية.
وفي سابع عشره ركب الظاهر وعاد. وفي هذا الشهر اشتد غلاء القمح، وبيع التليس بثلاثة دنانير، والشعير بأربع ويبات بدينار، والخبز رطلين ونصفا بدرهم. وعز وجود التبن فأبيع الحمل بدينار؛ وغلت أصناف الحبوب وعامة ما يؤكل. ولم ير النيل فيما تقدم من السنين أقل نقصانا منه في هذه السنة.
وفي ثالث عشريه ركب الظاهر إلى مسجد تبر، وعاد. وفيه نزل القائد الأجل معضاد والشيخ العميد أبو القاسم الجرجرائي ومحسن بن بدواس صاحب بيت المال إلى مصر، فأثبتوا تركة بنت أبي عبد الله بن نصر امرأة أبي جعفر بن قائد القواد الحسين بن جوهر، فوجد فيها وبرادات مكللة بالجوهر، وأمر جليل من المال والجوهر لأن للسلطان منها الثلث.
وفي هذا الشهر أمر ببناء حظير دائر على مقياس النيل بالجزيرة، ووكل به الشريف أبو طالب محمد بن العجمي متولى الصناعة، فبناه بالحجر الأبيض، وأنفق عليه مالا كثيرا. ونقل إليه الحجر من حظير كبير كان مبنيا على الشاطىء بناحية طرا.
وفيه دخل كلب إلى الجامع العتيق بمصر فطاف بالجامع بأسره، فقام إليه الناس وقتلوه في الصحن، فجرى دمه على الحصر فغسلت بعد إخراجه من الجامع.
وقد وصلت هدية من بلد النوبة فيها عبيد وإماء، وخشب أبنوس، وفيلة، وزرافات
شهر ربيع الآخر، أوله الخميس. في رابعه ورد الخبر بأن عبد الله ابن إدريس الجعفري ومعه أحد بني جراح طرق أيلة ونهبها، وأخذ منها نحو الثلاثة آلاف دينار وغلالا، وسبى النساء والأطفال. وسبب ذلك أنه سأل حسان بن جراح أن يرد إلى ولايته على وادي القرى، ورغب أن يتوسط له مع الظاهر، فلم يجبه، ففعل ما فعل. فخرجت سرية من القاهرة لحربه.
وفيه نزل الظاهر إلى البيمارستان متنكرا في عبيده، فطافه، وأطلق لكل من المجانين خمسين درهما، وللقيم عليهم خمسمائة درهم؛ ورسم بعمارته وإجراء الماء إليه على رسمه، وأن يطبخ للمجانين كل يوم ما يأكلونه بعد أدويتهم. وفي ثامنه قدم الخبر بنهب عبد الله بن إدريس بلد العريش وإحراقه وأخذ جميع ما كان فيه بمعاونة بعض أولاد ابن جراح. وفيه اجتمع في قافلة المغرب خلق من التجار ومعهم من الأموال قريب من مائتي ألف دينار بالجيزة، فأنذروا بطائفة من العبيد والجوالة والقيصرية قد تجمعوا لنهبهم فبعث معهم نحو ثلثمائة فارس وأربعمائة راجل، وساروا إلى المغرب.
وفي ثامن عشره جلس الظاهر للناس في المجلس الذي كان يجلس فيه أبوه بقصر الذهب، ودخل الناس إليه من باب العيد على طبقاتهم. ودخل ناصر الدولة حسين بن الحسن ابن حمدان، متولى طرابلس، وقد صرف عنها، فتلقى بالبنود وعدتها أربعون بنداً ملونة، وخمس بنود مذهبة، وعدة من الطبول؛ فقبل التراب، ثم قبل يد الظاهر، هو والشريف الحسني ابن موسى المقيم بدمشق؛ ووقفا؛ فأمرا بالجلوس على يسار القائد معضاد فجلسا. ثم انقضى السلام وانصرف الناس. فلما كان وسط النهار نزلت طائفة من جواري القصر في طائفة من الخدم إلى دار الجوهر ودار الصرف ودار الأنماط، فابتاعوا ما أحبوا. وعادوا.
ولسبع بقين منه ركب الظاهر بغير مظلة في عساكره ومراكبه إلى مسجد تبر، وعاد؛ ثم نزل عقب ذلك مختفيا إلى الجزيرة والبساتين. وركب من الغد في العشاريات إلى الجيزة وما والاها، وعاد. وفي عشية السبت، لست بقين منه، غرق حدث في النيل، فطرده الماء إلى الشط، وأراد أهله حمله، فمنعهم أصحاب الشريف أبي طالب العجمي، متولى الصناعة، من ذلك، وطالبوهم عنه بدينارين وقيراطين، واجب الصناعة من حق من غرق في النيل، فدفع إليهم ذلك، وحمل الرجل حتى غسل ودفن في يوم الأربعاء.
ولليلتين بقيتا منه جلس الظاهر في قصر أبيه بباب الذهب على سريره المصقول المذهب، وعليه ثوب دبيقي معلم، وعمامة شرب مثقل مذهبة، وتحته فرش دبيقي مذهب، ودخل الناس من باب العيد فسلموا، وجلس من عادته الجلوس ساعة؛ ثم انصرفوا.
وفي هذا الشهر ارتفع السعر من أجل أن المراكب الواصلة بالقمح أخذت كلها ورفعت إلى القصر من المقس. وفيه طاف العامة والسوقة أسواق مصر بالطبول والأبواق يجمعون من التجار والباعة ما ينفقونه في مضيهم إلى سجن يوسف، فقيل لهم شغلنا بعدم الأقوات يمنعنا عن هذا. فأنهوا حالهم إلى الظاهر، فرسم لشافي الدولة أبي طاهر بن
كافي، متولي الشرطة السفلى، بتقرير الرسم على التجار حتى يدفعوا إلى العامة ما جرت به رسومهم؛ وأذن لهم في الخروج إلى سجن يوسف، ووعدوا أن يطلق لهم الظاهر ضعف ما أطلق لهم في السنة الماضية من الهبة، فخرجوا.
شهر جمادى الأولى؛ أوله الجمعة. فيه ركب الظاهر مبكرا مع حرمه وخدمه إلى المشتهى فأقام يومه. وفي ثالثه ركب بعساكره إلى عين شمس وعاد.
وكان الشريف أبو طالب بن العجمي صاحب الصناعة قد تنكر على ابن أبي الرداد، وأهانه، وتقابحا في الخطاب، فضربه الشريف واعتقله. فأقام قاضي القضاة أبو العباس أحمد بن أبي العوام مشارفين على ابن أبي الرداد، لسؤاله القاضي في ذلك، وهما أبو الحسن سليمان بن رستم، والخليل بن أحمد بن خليل لينهيا إليه ما يصح من أمر المقياس، فوجدا مجاري الماء مسددة، ووجدا ابن الرداد يتناول في كل سنة خمسين ديناراً لكنس المجاري، ووجدا الماء قد انتهى إلى حد، فلما فتحت المجاري طلع الماء إلى حد أكثر من الحد الذي كان عليه
وفي رابعه نزل صقلبي من صقالبة القصر بمنشور معظم إلى قاضي القضاة، وهو بالجامع العتيق، فأمره بقراءته على المنبر، فأراد أبو طالب علي بن عبد السميع العباسي أن يتولى قراءته دون أخيه أبي جعفر، وهو الأكبر، وقد صرف عن قراءة السجلات وليس له إلا خطابة الجامع العتيق. فقال له أبو جعفر: ويحك: ما تحتشم مني لسني ولأنني أخوك الأكبر، ولأنني هرعت لمولانا الحاكم بأمر الله، قدس الله روحه، وقدهم بضرب عنقك حتى خلصتك من القتل وضمنت له عنك التوبة والإنابة!! فدفع القاضي السجل إلى أبي جعفر، فقرأه فوق المنبر على كافة الناس. ومضمونه أنه انتهى إلى أمير المؤمنين أن المستخدمين في الصناعة يعتمدون تعويق من ينزل البحر من الناس، ويمنعون القوارب
من إنقاذ من يلتمس الخلاص منهم ليأخذوا على ذلك واجباً قد أقامه متولى الصناعة، محمد الحسيني العجمي، على كل غريق دينارين ونصفا؛ وأن ذلك لما أنهى إلى حضرة أمير المؤمنين أنكره وأكبره، ومنع من أخذ درهم واحد فما فوقه عما هذا سببه، والمنع منه. فكثر الدعاء للظاهر.
وفي ثامنه ركب الظاهر في خاصته وخدمه إلى الرميلة بظاهر المقس، فطاف طويلا ثم عاد.
وفي تاسعه ركب القائد الأجل عز الدولة ومصطفاها معضاد الخادم الأسود في جميع الأتراك ووجوه القواد، وشق مدينة مصر إلى الصناعة، ثم خرج منها وعدى بمن معه إلى الجيزة، حتى رتب للظاهر عسكرا يقيم معه هناك، وأخذ في يوم الاثنين حادي عشره أربع عشاريات وأربعة عشر بغلا من بغال النقل، ومعه خاصته وحرمه إلى سجن يوسف. وعاد منه يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت منه. وركب فيه إلى مسجد تبر وعاد.
وأقام أهل الأسواق نحو الأسبوعين يطوفون الشوارع بالخيال والسماجات والتماثيل، ويطلعون إلى القاهرة بذلك يرسم أمير المؤمنين، ويعودون ومعهم سجل قد كتب لهم بألا يعارض أحد منهم في ذهابه وعودته. ولم يزالوا على ذلك إلى أن تكامل جميعهم. وكان دخولهم من سجن يوسف في سادس عشره، فشقوا الشارع بالخيال والسماجات والتماثيل، وتعطل الناس في ذلك اليوم عن أشغالهم ومعايشهم، واجتمع خلق لنظرهم. وظل الناس أكثر هذا اليوم على ذلك، وأطلق لهم ثمانية آلاف درهم وكانوا في اثني عشر سوقا.
وفي عشريه قتل طائفة من القيصرية غلاما من الأتراك، فركب الأتراك بالسلاح وقاتلوا القيصرية، فتكافوا، ولم يجسر أحد منهم على الإيقاع بصاحبه. وفي ثاني عشريه ركب الظاهر النيل ومضى إلى بستان السيدة العمة، ثم إلى خيمة وردان لأنهم مقيمون
في الجزيرة للتنزه هناك. ولم تزل العشاريات تلعب في البحر الليل كله والمسرة متصلة بينهم؛ فقدم في آخر النهار مركب يحمل حطبا من الصعيد، فقلب نوتيته وقطع الجسر، وغرق مركبان منه، وقطع ثلاث قطع، وغرق عشاريان بمن فيهما.
وفي هذا الشهر كوتب أبو الحارث نقيان بن محمد بن نقيان الخيملي، متولى حرب تنيس ودمياط، بالمسير إلى حلب ليتسلمها عوضا عن محمد سند الدولة أبي محمد الحسن ابن محمد بن نقيان الكتامي عند وصول هديته إلى الحضرة؛ فسار. وكان من خبر مدينة حلب أن عزيز الدولة فاتكا لما قتل وأقيم من بعده غلامه بدر مكانه، ثم قبض عليه علي بن الضيف، وأقام بحلب سنة، وولى سند الدولة أبو محمد الحسن بن نقيان فنزل صالح بن مرداس الكلابي على حلب ونازلها؛ وقد كره الناس ابن نقيان وموصوفاً الخادم لسوء سيرتهما، فسلموا البلد إلى صالح. والتجأ ابن نقيان وموصوف إلى القلعة وتحصنا بها؛ فاستخلف صالح على مدينة حلب أبا منصور سليمان بن طوق، ومضى إلى بعلبك فملك قلعتها بعد حرب، وقتل جماعة من أصحاب الظاهر. واجتمع هو وحسان بن جراح وإخوته، وسنان ابن عليان على فلسطين وتحالفوا على اجتماع كلمتهم ومحاربة الظاهر، وتقاسموا البلاد كما سيأتي ذكره إن شاء الله.
وأما ابن طوق فإنه حصر قلعة حلب حتى أخذها بمباطنة من أهلها وأمسك ابن نقيان وموصوفا، فقتل ابن نقيان في يوم الخميس لثمان بقين من ربيع الآخر من هذه السنة، واعتقل موصوفا. فركب أبو الحارث بن نقيان البحر من تنيس إلى طرابلس، ودخل حلب يوم الأحد سابع عشري جمادى الأولى هذا، وملكها، وسمى سابق الدولة أبو طاهر بن كافي متولي الشرطة السفلى بمصر من قبل بدر الدولة بأخذ تنيس ودمياط، واستخلف أخاه جلال الدين على الشرطتين العليا والسفلى من قبل بدر الدولة.
وفي رابع عشريه ركب الظاهر إلى طرف الخندق وعاد؛ ثم ركب من الغد إلى مسجد تبر وعاد.
شهر جمادى الآخرة؛ أوله الأحد. فيه جلس الظاهر للناس للسلام عليه، فدخلوا على رسومهم، فسلموا وانصرفوا. وفي رابعه ركب إلى مسجد تبر في عساكره، وعاد، فطلب الببغاء من الطيور فحمل إليهم منها شيء كثير، فابتاع ما أحب بأوفر الأثمان. وفي ثامنه جلس للسلام، فدخل الناس فسلموا وانصرفوا؛ ثم ركب إلى المشتهى. وركب في ثاني عشره إلى مسجد تبر في مواكبه، فلقيه عند سقاية ريدان خادم أسود يقال له عنبر، كان مقربا للحاكم بأمر الله، كثر كلامه فطردته السيدة، فقال: يا أمير المؤمنين خذ لنفسك، فوحق ما في هذا المصحف وأخرج مصحفا إن أباك باق، وبعد قليل يجيء إلى قصره، وقد نصحتك. فقبض عليه واعتقل، وقيل إنه اختل عقله.
وفيه قرر الشريف الكبير أبو طالب الحسني العجمي القزويني والشيخ نجيب الدولة أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي والشيخ العميد محسن بن بدواس مع القائد الأجل معضاد أن يكون دخولهم على الظاهر الأخير في كل خلوة، وأنهم يكفونه أمر الاهتمام بالدولة ليتوفر على لذاته، وينفردوا بالتدبير. واستقر أمر الثلاثة على الدخول في كل يوم على الانفراد وألا يستدعي معهم أحد. وصار شمس الملك مسعود بن طاهر الوزان، ومظفر صاحب المظلة، وولى الدولة ابن خيران، وداعي الدعاة، ونقيب نقباء الطالبيين، وقاضي القضاة ربما دخلوا في كل عشرين يوما مرة، وهؤلاء الثلاثة الذين يقضون ويمضون ويشيرون ويفعلون في أمر الدولة ما يرونه، مع اجتماعهم بمعضاد دون كل أحد.
وفي سابع عشره ركب الظاهر في العساكر ورجال الدولة بأحسن زي وأكمل عدة، وركب عبيد الدولة بالآلات والسلاح والطريقة الحسنة والعدة الكاملة. وشق شارع مصر
إلى صناعة الجسر، وعليه ثوب طميم مثقل وعمامة مذهبة طميم، وعلى رأسه مظلة حمراء مثقلة مذهبة؛ فغير ولبس ثوبا دبيقيا أبيض مذهبا وعمامة شرب بيضاء مذهبة، وركب فرساً كميتاً وقف عند الصناعة ووجد الجد في طرح مركب حربي جديد، فتعذر طرحه، فتركه وسار لفتح الخليج. فورد الخبر بأن سيار الضيف متولى سد الخليج أمر بتخفيضه ليقرب أمره عند حضور أمير المؤمنين لفتحه، فغلبه الماء وانكسر السد. فلما وصل الظاهر إلى السد وقف بجانبه الشرقي، وعبرت العشاريات مزينةً على العادة، ولعبت، ثم عاد إلى قصره، فكان من الأيام المشهودة.
وفي تاسع عشره نودي في مدينة مصر بألا يتعرض أحد لذبح شيء من الأبقار بوجه ولا سبب، فإن من تعرض لذلك حل دمه وماله، لأن الناس عدموا العوامل في هذه السنة، وكانوا على عادتهم في ابتياع الفواكه والخمور والحيوانات، إلا أن أمرهم في ذلك كان أقل للغلاء وتعذر الأصناف. وضرب فيه بالأجراس في آخر النهار ألا يلعب أحد بالماء ببلد مصر في يوم النوروز، ولا في القاهرة. فطلع الجزارون يستغيثون في منعهم من ذبح الأبقار، وأن عندهم منها ما ابتاعوه وأنفقوا عليه في علفه حمل الدنانير، وليس هو ما يعمل ولا يصلح للزراعة، فإن الرأس من البقر يقوم عليهم بمائة دينار وأكثر. وسألوا الإذن في ذبح ما عندهم، فأجيبوا إلى ذلك. وذبحوا في هذه الثلاثة الأيام ما لا يحصى كثرة، وبيع بطن البقر ولحمه رطلا بدرهم، وازدحم الناس في طلبه. فلما كان آخر
نهار الثلاثاء رابع عشريه، وهو رابع النوروز، أحضر المحتسب الجزارين والهراسين ومنعهم من ذبح الأبقار، فانقطع بيع لحمها من الأسواق.
وفي خامس عشريه ركب الظاهر إلى مسجد تبر في عساكره، وعاد.
شهر رجب؛ أوله الاثنين. في ثانيه ركب الظاهر إلى نواحي القصور وعليه عمامة ياقوتية مذهبة وثوب دبيقي بياض مذهب بغير مظلة؛ وعاد.
وفيه قدم الخبر بأن منتخب الدولة أنوشتكين الدزبري متولى حرب فلسطين، أنفذ إلى بيت جبرين، إقطاع حسان بن جراح، من قبض على أمواله؛ فبعث إلى أعوان الدزبري وأخذهم وضرب أعناقهم. فلما بلغ ذلك الدزبري قبض بالرملة على أبي الغول الحسن بن فيروز، صاحب حسان، وعلى كاتبه وسجنهما في حصن يافا مقيدين.
وفي رابعه زين العامة أسواق البلد، وخلقوا وجوه الصبيان، ونادوا بوفاء النيل ستة عشرة ذراعا، فخلع على ابن أبي الرداد خلعا دبيقية مذهبة ورداءً محشواً مذهبا وعمامة شرب مذهبة، وحمل على بغلين بسرجين ولجامين مذهبين، أحد السرجين مصفح؛ وأعطى ست عشرة قطعة ثياب وثلاثة آلاف درهم. وبلغ الماء اصبعين من سبعة عشر ذراعا، فكان يوما حسنا كثر فيه سرور الناس.
وفيه خلع على بقي الخادم الأسود، غلام بدر الدولة نافذ، ثوب مثقل طميم وعمامة قاضي مذهبة، وسيف ذهب؛ وقلد الشرطتين بمصر؛ وحمل على فرس بسرج ولجام مذهب،
عوضا عن جلال الدولة ابن كافي. ونزل إلى الشرطة السفلى في جمع كثير، فنظر في الحسبة مضافا إلى الشرطتين، وأمر أن يباع الخبز الجشكار كل خمسة أرطال بدرهم، والحواري أربعة أرطال بدرهم. فغلقت الطواحين والحوانيت جميعها، وأصبح البلد يوم الجمعة، خامسه، على حال صعبة من تعذر الأخبار وعدم الدقيق. فلما كان غداةً يوم السبت، سادسه، أعيد دواس بن يعقوب الكتامي للحسبة وصرف بقي عن الحسبة والشرطة؛ فأقام يوما واحدا وانصرف. ونودي أن يكون الخبز الذي يباع في الأفران خمسة أرطال بدرهم، وتباع بقية الأخباز بغير تسعير، فظهرت الأخباز بالأسواق، وبيع الخبز السميد رطلين ونصفاً بدرهم، وما دونه ثلاثة أرطال بدرهم.
وفي عاشره ركب الظاهر إلى نواحي القصور بغير مظلة، وعاد.
وكانت ليلة النصف من رجب ليلةً مشهودة، حضرها الظاهر والسيدات وخدم الخاصة والمصطنعة وغيرهم، وسائر العوام والرعايا، وكان مجمعا لم يشهد مثله من أيام العزيز بالله. وأوقدت المساجد كلها أحسن وقيد.
وفيه ورد الخبر بأن حسان بن جراح خرج عن الطاعة. وكان سبب ذلك أنه فسد ما بينه وبين الدزبري، واستوحش كل واحد من الآخر؛ فكتب الدزبري إلى الظاهر يذكر له تغير حسان في خدمته، وفساد نيته في طاعته؛ ويستأذنه في حربه؛ فكان ما تقدم
ذكره. ثم اتفق أن اعتل حسان علة أشفى منها، وكثر الإرجاف به فيها، وكتب أصحاب الأخبار بذكرها إلى الظاهر؛ فكاتب الدزبري بقصده وانتهاز الفرصة في أمره؛ فسار إليه وهو بناحية نابلس. فبلغ حسان عن سيره، وقد أبل من مرضه فاستنهض أهله وأصحابه، وجمع نحواً من ثلاثة آلاف فارس، وتلقى الدزبري، فعاد إلى الرملة وحسان في إثره، فحصره واستدعى رجاله من الجبال والشراة إليه، فصار إليه منهم عدد كثير. وقاتله الدزبري على باب الرملة ثلاثة أيام بلياليها بعد ما كبس حسان طبرية، ونهبها، وقتل من بها، وفر منها متوليها مجد الدولة فتاح بن بويه الكتامي إلى عكا. فبلغ حسان، عن أخيه ثابت، أنه انتهى إلى الدزبري، فبعث جريدة كبست حلة ثابت ونهبتها.
وفيه أفرد صدقة بن يوسف الفلاحي بالنظر في ديوان الكتاميين. وأقام الظاهر أياما لم يركب ولم يدخل إليه أحد.
وفي حادي عشريه ورد الخبر بأن حسان بن جراح اجتمع مع سنان بن عليان بن البنا، وانضم إليه سائر إخوته، وساروا جميعا بظاهر فلسطين؛ فقابلهم الدزبري كما تقدم، إلى أن فارقه ثابت بن جراح ولحق بأخيه حسان. وقدمت نجدة من صالح بن مرداس لحسان، فبعث الدزبري يطلب من الظاهر نجدةً بألف فارس وألف راجل، فجردت جماعة يسيرة، ودفع إلى كل فارس أربعون دينارا؛ فاشتملت الجريدة على ألفي فارس وراجل، تولى النفقة فيهم معضاد الخادم والشريف العجمي ونجيب الدولة الجرجرائي. فلم يخرج من الجريدة إلا طائفة يسيرة مضوا إلى العريش؛ وبطل أمر من تجرد بعد ذلك.
وسعي بمحسن بن بدواس بأنه كاتب حسان بن جراح يحرضه على الفتنة، وكاتب ملك الروم يطمعه في الدولة. وانتصب له الطائفة التي تحضر عند الظاهر في المعاملة.
وفي ثاني عشريه ورد الخبر بأن الدزبري غلب عن مقاومة حسان، ففر من الرملة آخر الليل في عشرة من الغلمان الأتراك، وسار في ليلته إلى قيسارية. وذلك أن حسانا هجم برجاله على بعض حوانيت الرملة، وطرح النار ووضع السيف، ثم دخل بجموعه، بعد فرار الدزبري، إلى المدينة، فنهبوا الأموال، واستباحوا الحرم، وقتلوا القتل الذريع. وعندما دخل حسان إلى المدينة ترجل من باب البلد وقبل التراب من باب المدينة إلى دار الإمارة؛ ثم أحضر القاضي وشيوخ فلسطين وأشهدهم أنه عبد الدولة وخادمها وصنيعتها، وداخل تحت طاعتها، وأنه لا يبدأ أحداً من أهل البلد بسوء، وإنما كره مقام الدزبري في الرملة، وذكر سوء ما عامله به وأن ذلك أوجب قتاله؛ وأن البلد لأمير المؤمنين يولي فيه من رغب فيه من عبيده، فيسمع له ويطيع، ويخدمه طاعة لله ولمولانا صلوات الله عليه. وأقام نصر الدين نزال واليا على الرملة، وقال هذا عبد أمير المؤمنين وابن عبده، يضبط البلد إلى أن يصل أمر أمير المؤمنين. فخلع على القادم بهذا الخبر وكثر السرور به.
وفي ثالث عشريه خلع على سني الدولة حمد، ابن أخي الباهر، وقلد سيارات أسفل الأرض عوضا عن عدة الدولة بقي الخادم الأسود، وحمل على فرس بسرج مصفح مغموس، وألبس عمامة مذهبة وثوبا طميما.
وفي آخره ورد الخبر بأن حسان بن جراح إنما أظهر ما تقدم ذكره حيلةً وخديعة. وذلك أنه أحضر العسكرية بالرملة، وقرأ عليهم ملطفا وصل إليه من الحضرة يعتذر إليه فيه، ويعلم أن اعتقال أبي الغول وكاتبه لم يكن عن رأي أمير المؤمنين، وإنما جرى من الدزبري برأيه. فلما أوقف العسكرية على الملطف قبلوا خط أمير المؤمنين وعرفوه، أمرهم أن يسيروا به إلى عسقلان ويوقفوا أهلها عليه، فإن كانوا تحت السمع والطاعة لأمر أمير المؤمنين فليسلم الحسن بن سرور الأنصاري الكاتب إلي، وإلا سرت إلى عسقلان ونقضتها حجرا حجرا ونهبتها وقتلت أهلها. فمضى العسكرية بالملطف إلى عسقلان،
وأوقفوا عليه الوالي والعسكر، فسلم إليهم أبو الغول ورفيقه. فلما وصلا إلى حسان ركب لوقته وخشب سبعين رجلا من العسكرية، وقتل طائفة من الحمدانية وغيرهم، ووضع السيف والنهب في الرملة، وأضرم النار في الدور والحوانيت حتى جعلها دكاً، وسبى النساء والأولاد، وقبض على نحرير الوحيدي وأخذ منه أربعين ألف دينار. وأخذ من مبارك الدولة فتح، المقيم بالقدس، ثلاثين ألف دينار، وأخذ جميع ما جمع الدزبري.
وأرجف بمصر أن خمسمائة فارس بعثها حسان إلى العريش، ثم لم يعلم أين قصدت، فخاف الناس أن يطرقهم في القرافة، فانتقل أهل القرافة إلى مصر، وانتقل جماعة من بلبيس إلى مصر. فسار بديع الصقلبي في الرسالة إلى حسان. وتحرك السعر بمصر، واضطربت العامة. وندب مائة فارس من القيصرية للإقامة بالقرافة لحفظ الناس، فإن الخوف اشتد حتى لم يطلع أحد إلى القرافة، وتحملوا منها، فمنعوا من النقلة وأعيدوا إليها.
وجرت الأمور في هذه الشهور المباركة على ما كان الرسم جرى به من عمارة المساجد والجوامع وتكثير القناديل والزيت وكثرة الوقيد. وقد دخل الشريف العجمي إلى الظاهر، فأظهر أنه يراعي أمر الدولة ويتخوف ما يجري من الفساد، فأمر الظاهر بأن يجتمع مع الشيخ نجيب الدولة أبي القاسم الجرجرائي والشيخ العميد محسن بن بدواس، صاحب بيت المال، وأن يدبر الأمراء بما يراه. فاستدعى المذكورين وقال لابن بدواس: احمل المال الذي عندك لينفق في الرجال. قال: ما عندي إلا يسير، ووالله لو طلبتم مني ينارا واحدا ما مكنتكم منه لأنه موفور لخواص مهمات مولانا صلوات الله عليه. فقال الشريف: فتقترض من التجار وتصادر من تجب مصادرته، فقال الجرجرائي: وأي مال مع التجار وتجار مصر هلكي من الغلاء؛ لكن إن أردتم المال فمن أم الحاكم بأمر الله، قدس الله روحه، وعمته؛ وبالجملة فقد أغنى الله مولانا، صلوات الله عليه، بتوافر أمواله وتراث آبائه الأئمة الطاهرين عما نراه نحن أو نقوله بآرائنا. فأمسك الشريف عن غير رضا.
وفيه سير جماعة من المجردين في المراكب الحربية لحفظ حصون الشام إلى تنيس ودمياط، ومضوا إلى صور وطرابلس وغيرها. وجردت طائفة إلى بلبيس لحفظها.
شهر شعبان؛ أوله الأربعاء. فيه قدم أحد إخوة حسان بن جراح، فتلقى وأكرم وأنزل في دار حسين بن جوهر، وحمل إليه الفرش والآلات الفضة، ونحو ذلك مما يصلح لمثله، وأقيمت له الجراية. وضمن أنه يخرج من العسكر إلى الرملة، فخلع عليه، وحمل على فرسين، وقلد بسيف ومنطقه ذهب.
وفي خامسه جلس الظاهر في قصره للسلام، ودخل الناس. فقال الكتاميون: يا مولانا، صلوات الله عليك، بلغنا شغل قلب مولانا بأمر ابن جراح، ومن هذا الكلب حتى يشغل قلب مولانا، صلوات الله عليه، به وما مقداره؟! والله يا مولانا إن لك من العبيد ما لو أطلق مولانا سبيلهم عليه لقلعوه شعرة شعرة، من عبيدك الكتاميين، وعبيدك القيصرية، والعبيد والباطلية والأتراك، وسائر العرائف والقبائل. غير أننا قد هلكنا والله يا مولانا فقرا وجوعا، وليس لواحد منا مال يرجع إليه؛ ولو كانت لنا أموال لكفينا هذا الأمر وغيره. فقال لهم: نسيم صاحب الستر: حسبكم يا شيوخ، حسبكم! فأمسكوا، ولم يكن من الظاهر جواب.
وفيه ورد الخبر بأن حسان بن جراح كتب إلى صالح بن مرداس يستدنيه ليقع الاجتماع على ما يدبران أمرهما، فسار صالح ونزل على حلب ونازلها وأخذها، كما تقدم، وأخذ بعلبك، وعظم أمره. واجتمع هو وصمصام الدولة سنان بن عليان بن البنا على حسان بفلسطين، وتحالفوا على اجتماع الكلمة وأن يكونوا يداً واحدة على صاحب مصر؛ وقسموا البلاد بينهم؛ فصار لحسان الرملة إلى باب مصر، ولمحمود أخيه طبرية وما يتصل بها
من الساحل؛ ولسان بن عليان دمشق وسوادها؛ ولصالح ما بقى من الشام إلى عانة. فاجتمع سنان مع صالح ومعهما حشود العرب، وحصروا دمشق ونهبوا الغوطة وسائر السواد، وقتلوا فلاحي الضياع وانتهبوا أموالها؛ وألحوا في قتال أهل دمشق. فاجتمع الناس بدمشق إلى ذي القرنين ابن حمدان، متوليها، وقرروا أن يكون القتال يوما يكون أمره إليهم ويوما يقاتل فيه عسكر السلطان. فاتصلت الحرب كل يوم، وقتل من العسكر ومن أهل دمشق ومن العرب خلائق. ونهبت مواشي الناس من الضياع وغلاتهم وأموالهم؛ فأخذ لمعتمد الدولة. من ضياعه عشرة آلاف غرارة من القمح. وبعث حسان نجدة من رجاله إلى سنان، وكان الشام بأسره قد اضطربت أحواله. وتغلبت العربان على البلاد، ونهبوا عامة أموال أهلها.
وفيه قدم صاعد بن مسعود، عامل الصعيد الأعلى، باستدعاء، فغدا في سادسه شريكا لصدقة الفلاحي في ديوان الكتاميين.
وفي ثامنه قدم الخبر من دمشق بأن سنان بن عليان بن البنا لما وصلت إليه سرية حسان ابن جارح، وهي نحو الثلاثة آلاف فارس، طلب من أهل دمشق ثلاثين ألف دينار يقومون له بها معجلة ومؤجلة، فمنعهم القاضي الشريف فخر الدولة أبو يعلى حمزة ابن الحسن بن العباس بن الحسن بن أبي الجن الحسين بن علي بن محمد بن علي بن إسماعيل ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ورأى أن يجمع ذلك
وينفقه في قتال العرب؛ فوافقوه على ذلك وحلف الناس. وهدم دروب البلد وحملها إلى الجامع حتى لا يمتنع أهل البلد بالدروب ويخلوا بين العسكر والعرب. ورجف بالناس، فاشتد القتال بينهم وبين العرب، وقتل من العرب نحو المائتي فارس، وأصيب سنان بسهم، فطلب من الناس الصلح على ترك الحرب أربعين يوما. فلما تقرر ذلك خرج إليه الشريف ابن أبي الجن وشيوخ دمشق ووجوه الجند، وحلفوا سنانا ووجوه العرب، فاستقر الأمر بينهم على هذا.
وورد الخبر بأني بني قرة أقاموا إنسانا دعوه بأمير المؤمنين ببرقة، وحملوا على رأسه المظلة. وفيه ظهر في النيل بأعمال أسفل الأرض فرس البحر.
وفيه ورد الخبر بأن التجريدة التي توجهت إلى تنيس طلبوا أرزاقهم وضيقوا على العامل ففر منهم إلى دمياط، فعاثوا في البلد وأفسدوا، وقطعوا من يد عامل السلطان خمسة وعشرين قطعة، وأخذوا من المودع ألفا وخمسمائة دينار. فخرج إليهم عنبر، الزمام، في خمسين فارسا من عرفائهم للقبض على الجناة وتأديبهم واسترجاع ما أخذوه.
وقدم الخبر بأن حسان بن الجراح كتب إلى سنان يوبخه على ما فعل ويحثه على معاودة الحرب، ويعده بالمدد؛ فعاد إلى قتال أهل دمشق بعد ما كان قد انصرف عنها. فإن حسانا بعد ما نهب الرملة وحمل منها أربعمائة جمل موقرة مالاً وثياباً ومصاغا وغير ذلك، بعثها إلى حلله وأضرم النار في شوارعها، وكسر الأمتعة، حتى كان الناس يمشون في بحار من الصابون والزيت في أسواق مدينة الرملة، ثم وصل كتابه يسأل فيه إضافة القدس ونابلس إلى إقطاعه مصانعةً له على الكف عن القتال؛ وأن ينفذ إلى أبي الغول ثياب من ثياب الظاهر التي يلبسها وشاشية من شواشيه. فأنفذ إليه ذلك وأجيب إلى إقطاع نابلس مضافا إلى إقطاعه، ولم يجب إلى القدس.
وفي يوم السبت ثامن عشره دخل نسيم صاحب الستر بطائفة من الصقالبة إلى بيت المال
والشيخ العميد محسن بن بدواس جالس وبين يديه حسباناته، فقال له: اجمع يا شيخ هذه القراطيس واختمها. فجمعها وختمها بخاتمه، ثم أقامه وختم الخزائن، وأخرجه راجلاً، فاعتقله بحجرة من القصر. وركب رفق فختم بيت المال والخزانة الخاصة ودار ابن بدواس وسائر ما يتعلق به. فلما كان العشاء أخرج ابن بدواس فضربت عنقه وهو يصيح: والله ما خنت ولا سرقت ولا غششت، وهذه منصوبة نصبت علي. وقيل إنه وجد عنده خط حسان بن جراح، وخطه عند حسان يحثه على الإيقاع بالدولة. وقيل إن هذا صنع عليه من أعمال الشريف العجمي. وقيل في سبب قتله معاندته لمعضاد وعدوله عنه إلى رفق الخادم وأنه كان استشار خليل الدولة محمد بن علي بن العداس صديقه لما عاداه هذه الطائفة، فأشار عليه أن يباينهم بالعداوة ويكاشفهم بها. واستشار أيضا شمس الملك مسعود بن الوزان، مع ما بينه وبينه من العداوة، فأشار عليه مثل ذلك. وقيل إن الظاهر أخرج كتاما مختوما إلى الشريف العجمي فنظره، ثم رفعه إلى أبي القاسم الجرجرائي فنظره ثم قال: هذا خط ابن بدواس، فقرئ، فإذا فيه طعن على الدولة، وبآخره: إذا وافيت بالعساكر لم تجد أحدا تلقاك ولا يمانعك، وإذا كاتبتني فلا تنفذ كتبك إلا على أيدي الرهبان فإنهم الثقات المأمونون. فقال الظاهر: أي شيء يستحق هذا؟ فقال الجرجرائي: مولانا مالك العفو والسيف. فقال: انصرفوا. فلما خرجوا أمر بضرب عنقه. وقيل إنه وجد أغلف لأنه كان نصرانيا. ومن العجب أنه كان في غاية التحفظ والتحرز، وكان يخاف أن يقتله الحاكم بأمر الله فنجا منه، ثم لما أمن واطمأن كان حتفه.
في يوم الثلاثاء لليلة بقيت منه أحضر عز الدولة معضاد الكتاميين وأمرهم بالبكور من الغد، وأمر الأتراك وجميع العسكر بلبس السلاح، وأن يتسلموا من الخزانة ما يخرج لهم من ذلك، ويقف الجميع حول القصر حتى يؤمروا بما يفعلونه. فوقفوا من الغد بأجمعهم حول القصر إلى ضحوة النهار، فجاءهم الأمر بأن مولانا صلوات الله عليه يركب
في غد، فليحضر من ليس له منكم سلاح ليدفع إليه من الخزانة؛ فقال الكتاميون قد شغلنا الجوع وطلب الخبز عن هذا. فلما كان آخر النهار حمل قوم من متر جلة الكتاميين على سبعين فرسا، وفرق فيهم وفي غيرهم السلاح.
شهر رمضان؛ أوله الخميس. فيه ركب الظاهر في عساكره وعليه قميص مدير مذهب دبيقي وعمامة مثله، وعلى رأسه المظلة المذهبة يحملها بهاء الدولة مظفر الصقلبي، وخلفه ابن فتوح الكتامي يحمل الرمح، وبين يديه الأتراك والكتاميون والقيصرية والعبيد والباطلية والديلم وسائر الطوائف؛ وركب رجال الدولة خلفه مع نسيم الصقلبي، وسار إلى مسجد تبر، وعاد. وكان يوما حسنا من توافر الناس وكثرة الجمع والزي الحسن.
وفي يوم الجمعة ثانيه ركب أيضا إلى صلاة الجمعة في الجامع الأزهر، وعليه طيلسان شرب مفوط بعمامة بياض مذهبة، وثياب دبيقية، والمظلة دبيقية مذهبة، وطلع معه المنبر قاضي القضاة أحمد بن أبي العوام وإبراهيم الصانع المؤدب المعروف بالجليس، فأرخيا عليه سجف القبة التي في أعلا المنبر، وهي مغشاة بمصمت بياض، والعنبر يبخر بين يديه في المباخر الذهب والفضة والجوهر. فخطب، ثم كشف عنه القاضي ونزل، فصلى وعاد إلى قصره.
في رابعه ورد الخبر بانصراف صالح بن مرداس عن دمشق إلى حلب، وأن كاتبه باع جميع ما كان له بحلب من غلة ودار وآلة، وخرج فجمع العرب وقصد حصار المدينة.
في خامسه ولي طيب الخازن بيت المال، وخلع عليه، وحمل على بغلة بسرج ولجام، وخلع على ميسرة الخازن وحمل على فرس بسرج ولجام مذهب؛ وولى خزانة الخاصة وجعل عدة الدولة رفق الخادم الأسود، يخرج إليهما بالأوامر ويدخل. وخلع على ثلاثة من أولاد ابن الجراح وحملوا على ستة أفراس.
وفي ثاني عشره أخذ ديوان الشام من محمد بن أحمد الجرجرائي ورد إلى أبي طالب الغرابيلي.
وفي يوم الجمعة سادس عشره ركب الظاهر إلى الجامع الأنور خارج باب الفتوح وعليه رداء بياض محشى قصبا، وثياب بياض دبيقية، وعمامة بيضا مذهبة، وفي يده القضيب الجوهر، وعلى رأسه مظلة مديرة فخطب، ثم صلى، وعاد.
وقدم الخبر بأن أهل دمشق هادنوا سنان بن علوان إلى آخر الكوانين. وقدم كتاب حسان بن جراح بأنه تحت الطاعة، فلا يجب أن يشغل السلطان قلبه بأمر الشام، وأنه يقوم بأمر فلسطين ويجبي خراجه وينفقه في رجاله، ودمشق فيها ابن عمه سنان، صمصام الدولة، وحلب مردود تدبيرها إلى صالح بن مرداس أسد الدولة؛ وأنه قد كفى السلطان أمر الشام كله. فطرد رسوله ولم يكتب له جواب.
وفي خامس عشريه زيد في لقب منتخب الدولة أنوشتكين الدزبري أمير الأمراء. وفي سابع عشريه هرب ابنا جراح ولحقا بحسان بن جراح، وأخذا جميع ما كان في الدار التي أنزلا فيها، وتركا أخاً لهما مريضا، فوكل به.
في سلخه حمل نجيب الدولة أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي سماط العيد على العادة، وفيه مائتا قطعة من التماثيل السكر، وسبعة قصور كبار من السكر، وشق البلد بالخيال والطبالين والفرحية.
شهر شوال؛ أوله السبت. فيه ركب الظاهر في عساكره، وبين يديه فيل وزرافات وبنود مذهبة بقصب وفضة، والطبول تضرب والجنائب تقاد أمامه؛ وجميع قواد الأتراك والمصطنعة في السلاح، وعليه ثوب خز بعمامة نظيره، وفي يده القضيب، وعليه السيف ومعه الرمح، وعلى رأسه المظلة المذهبة يحملها مظفر، وبين يديه الخدم السودان وعليهم أصناف المذهبات إلى المصلى. فصلى ورقى المنبر، واستدعى قاضي القضاة، فطلع؛ ثم استدعى إبراهيم الجليس المؤدب، فطلع؛ ثم استدعى شمس الملك أبا الفتح مسعود بن طاهر الوزان، فطلع، ثم استدعى تاج الدولة ابن أبي الحسين، صاحب صقلية كان، ثم استدعى زين الملك على بن مسعود بن أبي الحسين، ثم استدعى علي بن فضل، ثم عبد الله بن الحاجب؛ ثم جدل بالبندين المنصوبين على المنبر؛ وخطب؛ ثم نزل وعاد إلى قصره. وأحضر السماط فحضر أهل الدولة، ولم يحضر الظاهر، وكان في منظرة يشاهدونه. وفي ثامنه صرف نجيب الدولة مجلى بن نسطورس عن ديوان الأحباس بأبي غالب الصيفي النصراني كاتب ديوان الخراج. فيه ضربت خيمة بظاهر باب الفتوح؛ ووقع الاهتمام بتجريد العساكر إلى الشام.
وفي هذا الشهر تحرك السعر، وبلغ التليس القمح دينارين وثلثين، والتليس الشعير دينارا واحدا، والخبز رطلين بدرهم. وقدم الخبر بأن الحرب بمكة قامت بين الحسنيين والصليحيين، فخرج منها أبو الفتوح حسن بن جعفر؛ وأن الغلاء بها شديد.
وقدم الخبر بمحاربة الدزبري لأصحاب حسان بن جراح على عسقلان، وأن عدة جند الدزبري خمسة آلاف قد نهكتهم الحرب والغارات. وقبض على رجل قدمه حسان بن جراح إلى بني قرة بالبحيرة يدعوهم إلى نصرته ويعدهم مواعيد كثيرة، فأجابوه بالموافقة؛ وأخذت منه الكتب وحبس.
وكانت ليلة الميلاد في يوم الخميس عشريه، فاشتغل الناس عما كانوا يبتاعونه فيها من الفواكه والحلوى بما هم فيها من الأمراض؛ وتواتر الموت، بحيث لم تخل دار أحد من عدة مرضى من الدم وأوجاع الحلق؛ وبلغت الرمانة ثلاثة دراهم، والبطيخة البرلسي ثلاثين درهما، والأوقية الشراب بدرهم، والقمح ثلاثة دنانير التليس، والأردب الشعير بدينار، والرطل اللحم ثمانية دراهم. وعز وجود شيء من الحيوان مثل الدجاج والفراريج؛ وبلغت راوية الماء ثلاثة دراهم. فتهالك الناس من كل جهة، وكسرت الأسواق، فكانت الثياب والأمتعة ينادي عليها فلا يوجد من يدفع درهماً فما فوقه.
وفيه قطع على حاج المغاربة الخارجين في البر عند تعذر أمر الحج، فتقدمت جماعة من المغاربة القادمين من بلاد المغرب بغير أمير، فلما جاوزوا بركة الجب قطع عليهم الطريق وأخذت أموالهم، فهلك منهم عدة وعاد من بقى.
ذو القعدة؛ أوله الأحد. فيه اشتدت عقوبة جواري محسن بن بدواس في طلب المال. وكانت ليلة الغطاس في ليلة الأربعاء رابعه، فجرى من هو صحيح على العادة في شراء
الفواكه والحملان وغير ذلك. ونزل الظاهر إلى قصر جده العزيز بالله بمصر لنظر الغطاس، شكراً، مع حرمه، بعد ما نزل القائد عدة الدولة رفق بأصناف الفرش لبسطه، ونقل جميع المجاورين له ممن يسكن على النيل بالقرب منه، وأزال المراكب المرساة هناك. وضرب بدر الدولة نافذ الخادم الأسود متولي الشرطتين، خيمة عند رأس الجسر، وجلس على مرتبة مثقلة ومرتبة ديباج؛ ووقف ابن كافي متولي الشرطة السفلى بين يديه. ونودي في الناس ألا يختلط المسلمون مع النصارى عند نزولهم في البحر بالليل. وأمر الظاهر القائد نافذاً أن يزيد في وقيد النار والمشاعل في الليل، ففعل، وكان وقيداً طويى. وحضر القسيسون والشماسة بالصلبان والنيران فقسسوا طويلاً وانصرفوا إلى حيث يغطسون. فمات في هذه الليلة للظاهر طفلة سنها ثلاث سنين وشهور، وهي آخر ولد بقي له، فعاد من آخر الليل إلى قصره بالقاهرة، فشاهد في طريقه عدة أموات على الطرقات، فأمر لهم بخمسمائة شقة لأكفانهم، والنفقة عليهم حتى يدفنوا.
وفي ثامنه حنك ثلاثة من الخدم وألبسوا العمائم الشرب البيض، فتشبهوا ممن تقدم من مقدمي قواد الخدم كميمون وبدر ونصر العزيزي ونظرائهم. وهؤلاء المقودن هم معضاد ومناد ورفق، وأضيف إليهم فاتك ورجاء وسرور النصارى، ونامق؛ فجلسوا بحضرة الظاهر وهنأهم الناس بذلك.
وفيه اجتمع وفد الحجاز بباب القصر واستغاثوا، وقالوا: يا قوم قد جئناكم
وفارقنا أهلينا وقد هلكنا من الجوع، فإن لم يكن لكم حاجة بإقامة الدعوة بمكة والمدينة فاصرفونا فإنا قد بذل لنا الرغائب في إقامة الدعوة لغير إمامكم فلم نأخذها، ونريد إنسانا يكلمنا. فلم يجابوا بشيء. وكانوا قد مضوا قبل ذلك إلى رجال الدولة، كمعضاد وغيره، فصار يدفعهم هذا إلى هذا. فلما انصرفوا عن باب القصر خائبين بعث إليهم جمال الدولة مظفر الصقلبي، صاحب المظلة، ألف دينار من ماله، فقالوا: لا نأخذ إلا ما يصلنا به أمير المؤمنين، وهذه الصلة قد قبلناها، والله مجازيك عليها، ونحن نفرقها على ضعفائنا وعبيدنا؛ ففرقوها على خمسمائة نفس، لكل واحد ديناران.
واشتد الغلاء والقحط بمصر، فبيع الخبز السميد رطلين بدرهم، والحملة الدقيق بأربعة دنانير وثلثين، والتليس القمح بثلاثة دنانير، واللحم أربع أواق بدرهم. وعظم الموت سيما في الفقراء؛ وبلغ الناس الجهد حتى إن جزاراً طرح عظما لكلب فطرد رجل الكلب وأخذ العظم منه وابتلعه نيئا؛ وأكل المساكين الصماليخ من القنبيط واقتاتوا باليسير من كسب الوز وكسب السمسم، وغلت عامة الحبوب. وغلا الماء لتعذر علف الدواب وعدم من يستقي عليها؛ وبيعت راوية الجمل بثلاثة دراهم، وراوية البغل بدرهمين؛ واشتدت المسغبة. وقدم الخبر بشدة الموت بدمشق، فمات من أهلها ألوف.
وفي نصفه ركب الظاهر وشق مدينة مصر، وخلفه المقودون والمصطنعة، وبين يديه الرقاصون، فاستغاث الناس بضجة واحدة: الجوع يا أمير المؤمنين، الجوع؛ لم يصنع بنا هكذا أبوك ولا جدك؛ فالله الله في أمرنا. فارتجت البلد بالضجيج حتى نزل إلى قصر العزيز على البحر، فحضر أبو عبد الله محمد بن جيش بن الصمصامة الكتامي وقد اختل
عقله وحاله، فوقف تحت القصر وشتمه أقبح شتم، وبالغ فيما شتم به، فضربه الرقاصون حتى سقط، وجروه برجله وسحبوه إلى السجن بالشرطة، فضربه متوليها ثلاثين درة واعتقله.
وتزايد أمر الغلاء؛ ونزل دواس المحتسب برجاله ومعه السعدية، وكتب مائة وخمسين مخزنا قمحا وختم عليها؛ فأصبح الناس يوم الاثنين سادس عشره على أقبح صورة، وكثر الصياح: الجوع الجوع؛ ولم يظهر خبز ولا دقيق. وبيع الدقيق رطلا ونصفا بدرهم، والخبز الأسود رطلين بدرهم وربع.
وفيه خرج حاج المغاربة إلى مكة، فلم يصحبهم أحد من أهل مصر؛ وعندما عدوا بركة الجب خرج عليهم طائفة من القيصرية والعبيد، وكانت بينهم وقعة هزمهم فيها المغاربة وجرحوا كثيرا منهم.
وفيه طلب المحتسب إلى القصر، وهدد، وقيل له: قد قتلت الناس جوعا وخربت البلاد على مولانا، وهذا خطك بضمانك عمارة البلد بالأخباز والقمح إلى حين إدراك الغلة. فوعد بتلافي الأمر، ونزل؛ وأطلق القمح من المخازن للطحانين، وسعر عليهم دينارين ونصفا للتليس، وأمرهم ببيع الحملة الدقيق بأربعة دنانير، والخبز رطلين ونصفا بدرهم، فسكن الحال قليلا.
وفيه أفرج عن محمد بن جيش بن الصمصامة.
وفي عشريه ركب الظاهر إلى الصيد بسردوس، وعاد. وفي ثالث عشريه عاد
من خرج من حاج المغاربة بعدما نهبوا وجرحوا وسلبوا، فلم يحج أحد في هذه السنة من مصر.
وفيه قرئ سجل بحطيطة جميع مكوس الغلة المباعة بساحل مصر، وأن يبيع الناس بغير تسعير. وكثرت الأخباز، وبيع القمح بدينارين ونصف وربع للتليس، والخبز السميد رطلان بدرهم وربع، والخبز الحواري رطلان بدرهم. وضرب عدة من الخبازين على خلطهم الطفل المسحوق في الأخباز.
وقدم الخبر أن حسان بن جراح أنفذ ألفي فارس فلم يعلم جهة قصدهم، فاضطرب الناس لذلك؛ ثم تبين أنها وردت إلى الفرما مع أبي الغول، ففر الناس في المراكب إلى تنيس؛ وأخذ الناس بمصر في إحراز أموالهم، وفقد الخبز القمح والدقيق. ونفذت الكتب إلى الحوف بدخول الرجال الجوالة إلى الحضرة لتجدد عسكراً لحفظ البلاد؛ ثم أبطل ذلك خوفاً من نهبهم المدينة وكثرة كلفتهم.
ذو الحجة؛ وأوله الثلاثاء. في رابعه ركب الظاهر في خاصته إلى عين شمس وعاد. وفي خامسه أطلق لوفد مكة ألف دينار يرتفقون بها وأمرت لهم أم الظاهر أيضا بشيء من عندها. وكثرت نقل الناس خوفاً من النهب في يوم الأضحى. وعمل سماط العيد السكر من عند نجيب الدولة على بن أحمد الجرجرائي، وعدد قطعه وتماثيله مائة وسبع وخمسون قطعة وسبعة قصور كبار، كلها من السكر، وحمل في تاسعه إلى القصر ومعه الفرحية الطبالون، وأفراس الخيل، والسودان والصقالبة على العادة.
وفي عشية النهار تهارب الناس من دب عظيم سقط من الجبل إلى المقابر، فانجفل الناس في درب الصحراء ظنا أن العبيد كبستهم؛ فكان خوف شديد.
وفي يوم الخميس عاشره كان عيد النحر، فركب الظاهر إلى المصلى من باب الفتوح على عادته بعد أن رسم لسائر العرائف أن تلزم كل عرافة مكانها وحارتها، وتكون صلاة العسكر بأجمعهم في حاراتهم مع أزمتهم؛ فامتثلوا ذلك. وصلى وخطب بعد أن استدعى داعي الدعاة قاسم بن عبد العزيز بن النعمان وسلمه الثبت بأسماء من جرت عادته بطلوع المنبر، فاستدعى شمس الملك، وبهاء الدولة مظفر صاحب المظلة، وعلي بن مسعود، وحسن ابن رجاء بن أبي الحسين، وعلي بن فضل، وابراهيم الجليس، وعبد الله بن الحاجب؛ وتأخر القاضي وغيره لمرضهم فلم يشهدوا صلاة العيد. فلما انقضت الخطبة نزل الظاهر إلى المنحر بالمصلى، فنحر ناقةً وعاد إلى قصره؛ ومشى إلى المنحر بصحن القصر تجاه ديوان الخراج فنحر تسعاً من النوق ثم انصرف. فحضر أبو الحسن على بن محمد الطريقي، كاتب قاضي القضاة، لتفرقة لحم الأضاحي على أرباب الرسم، فنهبته العسكر وجرى عليه كل قبيح. ومد السماط بحضرة الظاهر، فلما جلس أهل الدولة عليه للأكل كبس العبيد القصر وهم يصيحون: الجوع، نحن أحق بسماط مولانا عليه السلام؛ ونهبوا جميع ما على السماط وضرب بعضهم بعضاً والصقالبة تضربهم فلا يبالون. فكان أمراً صعباً وحسب الحاضرين أن نجوا سالمين.
فلما كان الغد ركب الظاهر إلى الرحبة في القصر تجاه ديوان الخراج، فنحر ثلاث عشرة ناقة، وعاد، ففرقها الطريقي. وشد من الغد، ثالث عيد النحر، في مكان النحر خمس عشرة ناقة لتنحر، فلم يخرج الظاهر، فخلى عنها، ثم شد خمس نوق غيرها نحرها الطريقي وفرقها.
وقدم الخبر بنهب العبيد الجوالة بلداً بالأشمونين؛ حصل لرجل واحد تسعمائة رأس من البقر وثلاثة آلاف رأس من الضأن.
وفي ثالث عشره ورد الخبر بأن الدزبري أسرى من عسقلان وكبس حلةً لحسان بن جراح، فقتل ثلاثين أسيراً وعدةً من الناس يبلغون آلافاً، ونهب نساء العرب؛ وطلب نجدة ولو بألف فرس؛ وأخبر أنه نزل فلسطين وصلى بها العيد وهو خائف من اجتماع العرب لحربه. فأخرج مضرب ظاهر باب الفتوح لتجرد العساكر؛ فدافع أهل الدولة عن إمضاء ذلك. فورد الخبر بأن الدزبري بعد ما صلى العيد بمدينة الرملة انتقل إلى لد بعد ما أوقع بحلة فيها ولد لأبي الغول فقتله، وضرب أعناق أربعين رجلا من الغمازين الذين كانوا يدلون حسان بن جراح على الناس، وأنه ينتظر النجدة بلد، فلم يخرج إليه أحد.
وفيه يوم عيد الغدير ورد الخبر بإقامة الدعوة الظاهرية بالبصرة والكوفة والموصل وعدة من بلاد المشرق، وذلك لغلبة الأتراك على بغداد وإخراج الديلم عنها إلى البصرة؛ فدعا الديلم للظاهر بها وبالكرخ، ودعا الأتراك ببغداد للقادر. وفيه جرى الناس بمصر في عيد الغدير على رسمهم، وتزيوا بأفخر زيهم، وطلع المنشدون إلى القصر يدعون وينشدون. وفيه نصبت خيمة خارج باب الفتوح ليخرج تجريدة الدزبري.
وفي حادي عشريه نهبت الدواب بسفط ونهيا من ثلاثين رجلاً من بني قرة، وقتلوا قاضي سفط، واستاقوا مائة وخمسين فرسا لأهل الدولة، وساقوا ثلاثمائة مكة لمعضاد وأربعة آلاف رأس من الضأن؛ فلم يخرج أحد لطلبهم، ولا أنكر شيء من ذلك. وفي ثاني عشريه خرج معضاد والشريفان وابن حماد الغرابيلي ونجيب الدولة الجرجرائي إلى الخيمة خارج باب الفتوح، وحضر الكتاميون، فطلب منهم مائة فارس لينفق فيهم، فلم يحضروهم، ونزعت الخيمة فعادوا أقبح عود.
وفي خامس عشريه سار وفد مكة وقد دفع إليهم نصف واجبهم، ولم يرسل إلى أبي الفتوح بشيء، فمضوا غير راضين. وفيه حمل مظفر صاحب المظلة إلى الحضرة عشرة آلاف دينار قرضاً؛ واستدعى من الشريف أبي طالب العجمي متولي الصناعة عشرة آلاف قرضا، فدافع ثم أجاب إلى حمل خمسة آلاف بعد أن يضمن له أمر عادتها إليه، فضمن له الشيخ نجيب الدولة أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي ذلك، فحملها.
واشتد الغلاء؛ فبيع القمح بأربعة دنانير وثلث التليس والحملة الدقيق بستة دنانير، والخبز رطل وربع بدرهم؛ ونزل بالناس مسغبة شديدة. وفي ثالث عشريه تجمع العبيد ومعهم عدة من النهابة، فبلغوا نحو الألفين، يريدون نهب مدينة مصر، فركب إليهم بدر الدولة نافذ في عسكر بالسلاح، وأذن للناس عامة بأن من تعرض لهم من العبيد فليقتلوه؛ فتحفظ الناس واستعدوا. ثم ركب معضاد ونسيم إلى حيث تجمع العبيد، وأحضروا
أزمتهم وألزموهم بعود العبيد إلى حارتهم؛ فقالوا: ما أردنا النهب، ولا نريد إلا ما نأكله من الجوع فإن الجوع قد اشتد بنا وأكلنا الكلاب. فوعدوا بالنفقة من الغد؛ فعاد الجميع إلى حاراتهم. واجتمعوا من الغد وقصدوا الساحل، ونهبوا دوراً وطرحوا فيها النار، وأخذوا ما وجدوه في الساحل من القمح والشعير وغير ذلك مما في الحوانيت؛ ودخلوا إلى منازل أهل السلاح فنهبوا ما وجدوا. فركب إليهم نافذ وقاتلهم، فجرح له فرس وقتل فارس من غلمانه، فانصرف عنهم. وخرج إليهم عامة المصريين بالسلاح فقاتلوهم؛ ورماهم النساء من أعلا الدور بالحجارة والطوب والجرار، حتى هزموهم؛ وأغلق الناس دورهم، وحفروا دونها خنادق. وركب معضاد وجميع الصقالبة والقواد، فطردوا العبيد عن البلد إلى المقس، ولقوا في طريقهم قوماً معهم كثير من أمتعة الناس التي نهبت، فقبضوا عليهم، وضرب معضاد رقاب تسعة أنفس منهم ورمى جثثهم إلى الكلاب عند الحمراء والمشتهى. ثم لقي ستة نفر منهم فضرب رقابهم بالقاهرة.
وتعذر وجود الخبز فلم يقدر عليه، وبيع رطلاً بدرهم. وبات الناس ليلة الجمعة على حرس، وأصبحوا يترقبون المكروه، فطاف النهابة أسواق القاهرة والسويقة التي عند باب زويلة، فخرج إليهم حظي الصقلبي ومعه سيف من الحضرة، فقبض على طائفة منهم، ضرب رقابهم ورمى جثثهم إلى الكلاب على باب زويلة وعلى باب الفتوح وفي سوق السلاح وعند شرطة القاهرة؛ وعدتهم اثنا عشر رجلا. ووجد كتاميا يقال له سليمان، قد أخذ حمارا محملاً دقيقا، فضرب عنقه. وأحضر عرفاء العبيد إلى القصر وشدد عليهم في إحضار الجناة من العبيد، ووعدهم بالنفقة في العبيد.
وأصبح الناس يوم الأحد سابع عشريه يستغيثون إلى متولي الشرطة السفلى من العامة التي نهبتهم، فقبض على طائفة منهم بكوم دينار، وعوقبوا حتى أقروا بما عندهم من النهب، فسيقوا حتى أخرجوه من كوم دينار وأخذه أربابه.
وقدم الخبر من حلب بأن صالح بن مرداس حاصر حلب، وما زال بأهل البلد حتى فتحوا له أبوابها، فدخل أصحابه وشرعوا في هدم أبراج السور، فظن الناس أنه يريد بذلك أن يسلم حلب إلى الروم، فاجتمعوا بمن في القلعة، وقد تحصن بها موصوف الصقلبي، وحاربوا أصحاب صالح حتى أخرجوهم وقتلوا منهم مائتين وخمسين رجلا، وامتنعوا منهم بالمدينة. ومن خبر ذلك أن صالح بن مرداس نزل على مدينة حلب في جمع كثير من بني كلاب وغيرهم، فحصرها أشد حصر حتى أخذ المدينة صلحاً من أهلها، ودخلها في رابع عشر ذي القعدة سنة خمس عشرة هذه، وتلقب بأسد الدولة. وامتنع موصوف الصقلبي بالقلعة، فاستخلف صالح على مدينة حلب كاتبه أبو منصور سليمان بن طوق، ومضى إلى بلعبك فأخذه عنوة، وقتل بها خلائق. واشتدت محاصرة سليمان بن طوق لقلعة حلب، وصعد قلعتها حتى قل الماء والزاد بها، فطلب موصوف منه أشياء اشترطها عليه وسلمه القلعة؛ فأتى صالح حلب وصعد قلعتها، وقتل موصوفاً، ورتب أموره، وصار بيده من بعلبك إلى عانة.
وقدم الخبر بأن حسان بن جراح جمع من العرب خلائق وقصد الرملة، فمضى الدزبري إلى عسقلان وتحصن بها، فقبض حسان على جماعة من أهل الرملة ممن سعى به وبأصحابه إلى الدزبري، وضرب أعناقهم، وملك المدينة. فاجتمع الدزبري مع مبارك الدولة فتح، متولي القدس، وفتاح بن بويه الكتامي، وصار إليهم نحو الخمسة آلاف مقاتل، وأوقعوا بحلة كبيرة لإخوة حسان، وقتلوا ولداً لعلي بن جراح، وهزموا من بها.
وقال ابن الرقيق: وكان بمصر من الغلاء والشدة وعدم الأقوات ما لم ير مثله من زمن
بعيد. بلغ الخبز، إذا وجد، رطلا بدرهم، واللحم أربع أواق بدرهم، والرمانة الواحدة بدينار. وكان الناس في كل ناحية يصيحون بالجوع حتى يموتوا؛ ويكون مع الرجل جملة من الدنانير فيطلب من يشبعه خبزا فلا يجده؛ هذا مع الموت الذريع والوباء الفظيع. وورد كتاب بعض ثقات التجار يصف أنه أحصى من مات ممن عرف وكفن ودفن من آخر شهر رمضان إلى بعض ذي القعدة فكانوا مائة ألف وسبعين ألف نفس؛ وأما الغريب ومن لا يعرف ومن يلقى في النيل ولا يجد من يقبره فأكثر من هذه العدة أضعافاً لا تحصى.
وبلغ ماء النيل ستة عشر ذراعا وثمان أصابع.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر أبو جعفر بن الوزير أبي الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات المعروف بابن حنزابة، يوم الخميس سادس المحرم؛ وكان يعمل بيده أعمالا متقنة. وفي يوم الأربعاء عاشر صفر توفى مفضل بن أبي أحمد المهلبي بعد ما ساءت حاله؛ وكان أديبا جم الأدب غير منكور السيرة. وفي سابع عشره توفي أبو محمد بن يحيى الدقاق من شيوخ الحديث ومؤرخي أخبار مصر. وفي يوم الأربعاء ثالث عشري ربيع الأول توفى ابن أبي الحسين بن زولاق، وكان أديبا، ذيل على تاريخ أبيه المعروف بأبي الحسين. وفي يوم الخميس ثاني عشري ربيع الآخر توفى أبو الحسن بن نحرير الشويزاني، وهو أكبر من بقي من عرفاء الإخشيذية، فبعث الظاهر لكفنه مائتي دينار وعدة ثياب وطيبا كثيرا. وفي يوم الأحد عاشر جمادى الأولى توفي النمل الشاعر، واسمه: ومن شعره:
وتوفى سند الدولة أبو محمد حسن بن محمد بن محمد بن نقيان الكتامي، متولي مدينة حلب، بها، في يوم الخميس لثمان بقين من ربيع الآخر. وفي يوم الاثنين سادس
شعبان توفى عصب الدولة الحسين بن مفلح ابن أبي صالح القلعي، وقد ساءت حاله وغلبه الدين. وفي ليلة الأحد تاسع عشره قتل الشيخ العميد محسن بن بدواس متولى بيت المال وجابي الضرائب. وفي يوم الاثنين ثاني عشر شهر رمضان توفى نزار بن حسين بن يمن الكتامي، متولى الشرطة السفلى بمصر، بعدما ساءت حاله. وفي رابع عشره توفى الشريف العباسي الرابض لدواب الحاكم بأمر الله، وكان شريرا، فلم يشهد أحد جنازته بغضاً له. وفي يوم الخميس سادس شوال توفى أبو عيسى ملامان بن محساس بن بيوط الكتامي، فصلى عليه الظاهر. وفي تاسعه توفى مخلص الدولة منصور البكجوري، أحد وجوه القواد الحمدانية القادمين من الشام، وترك ستين ألف دينار ورثها ابنه، فدفن في مقابر القاهرة. وفي ثالث عشريه توفى الأمير أبو هاشم العباس بن شعيب بن داود بن عبيد الله المهدي، ولي عهد المؤمنين كان، فدفن في تربة القصر، وترك ولداً اسمه مسلم. وفيه توفيت عائشة جارية الأمير عبد الله بن المعز لدين الله؛ وكانت من وجوه عجائز القصر؛ وخلفت أربعمائة ألف دينار. وفي يوم السبت رابع عشر ذي القعدة توفى جعفر بن أبي فروخ الكتامي الذي كان يتولى الشرطة بمصر. وفي سابع عشريه توفى أبو الفتح منصور المعروف بالتيني الشاعر، ودفن بمقابر القاهرة. ومن شعره:
شديدٌ من الدّنيا على الحرّ حاجة
…
يؤمّ بها من ليس من نظرانه
وقال من أبيات:
وما الناس إلاّ كالنّبات: مصوّح
…
ليذوي، ومخضرّ لينمى، ومعشب
يسربله ماء الشّباب نضارةٌ
…
ويفرغ عنه حسنه حين ينضب
ومنها:
تفرّق أنواع المذمّات في الورى
…
ويجمعها خلق الفتى حين يكذب
إذا كان للإنسان عقلٌ، فحيثما
…
توجّه لاقاه صديقٌ ومكسب
ينال الفتى بالخفض بلغة عيشه
…
فيسعى إلى شيءٍ سواها، وينصب
يخرّب من أُخراه ما ليس فانياً
…
ويعمر من دنياه ما يتخرّب
على أنّ في الأيّام للمرء واعظاً
…
بليغاً، وفي صرف الزّمان مؤدّب
وماتت السيدة العزيزة ست الملك ابنة العزيز بالله أبي منصور نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معد، مستهل جمادى الآخرة، بعلة الذرب. وقد دبرت أمور الدولة بعد فقد أخيها الحاكم بأمر الله خمس سنين وثمانية أشهر، أعادت فيها للملك غضارته، واستردت بهجته، وملأت الخزائن بأصناف الأموال، وقلدت الأكفاء جلائل الأعمال، واصطنعت الرجال.